العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

والمنفعة» (١).

٩ ـ حكمة فضيلة علم الإنسان وفي مقابله جهله بمقدار عمره ، وإلاّ لم يكن يتهنّأ بالعيش أو يستقرّ له قرار :

«تأمّل الآن يامفضّل! ما ستر عن الإنسان علمه من مدّة حياته.

فإنّه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنّأ بالعيش مع ترقّب الموت وتوقّعه لوقت قد عرفه ، بل كان (٢) بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد إستشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر ، على أنّ الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل عليه من فناء المال ؛ لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ، ومن أيقن بفناء العمر إستحكم عليه اليأس.

وإن كان طويل العمر ، ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء وإنهمك في اللذّات والمعاصي ، وعمل على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمّ يتوب في آخر عمره ، وهذا مذهب لا يرضاه اللّه من عباده ولا يقبله» (٣).

١٠ ـ عجيب الحكمة في عدم تشابه الناس بعضهم ببعض لأنّهم يحتاجون إلى الإمتياز وحفظ الأنساب بخلاف الوحوش والطير ، فإنّها لم تحتج إلى ذلك فجعلت متشابهة ، مع عجائب اُخرى في التدبير :

«اعتبر لِمَ لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما يتشابه الوحوش

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٨٠).

(٢) في نسخة البحار هنا زيادة يكون.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص٨٣).

٨١

والطير وغير ذلك؟ فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا (١) تتشابه حتّى لا يفرّق بين واحد منها وبين الاُخرى ، وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتّى لا يكاد إثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة.

والعلّة في ذلك أنّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات ، وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منها بعينه وحليته.

ألا ترى أنّ التشابه في الطير والوحش لا يضرّهما شيئا ، وليس كذلك الإنسان فإنّه ربّما تشابه التوأمان تشابها شديدا فتعظم المؤونة على الناس في معاملتهما حتّى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر ، وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلاً عن تشابه الصورة.

فمَن لطف لعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتّى وقف بها على الصواب إلاّ من وسعت رحمته كلّ شيء؟

لو رأيت تمثال الإنسان مصوّرا على حائط فقال لك قائل : إنّ هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد ولا تنكر في الإنسان الحيّ الناطق؟!

لِمَ صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبدا لا تنمي ، بل تنتهي إلى غاية من النموّ ثمّ تقف ولا تتجاوزها لولا التدبير في ذلك؟ فإنّ من

__________________

(١) السِّرب بكسر السين هو : القطيع والمجموعة ، والقطا واحده القطاة : ضرب من الحمام ذي طوق معروف ، والظباء جمع ظبية وهي : اُنثى الغزال.

٨٢

تدبير الحكيم فيها أن يكون أبدان كلّ صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير ، وصارت تنمي حتّى تصل إلى غايتها ثمّ يقف ثمّ لا يزيد والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع ، ولو كانت تنمي نموّا دائما لعظمت أبدانها وإشتبهت مقاديرها حتّى لا يكون لشيء منها حدّ يعرف ؛ لِمَ صارت أجسام الإنس خاصّة تثقل عن الحركة والمشي (١) ويجفو عن الصناعات اللطيفة (٢) إلاّ لتعظيم المؤونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك.

لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع للّه ويتعطّف على الناس؟ أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع وإستكان ورغب إلى ربّه في العافية وبسط يديه بالصدقة؟ ولو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار (٣) ويذلّ العصاة المردة؟ وبم كان الصبيان يتعلّمون العلوم والصناعات؟ وبم كان العبيد يذلّون لأربابهم ويذعنون لطاعتهم؟ أفليس هذا توبيخ لابن أبي العوجاء وذويه اللّذين جحدوا التدبير ، والمانويّة الذين أنكروا الألم والوجع.

لو لم يولد من الحيوان إلاّ ذكر فقط أو اُناث فقط ألم يكن النسل منقطعا؟ وباد مع ذلك أجناس الحيوان؟ فصار بعض الأولاد يأتي

__________________

(١) أي المشي الكثيرة والحركة المجهدة.

(٢) أي الدقيقة المُتعبة .. فهذا ممّا يدعو إلى المساعدة والمعاضدة بين أفراد الإنسان.

(٣) الدعار : جمع داعر وهو الشخص الخبيث.

٨٣

ذكورا وبعضها يأتي اُناثا ليدوم التناسل ولا ينقطع.

لِمَ صار الرجل والمرأة إذا أدركا نبتت لهما العانة ثمّ نبتت اللّحية للرجل وتخلّفت عن المرأة لولا التدبير في ذلك؟ فإنّه لمّا جعل اللّه تبارك وتعالى الرجل قيّما ورقيبا على المرأة وجعل المرأة عُرسا وخولاً للرجل (١) أعطى الرجل اللّحية لما له من العزّة والجلالة والهيبة ، ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة والمضاجعة.

أفلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء وتتخلّل مواضع الخطأ ، فتعطي وتمنع على قدر الإرب والمصلحة بتدبير الحكيم عزوجل (٢).

١١ ـ عجائب الحكمة في خلقة الحيوانات ، وتربيتها منذ ولادتها وإنفقاس البيضة عنها إلى حين تربيتها وتغذيتها إلى أن تكمل :

«انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتّبع اُمّاتها (٣) مستقلّة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس ، فمن أجل أنّه ليس عند اُمّهاتها ما عند اُمّهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوّة عليها بالأكفّ والأصابع المهيئة لذلك اُعطيت النهوض والإستقلال بأنفسها ، وكذلك ترى كثيرا من الطير كمثل

__________________

(١) يقال : خوّله اللّه تعالى نعمةً أي أعطاه.

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص٨٧).

(٣) اُمّات جمع اُمّ ، قيل : إنّها تستعمل في البهائم ، وأمّا في الناس فهي اُمّهات.

٨٤

الدجاج والدُرّاج (١) والقَبْج (٢) تدرج وتلقط حين ينقاب عنها البيض. فأمّا ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جعل في الاُمّهات فضل عطف عليها فصارت تمجّ الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتّى تستقلّ بأنفسها.

ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الاُمّ على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت ، فكلٌّ اُعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير» (٣).

١٢ ـ حكمة التدبير في خلق الحيوانات التي تحمل وتسخّر كالحمار والثور والفرس والإبل والغنم ونحو ذلك. ثمّ حالة العطوفة التي جُعلت لمحافظتها وحراستها في الكلب :

«أما ترى الحمار كيف يذلّ للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعّما؟ والبعير لا يطيقه عدّة رجال لو إستعصى ، كيف كان ينقاد للصبي؟ والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتّى يضع النير (٤) على عنقه ويحرث به؟ والفرس الكريم يركب السيوف والأسنّة بالمواتاة لفارسه ، والقطيع من الغنم يرعاه رجل واحد ولو تفرّقت الغنم فأخذ كلّ واحد منها في ناحية لم يلحقها ، وكذلك جميع

__________________

(١) الدرّاج بضمّ الدال وتشديد الراء : ضرب من الطير ، أرقط بسواد وبياض أو أنقط.

(٢) القَبْج بفتح القاف وسكون الباء وقيل : بفتحها وهو : الحجل أو نوع منه ، معرّب (كبك).

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص٩٣).

(٤) النير بكسر النون هي : الخشبة المعترضة في عنق الثورين بأدات الحرث.

٨٥

الأصناف مسخّرة للإنسان.

فبِمَ كانت كذلك؟ إلاّ بأنّها عدمت العقل والرويّة فإنّها لو كانت تعقل وتروي في الاُمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه ، حتّى يمتنع الجمل على قائده ، والثور على صاحبه ، وتتفرّق الغنم عن راعيها ، وأشباه هذا من الاُمور.

وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل ورويّة فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم (١) فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمورة والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس.

أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها وصارت مكان ما كان يُخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثمّ لا تظهر ولا تنشر لطلب قوتها إلاّ بالليل؟ فهي مع صولتها كالخائف للإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ، ولولا ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيّعت عليهم (٢).

ثمّ جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة عنه وحفاظ له فهو ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراساة منزل صاحبه ، وذبّ الدغار عنه (٣).

ويبلغ من محبّته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ، ويألفه غاية الاُلف حتّى يصبر معه على الجوع والجفوة.

__________________

(١) أي تستأصلهم وتهلكهم.

(٢) في نسخة : وضيّقت عليهم.

(٣) الدغار بتخفيف الغين هو : الإختلاس ، وفي بعض النسخ : الذعار.

٨٦

فلِمَ طُبع الكلب على هذا الاُلف إلاّ ليكون حارسا للإنسان ، اُعين بأنياب ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق ويتجنّب المواضع التي يحميها ويخفرها» (١).

١٣ ـ التدبير اللطيف في خلق الفيل وتناوله بمشفره وخرطومه ، حيث لم يتمكّن من الوصول إلى الطعام برأسه :

«تأمّل مِشفر الفيل (٢) وما فيه من لطيف التدبير فإنّه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وإزدرادهما إلى جوفه ، ولولا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنّه ليست له رقبة يمدّها كسائر الأنعام ، فلمّا عدم العنق اُعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته.

فمن ذا الذي عوّضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه إلاّ الرؤوف بخلقه؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظَلَمة؟» (٣).

١٤ ـ الفطرة العجيبة في الوحوش والسباع في دفن موتاها وستر جيفها :

«فكّر يامفضّل! في خلقة عجيبة جعلت في البهائم ، فإنّهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم ، وإلاّ فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء؟ وليست قليلة فتخفى لقلّتها ؛ بل لو قال قائل : إنّها أكثر من الناس لَصَدق.

فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظبا

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٩٤).

(٢) المشفر بكسر الميم هي شفة الحيوان ، وفي الفيل هو الخرطوم.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص٩٦).

٨٧

والمها (١) والحمير والوعول (٢) والأيائل (٣) وغير ذلك من الوحوش ، وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها ، وضروب الهوام والحشرات ودواب الأرض ، وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطا والإوزّ والكراكي (٤) والحمام وسباع الطير جميعا وكلّها لا يرى منها شيء إذا ماتت إلاّ واحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع ، فإذا أحسّوا بالموت كمنوا في مواضع خفيّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتّى تفسد رائحة الهواء ويحدث الأمراض والوباء ، فانظر إلى هذا الذي يخلص إليه الناس وعلموه بالتمثيل الأوّل الذي مثّل لهم كيف جعل طبعا وادّكارا في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرّة ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد» (٥).

١٥ ـ عجيب التفكير والتدبير في الحيوانات كالغزال الذي يأكل الحيّات ولا يشرب الماء حتّى لا ينتشر السمّ في بدنه ، وكذلك الدلفين يحتال لصيد الطير والثعلب يدبّر غذاءه في صيده :

«فكّر يامفضّل! في الفِطَن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من اللّه عزوجل لهم ، لئلاّ يخلو من نعمه جلّ وعزّ أحد

__________________

(١) المها جمع مهاة ، وهي : البقرة الوحشية.

(٢) الوعول جمع وعل ، وهو : المعز الجبلي.

(٣) الأيائل جمع أيّل ، نوع من الوعول يمتاز بقرون متشعّبة يسمّى بالفارسية : گوَزن.

(٤) الكراكي جمع كركي بضمّ الكاف الاُولى : طائر كبير أغبر اللون ، طويل العنق والرجلين ، أبتر الذنب ، يأوي إلى الماء.

(٥) بحار الأنوار : (ج٣ ص٩٩).

٨٨

من خلقه لا بعقل ورويّة.

فإنّ الاُيّل (١) يأكل الحيّات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدبّ السمّ في جسمه فيقتله ، ويقف على الغدير وهو مجهود عطشا ، فيعجّ عجيجا عاليا ولا يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته ، فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظماء الغالب خوفا من المضرّة في الشرب ، وذلك ممّا لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه.

والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتّى يحسبه الطير ميّتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها ؛ فمن أعان الثعلب العديم النطق والرويّة بهذه الحيلة إلاّ من توكّل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه؟ فإنّه لمّا كان الثعلب يضعف عن كثير ممّا يقوى عليه السباع من مساورة الصيد اُعين بالدهاء والفطنة والإحتيال لمعاشه.

والدُلفين (٢) يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويشرحه حتّى يطفو على الماء ، يكمن تحته ويثوّر الماء الذي عليه حتّى لا يتبيّن شخصه ، فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فإصطادها ، فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة؟» (٣).

__________________

(١) الاُيّل هز الغزال.

(٢) الدُلفين بضمّ الدال وسكون اللام : من الحيتان البحرية الكبيرة تسمّى في العربية الدخس.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص١٠٠).

٨٩

١٦ ـ دقيق الصنع في الطائر بجعل خلقته خفيفةً مساعدة على الطيران ، مع إحكام في بدنه وريشه ومآكله :

«تأمّل يامفضّل! جسم الطائر وخلقته فإنّه حين قدّر أن يكون طائرا في الجوّ خفّف جسمه واُدمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الأربع على إثنتين ، ومن الأصابع الخمس على أربع ، ومن منفذين للزبل والبول على واحدٍ يجمعهما.

ثمّ خلق ذا جؤجؤ (١) محدّد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جُعلت السفينة بهذه الهيئة لتشقّ الماء وتنفذ فيه ، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، وكسي كلّه الريش ليداخله الهواء فيقلّه (٢).

ولمّا قُدّر أن يكون طعمه الحبّ واللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان ، وخلق له منقار صلب جاسٍ (٣) يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحبّ ، ولا يتقصّف من نهش اللحم.

ولمّا عدم الأسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحا واللحم غريضا (٤) اُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ؛ واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب (٥) وغيره يخرج من أجواف

__________________

(١) الجؤجؤ من الطائر هو : الصدر ، والجمع جآجئ.

(٢) أي يحمله ويرفعه.

(٣) الجاسي هو : الصلب ، وعدم الانسجاح هو : عدم الليونة ولا يتقصّف ، أي لا ينكسر.

(٤) الغريض هو : الطريّ.

(٥) عُجم العنب هو : نواه الصغير.

٩٠

الإنس صحيحا ، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر.

ثمّ جعل ممّا يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتّى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران ، فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلاً للأمر الذي قدِّر أن يكون عليه.

ثمّ صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه اُسبوعا ، وبعضها اُسبوعين ، وبعضها ثلاثة أسابيع حتّى يخرج الفرخ من البيضة ، ثمّ يقبل عليه فيزقّه الريح لتتّسع حوصلته للغذاء ، ثمّ يربّيه ويغذّيه بما يعيش به ، فمن كلّفه أن يلقط الطعم ويستخرجه بعد أن يستقرّ في حوصلته ويغذو به فراخه؟ ولأي معنى يحتمل هذه المشقّة وليس بذي رويّة ولا تفكّر؟ ولا يأمل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العزّ والرفد (١) وبقاء الذكر؟

فهذا هو فعل يشهد بأنّه معطوف على فراخه ، لعلّةٍ لا يعرفها ولا يفكّر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفا من اللّه تعالى ذكره.

انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ. وليس لها بيض مجتمع ولا وكر (٢) موطئ بل تنبعث وتنتفخ وتقوقى (٣) وتمتنع من الطعم حتّى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ ، فلِمَ كان ذلك منها إلاّ لإقامة النسل؟ ومَن أخذها بإقامة النسل ولا رويّة ولا

__________________

(١) الرفد بكسر الراء هي : المعونة والعطاء.

(٢) الوكر بفتح الواو هو : عشّ الطائر.

(٣) أي تصيح.

٩١

تفكّر لولا أنّها مجبولة على ذلك؟.

اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المح الأصفر الخاثر (١) ، والماء الأبيض الرقيق ، فبعضه لينتشر منه الفرخ ، وبعضه ليغذّى به (٢) ، إلى أن تنقاب عنه البيضة ، وما في ذلك من التدبير ، فإنّه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحصنة التي لا مساغ لشيء إليها لجعل معه جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها ، كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكفي به إلى وقت خروجه منه.

فكّر في حوصلة الطائر وما قدِّر له ، فإنّ مسلك الطعم إلى القانصة (٣) ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلاّ قليلاً قليلاً ، فلو كان الطائر لا يلتقط حبّة ثانية حتّى تصل الاُولى إلى القانصة لطال عليه ، ومتى كان يستوفي طعمه؟ فإنّما يختلسه إختلاسا لشدّة الحذر ، فجعلت الحوصلة كالمخلاة المعلّقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثمّ تنفذه إلى القانصة على مهل ، وفي الحوصلة أيضا خلّة اُخرى ؛ فإنّ من الطائر ما يحتاج إلى أن يزقّ فراخه فيكون ردّه للطعم من قرب أسهل عليه.

وتأمّل ريش الطير كيف هو؟ فإنّك تراه منسوجا كنسج الثوب من

__________________

(١) المُحّ بضمّ الميم هي : صُفرة البيض ، والخاثر هو : الثخين.

(٢) في نسخة : ليغتذى به.

(٣) القانصة للطير كالمعدة للإنسان.

٩٢

سلوك (١) دقائق قد اُلّف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلاً ولا ينشقّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن الطيران.

هل رأيت يامفضّل! هذا الطائر الطويل الساقين (٢)؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه؟ فإنّه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنّه ربيئة (٣) فوق مَرقَب وهو يتأمّل ما يدبّ في الماء ، فإذا رأى شيئا ممّا يتقوّت به خطا خطوات رقيقا حتّى يتناوله ، ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيتفرّق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه.

تأمّل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنّك تجد كلّ طائر طويل الساقين طويل العنق وذلك ليتمكّن من تناول طعمه من الأرض ، ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ، وربّما اُعين مع طول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولةً له وإمكانا.

__________________

(١) سلوك جمع سلك وهو : الخيط.

(٢) تنطبق هذه الأوصاف على الطائر المائي المعروف بالأنيس.

(٣) الربيئة : العين التي ترقب.

٩٣

أفلا ترى أنّك لا تفتّش شيئا من الخلقة إلاّ وجدته على غاية الصواب والحكمة؟.

انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار؟ فهي لا تفقده ولا هي تجده مجموعا معدّا بل تناله بالحركة والطلب ، وكذلك الخلق كلّه فسبحان من قدّر الرزق كيف قوّته؟ فلم يجعل ممّا لا يقدر عليه إذ جعل للخلق حاجة إليه ، ولم يجعله مبذولاً وينال بالهوينا (١) إذا كان لا صلاح في ذلك فإنّه لو كان يوجد مجموعا معدّا كانت البهائم تتقلّب عليه ولا تنقلع حتّى تبشم (٢) فتهلك ، وكان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر حتّى يكثر الفساد ويظهر الفواحش.

أعَلِمْتَ ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلاّ بالليل كمثل البوم والهام (٣) والخفّاش؟

قلت : لا يامولاي.

قال : إنّ معاشها من ضروب تنتشر في هذا الجوّ من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب (٤) ، وذلك أنّ هذه الضروب مبثوثة في الجوّ لا يخلو منها موضع.

واعتبر ذلك بأنّك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار إجتمع عليه من هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كلّه إلاّ من القرب؟.

__________________

(١) الهوينا : الرفق والتؤدة.

(٢) البشم : الإتخام من الطعام.

(٣) الهام جمع هامة : نوع من البوم الصغير.

(٤) اليعاسيب جمع يعسوب ، هو : ذكر النحل وأميرها.

٩٤

فإن قال قائل : إنّه يأتي من الصحاري والبراري. قيل له : كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد؟ وكيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه؟ مع أنّ هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدلّ ذلك على أنّها منتشرة في كلّ موضع من الجوّ ، فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوّت بها.

فانظر كيف وجّه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلاّ بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجوّ.

واعرف مع ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظنّ ظانّ أنّها فضل لا معنى له.

خلق الخفّاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع أقرب ، وذلك أنّه ذو اُذنين ناشزتين (١) وأسنان ووبر وهو يلد ولادا ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على أربع ، وكلّ هذا خلاف صفة الطير ، ثمّ هو أيضا ممّا يخرج بالليل ويتقوّت ممّا يسري في الجوّ من الفراش وما أشبهه.

وقد قال قائلون : إنّه لا طُعم للخفّاش ، وإنّ غذاءه من النسيم وحده.

وذلك يفسد ويبطل من جهتين : إحداهما خروج ما يخرج منه من الثفل والبول فإنّ هذا لا يكون من غير طُعم ، والاُخرى أنّه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى ، وليس في الخلقة شيء لا معنى له.

وأمّا المآرب فيه فمعروفة حتّى أنّ زبله يدخل في بعض الأعمال ؛

__________________

(١) من النشوز بمعنى الإرتفاع عن المكان.

٩٥

ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالّة على قدرة الخالق جلّ شأنه ، وتصرّفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة.

فأمّا الطائر الصغير الذي يقال له : «ابن تمرة» (١) فقد عشّش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حيّة عظيمة قد أقبلت نحو عشّه فاغرة فاها لتبلعه فبينما هو يتقلّب ويضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فمّ الحيّة ، فلم تزل الحيّة تلتوي وتتقلّب حتّى ماتت. أفرأيت لو لم اُخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنّه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة العظيمة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة؟ اعتبر بهذا وكثير من الأشياء تكون فيها منافع لا تعرف إلاّ بحادث يحدث به أو خبر يسمع به.

انظر إلى النحل وإحتشاده في صنعة العسل ، وتهيئة البيوت المسدّسة وما ترى في ذلك إجتماعه من دقائق الفطنة ، فإنّك إذا تأمّلت العمل رأيته عجيبا لطيفا ، وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس ، وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيّا جاهلاً بنفسه فضلاً عمّا سوى ذلك ، ففي هذا أوضح الدلالة على أنّ الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسخّره فيها لمصلحة الناس» (٢).

١٧ ـ القوّة المودعة في الجراد على ضعفه بحيث يعجز الملوك عن إزالته :

__________________

(١) ابن تمرة : طائر أصغر من العصفور جميل المنظر له منقار دقيق يمتصّ به التمر والزهر.

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص١٠٣).

٩٦

«انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنّك إذا تأمّلت خلقه رأيته كأضعف الأشياء ، وإن دَلَفَت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه. ألا ترى أنّ ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه؟

انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشي السهل والجبل والبدو والحضر ، حتّى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا ممّا يصنع بالأيدي متى كان يجتمع منه هذه الكثرة؟ وفي كم من سنة كان يرتفع ، فاستدلّ بذلك على القدرة التي لا يؤودها شيء ويكثر عليها» (١).

١٨ ـ عجيب الخلقة في الأسماك حيث هي مستغنية بالسباحة ، وغير محتاجة إلى الرئة ، ومكسوة بالقشور والأفلاس لتقيها من الآفات ، مع كثرة نسلها لكثرة الإحتياج إليها :

«تأمّل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدِّر أن يكون عليه ، فإنّه خلق غير ذي قوائم لأنّه لا يحتاج إلى المشي إذا كان مسكنه الماء ، وخلق غير ذي رئة لأنّه لا يستطيع أن يتنفّس وهو منغمس في اللجّة ، وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاّح بالمجاذيف من جانبي السفينة ، وكسي جسمه

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص١٠٨).

٩٧

قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن (١) لتقيه من الآفات ، فاُعين بفضل حسّ في الشمّ لأنّ بصره ضعيف والماء يحجبه ، فصار يشمّ الطعم من البعد البعيد فينتجعه (٢) ، وإلاّ فكيف يعلم به وبموضعه؟

واعلم أنّ من فيه إلى صماخيه منافذ فهو يعبّ الماء بفيه ويرسله من صماخيه (٣) فيتروّح إلى ذلك كما يتروّح غيره من الحيوان إلى تنسّم هذا النسيم.

فكّر الآن في كثرة نسله وما خصّ به من ذلك ، فإنّك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة ، والعلّة في ذلك أن يتّسع لما يتغذّى به من أصناف الحيوان فإنّ أكثرها يأكل السمك ، حتّى أنّ السباع أيضا في حافات الآجام (٤) عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك فإذا مرّ بها خطفته ، فلمّا كانت السباع تأكل السمك والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة.

فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ، ودواب الماء والأصداف ،

__________________

(١) الجواشن جمع جوشن ، وهو : الدرع.

(٢) أي يطلبه في موضعه.

(٣) الصماخ بكسر الصاد : خرق الاُذن الباطن الذي ينفذ إلى الرأس ، وعبّ الماء بمعنى شربه بمصّ من غير تنفّس.

(٤) جمع الجمع للأجمة بمعنى الشجر الكثير الملتفّ ، وقيل : الآجمة تكون من القصب.

٩٨

والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ؛ مثل القرمز (١) فإنّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمّى الحلزون (٢) فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتّخذوه صبغا ، وأشباه هذا ممّا يقف الناس عليه حالاً بعد حال وزمانا بعد زمان» (٣).

١٩ ـ حكمة التقدير في الألوان التي خلقها اللّه في هذه الموجودات ، كما ترى لون السماء أنسب لون لعين الإنسان :

«فكّر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإنّ هذا اللون أشدّ الألوان موافقة للبصر وتقوية ، حتّى أنّ من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد ، وقد وصف الحذّاق منهم لمن كَلَّ بصره الإطّلاع في إجّانة (٤) خضراء مملوّة ماءا.

فانظر كيف جعل اللّه جلّ وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المنقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له ، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والرويّة والتجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون ، ويفكّر

__________________

(١) القرمز هو : الصبغ الأحمر.

(٢) الحلزون : دويبة صغيرة تكون في صدف وهي المعروفة بالبُزاق.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص١٠٩).

(٤) الإجّانة بكسر الهمزة وتشديد الجيم : إناء تُغسل فيه الثياب.

٩٩

فيها الملحدون» (١).

٢٠ ـ عجائب الصنعة ، وعلمية الخلقة في جميع الموجودات في هذا الكون في سماواته والأرضين بكواكبها وأشجارها وأعشابها والحرّ والبرد والصيف والشتاء وجميع الموجودات حيث فيها عبرةٌ لمن فكّر ، ودلالة على من تدبّر ، وآية لعلم الخالق الحكيم :

«فكّر يامفضّل! في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كلّ واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك.

أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مئة ساعة أو مئتي ساعة ألم يكن في ذلك بوار (٢) كلّ ما في الأرض من حيوان ونبات؟.

أمّا الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقرّ طول هذه المدّة ، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك سيهلكها أجمع ويؤدّيها إلى التلف.

وأمّا النبات فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج الشمس حتّى يجفّ ويحترق.

وكذلك الليل لو امتدّ مقدار هذه المدّة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرّف في طلب المعاش حتّى تموت جوعا ، وتخمد الحرارة الطبيعيّة من النبات حتّى يعفن ويفسد ، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس.

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص١١١).

(٢) البوار هو : الهلاك والكساد والبطلان.

١٠٠