العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

وحاشا الحكيم العليم العادل عن ذلك أبدا!

فلابدّ وأن يتحقّق الرجوع هنالك بإقتضاء الحكمة حتّى لا يلزم العبث واللغو والبطلان.

فيحكم العقل على أساس حكمة اللّه الحكيم بتحقّق ذلك اليوم العظيم.

ثالثا : إنّه لو لم يكن ذلك اليوم الخالد ولم يظهر الفرق بين العاصي والمطيع لتساوى الأنبياء النبلاء مع أشقى العصاة الأشقياء ، وتعادل جبابرة الكافرين مع كبار المؤمنين ، وتساوى البرّ والفاجر ، وتوازن الظلم والعدل والحقّ مع الباطل والنور مع الظلمة.

وهذا شيء قبيح مخالف للحقّ الصريح ، فيحكم العقل بإستحالته على اللّه تعالى.

وعليه ، فالعقل حاكم على أساس الحسن وعدم القبح بضرورية يوم الحشر للإنسان ، وقيام يوم المعاد والميزان ، لتمييز الحقّ وإبطال الباطل.

على أنّ الفطرة بنفسها تقضي بمجازاة الظالم ومؤاخذة الجاني .. حتّى فطرة الملحدين والمنكرين للربوبية ؛ لذلك تراهم يعاقبون السارق ويؤاخذون المتجاوز.

فحقّانية يوم القيامة ثابتة بوحي الفطرة ، مضافا إلى ما تقدّم من الأدلّة.

٤٠١

مراحل القيامة

المراحل التي يمرّ عليها الإنسان من حين موته إلى آخر موطنه ومصيره كثيرة نعنون منها أربعة عشر مرحلة وهي :

١ ـ الموت.

٢ ـ البرزخ.

٣ ـ القبر.

٤ ـ أشراط الساعة.

٥ ـ نفخ الصور وفناء الدنيا.

٦ ـ المحشر.

٧ ـ الميزان.

٨ ـ محاسبة العباد.

٩ ـ الأعمال.

١٠ ـ الوسيلة.

١١ ـ الحوض.

١٢ ـ الشفاعة.

١٣ ـ الصراط.

١٤ ـ الجنّة والنار.

٤٠٢

(١) ـ الموت

آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل من يوم من أيّام الآخرة لكلّ فرد من أفراد الإنسان هو يوم موته ؛ فإنّه إذا مات ابن آدم قامت قيامته وابتدأت آخرته.

والموت : هي الحقيقة الثابتة التي دلّت عليها الأدلّة البرهانية ، بل وصلت إليها الإدراكات الوجدانية وكلّ منّا يعلم بالموت ويراه عن يقين وعيان ، ويدركه عن حسّ يغني عن البيان والبرهان ، فيلزم الإعتقاد بحقّانيّته والإقرار بأنّ كلّ حي سوى اللّه ميّت ، وكلّ نفس ذائقة الموت ؛ التزاما بما قاله اللّه وجاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد خلقه اللّه تعالى كما خلق الحياة ، فقال عزّ إسمه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (١).

وقد بيّنته الأحاديث الكثيرة وشرحته الروايات الوفيرة ، وبيّنت أنّ الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينعس (٢) ، وللكافر أعظم ألم يحسّه الشخص فيجهد كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ كما تلاحظ ذلك في الأحاديث التالية :

١ ـ حديث أحمد بن الحسن الحسيني ، عن الإمام أبي محمّد العسكري ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قيل للصادق عليه‌السلام : صف لنا الموت.

قال عليه‌السلام :

__________________

(١) سورة الملك : (الآية ٢).

(٢) من النعاس وهي فترة الحواس عند قرب النوم.

٤٠٣

«للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ.

قيل : فإنّ قوما يقولون : إنّه أشدّ من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض! ورضخ بالأحجار! وتدوير قطب الأرحية على الأحداق (١).

قال : كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين ، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد؟ فذلكم الذي هو أشدّ من هذا لا من عذاب الآخرة فإنّه أشدّ من عذاب الدنيا.

قيل : فما بالنا نرى كافرا يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم ، وفي المؤمنين أيضا من يكون كذلك ، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟

فقال : ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شديدة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نقيّا ، نظيفا ، مستحقّا لثواب الأبد ، لا مانع له دونه ؛ وما كان من سهولة هناك على الكافر فيوفّى أجر حسناته في الدنيا ليرد الآخرة وليس له إلاّ ما يوجب عليه العذاب ، وما كان من شدّة على الكافر هناك فهو ابتداء عذاب اللّه له بعد نفاد حسناته ذلكم بأنّ اللّه عدل لا يجور» (٢).

٢ ـ ما في أحاديث جامع الأخبار مثل حديث الحسن بن علي الناصري ، عن أبيه ، عن الإمام أبي جعفر الجواد ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قيل لأمير

__________________

(١) جمع حَدَقة وهي السواد الأعظم للعين أو خصوص ناظرها.

(٢) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٥٢ ب١ ح٦).

٤٠٤

المؤمنين عليه‌السلام : صف لنا الموت.

فقال :

«على الخبير سقطتم ، هو أحد ثلاثة اُمور يرد عليه : إمّا بشارة بنعيم الأبد ، وإمّا بشارة بعذاب الأبد ، وإمّا تحزين (١) وتهويل وأمره مبهم ، لا تدري من أيّ الفرق هو ؛ فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشَّر بنعيم الأبد ، وأمّا عدوّنا المخالف علينا فهو المبشَّر بعذاب الأبد ، وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله ، يأتيه الخبر مبهما مخوفا ، ثمّ لن يسوّيه اللّه عزوجل بأعدائنا لكن يخرجه من النار بشفاعتنا ، فاعملوا وأطيعوا ولا تتّكلوا ولا تستصغروا عقوبة اللّه عزوجل فإنّ من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلاّ بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة.

وسئل الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : ما الموت الذي جهلوه؟

قال : أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، وأعظم ثبور (٢) يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد.

وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين صلوات اللّه عليه وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ،

__________________

(١) في المصدر ـ يعني جامع الأخبار ـ : تخويف.

(٢) الثبور هو الهلاك والخسران.

٤٠٥

وتهدئ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم.

فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت!

فقال لهم الحسين عليه‌السلام : صبرا بني الكرام! فما الموت إلاّ قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسطة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب.

إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كَذبت ولا كُذّبت.

وقال محمّد بن علي عليهما‌السلام : قيل لعلي بن الحسين عليهما‌السلام : ما الموت؟

قال : للمؤمن كنزع ثياب وسخة قَمِلة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والإستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطئ المراكب ، وآنس المنازل ؛ وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والإستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظم العذاب.

وقيل لمحمّد بن علي عليهما‌السلام ما الموت؟

قال : هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة ، إلاّ أنّه طويل مدّته ، لا ينتبه منه إلاّ يوم القيامة ، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر (١) قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره فكيف حال فرح في النوم

__________________

(١) كذا ورد في البحار وفي مصدره معاني الأخبار ولعلّ الأصل يُقدَّر.

٤٠٦

ووجل فيه؟ هذا هو الموت فاستعدّوا له» (١).

٣ ـ حديث أحمد بن الحسن الحسيني ، عن الإمام أبي محمّد العسكري ، عن آبائه عليهم‌السلام قال :

«دخل موسى بن جعفر عليه‌السلام على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعيا ، فقالوا له : يابن رسول اللّه! وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا؟

فقال : الموت هو المصفاة تصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ؛ وتصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل (٢) من الذنوب نخلاً وصفّي من الآثام تصفيةً ، وخُلّص حتّى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد» (٣).

وغيرها من الأخبار التي تبيّن كيفية الموت وحقيقته.

قال شيخنا المفيد أعلى اللّه مقامه في تصحيح الإعتقادات : «الموت هو يضادّ الحياة ، يبطل معه النموّ ويستحيل معه الإحساس ، وهو يحلّ محلّ الحياة فينفيها ، وهو من فعل اللّه تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلاّ اللّه تعالى» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٥٣ ـ ١٥٥ ب١ ح٩).

(٢) نخل الدقيق غربلته وإزالة نخالته ، ويقال : نخل الشيء أي صفّاه.

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٥٥ ب١ ح١٠).

(٤) تصحيح الإعتقاد : (ص٩٤).

٤٠٧

فالموت حقيقة يلزم الإعتراف به والإنتقال بواسطته إلى عالم الآخرة .. البرزخ والقيامة وهو يتحقّق بأمر اللّه القاهر فوق عباده فانّه يتوفّى الأنفس حين موتها.

ويتنفّذ بواسطة ملك الموت وأعوانه كما في قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١) ويكون ذلك بأمر اللّه تعالى كما تراه في أحاديث البحار التالية :

١ ـ حديث زيد الشحّام قال : سئل أبو عبداللّه عليه‌السلام عن ملك الموت يقال :

«الأرض بين يديه كالقصعة (٢) يمدّ يده حيث يشاء؟

قال : نعم» (٣).

٢ ـ حديث أسباط بن سالم مولى أبان قال : قلت لأبي عبداللّه عليه‌السلام : جعلت فداك! يعلم ملك الموت بقبض من يقبض؟

قال :

«لا إنّما هي صكاك (٤) تتنزّل من السماء : اقبض نفس فلان بن فلان» (٥).

واعلم أنّه يطيب به المؤمن ويُبشّر به ولا يكون إكراها عليه ، ويرهق به الفاجر ويكون مستحقّا له كما في الأحاديث التالية :

__________________

(١) سورة السجدة : (الآية ١١).

(٢) القصعة : الجفنة.

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٤٤ ب٥ ح١٢).

(٤) صكاك جمع صكّ وهو الكتاب الذي يكون كالسجل.

(٥) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٤٥ ب٥ ح١٦).

٤٠٨

١ ـ حديث جامع الأخبار : قال إبراهيم الخليل عليه‌السلام لملك الموت :

«هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر؟ قال : لا تطيق ذلك ، قال : بلى ، قال : فأعرض عنّي ؛ فأعرض عنه ثمّ التفت فإذا هو برجل أسود ، قائم الشعر ، منتن الريح ، أسود الثياب ، يخرج من فيه ومناخره لهيب النار والدخان ؛ فغشي على إبراهيم عليه‌السلام ثمّ أفاق ، فقال : لو لم يلق الفاجر عند موته إلاّ صورة وجهك لكان حسبه» (١).

٢ ـ ما رواه أبو طاهر المقلّد بن غالب ، عن رجاله بإسناده المتّصل إلى علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، أنّه رآه وهو ساجد يبكي حتّى علا نحيبه وارتفع صوته بالبكاء ، فقالوا له : ياأمير المؤمنين! لقد أمرضنا بكاؤك وأمضّنا وشجانا (٢) ، وما رأيناك قد فعلت مثل هذا الفعل قطّ.

فقال :

«كنت ساجدا أدعو ربّي بدعاء الخيرات في سجدتي فغلبني عيني فرأيت رؤيا هالتني وأقلقتني ، رأيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما وهو يقول : ياأبا الحسن! طالت غيبتك فقد اشتقت إلى رؤياك ، وقد أنجز لي ربّي ما وعدني فيك. فقلت : يارسول اللّه! وما الذي أنجز لك فيّ؟ قال : أنجز لي فيك وفي زوجتك وإبنيك وذرّيتك في الدرجات العلى في علّيين ؛ قلت : بأبي أنت واُمّي يارسول اللّه! فشيعتنا؟ قال : شيعتنا معنا ،

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٤٣ ب٥ ح٨).

(٢) يقال : أمضّه الأمر أي أحرقه وشقّ عليه ، وأمضّه الجرح أي أوجعه ، وشجا الرجل أي أحزنه.

٤٠٩

وقصورهم بحذاء قصورنا ، ومنازلهم مقابل منازلنا ؛ قلت : يارسول اللّه! فما لشيعتنا في الدنيا؟ قال : الأمن والعافية ، قلت : فما لهم عند الموت؟ قال : يحكم الرجل في نفسه ويؤمر ملك الموت بطاعته ، قلت : فما لذلك حدّ يعرف؟ قال : بلى ، إنّ أشدّ شيعتنا لنا حبّا يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في يوم الصيف الماء البارد الذي ينتقع به القلوب ، وإنّ سائرهم ليموت كما يغبط أحدكم على فراشه كأقرّ ما كانت عينه بموته» (١).

٣ ـ حديث أبي بصير قال : قلت لأبي عبداللّه عليه‌السلام : جعلت فداك! يستكره المؤمن على خروج نفسه؟ قال : فقال :

«لا واللّه ، قال : قلت : وكيف ذاك؟ قال : إنّ المؤمن إذا حضرته الوفاة حضر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وجميع الأئمّة عليهم الصلاة والسلام ـ ولكن أكنّوا عن اسم فاطمة ـ ويحضره جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام ، قال : فيقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : يارسول اللّه! إنّه كان ممّن يحبّنا ويتولاّنا فأحبّه ، قال : فيقول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ياجبرئيل! إنّه ممّن كان يحبّ عليّا وذرّيته فأحبّه ، وقال جبرئيل لميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام مثل ذلك ، ثمّ يقولون جميعا لملك الموت : إنّه ممّن كان يحبّ محمّدا وآله ويتولّى عليّا وذرّيته فارفق به ، قال : فيقول ملك الموت : والذي اختاركم وكرّمكم واصطفى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، وخصّه بالرسالة لأنا أرفق به من والد رفيق ،

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٦١ ب٦ ح٣٠).

٤١٠

وأشفق عليه من أخ شفيق.

ثمّ قام إليه ملك الموت فيقول : ياعبد اللّه! أخذت فكاك رقبتك؟ أخذت رهان أمانك؟ فيقول : نعم ، فيقول الملك : فبماذا؟ فيقول : بحبّي محمّدا وآله ، وبولايتي علي بن أبي طالب وذرّيته ، فيقول : أمّا ما كنت تحذر فقد آمنك اللّه منه وأمّا ما كنت ترجو فقد أتاك اللّه به ، افتح عينيك فانظر إلى ما عندك.

قال : فيفتح عينيه فينظر إليهم واحدا واحدا ، ويفتح له باب إلى الجنّة فينظر إليها ، فيقول له : هذا ما أعدّ اللّه لك ، وهؤلاء رفقاؤك ، أفتحبّ اللحاق بهم أو الرجوع إلى الدنيا؟

قال : فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : أما رأيت شخوصه (١) ورفع حاجبيه إلى فوق من قوله : لا حاجة لي إلى الدنيا ولا الرجوع إليها؟ ويناديه منادٍ من بطنان العرش يسمعه ويسمع من بحضرته : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى محمّد ووصيّه والأئمّة من بعده (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً) بالولاية ، (مَرْضِيَّةً) بالثواب ، (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) مع محمّد وأهل بيته (وَادْخُلِي جَنَّتِي) غير مشوبة» (٢).

كما وأنّ بحضور النبي الأكرم والأئمّة العظام عليهم سلام اللّه الملك العلاّم يكون سرور المؤمن في موته وحضوره عند أوليائه كما تلاحظه في حديث وبيان العلاّمة المجلسي قدس‌سره (٣).

__________________

(١) يقال : شَخَص بصره أي فتح عينيه ، وشخص ببصره أي رفعه.

(٢) بحار الأنوار : (ج٦ ص١٦٢ ـ ١٦٣ ب٦ ح٣١).

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٠٠).

٤١١

فيلزم على الإنسان في وفوده هذا إلى اللّه تعالى أن يكون متّكلاً على رحمته الواسعة وآملاً محبّة أهل البيت النافعة ، ومتعوّذا باللّه من وساوس الشيطان والعديلة عند الموت التي تلاحظ تفصيلها في المعالم الزلفى (١) ونحيل الذكر رعايةً للإختصار.

__________________

(١) المعالم الزلفى : (ص٧١).

٤١٢

(٢) ـ البزرخ

البرزخ في اللغة هو الحاجز بين الشيئين كما في مجمع البحرين (١).

وكلّ فصلٍ بين شيئين برزخ كما في مجمع البيان (٢).

وأفاد في المفردات : «البرزخ هو الحاجز والحدّ بين الشيئين ، قيل أصل برزخ : برزه ، ومنه قوله تعالى : (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ) (٣)» (٤).

هذا لغةً ، وعالم البرزخ في الإصطلاح هو ما بين العالَمَين الدنيا والآخرة كما أفاده في مرآة الأنوار (٥).

ويلزم الإعتقاد بعالم البرزخ الذي هو ما بين الموت لكلّ إنسان والقيامة وما فيه من الاُمور ، كما أفاده السيّد الشبّر (٦).

وقد ثبت هذا العالم بدليل الكتاب والسنّة :

__________________

(١) مجمع البحرين : (ص١٩١).

(٢) مجمع البيان : (ج٧ ص١١٦).

(٣) سورة الرحمن : (الآية ٢٠).

(٤) المفردات : (ص٤٣).

(٥) مرآة الأنوار : (ص٦٤).

(٦) حقّ اليقين : (ج١ ص٦٤).

٤١٣

أمّا الكتاب :

فمثل قوله تعالى : (.. وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

وأمّا السنّة :

فالأحاديث العديدة الواردة في كتب الأخبار مثل الأحاديث التالية :

١ ـ ما في تفسير القمّي : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) (٢) إلى قوله : (إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) فإنّها نزلت في مانع الزكاة ، قوله : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال : البرزخ هو أمر بين أمرين ، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ، وهو ردّ على من أنكر عذاب القبر والثواب والعقاب قبل يوم القيامة ، وهو قول الصادق عليه‌السلام : «واللّه ما أخاف عليكم إلاّ البرزخ ، فأمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم».

وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران» (٣).

٢ ـ حديث أبي ولاّد الحنّاط ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك! يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال :

«لا ، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم» (٤).

__________________

(١) سورة المؤمنون : (الآية ١٠٠).

(٢) سورة المؤمنون : (الآية ٩٩).

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢١٤ ب٨ ح٢).

(٤) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٦٨ ب٨ ح١١٩).

٤١٤

فبموت الإنسان يبدأ هذا العالم الأوسط ، ويجري فيه الجزاء بالثواب أو العقاب ؛ فإنّه وإن مات البدن إلاّ أنّ الروح حي باقٍ حسّاس مشعر يحسّ اللذّات والآلام.

والمعتقد الصحيح هو بقاء الأرواح كما صرّح به شيخ المحدّثين الصدوق قدس‌سره (١).

بل المستظهر من الأدلّة كالآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القطعيّة هو أنّ النفس باقية بعد الموت في عالم البرزخ .. إمّا معذّبة كمن مُحض الكفر ، أو منعمة كمن محض الإيمان ، أو يلهى عنها كمن كان من المستضعفين ، وقد يذوق شيئا من الجهد إن كان من العاصين.

ويدلّ على بقاء الروح ، الكتاب والسنّة بالبيان التالي :

١ ـ دليل الكتاب على بقاء الروح :

١ ـ قوله تعالى : (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ) (٣).

__________________

(١) الإعتقادات للصدوق : (ص٤٧).

(٢) سورة آل عمران : (الآيتان ١٦٩ و ١٧٠).

(٣) سورة البقرة : (الآية ١٥٤).

٤١٥

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّا) (١) حيث فسّر بجنّة الدنيا بدليل قوله عزّ إسمه «بكرةً وعشيّا» فالبُكرة والعشي لا تكونان في الآخرة في جنان الخُلد بل هما في الدنيا.

فيستفاد من هذه الآيات الشريفة الحياة بعد الشهادة والموت لصراحة صفات الأحياء.

٣ ـ دليل السنّة على بقاء الروح :

مثل أحاديث أحوال البرزخ نظير ما يلي :

١ ـ حديث الفضل بن شاذان من كتاب صحائف الأبرار : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام اضطجع في نجف الكوفة على الحصى فقال قنبر : يامولاي! ألا أفرش لك ثوبي تحتك؟

فقال :

«لا إن هي إلاّ تربة مؤمن ، أو مزاحمته في مجلسه.

فقال الأصبغ بن نباتة : أمّا تربة مؤمن فقد علمنا أنّها كانت أو ستكون ، فما معنى مزاحمته في مجلسه؟

فقال : يابن نباتة! إنّ في هذا الظهر أرواح كلّ مؤمن ومؤمنة في قوالب من نور على منابر من نور» (٢).

٢ ـ حديث قيس مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال :

«إنّ عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام كان قريبا من الجبل بصفّين ، فحضرت

__________________

(١) سورة مريم : (الآية ٦٢).

(٢) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٣٧ ب٨ ح٥٥).

٤١٦

صلاة المغرب فأمعن (١) بعيدا ، ثمّ أذّن ، فلمّا فرغ عن أذانه إذا رجل مقبل نحو الجبل ، أبيض الرأس واللحية والوجه ، فقال : السلام عليك ياأمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته ، مرحبا بوصيّ خاتم النبيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، والأعزّ المأمون ، والفاضل الفائز بثواب الصدّيقين ، وسيّد الوصيّين ؛ فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : عليك السلام ، كيف حالك؟ فقال : بخير أنا منتظر روح القدس ، ولا أعلم أحدا أعظم في اللّه عزوجل اسمه بلاءا ولا أحسن ثوابا منك ، ولا أرفع عند اللّه مكانا ، اصبر ياأخي على ما أنت فيه حتّى تلقى الحبيب ، فقد رأيت أصحابنا ما لقوا بالأمس من بني إسرائيل ، نشروهم بالمناشير ، وحملوهم على الخشب ، ولو تعلم هذه الوجوه التَرِبَة الشائهة (٢) ـ وأومأ بيده إلى أهل الشام ـ ما اُعدّ لهم في قتالك من عذاب وسوء نكال لأقصروا ، ولو تعلم هذه الوجوه المبيضّة ـ وأومأ بيده إلى أهل العراق ـ ماذا لهم من الثواب في طاعتك لودّت أنّها قرضت بالمقاريض ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته.

ثمّ غاب من موضعه ، فقام عمّار بن ياسر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وخزيمة بن ثابت ، وهاشم المرقال في جماعة من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وقد كانوا سمعوا كلام الرجل ـ فقالوا : ياأمير المؤمنين! من هذا الرجل؟ فقال

__________________

(١) يقال : أمعن في النظر أي بالغ في الإستقصاء ، وكذا أمعن في الطلب ، ويقال : أمعن في الأمر أي أبعد.

(٢) الشائهة أي القبيحة ، والتَرِبة أي الفقيرة.

٤١٧

لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : هذا شمعون وصي عيسى عليه‌السلام ، بعثه اللّه يصبّرني على قتال أعدائه ، فقالوا له : فداك آباؤنا واُمّهاتنا ، واللّه لننصرنّك نصرنا لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يتخلّف عنك من المهاجرين والأنصار إلاّ شقي ؛ فقال لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام معروفا» (١).

٣ ـ حديث زيد الشحّام ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال :

«إنّ أرواح المؤمنين يرون آل محمّد عليهم‌السلام في جبال رضوى فتأكل من طعامهم ، وتشرب من شرابهم ، وتحدّث معهم في مجالسهم حتّى يقوم قائمنا أهل البيت عليهم‌السلام فإذا قام قائمنا بعثهم اللّه وأقبلوا معه يلبّون زمرا فزمرا ، فعند ذلك يرتاب المبطلون ، ويضمحلّ المنتحلون ، وينجو المقرّبون» (٢).

٤ ـ حديث إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّل [الإمام الكاظم] عليه‌السلام قال :

«سألته عن الميّت يزور أهله؟ قال : نعم ، فقلت : في كم يزور؟ قال : في الجمعة وفي الشهر وفي السنة على قدر منزلته ، فقلت : في أي صورة يأتيهم؟ قال : في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم ويشرف عليهم ، فإن رآهم بخير فرح ، وإن رآهم بشرّ وحاجة وحزن اغتمّ» (٣).

٥ ـ حديث يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبداللّه عليه‌السلام فقال :

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٣٨ ـ ٢٣٩ ب٨ ح٥٨).

(٢) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٤٣ ب٨ ح٦٦).

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٥٧ ب٨ ح٩١).

٤١٨

«ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ فقلت : يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : سبحان اللّه! المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، يايونس! إذا كان ذلك أتاه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقرّبون عليهم‌السلام فإذا قبضه اللّه عزوجل صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا» (١).

٦ـ حديث الإحتجاج (٢) المتقدّم الذي صرّح فيه أنّ الروح باقٍ إلى يوم ينفخ في الصور.

هذا ، وقد أفاد العلاّمة المجلسي (٣) أنّ عذاب البرزخ وثوابه ممّا اتّفقت عليه الاُمّة سلفا وخلفا وقال به أكثر أهل الملل ، ولم ينكره من المسلمين إلاّ شرذمة قليلة لا عبرة بهم ، وقد انعقد الإجماع على خلافهم سابقا ولاحقا ، والأحاديث الواردة فيه من طرق الخاصّة والعامّة متواترة المضمون.

وعليه فالكتاب والسنّة والإجماع كلّها دالّة على عالم البرزخ ، رحمنا اللّه فيه بفضله ورحمته.

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٦٩ ب٨ ح١٢٤).

(٢) الإحتجاج : (ج٢ ص٩٧) ، وقد مرّ ذكره في (ص٣٩٥) من هذا الكتاب.

(٣) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٧١).

٤١٩

(٣) ـ القبر

القبر من المراحل الوسطى للإنسان وهو تكرمة له في البدن وستر له في الأرض وحفظ له عن الهوام والمؤذيات ، وقد جعله اللّه وقدّره للإنسان فيما بيّن من مراحله بقوله عزّ إسمه : (قُتِلَ الاْءِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (١).

وأوّل شيء يكون في القبر بعد الدفن هو مساءلة العبد ، فيُسأل المكلّف الكامل عن ربّه وعن نبيّه وعن وليّه وعن دينه والحجج عليه ، بعد أن تُردّ الحياة إلى العبد إمّا كاملاً أو إلى بعض بدنه ، كما أفاده العلاّمة المجلسي أعلى اللّه مقامه (٢).

واعتقادنا في مساءلة القبر أنّها حقّ لابدّ منها فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنّة ونعيم في الآخرة.

ومن لم يأت بالصواب فله نُزُلٌ من حميم في قبره وتصلية جحيم في آخرته ، كما أفاده الشيخ الصدوق طاب ثراه (٣).

وقد جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الملائكة تنزل على

__________________

(١) سورة عبس : (الآيات ١٧ ـ ٢١).

(٢) بحار الأنوار : (ج٦ ص٢٧٠).

(٣) إعتقادات الصدوق : (ص٥٨).

٤٢٠