العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

فكيف يعطونه لأبنائهم؟

.. لا يبقى بعد التفحّص والإستقصاء إلاّ الشقّ الثالث وهو أنّه خَلَقَنا اللّه الذي خلق كلّ شيء ، وهو القادر على كلّ شيء الوجود والإفناء ، والموت والبقاء ، وهو الخبير بمخلوقه بكلّ محتواه ، والعالم باُولاه وعُقباه.

وبهذا الإستقصاء التامّ تحكم الأفهام ، بوجود الخالق العلاّم.

الرابع : برهان الحركة

فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحرّكا ، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيين في تغيّرٍ ، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سكون ، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك وبديهي أنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر ، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة.

إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحرّكة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها ، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها ، وأفلاكها ومجرّاتها .. لابدّ لها ممّن يحرّكها ويديم حركتها ، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنّها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام.

ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلاّ بدافع ومحرِّك ، وهذا أمر بديهي يدركه كلّ ذي لبّ وشعور ، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتحوّلات الدائمة من محرّكٍ حكيم قدير.

فمن ترى يمكن أن يكون مصدر هذه القوّة وفاعل هذه الحركة؟

هل المخلوقات التي نراها يعرضها الضعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة؟!

وهل يناسب أن يكون المحرّك غير اللّه القوي الخبير؟

٤١

ولقد سُئِلَتْ امرأة بدويّة كانت تغزل الصوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود اللّه تعالى ، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت : دليلي هو هذا التوقف ..

قالوا : وكيف ذلك؟

فأجابت : إذا كان مغزل صغير لا يتحرّك إلاّ بوجود محرِّك ، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدوّار الكبير بلا محرّك له؟

وقد جاءت الحكمة في هذا المجال : إنّ البعرة تدلّ على البعير ، وأثر الأقدام يدلّ على المسير ، فهذه السماء ذات أبراج والأرض ذات حركة وإرتجاج ألا تدلاّن على وجود الخبير البصير؟!.

الخامس : برهان القاهريّة

فإنّ الطبيعة تنمو عادةً نحو البقاء لولا إرادة من يفرض عليها الفناء.

فالإنسان الذي يعيش ، والأشجار التي تنمو ، والأحجار التي هي مستقرّة في الأرض ، لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال أو الإنهدام إلاّ بعلّة فاعلة قاهرة.

فكما أنّ تبدّل اللاشيء إلى الشيء يحتاج إلى علّة ، كذلك تبدّل الشيء إلى اللاشيء لا يمكن إلاّ بعلّة.

فإنّا نرى هذا العالم قد اُحكمت جميع جوانبه بحيث ينبغي أن تسير سيرا دائما بلا زوال ، لكن مع ذلك نراها في زوال دائم ونقص راغم ، وزوالها دليل على وجود مزيل لها.

فترى من هو علّة الإماتة والزوال؟ ومن اللائق أن يكون هو القاهر في

٤٢

جميع الأحوال؟

هل الإنسان بنفسه ـ وهو الذي يرغب أن يعيش دائما ولا يموت أبدا ـ علّة لموت نفسه؟

أم هناك شيء من الممكنات ـ التي هي مقهورة زائلة بنفسها ـ تتمكّن من القاهرية المطلقة؟

أم أنّ القاهر لجميع المخلوقات هو القادر على خلقها فيقدر على فنائها.

أليس هذا دليلاً على أنّ هناك من يُميت ويقدر على الإماتة ، كما هو قادر على الإحياء.

فنفس الموت دالّ على وجود المميت ، كما كان الإحياء دالاًّ على وجود المحيى.

فمن هذا الذي يميته غير الذي يحييه؟ ومن هو قادر على الإبقاء والإفناء؟ ليس هو إلاّ اللّه الذي بيده الموت والحياة. والقادر على الإبقاء والإفناء ، الخالق لجميع المخلوقات جلّ شأنه وعظمت قدرته.

هذه أدلّة خمسة من بين الأدلّة العقلية الكثيرة التي تُبرز الإيمان الفطري بوجود اللّه تعالى القوي.

مضافا إلى الآيات الأنفسيّة والآفاقية التي ما أكثرها وأكبر وجودها ، بل للّه في كلّ شيء آية تدلّ على وجوده القدسي وذاته القدّوسي.

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تَدلُّ على أنّه واحدُ

٤٣

الجهة الثانية :

وحدانيّة اللّه تعالى

بعد معرفة وجود اللّه القدسي ، واليقين بوجوده السرمدي ، لنعرف هل أنّ وجوده واحد أحدي ، يعني واحدٌ لا شريك له ولا شبيه ، ولا جزء له ولا نظير؟

وتوحيده هذا أيضا ممّا هو عيانٌ لا يحتاج إلى بيان ، بل تقضي به الفطرة السليمة ولا تحتاج إلى إقامة الأدلّة.

ألا ترى أنّ كلّ إنسان يتوجّه قلبه ويتّجه وجدانه ويفزع ضميره عند الحاجة والإضطرار إلى مصدر واحد ، للإستعانة والإلتجاء ، ممّا يكشف أنّ القلب والعقل والفطرة تعرف أنّ اللّه تعالى واحد لا شريك له فلا تتوجّه إلى غيره ، ولا ترى التعدّد في الخالق المستغاث الذي تسأله حاجته حتّى تطلب منه نجاته ..

هذا أمر واضح إلاّ أنّه نذكر براهين التوحيد من باب تمام الحجّة وكمال المحجّة.

وينبغي التنبيه في البداية على حقّ المعنى والمعنى الحقّ ، في توحيد اللّه تعالى ووحدانيته وهو ما فسِّر في لسان أهل البيت عليهم‌السلام ، المتّصلين باللّه والناطقين عنه ، والعارفين به حقّ معرفته ، يبيّنون عنه ، ولا يسبقونه بالقول ، وهم الحجج من قِبَله والمعصومون الصادقون عليه .. وقد فسّروا عليهم‌السلام التوحيد بنفي الشريك

٤٤

والشبيه ، ونفي الجزء والتركيب كما تلاحظه في الأحاديث التالية :

١ ـ ما رواه محمّد بن أبي عمير ، قال : دخلت على سيّدي موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، فقلت له : يابن رسول اللّه! علّمني التوحيد فقال :

«يأابا أحمد! لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره اللّه ـ تعالى ذكره ـ في كتابه فتهلك واعلم أنّ اللّه تعالى واحدٌ ، أحدٌ ، صمدٌ ، لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا ولا شريكا ، وأنّه الحيُّ الذي لا يموت ، والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي لا يعجل ، والدائم الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ، والعزيز الذي لا يذلّ ، والعالم الذي لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي لا يبخل.

وأنّه لا تقدِّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، ولا تحيط به الأقطار ، ولا يحويه مكان ، ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (١).

وهو الأوّل الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه مخلوق مُحدَث ، تعالى عن صفات المخلوقين علوّا كبيراً» (٢).

٢ ـ ما رواه شريح بن هاني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

__________________

(١) سورة المجادلة : (الآية ٧).

(٢) توحيد الصدوق : (ص٧٦ باب التوحيد ونفي التشبيه ح٣٢).

٤٥

«... فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة.

وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه (١) ، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذّان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزوجل أحدي المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل» (٢).

ودليل الوحدانية هو ما يلي :

١ ـ دليل الكتاب :

صرّح القرآن الكريم بوحدانية مُنَزِّله تعالى في آيات كثيرة جدّا تزيد على المئة أحصاها العلاّمة المجلسي في البحار (٣) تحت عنوان «باب التوحيد ونفي الشريك».

وجمعت أيضا في تفصيل آيات القرآن الحكيم (٤) ، نتبرّك بذكر بعضها مثل :

١ ـ قوله تعالى : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمُ) (٥).

__________________

(١) أي تشبيه الخالق بالمخلوقات التي لها جنس ونوع.

(٢) توحيد الصدوق : (ص٨٣ باب معنى الواحد و ... ح٣).

(٣) بحار الأنوار : (ج٣ ص١٩٨ الباب٦).

(٤) تفصيل آيات القرآن الحكيم : (ص١٢٩).

(٥) سورة البقرة : (الآية ١٦٣).

٤٦

٢ ـ قوله تعالى : (وَقَالَ اللّه لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ) (١).

٣ ـ قوله تعالى : (فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّه إِلَها آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ) (٢).

٤ ـ قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

٥ ـ قوله تعالى في سورة التوحيد التي هي نسبة اللّه تعالى : (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ) (٤).

وغير ذلك من سائر الآيات الكريمة التي تحصر الاُلوهية في الواحد الأحد ، وتنفي الشريك والشبيه للفرد الصمد ، تعالى شأنه وجلّت قدرته.

٢ ـ دليل السنّة :

قد إستفاضت أزاهير الحكمة وتواترت رياض النبوّة ، في أحاديث أهل بيت العصمة عليهم‌السلام ، المصرّحة بوحدانية اللّه تعالى والهادية إلى ركنيّة توحيده بما يوجب العلم واليقين بهذا الإعتقاد الراسخ ، والمعتَقَد الشامخ فلاحظ من رواياتهم المباركة ما يلي :

١ ـ خطبة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث إسحاق بن غالب :

__________________

(١) سورة النحل : (الآية ٥١).

(٢) سورة الشعراء : (الآية ٢١٣).

(٣) سورة الأنبياء : (الآية ٢٢).

(٤) سورة التوحيد : (الآية ١).

٤٧

«الحمد للّه الذي كان في أوّليّته وحدانيا ...» (١).

٢ ـ وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده الإمام الحسن عند إنصرافه من صفّين وقد جاء فيها :

«... واعلم يابنيّ! أنّه لو كان لربّك شريك لأَتَتْك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته.

ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبدا ، أوّل قبل الأشياء بلا أوّلية ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية ...» (٢).

٣ ـ دعاء سيّدنا الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة وقد جاء فيه :

«الحمد للّه الذي لم يتّخذ ولدا فيكون موروثا ، ولم يكن له شريك في ملكه فيضادّه فيما ابتدع ، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع» (٣).

٤ ـ حديث الإمام الصادق عليه‌السلام التالي :

«... ثمّ يلزمك إن ادّعيت إثنين فلابدّ من فُرجة بينهما حتّى يكونا إثنين فصارت الفُرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة.

وإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الإثنين حتّى يكون بينهم فُرجتان فيكونوا خمسة ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة» (٤).

فهذا الحديث الشريف يبرهن على أنّ التعدّد مستلزم للتسلسل وهو

__________________

(١) توحيد الصدوق : (ص٤٤ باب التوحيد ونفي التشبيه ح٤).

(٢) نهج البلاغة : (قسم الرسائل ، رقم الوصيّة ٣١ ص٤٩ من الطبعة المصرية).

(٣) البلد الأمين : (ص٢٥٣).

(٤) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٣٠ الباب٦ ح٢٢).

٤٨

مستحيل فإذا إستحال التعدّد صدق ضدّه وهي الوحدة.

فاللّه واحد لا شريك له ، وقديم لا قديم معه ، علما بأنّ صفاته الذاتية الشريفة عين ذاته فلا تكون معيّةٌ له ، فيستفاد ثبوت الوحدة وإمتناع التعدّد وعدم إمكان تعدّد القدماء.

٥ ـ خطبة سيّدنا الإمام الرضا عليه‌السلام الجليلة في مجلس المأمون وقد جاء فيها :

«أوّل عبادة اللّه معرفته ، وأصل معرفة اللّه توحيده ...» (١).

إلى غير ذلك من أحاديث أنوار المعارف الحقّة ، المروية عن أئمّة الطائفة المحقّة ، الهادية للاُمّة والخليقة.

٣ ـ دليل العقل :

بالإضافة إلى فطرية التوحيد والتجاء النفس إلى إله واحد عند التضرّع والشدّة الكاشف عن أحديّة المَلجَأ كما عرفت ... يحكم العقل بأدلّته القطعيّة ، وبراهينه الوجدانية ، بوحدانية الخالق تعالى.

وجاء إستدلال العقل بأنحاء كثيرة نختار منها تقريرات ثمانية يثبت بها المطلوب ويحصل منها الغرض وهي :

الأوّل : برهان الإرتباط والتدبير

إنّ الإنسان إذا تأمّل بفكر سليم وعقل مستقيم في هذا العالم الكبير والكون الشهير ، من أعالي سماواته إلى أعماق أراضيه وما في أجوافه وبحاره ، رأى

__________________

(١) توحيد الصدوق : (ص٣٤ باب التوحيد ونفي التشبيه ح٢).

٤٩

ووجد أنّ موجوداتها مترابطة متشابكة ومتناسبة بعضها مع بعض بأتمّ الإرتباط والتناسب كجهازٍ واحد ، ومجموعة واحدة.

وهذا يدلّ على أنّ خالق جميعها واحد وهو العالِم باحتياجاتها والعارف بإرتباطاتها ، والخبير بما يحتاج العالَم إليه من الأجزاء والجزئيات.

وهذا أمر عقلي واضح يحسّه كلّ ذي تدبّر ، بل هو من البديهيّات العقلية لجميع المستويات البشريّة.

ألا ترى أنّهم يحكمون في المصنوعات البشرية ، كالسيارة مثلاً ، أو الطائرة فرضا بوحدة صانعها ومبتكرها لإنسجام أجزائها وترابطها بعضها مع بعض ولا يمكن أن يكون مخترع هيكل الطائرة غير مبتكر أجنحتها .. ولا يمكن أن يكون مبتكر السيارة غير مبتكر عجلاتها .. مع الحاجة الماسّة إلى تلك الأجزاء فيما بينها.

وكذلك اتّصال التدبير وإرتباط الصنع وتناسب الخلقة في هذا العالَم دليل على وحدة المدبِّر الصانع.

وإذا كرّرت التأمّل في هذا النظام الكوني الكبير المترابط ، وجدت أنّه بالإضافة إلى إرتباطه وتناسبه هو خالٍ عن أي فساد بالرغم من كِبَرِه وعظمته.

وعدم الفساد والإختلال بنفسه دليل على وحدة صانعه وحكمته ، فإنّه لو كانت الآلهة متعدّدة لأختلّ العالم في التدبير ، وفسد في التقدير ، وهذا أيضا أمر محسوس نلاحظه في حياتنا العادية والمظاهر الإجتماعية.

فالفساد يحدث عند التعدّد .. كما إذا تعدّد السلطان في مملكة ، أو تعدّد الحاكم في بلدةٍ ، أو تعدّد الرئيس في عائلة ، بل حتّى إذا تعدّد الروح في بدن واحد بالرغم من محبّة البدن لروحه.

٥٠

حيث إنّه عند وجود التعدّد يحدث الفساد والتبدّد ، فعدم الفساد دليل على عدم التعدّد.

وهذه الحكمة العلمية العقلية أشار إليها القرآن الكريم في قوله عزّ إسمه : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا) (١).

وقوله عزّ إسمه : (مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (٢).

واستفيد هذا البرهان أيضا من حديث هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبداللّه عليه‌السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟ قال :

«اتّصال التدبير وتمام الصنع ...» (٣).

وعنه عليه‌السلام أيضا :

«فلمّا رأينا الخلق منتظما ، والفلك جاريا ، والتدبير واحدا ، والليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد» (٤).

وعليه فاتّصال التدبير المنتظم يدلّ على وحدة المدبِّر المنظِّم ، ولا يمكن ولا يليق هذا الخلق العظيم بأحدٍ إلاّ باللّه تبارك وتعالى الذي هو العالم بحقائقه والعارف بإحتياجاته ، والحكيم في تدبيره.

وهذا هو برهان الإرتباط وحكمة التدبير ، الدالّ على وحدة الخالق الخبير.

__________________

(١) سورة الأنبياء : (الآية ٢٢).

(٢) سورة المؤمنون : (الآيه ٩١).

(٣) تفسير البرهان : (ج٢ ص٦٨٥).

(٤) نفس المصدر.

٥١

الثاني : برهان عدم وجود الأثر للشريك ، الكاشف عن عدم المؤثّر

فإنّه لا داعي ولا موجب أوّلاً إلى الإيمان بتعدّد الآلهة ما لم نجد أثرا لغير اللّه تعالى كخلق من مخلوقاته ، أو رسول من رسله ، أو كتاب من كتبه.

فكما أنّ وجود الأثر دليل على وجود المؤثّر كذلك عدمه دليل على العدم.

والفطرة السليمة شاهدة والعلم الجزمي قاضٍ بأنّه لو كان إله غير اللّه لعرفناه بآثاره أو ملائكته أو كتبه أو رسله.

وحيث أيقنّا بعد التتبّع الكامل والإستقصاء الشامل ، بأنّه ليس في الكون أثر لغير اللّه علمنا بأنّه ليس إله شريكا مع اللّه.

وهذا البرهان بَزَغَ نوره من باب مدينة علم الرسول الأمين ، أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته المتقدّمة لولده الإمام الحسن عليه‌السلام :

«لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ...» (١).

الثالث : برهان الفُرجة وملازمة الشريك للتسلسل والإحتياج

وهذا هو الدليل القطعي المفيد إستحالة تعدّد القديم ، والموضّح لزوم وحدة الخالق ، وهو الذي أرشد إليه الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث هشام بن الحكم المتقدّم (٢). وحاصله أنّه يلزم من تعدّد الإله وجود الفاصِل المائز القديم بينهما ، ثمّ وجود الفصل أيضا بين الثلاثة فيما بينها ، وهكذا متسلسلاً ، والتسلسل باطل فيصدق ضدّ التعدّد وهي الوحدة.

وقد تمسّك بهذا الدليل شيخ الإسلام المجلسي في كتابه ، وأضاف قدس‌سره في

__________________

(١) نهج البلاغة : (قسم الرسائل ، ص٤٩ من الطبعة المصرية رقم الوصيّة ٣١).

(٢) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٣٠ الباب٦ ح٢٢).

٥٢

توضيحه : «... أنّه لو كان التعدّد موجودا لكان إمتياز أحد الآلهتين عن الآخر بأمر خارج يُحتاج إليه في الإمتياز ؛ فيكون الإلهان محتاجين إلى هذا المائز ، والإحتياج ليس شأن الإله ، فإنّ كلّ محتاج ممكن ، واللّه الغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، فلا يكون له شريك» (١).

الرابع : برهان السبر والتقسيم ، المستفاد أيضا من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام

بيان ذلك : أنّه لو قيل بالتعدّد فلا يخلو الأمر فيهما من أحد ثلاثة :

إمّا أن يكونا قادرين على إقامة النظام.

أو غير قادرين عليها.

أو متفاوتين ومختلفين في القدرة.

فإذا كانا قادرين كان أحدهما لغوا ، وإذا كانا عاجزين كان كلاهما عبثا ، وإذا كان أحدهما قادرا والآخر عاجزا ثبتت الاُلوهية للإله القادر ، ولم يكن يليق بها الآخر العاجز.

فتتعيّن الاُلوهية للإله الواحد القدير بلا شريك ولا نظير.

الخامس : إستلزام الشركة للإستحالة

وهو ما أفاده الشيخ الصدوق بما حاصله :

«أنّه لو كان الإله إثنين لم يَخْلُ الأمر فيهما من أن يكون كلّ واحد منهما قادرا على منع صاحبه أو غير قادر ..

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٣٠).

٥٣

فإن كان قادرا كان الآخر ممنوعا ، والممنوع حادث ، والحدوث ليس من صفات الإله.

وإن لم يكن قادرا لزم عجزه ونقصه ، والعجز أيضا ليس من صفات اللّه فيستحيل الشريك على كلا التقديرين ، ويثبت أنّ الإله واحد لا شريك له ، وهو الإله القادر جلّت قدرته» (١).

السادس : برهان الدَّفْع

فإنّ وجوب الوجود للّه تعالى الذي هو مسلّمٌ يستلزم القدرة والقوّة الكاملة على جميع الممكنات ، بحيث يقدر على دفع جميع ما يضادّه ويقابله بنحو مطلق.

فإنّ عدم القدرة على هذا الدفع نقصٌ ، والنقص عليه محالٌ بالضرورة ، لوجوب وجوده.

وعليه فشريكه مندفع بالبداهة ، ومستحيل وجوده بالوضوح ، فيكون هو تعالى واحدا لا شريك له.

وقد أفاد هذا الدليل وما يليه من الدليلين التاليين بعض العلماء والحكماء.

السابع : دليل الكمال

إنّ التفرّد بالصنع كمالٌ للصانع ، والشركة مستلزمة لسلب هذا الكمال ، وسلب الكمال عن ذاته المقدّسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية محالٌ ببداهة ، فلا يكون له شريك لأنّ الشريك يستلزم سلب الكمال ، وسلب الكمال باطل ، فوحدة الصانع هي الحقّ.

__________________

(١) توحيد الصدوق : (ص٢٦٩).

٥٤

الثامن : دليل الإستغناء

وذلك أنّ اللّه تعالى غني عمّا سواه ، ومستغنٍ بذاته عن غيره ، ولا طريق للإحتياج إليه ، فيكون غنيّا عن الشريك ومنزّها عن الحاجة والشركة.

مع أنّ الشركة بنفسها من النقص والحاجة ، للإحتياج فيه إلى الإذن في التصرّف ، والغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، وأرفع من الإستيذان فلا يناسبه الشريك ، بل هو الواحد الأحد الكبير الغني عن الشريك ، والمستغني عن النظير.

فحكومة العقل عند الإستدلال بأنّه واحد لا شريك له ثابتة بلا إشكال.

٥٥

الجهة الثالثة :

صفات اللّه تعالى

من مسلّمات الدين الحنيف ، أنّه لا سبيل للمخلوق إلى معرفة ذات الخالق والإحاطة به ومعرفة حقيقته.

فقد قال اللّه تعالى : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما) (١).

وورد في دعاء المشلول المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«يامن لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلاّ هو» (٢).

وفي دعاء مولانا السجّاد عليه‌السلام :

«ولم تجعل للخلق طريقا إلى معرفتك إلاّ بالعجز عن معرفتك» (٣).

وقد قام البرهان ودلّ الوجدان وأدرك العقل بالعيان أنّه لم يُعطَ للمخلوق وسيلة يَعرِفُ بها ذات خالقه ، إذ الأعضاء والحواس الإنسانية على دقّتها وعظمتها هي مقاييس مادّية نحسّ بها المخلوقات والماديات فقط.

__________________

(١) سورة طه : (الآية ١١٠).

(٢) مصباح الكفعمي : (ص٢٦٠).

(٣) مفاتيح الجنان المعرّب : (ص١٢٧ ، مناجات العارفين).

٥٦

فالعين مثلاً التي هي من أدقّ الوسائل لرؤية الأعيان بما أنّها خِلقةٌ مادّية نشاهد بها المادّيات فقط ، بل لا يمكننا أن نشاهد بها حتّى بعض المادّيات ، كالاُمور اللطيفة مثل الهواء ، فكيف يمكن مشاهدة خالق المادّيات؟

وهناك بيان لطيف في أحاديث أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في بيان إبطال رؤية اللّه تعالى ، وعدم إمكانها نظير :

١ ـ ما رواه أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث [الإمام الهادي] عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ، فكتب :

«لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ؛ لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات» (١).

٢ ـ هشام بن الحكم قال :

«الأشياء [كلّها] لا تُدرك إلاّ بأمرين : بالحواسّ والقلب ؛ والحواسّ إدراكها على ثلاثة معانٍ : إدراكا بالمداخلة ، وإدراكا بالمماسّة ، وإدراكا بلا مداخلة ولا مماسّة.

فأمّا الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعوم.

وأمّا الإدراك بالمماسّة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث ومعرفة الليّن والخشن والحرّ والبرد.

وأمّا الإدراك بلا مماسّة ولا مداخلة فالبصر فإنّه يدرك الأشياء بلا

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص٩٧ باب إبطال الرؤية ح٤).

٥٧

مماسّة ولا مداخلة في حيِّز غيره ولا في حيِّزه.

وإدراك البصر له سبيل وسبب فسبيله الهواء وسببه الضياء ، فإذا كان السبيل متّصلاً بينه وبين المرئي والسبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص ، فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة فإذا لم يكن له سبيل رجع راجعا ، يحكي ما وراءه وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعا ويحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره ؛ فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهّمه ، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا رجع راجعا فحكى ما في الهواء.

فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء من أمر التوحيد جلّ اللّه وعزّ ، فإنّه إن فعل ذلك لم يتوهّم إلاّ ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى اللّه أن يشبهه خلقه» (١).

على أنّ الحواس الاُخرى أيضا إنّما نحسّ بها المخلوقات فقط ، فكيف يمكن مشاهدة الخالق بهذه الوسائل المادّية؟ وهل يُرى بالجسم غير الأجسام؟

كلاّ!! المادّي لا يمكنه التوصّل إلاّ إلى المادّي فقط بإقتضاء السنخيّة.

بل لم يتوصّل الإنسان إلى بعض نفس المادّيات المماثلة له في جوهر المادّة ، فتراه لم يعرف بَعْدُ حقيقة المواد الأوّلية ، والعناصر الأساسيّة الموجودة في هذا الكون ، بالرغم من أنّه يشاهدها ويحسّها وهو متكيّف معها ويعيش إلى جنبها.

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص٩٩ باب إبطال الرؤية ح١٢).

٥٨

وترى الإنسان ـ وهو أشرف المخلوقات السالك بنفسه في مرامي علم الكائنات ، والمبتكر لعظيم المصنوعات ـ لم يتوصّل إلى معرفة حقيقة روحه هو ، بينما هو مشتمل عليها وعائش ببركتها ومتقارن في حياته دائما مع وجودها .. بأقرب تقارن وأمسّ إرتباط.

فإذا كان عاجزا عن معرفة روحه المنطوية معه ، فما بالك بمعرفة خالق الأرواح الذي هو فوق إدراكه.

إنّا لا نملك إلاّ الإعتراف بالعجز عن معرفة ذاته المقدّسة بحكومة العقل وشهادة الوجدان.

وحين لم يمكننا ولن نتمكّن من معرفة ذاته ، فلابدّ على صعيد معرفة اللّه من معرفة صفاته ومعالي أوصافه وعظيم خلقه وباهر صنعته.

وحتّى في نفس الصفات لا نتمكّن من معرفة كنهها خصوصا الصفات التي هي عين ذاته ، كعلمه وقدرته وحياته و ...

فتكون معرفتنا لها بالمقدور المستطاع وبقدر إدراك البصائر ، وبالمقدار الذي بيّنه هو تعالى في كتابه الباهر ، وأبان عنه على لسان نبيّه وأوصيائه المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين.

فاللّه تعالى هو العالم بذاته وصفاته ، لذلك يلزم علينا أن نستمدّ منه المعرفة بنعوته وأوصافه.

وقد ورد الحديث العلوي الشريف المتقدّم :

«اعرفوا اللّه باللّه ...» (١).

وفي خطبته المباركة :

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص٨٥ باب أنّه لا يعرف إلاّ به ح١).

٥٩

«هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه» (١).

وعلى الجملة فالمذهب الصحيح في المعارف الحقّة هو : معرفة صفات اللّه تبارك وتعالى بواسطة بيان كتابه الكريم وأحاديث مهابط وحيه ، النبي وآله المعصومين (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ، كما نُصّ على الإهتداء بهما والتمسّك بكليهما في عموم حديث الثقلين : «كتاب اللّه والعترة» ، وخصوص أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام التي منها ما يلي :

١ ـ حديث سليمان بن خالد قال : قال أبو عبداللّه عليه‌السلام :

«إيّاكم والتفكّر في اللّه (٢) ؛ فإنّ التفكّر في اللّه لا يزيد إلاّ تَيها (٣) إنّ اللّه عزوجل لا تدركه الأبصار ، ولا يوصف بمقدار» (٤).

٢ ـ حديث عبدالرحيم القصير قال : كتبت على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبداللّه عليه‌السلام بمسائل فيها : أخبِرني عن اللّه عزوجل هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ، فإن رأيت ـ جعلني اللّه فداك ـ أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد. فكتب (صلّى اللّه عليه) على يدي عبدالملك بن أعين :

«سألت رحمك اللّه عن التوحيد وما ذهب فيه من قبلك ، فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه تبارك وتعالى بخلقه ، المفترون على اللّه. واعلم رحمك اللّه أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن

__________________

(١) الإحتجاج للطبرسي : (ج١ ص٢٠١ إحتجاجات أمير المؤمنين عليه‌السلام في التوحيد).

(٢) أي في ذات اللّه تعالى.

(٣) التيه هو التحيّر والضلالة.

(٤) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٥٩ الباب٩ ح٤).

٦٠