العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

من صفات اللّه (عزوجل).

فأنفِ عن اللّه البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون ، ولا تَعْدُ القرآن فتضلّ بعد البيان» (١).

٣ ـ ما روي عن العالم [الإمام الكاظم] عليه‌السلام ـ وسألته عن شيء من الصفات ـ فقال :

«لا تتجاوز ممّا في القرآن» (٢).

٤ ـ حديث جعفر بن محمّد بن الحكيم الخثعمي قال : إجتمع ابن سالم ، وهشام بن الحكم ، وجميل بن درّاج ، وعبدالرحمن بن الحجّاج ، ومحمّد بن حمران ، وسعيد بن غزوان ، ونحو من خمسة عشر من أصحابنا فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم فيما إختلفوا فيه من التوحيد ، وصفة اللّه عزوجل ، وعن غير ذلك ، لينظروا أيّهم أقوى حجّة ، فرضي هشام بن سالم أن يتكلّم عند محمّد بن أبي عمير ، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلّم عند محمّد بن هشام فتكلّما وساقا ما جرى بينهما ، وقال : قال عبدالرحمن بن الحجّاج لهشام بن الحكم : كفرت واللّه باللّه العظيم وألحدت فيه ، ويحك! ما قدرت أن تُشبّه بكلام ربّك إلاّ العود يضرب به.

قال جعفر بن محمّد بن حكيم : فكتب إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام يحكي له مخاطبتهم وكلامهم ، ويسأله أن يعلّمهم ما القول الذي ينبغي أن يدين اللّه به من صفة الجبّار ، فأجابه في عرض كتابه :

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٦١ الباب٩ ح١٢).

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٦٢ الباب٩ ح١٦).

٦١

«فهمت رحمك اللّه ، واعلم رحمك اللّه أنّ اللّه أجلّ وأعلى وأعظم من أن يُبلغ كنه صفته ، فصِفُوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك» (١).

٥ ـ حديث محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال :

«إيّاكم والتفكّر في اللّه ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خَلقه» (٢).

٦ ـ ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال :

«يابن آدم! لو أكل قلبَك طائرٌ لم يُشبعه ، وبصرُك لو وُضع عليه خُرت أبرة (٣) لغطّاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض؟!

إن كنت صادقا فهذه الشمس خَلقٌ من خلق اللّه فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول».

وأمّا اتّساع المعرفة وتعاليها فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته ، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة اللّه عزوجل ...» (٤).

ولاحظ لمعرفة صفاته القدسيّة الألف ، دعاء الجوشن الكبير المروي في البلد الأمين عن سيّد الساجدين ، عن أبيه ، عن جدّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٦٦ الباب٩ ح٣١).

(٢) حقّ اليقين : (ج١ ص٤٩).

(٣) الخُرت : بضمّ الخاء هو ثقب الأبرة.

(٤) حقّ اليقين : (ج١ ص٤٩).

٦٢

الطاهرين (١) ، المشتمل على ألف صفة واسم من صفاته وأسمائه المقدّسة التي بيّنها نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الدعاء.

ولاحظ لمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العُليا حديث الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن سليمان بن مهران ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ للّه تبارك وتعالى تسعة وتسعين إسما مئة إلاّ واحدة ، من أحصاها دخل الجنّة ، وهي : اللّه ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العليّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارى ء ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرّحيم ، الذّاري ، الرزّاق ، الرّقيب ، الرؤوف ، الرّائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبُّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوِّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرِّ ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، الباعث ، البرّ ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ،

__________________

(١) البلد الأمين : (ص٤٠٢).

٦٣

العظيم ، اللطيف ، الشافي» (١).

وتلاحظ شرح هذه الأسماء الحسنى بعد نقل حديثها في نفس كتاب التوحيد. وسيأتي في هذا الفصل بيان أنّ من أسمائه الحسنى عدله وعدالته ، وأنّ الإعتقاد به من اُصول الدين ، ومن المميّزات لأهل الحقّ عن المخالفين.

فلنبدأ بذكر شمّة منها وبيان جملة من أعرفها ، للإغتراف من منهلها العذب ، والإستفادة من أريجها الطيّب ..

بعد تقديم مقدّمة موجزة تفيدنا زيادة المعرفة والبصيرة في الموضوع ..

ومنه نستمدّ العون ونطلب العصمة وهو وليّ التوفيق.

فنقول : إعلم : أنّ الذات الإلهية المقدّسة واجدة لجميع صفات الكمال ؛ لأنّ الخلو عن الكمال نقصٌ ، والنقص منفيٌّ عن الواجب تعالى.

كما وأنّ هذه الذات الكريمة منزّهة عن جميع صفات النقصان ، لأنّ النقص عجزٌ أيضا ، والعجز لا يليق بالذات الكاملة.

ويسمّى القسم الأوّل من الصفات بالصفات الثبوتية ، وصفات الكمال والجمال.

كما يسمّى القسم الثاني بالصفات السلبيّة ، وصفات التنزيه والجلال.

فهو تعالى واجد لجميع صفات الكمال ، ونزيه عن جميع صفات الجلال.

ومن الواضح أنّ ذاته الكاملة واجبة في الوجود ، وهي فوق كلّ موجود ، فتكون مستجمعةً لجميع الصفات الثبوتية ، ومنزّهة عن جميع الصفات السلبيّة.

هذا .. ولعدم إمكان معرفة ذاته المتعالية ـ كما قلنا ـ لا يمكننا معرفة كنه صفاته ، ولا نتمكّن من الوصول إلى اللامتناهي من كمالاته ، خصوصا وإنّ بعض

__________________

(١) توحيد الصدوق : (ص١٩٤ الباب٢٩ ح٨).

٦٤

صفاته عين ذاته ـ كما عرفت ـ لذلك نكتفي في التشرّف بذكر أشهر صفاته الشريفة ونعوته المباركة.

ويلزم التنبيه في البدء على أنّ صفاته المقدّسة تنقسم إلى ضربين :

١ ـ صفات الذات ، كالوجود والعلم والقدرة والحياة والسرمدية ونحوها ممّا هي عين ذاته المقدّسة.

٢ ـ صفات الفعل ، كالخالقية والرازقية والإحياء والإماتة ونحوها التي إنتزعت بإعتبار المخلوق والمرزوق والمحيى والممات ، فهذه صفات أفعاله لا ذاته ، والكمال في هذه الصفات الأخيرة هي قدرته عليها .. وتلك القدرة هي عين ذاته.

ثمّ الضابط في الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل كما أفاده الأعاظم مثل السيّد الشبّر في كتابه حقّ اليقين هو :

«إنّ صفات الذات هي ما اتّصف اللّه تعالى بها وامتنع اتّصافه بضدّها ، كالعلم والقدرة والحياة ونحوها ، فإنّه لا يجوز أن يقال أنّ اللّه عالم بكذا غير عالم بكذا ، أو قادر على كذا وغير قادرٍ على كذا ، وسميع وبصير بكذا وغير سميع وبصير بكذا ونحو ذلك.

وأمّا صفات الفعل فهي ما يتّصف اللّه تعالى بها وبضدّها ، كالخالقية والرازقية فإنّه يجوز أن يقال : إنّ اللّه تعالى خلق زيدا ولم يخلق إبنه ، وأحيى زيدا وأمات عمرا وأفقر بكرا وأغنى خالدا ونحو ذلك ..» (١).

وقد استفيدت هذه الضابطة من ثقة الإسلام الكليني قدس‌سره في كتابه الشريف الكافي تحت عنوان «جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل» ، ذكر هذه

__________________

(١) حقّ اليقين : (ج١ ص٤١).

٦٥

الضابطة وأفاد فيها أحاديث شريفة (١).

ثمّ إنّه إذا عرفت أقسام هذه الصفات المقدّسة ، وحصلت على الميزة بين الضربين من صفاته ـ يعني الذاتية والفعلية ـ ولم يحصل الإشتباه بينهما ، نرجع إلى ذكر القسمين من أوصافه الثبوتية والسلبية.

فنذكر أوّلاً جملة من الصفات الثبوتية الكمالية ، ثمّ نبيّن ثانيا نبذةً من الصفات السلبيّة الجلالية .. واللّه هو المستعان.

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص١١١).

٦٦

١ ـ الصفات الثبوتيّة

عرفت أنّه لا يمكن الوصول إلى كنه صفاته ، وعدد أوصافه وكلّها جليلة وجميلة ، فنكتفي بمقدار يتيسّر لنا بيانه ويشرّفنا عنوانه :

١) أنّه تعالى عالمٌ ، عليم ، علاّم ، جلّت صفاته وعظمت أسماؤه

فهو العالم بمعنى أنّه عالم بكلّ معلوم على ما هو عليه من كونه واجبا أو ممكنا أو ممتنعا ، وكليّا أو جزئيّا ، وسُمّي عالما لأنّه لا يجهل شيئا .. كما أفاده الشيخ الطريحي (١).

وهو عليم معناه أنّه عليم بنفسه ، عالم بالسرائر ، مطّلع على الضمائر ، لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرّة ..

عَلِمَ الأشياء قبل حدوثها وبعد ما أحدثها ، سرّها وعلانيتها ، ظاهرها وباطنها ، كما أفاده المحدّث الصدوق (٢).

وهو العلاّم ، مبالغة في العلم ، فهو الذي لا يشذّ عنه معلوم ، كما أفاده الشيخ

__________________

(١) مجمع البحرين : (ص٥٢٨ ، مادّة ـ علم ـ).

(٢) التوحيد : (ص٢٠١).

٦٧

الكفعمي (١).

والدليل على هذه الصفة الكريمة لذاته المقدّسة ، هو الكتاب والسنّة والضرورة وحكم العقل.

فأوّلاً : من الكتاب آيات كريمة مثل :

١ ـ قوله عزّ إسمه : (عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاْءَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (٢).

٢ ـ قوله عزّ شأنه : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).

٣ ـ قوله عزّ وجهه : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّه عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (٤).

فهذه الصفات الكمالية ، ثابتة للّه تعالى بالدليل القطعي أوّلاً : بنصّ الكتاب الكريم وهي تزيد على مئة آية كريمة ، جمعها العلاّمة المجلسي (٥).

ثانياً : بصريح الأحاديث المتواترة التي سيأتي بيان جملة منها ، وقد صرّح السيّد الشبّر بتواترها (٦).

ثالثاً : بضرورة المذهب القائمة على كونه تعالى عالما ، أزلاً وأبدا بجميع الأشياء كليّاتها وجزئيّاتها ، من غير تغيّر في علمه ، كما صرّح به شيخ الإسلام

__________________

(١) المصباح : (ص٣٤٠).

(٢) سورة سبأ : (الآية ٣).

(٣) سورة البقرة : (الآية ٢٣١).

(٤) سورة التوبة : (الآية ٧٨).

(٥) بحار الأنوار : (ج٤ ص٧٤).

(٦) حقّ اليقين : (ج١ ص٢٥).

٦٨

المجلسي (١).

رابعاً:بالأدلّة الإعتبارية العقلية التي توضّح علم اللّه تعالى بالوجوه الثلاثة المقرّرة التالية :

١ ـ إنّه لو لم يكن تعالى عالما بجميع الأشياء لزم الجهل ولو في البعض ، وهو نقص بل من أعظم النقائص.

والخالق المتعال الذي هو واجب الوجود وكامل الذات ومنزّه عن نقص الصفات ، يستحيل أن يكون جاهلاً ، بل هو عالم بجميع الأشياء بلا جهل فيه أبدا.

٢ ـ إنّه تعالى منزّه عن الزمان والمكان ؛ لأنّه خالقهما ، والخالق مقدّم على مخلوقاته ، والصانع سابق بالنسبة إلى مصنوعاته بالبداهة العقلية.

ومن المعلوم أنّ من لا يحيطه الزمان والمكان ، بل كان هو المحيط بالزمان ، والموجود في كلّ مكان ، حقّ أن يكون عالما بجميع الأشياء ، محيطا بجميع الاُمور في كلّ الأزمنة وفي جميع الأمكنة ، بل لا معنى لأن يجهل شيئا يقع في زمان أو يحدث في مكان.

وبديهي أنّ الذات المقدّسة موجودة من الأزل إلى الأبد ، ومحيطة بكلّ معدود وعدد ، ومشرفةٌ على الكون ومسلّطة على التكوين ، فكيف لا تعلم الكائنات ، أو تجهل الموجودات أو لا تطلع على ما يحدث في الأرضين والسماوات؟!

وطبيعي أنّا نجد أنفسنا محدودين بالزمان والمكان ، فلا يمكننا الإطّلاع على غير مكاننا أو مستقبل زماننا.

لكنّ اللّه تعالى ليس بمحدود إطلاقا ، بل له الإحاطة الكاملة والسلطنة

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٤ ص٨٧).

٦٩

الشاملة على جميع الأزمنة والأمكنة المخلوقة له ، والحادثة بإرادته ومشيئته ، فلا معنى لأن يكون زمان ماضٍ أو حال أو مستقبل لخالق الزمان ، أو يكون له هذا المكان دون ذلك المكان وهو خالق جميعها ، بل من الواضح أن يطلع على جميع ما في الأزمنة والأمكنة فهو العالم بها جميعا والحاضر الناظر إليها محيطا.

ومُثّل للإحاطة بمثال تقريبي للتوضيح ، وهو مثال الإنسان الناظر من شاهق البناء العالي بالنسبة إلى الناظر من رَوزنة الغرفة الصغيرة فالأوّل يرى جميع ما يكون أمامه ، بينما الثاني لا يرى إلاّ ما يمرّ أمام رَوزنته.

وكيف لا يعلم اللّه تعالى جميع الأشياء وقد خلقها وأوجدها؟ هذا من المستحيل.

قال اللّه تعالى : (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

وكيف يعقل أن لا يعلم اللّه تعالى ضمائر الناس ، وقد خلق أشخاصهم وأرواحهم وقلوبهم وعقولهم ومنحهم القوّة والقدرة والتفكير والتعبير؟

قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢).

فلا يبقى شكّ بل يحكم العقل بكلّ قطعٍ ، بأنّ هذه الذات الشريفة الخالقة المحيطة ذات عالمة أحاطت بكلّ شيء علما ، ووسعت كلّ شيء خُبرا.

٣ ـ إنّ النظم والتدبير ، والحكمة والتقدير ، والدقّة المدهشة العجيبة التي نراها في جميع مجالات الكون ، وفي جميع خلائق العالم من إنسانها وحيوانها وسمائها وأرضها ونباتها وجميع موجوداتها من المجرّة إلى الذرّة ، تُنبى ء عن علم

__________________

(١) سورة الملك : (الآية ١٤).

(٢) سورة ق : (الآية ١٦).

٧٠

خالقها وعلاّمية صانعها ، وهذه حقيقة يستكشفها كلّ من تأمّل فيها وتدبّر في خلقتها ، وأعطى من نفسه الحقّ والإنصاف ، وحكّم قضاوة الوجدان الشفّاف ..

قال الشيخ الصدوق : «من الدليل على أنّ اللّه تبارك وتعالى عالم أنّ الأفعال المختلفة التقدير ، المتضادّة التدبير ، المتفاوتة الصنعة لا تقع على ما ينبغي أن يكون عليه من الحكمة ممّن لا يعلمها ، ولا يستمرّ على منهاج منتظم ممّن يجهلها ، ألا ترى أنّه لا يصوغ قُرطا (١) يُحكم صنعته ، ويضع كلاًّ من دقيقه وجليله موضعه من لا يعرف الصياغة ، ولا ينظّم كتابةً يتّبع كلّ حرف منها ما قبله من لا يعلم الكتابة ، والعالَم ألطف صنعة وأبدع تقريرا ممّا وصفناه ، فوقوعه من غير عالِم بكيفيّته قبل وجوده أبعد وأشدّ إستحالة» (٢).

فمن البديهي أنّ هذا النظام الكوني الدقيق البهيج ، لا يمكن أن ينشأ من الجهل أو يحدث بالصدفة.

بل في جميعها آيات صدق ، ودلائل حقّ تفصح عن علم صانعها ، وخبرة بارئها ، وحكمة فاطرها.

وهي تكشف بوضوح أنّ خالقها كان عليما بأجزائها وجزئياتها ، وخبيرا بربطها وإرتباطها ، وقادرا على صنعها وتركيبها بأحسن شكل وأبدع صورة .. وبأجمل المناظر وأزهى المظاهر ، إلى جانب دقّة الفعل ورقّة العمل.

فراجع الوجدان فيما تلاحظ من البراعة العلمية ، والدقّة الفنّية في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة التي تلاحظها في هذا الكون العظيم.

قال اللّه جلّ جلاله : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ

__________________

(١) القرط : هو ما يعلّق في شحمة الاُذن من دُرّة أو جوهرة مصوغة.

(٢) التوحيد : (ص١٣٧).

٧١

أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (١).

وفي الخطبة العلوية الشريفة :

«دليله آياته ، ووجوده إثباته» (٢).

وفي الحديث الرضوي المبارك :

«بصنع اللّه يُستدلّ عليه ، وبالعقول تُعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجّته» (٣).

إلى غير ذلك من أدلّة العلم والحكمة.

ويكفيك ـ بل يغنيك ـ التدبّر فيما أرشد إليه الإمام الناطق ، أبو عبداللّه الصادق عليه‌السلام ، من آيات اللّه الزاهرة وعجائب خلقته الباهرة ، التي تفيض النور الإيماني ، وتؤدّي إلى القطع الوجداني بعلم اللّه تعالى وحكمته وقدرته.

وذلك في حديث التوحيد الشريف الذي رواه المفضّل الجعفي كما تلاحظه في البحار (٤).

وشرحه الاُستاذ الخليلي في أمالي الإمام الصادق عليه‌السلام ، بأجزائها الأربعة.

وهذا الحديث بحقّ من أعظم أدلّة وجود اللّه وتوحيده وعلمه ، وجدير بالإمعان والدراسة ، وهذه الأدلّة الجليلة تبرهن على هذه الصفة الكماليّة للّه تعالى شأنه وجلّت قدرته ..

ونحن نقتطف أزاهير عاطرة من تلك الرياض الزاهرة بالإشاره إلى ما يلي :

__________________

(١) سورة فصّلت : (الآية ٥٣).

(٢) الإحتجاج للطبرسي : (ج١ ص٢٠١).

(٣) عيون الأخبار : (ج١ ص١٥١).

(٤) بحار الأنوار : (ج٣ ص٥٧ ـ ١٥١).

٧٢

١ ـ عجائب خلقة الإنسان من حين تكوّنه إلى حين ولادته :

«نبتدئ يامفضّل! بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة (١) ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ، ولا إستجلاب منفعة ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتّى إذا كمل خلقه وإستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق باُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج ، وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم اُمّه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللّون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثديي اُمّه كالإداوتين المعلّقتين (٢) لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتّى إذا تحرّك وإحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، ويسهل له إساغته ..

فلا يزال كذلك حتّى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت اُنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر ، لتبقى لها

__________________

(١) المشيمة : غشاء الجنين الذي يخرج معه عند الولادة.

(٢) الإداوة بكسر الهمزة : إناء صغير من جلد يُتّخذ للماء.

٧٣

البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه» (١).

٢ ـ عجائب الخلقة في جهاز الصوت والتكلّم في الإنسان :

«أطل الفكر يامفضّل! في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان ، فالحنجرة كالاُنبوبة لخروج الصوت ، واللِّسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم.

ألا ترى أنّ من سقطت أسنانه لم يُقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة يشبه قصبة المزمار ، والرئة تشبه الزقّ (٢) الذي ينفخ فيه لتدخل الريح ، والعضلات التي تقبض على الرية ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزقّ حتّى تجري الريح في المزمار ، والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما كالأصابع التي يختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا ، غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنّ المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت» (٣).

٣ ـ عجيب الصنعة في العين والأجفان والأشفار لحاجة الإنسان :

«تأمّل يامفضّل! الجفن على العين ، كيف جعل كالغشاء ، والأشفار

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٦٢).

(٢) الزقّ بكسر الزاء : الجلد النافخ الذي يستعمل في المزمار.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧١).

٧٤

كالأشراج (١) ، وأولجها في هذا الغار ، وأظلّها بالحجاب وما عليه من الشعر» (٢).

٤ ـ عجائب الصنعة الباطنية في الإنسان :

«يامفضّل! مَن غَيَّب الفؤاد في جوف الصدر ، وكساه المدرعة التي هي غشاؤه ، وحَصّنَه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لئلاّ يصل إليه ما ينكؤه (٣)؟

من جعل في الحلق منفذين؟ أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتّصل بالرئة ، والآخر منفذ الغذاء وهو المريء المتّصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها ، وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل.

من جعل الرئة مروّحة الفؤاد لا تفتر ولا تخلّ؟ لكيلا تتحيّز الحرارة في الفؤاد فتؤدّي إلى التلف.

من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجا تضبطهما؟ لئلاّ يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا؟ بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر.

من جعل المعدة عصبانيّة شديدة وقدّرها لهضم الطعام الغليظ؟

ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء ، ولتهضم وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلاّ اللّه القادر؟

__________________

(١) وفي نسخة الأشراج ، وهي العُرى.

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧٣).

(٣) أي ما يجرحه ويؤذيه.

٧٥

أترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك؟

كلاّ ، بل هو تدبير من مدبّر حكيم ، قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إيّاها ، لا يعجزه شيء وهو اللطيف الخبير» (١).

٥ ـ عجائب الخلقة في عظام الإنسان ودمه وأظفار أصابعه وهيئة اُذنه والدقّة في خلقه

«فكّر يامفضّل! لِمَ صار المخّ الرقيق محصّنا في أنابيب العظام؟ هل ذلك إلاّ ليحفظه ويصونه؟

لِمَ صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلاّ لتضبطه فلا يفيض؟

لِمَ صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلاّ وقاية لها ومعونة على العمل؟

لِمَ صار داخل الاُذن ملتويا كهيأة الكوكب (٢) إلاّ ليطّرد فيه الصوت حتّى ينتهي إلى السمع وليتكسّر حمّة الريح فلا ينكأ في السمع؟

لِمَ حمل الإنسان على فخذيه وإليتيه هذا اللحم إلاّ ليقيه من الأرض فلا يتألّم من الجلوس عليهما ، كما يألم من نحل جسمه وقلّ لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها؟ ...» (٣).

٦ ـ حسن التدبير في خلق شعر الإنسان وأظفاره عديمي الحسّ حتّى لا يتأذّيان بالقصّ

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧٣).

(٢) وفي بعض النسخ : اللولب ، وهي الآلة ذات محور له دوائر ناتئة.

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧٤).

٧٦

«تأمّل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار فإنّهما لمّا كانا ممّا يطول ويكثر حتّى يحتاج إلى تخفيفه أوّلاً فأوّلاً جعلا عديمي الحسّ لئلاّ يؤلم الإنسان الأخذ منهما.

ولو كان قصُّ الشعر وتقليم الأظفار ممّا يوجد له مسّ من ذلك لكان الإنسان من ذلك بين مكروهين : إمّا أن يدع كلّ واحد منهما حتّى يطول فيثقل عليه ، وإمّا أن يخفّفه بوجع وألم يتألّم منه» (١).

٧ ـ دقّة الصنعة في إحساسات الإنسان بجوعه وعطشه وكذا قواه الباطنية من قوّة الجذب والدفع :

«فكّر يامفضّل! في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها ، فإنّه جعل لكلّ واحد منها في الطباع نفسها محرّك يقتضيه ويستحثّ به ، فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه ، والكرى (٢) تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه ، والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه.

ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئا يضطرّه إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالتثقّل والكسل حتّى ينحلّ بدنه فيهلك ، كما يحتاج الواحد إلى الدواء بشيء ممّا يصلح ببدنه فيدافع به حتّى يؤدّيه ذلك إلى المرض والموت.

وكذلك لو كان إنّما يصير إلى النوم بالتفكّر في حاجته إلى راحة

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧٦).

(٢) الكرى : النعاس الذي يكون مع فتور الأعصاب وتراخي الأجفان ، والإجمام هي الراحة.

٧٧

البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدمغه حتّى ينهك بدنه.

ولو كان إنّما يتحرّك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتّى يقلّ النسل أو ينقطع ، فإنّ من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به ، فانظر كيف جعل لكلّ واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرّك من نفس الطبع يحرّكه لذلك ويحدوه عليه (١).

واعلم أنّ في الإنسان قوى أربعة : قوّة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة ، وقوّة ممسكة تحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، وقوّة هاضمة وهي التي تطبخه ، وتستخرج صفوه وتبثّه في البدن ، وقوّة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها.

تفكّر في تقدير هذه القوى الأربعة التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والارب فيها ، وما في ذلك من التدبير والحكمة ، ولولا الجاذبة كيف يتحرّك الإنسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن؟

ولولا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتّى تهضمه المعدة؟

ولولا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتّى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسدّ خلله؟

ولولا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلّفه الهاضمة يندفع ويخرج

__________________

(١) أي يبعثه ويسوقه إليه.

٧٨

أوّلاً فأوّلاً؟

أفلا ترى كيف وكّل اللّه سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه؟

وساُمثّل لك في ذلك مثالاً : إنّ البدن بمنزلة دار الملك ، وله فيها حشم وصبية وقوّام (١) موكّلون بالدار ، فواحد لإقتضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم ، وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيّأ ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه ، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها.

فالملك في هذا هو الخلاّق الحكيم ملك العالمين ، والدار هي البدن ، والحشم هي الأعضاء ، والقوام هي هذه القوى الأربع ، ولعلّك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلاً وتزدادا.

وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء ، ولا قولنا فيه كقولهم ؛ لأنّهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطبّ وتصحيح الأبدان ، وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي ، كالذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها» (٢).

٨ ـ قوّة الحفظ والنسيان وهما متضادّتان في الجسم لكن ضروريتان للإنسان :

«تأمّل يامفضّل! هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان ،

__________________

(١) الحشم : هم الخدم والعيال ، والقوّام : جمع القيّم ، وهو المتولّي على الشيء.

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص٧٨).

٧٩

أعني الفكر والوهم (١) والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اُموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه ، وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال وما قيل له ، ولم يذكر من أحسن إليه ممّن أساء به ، وما نفعه ممّا ضرّه ، ثمّ كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ، ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ، ولا يعتقد دينا ، ولا ينتفع بتجربة ، ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى ، بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال ، وكيف موقع الواحد منها دون الجميع؟

وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان ، فإنّه لولا النسيان لما سلا (٢) أحد عن مصيبة ، ولا إنقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا إستمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات ، ولا رجا غفلة من سلطان ، ولا فترة من حاسد.

أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان ، وهما مختلفان متضادّان ، وجعل له في كلّ منهما ضرب من المصلحة؟

وما عسى أن يقول الذين قسّموا الأشياء بين خالقين متضادّين في هذه الأشياء المتضادّة المتبائنة وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح

__________________

(١) فُسّر الوهم بالقوّة النفسية التي تدرك المعاني غير المحسوسة.

(٢) سَلا عن الشيء : أي نسيه وذهل عن ذكره وطابت نفسه عنه.

٨٠