العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

١ ـ الولاية التامّة المطلقة للنبي على جميع الناس ، كما في قوله تعالى : (النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١).

٢ ـ القدوة التي تُطاع في جميع الاُمور ، كما في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ) (٢).

٣ ـ الحكم الحقّ بين الناس ورفع الخلاف عنهم ، كما في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (٣).

٤ ـ التذكير باللّه تعالى ، كما في قوله عزّ إسمه : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٤).

٥ ـ الهداية للخلق ، كما في قوله عزّ شأنه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥).

٦ ـ الشاهدية على الناس ، كما في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا) (٦).

٧ ـ الدعوة إلى اللّه والبشارة بالثواب والإنذار بالعقاب ، كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللّه بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا) (٧).

__________________

(١) سورة الأحزاب : (الآية ٦).

(٢) سورة النساء : (الآية ٥٩).

(٣) سورة ص : (الآية ٢٦).

(٤) سورة الغاشية : (الآية ٢١).

(٥) سورة الشورى : (الآية ٥٢).

(٦) سورة البقرة : (الآية ١٤٣).

(٧) سورة الأحزاب : (الآيتان ٤٥ و ٤٦).

٢٨١

٨ ـ الحرص على سعادة المؤمنين وصلاح شأنهم والرأفة والرحمة بهم ، كما في قوله تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (١).

.. إلى غير ذلك من المقامات والمراتب الرفيعة النبويّة التي يأتي ذكرها في الأحاديث الشريفة والتي لابدّ أن تتمثّل في وصي الرسول لبقاء الرسالة.

وعلى الجملة ؛ فالإمامة أمر فطري ، وإحتياج ضروري ، وحاجة لازمة كفى بارتكازيّتها دليلاً لها ، بالإضافة إلى أنّه يدلّ عليها الكتاب والسنّة والعقل بالبيان التالي :

أمّا الكتاب أوّلاً :

فقول اللّه تعالى شأنه : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٢) فإنّه قد ذكرت الخاصّة والعامّة ، أنّ الهادي في هذه الآية الشريفة ، هو الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد جاءت فيه ثلاثة وعشرون حديثا من طرق الخاصّة ، وسبعة أحاديث من طرق العامّة ، كما تلاحظها في كتاب غاية المرام (٣).

وللنموذج نختار من أحاديث الخاصّة ما رواه عبدالرحيم القصير ، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قول اللّه تبارك وتعالى : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) فقال :

__________________

(١) سورة التوبة : (الآية ١٢٨).

(٢) سورة الرعد : (الآية ٧).

(٣) غاية المرام : (ص٢٣٥ ب٣٠ و ٣١ الأحاديث) ، وتلاحظ استقصاء أحاديث العامّة في إحقاق الحقّ : (ج٣ ص٨٨ ، وج١٤ ص١٦٦ ، وج٢٠ ص٥٩).

٢٨٢

«رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنذر ، وعليّ الهادي ، أما واللّه ما ذهبت منّا وما زالت فينا إلى الساعة» (١).

ومن أحاديث العامّة ما رواه عبداللّه بن عمر ، عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«بي اُنذرتم ، وبعلي بن أبي طالب اهتديتم ـ وقرأ (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (٢) ـ وبالحسن اُعطيتم الإحسان ، وبالحسين تسعدون وبه تشقون. ألا وإنّ الحسين باب من أبواب الجنّة من عانده حرّم اللّه عليه ريح الجنّة» (٣).

وأمّا السنّة ثانيا :

فمثل حديث نهج البلاغة في كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عامله على البصرة ، عثمان بن حنيف الأنصاري قال عليه‌السلام :

«ألا وإنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه» (٤).

ممّا يستفاد منه هذه القاعدة الجارية ، والسنّة الماضية ، والضرورة القاضية بوجود الإمام الصالح لكلّ مأموم ، وحبّذا لو رجعنا في المقام إلى حديث الفضل ابن شاذان المفصّل في بيان علّة جعل اُولي الأمر والأمر بطاعتهم فلاحظ (٥).

__________________

(١) غاية المرام : (ص٢٣٥ ب٣١ ح٤).

(٢) سورة الرعد : (الآية ٧).

(٣) غاية المرام : (ص٢٣٥ ب٣٠ ح٦).

(٤) نهج البلاغة : (الرسائل ص٧٨ من الطبعة المصرية الكتاب٤٥).

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : (ج٢ ص٩٩ ب٣٤ ح١).

٢٨٣

وسيأتي ذكر الروايات الشارحة لذلك بالتفصيل.

وأمّا العقل ثالثا :

فدليل العقل وحكمه بلزوم الإمام يقرّر بوجوه أربعة :

١ ـ ما قرّره شيخ الطائفة الطوسي طابت تربته من أنّ العقل يحكم بوجوب الإمامة بدليل اللطف ، لما ثبت من كون الإمامة لطفا من اللّه تعالى ولا يتمّ التكليف بدونها ، فمقتضى كرمه تعالى أن يهيّئ لعباده وسائل الطاعة ، ويصرفهم عن طرق الفساد ، وهو لطف ، واللّه لطيف بعباده.

والإمامة من الألطاف الإلهيّة التي لا يحسن التكليف بدونها ، فجرت مجرى سائر الألطاف الإلهية ، إذ الاُمّة محتاجة إلى أخذ معالم دينها من الإمام ، والإمام لا يكون عندنا إلاّ من هو عالم بجميع ما تحتاج إليه الرعية (١).

٢ ـ ما قرّره الشيخ الكبير كاشف الغطاء طاب مثواه من أنّ العقل يشهد بوجوب وجود المبيّن للأحكام ، كما حكم بلزوم وجود المؤسّس للحلال والحرام ، لمساواة الجهتين ، وحصول الجهالة عند فقد كلّ من الأمرين ، ولكثرة المجملات في القرآن وفي الأخبار الواردة عن سيّد ولد عدنان (٢).

٣ ـ ما قرّره السيّد الشبّر أعلى اللّه مقامه من أنّ الغرض والحكمة في إيجاد الخلق هي المعرفة والعبادة ، كما قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٣) ، وهذا الغرض الشريف يتوقّف على الواسطة بين الخلق والخالق

__________________

(١) تلخيص الشافي : (ج١ ص٦٩).

(٢) كشف الغطاء : (ص٥ المبحث الخامس في الإمامة).

(٣) سورة الذاريات : (الآية ٥٦).

٢٨٤

لإستحالة المشاهدة والمكالمة ، وتكون الواسطة بالرسالة أو الإمامة.

فغرض الخلقة يقتضي الإمامة بعد الرسالة (١).

٤ ـ ما قرّره شيخنا الاُستاذ قدس‌سره ، من أنّ كتاب اللّه العظيم الذي هو كتاب الهداية ودستور البشرية الذي فيه آيات محكمات واُخر متشابهات ، كيف يمكن التوصّل والوصول إلى مراداته ، ومعرفة محتوياته ، وفهم مجملاته ومتشابهاته ، حتّى يتسنّى العمل بآياته بدون معلّم ومبيّن لها وهادٍ بهداية اللّه فيها؟!

ومن الواضح أنّ كتب الدراسات العلميّة والموسوعات الجامعية بالرغم من كونها من نتائج العقول البشرية لا يمكن فهمها بدون معلّم واُستاذ ، مع دراسات متواصلة في سنوات عديدة ..

فكيف بكتابٍ يعجز عن مثله الجنّ والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟!

من المستحيل أن نستغني في فهم أعظم الكتب عن تعليم من نزل في بيتهم الكتاب ، فالضرورة تقتضي بلزوم الإمامة بعد الرسالة ، والإمام في جنب القرآن .. وقول عمر : (حسبُنا كتاب اللّه) هو كذب وخداع وتزوير وبهتان ، قد كذّبه حتّى هو نفسه حينما كان يرتطم في الإشكال ويقول : (لولا علي لهلك عمر) ويقول : (لا أبقاني اللّه لمُعضلةٍ ليس لها أبو الحسن) ..

فهلاّ كان يكتفي بكتاب اللّه لحلّ المسائل الواردة عليه ..

وتلاحظ إعترافه بهذا الكلام في موارد كثيرة أحصاها شيخنا الأميني في كتاب الغدير في باب نوادر الأثر في علم عمر عند بيان مائة خطأ من أخطائه وجهالاته (٢).

__________________

(١) حقّ اليقين : (ج١ ص٨٤).

(٢) الغدير : (ج٦ ص٨٣ ـ ٣٢٥).

٢٨٥

وعليه فالبشرية محتاجة في جميع مجالات حياتها إلى كتاب اللّه مقرونا مع حجّة اللّه .. وهما توأمان لا يفترقان وتكون الهداية بهما معا حتّى يردا على الحوض يوم القيامة.

وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم إفتراقهما ، وفرَض التمسّك بهما ، وحصر الهداية فيهما بالدليل القطعي المقبول بين الفريقين في حديث الثقلين الذي نصّ عليه الرسول الأعظم في المواطن الأربعة :

يوم عرفة على ناقته القصوى ، وفي مسجد الخيف ، وفي خطبة يوم الغدير في حجّة الوداع ، وفي خطبته على المنبر يوم قُبض.

وقد رويت نصوص أحاديثه من طرق الخاصّة والعامّة بأسانيد كثيرة وروايات متواترة تلاحظها في مثل كتاب إحقاق الحقّ للقاضي التستري قدس‌سره (١). قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا من بعدي أبدا ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

ثمّ إنّ الحقّ الصريح والبيان المليح الذي يفهمه كلّ ذي حجى هو ما بيّنه أهل بيت الهدى في أحاديثهم الشريفة التي بيّنت أهميّة الإمامة ووجه الإحتياج إلى الإمام ، والتي هي أدلّة قطعيّة وبراهين يقينيّة على لزوم الإمامة الحقّة ووجوب وجود الإمام المعصوم في جميع الأزمنة إلى قيام الساعة مثل :

__________________

(١) إحقاق الحقّ : (ج٤ ص٤٣٦ ، وج٥ ص٧ ، وج٩ ص٣٠٩ ، وج١٦ ص٤٠٥ ، وج١٨ ص٢٦١) ، وغاية المرام : (ص٢١١ من إثنين وثمانين حديثا من طرق الخاصّة ، وتسعة وثلاثين حديثا من طرق العامّة).

٢٨٦

١ ـ ما رواه ثقة الإسلام الكيني في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العبّاس بن عمر الفُقيمي ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام ... (١).

٢ ـ ما رواه أيضا عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، عن الإمام أبي عبداللّه عليه‌السلام ... (٢).

٣ ـ ما رواه أيضا عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن يعقوب ، عن الإمام أبي عبداللّه عليه‌السلام ... (٣).

٤ ـ ما رواه يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبداللّه عليه‌السلام ، فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك ، فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام :

«كلامك من كلام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من عندك؟ فقال : من كلام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن عندي.

فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : فأنت إذا شريك رسول اللّه؟ قال : لا ، قال : فسمعت الوحي عن اللّه عزوجل يخبرك؟ قال : لا ، قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : لا.

فالتفت أبو عبداللّه عليه‌السلام إليّ فقال : يايونس بن يعقوب! هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم ، ثمّ قال : يايونس! لو كنت تُحسن الكلام كلّمته ،

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص١٦٨ باب الإضطرار إلى الحجّة ح١) ، وقد تقدّم هذا الحديث في دليل السنّة على النبوّة فلا نكرّر.

(٢) اُصول الكافي : (ج١ ص١٦٨ باب الإضطرار إلى الحجّة ح٢) ، وقد تقدّم هذا الحديث في باب النبوّة فلاحظ.

(٣) اُصول الكافي : (ج١ ص١٦٩ باب الإضطرار إلى الحجّة ح٣) ، وقد تقدّم هذا الحديث في أصل النبوّة فراجع.

٢٨٧

قال يونس : فيا لها من حسرة! فقلت : جعلت فداك! إنّي سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لأصحاب الكلام يقولون : هذا ينقاد وهذا لا ينقاد (١) ، وهذا ينساق وهذا لا ينساق ، وهذا نعقله وهذا لا نعقله.

فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : إنّ ما قلت : فويل لهم ، إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون ، ثمّ قال لي : اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله.

قال : فأدخلت حمران بن أعين ـ وكان يحسن الكلام ـ وأدخلت الأحول (٢) ـ وكان يُحسن الكلام ـ وأدخلت هشام بن سالم ـ وكان يُحسن الكلام ـ وأدخلت قيس بن الماصر ـ وكان عندي أحسنهم كلاما ، وكان قد تعلّم الكلام من علي بن الحسين عليهما‌السلام ـ.

فلمّا استقرّ بنا المجلس وكان أبو عبداللّه عليه‌السلام قبل الحجّ يستقرّ أيّاما في جبل في طرف الحرم في فازة (٣) له مضروبة ، قال : فأخرج أبو عبداللّه عليه‌السلام رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخبُّ (٤) فقال : هشام وربّ الكعبة! قال : فظننا أنّ هشاما رجل من ولد عقيل ـ كان شديد المحبّة له ـ قال : فورد هشام بن الحكم وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو أكبر سنّا منه ، قال : فوسّع له أبو عبداللّه عليه‌السلام وقال : ناصرنا

__________________

(١) إشارة إلى قولهم في مناظراتهم : سلّمنا هذا ولا نسلّم ذاك ، كما أنّ هذا ينساق وهذا لا ينساق إشارة إلى قولهم بالنسبة إلى خصمهم : له أن يقول كذا ، وليس له أن يقول كذا.

(٢) أي أبو جعفر محمّد بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق.

(٣) الفازة : هي الخيمة الصغيرة.

(٤) يخبّ : أي يسرع في مشيه.

٢٨٨

بقلبه ولسانه ويده ، ثمّ قال : ياحمران! كلّم الرجل ، فكلّمه فظهر عليه حمران.

ثمّ قال : ياطاقي! كلّمه ، فكلّمه فظهر عليه الأحول.

ثمّ قال : ياهشام بن سالم! كلّمه ، فتعارفا ..

ثمّ قال أبو عبداللّه عليه‌السلام لقيس الماصر : كلّمه ، فكلّمه.

فأقبل أبو عبداللّه عليه‌السلام يضحك من كلامهما ممّا قد أصاب الشامي ، فقال للشامي : كلّم هذا الغلام ـ يعني هشام بن الحكم ـ فقال : نعم ، فقال لهشام : ياغلام! سلني في إمامة هذا ، فغضب هشام حتّى ارتعد ، ثمّ قال للشامي : ياهذا! أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي : بل ربّي أنظر لخلقه ، قال : ففعل بنظره لهم ماذا؟ قال : أقام لهم حجّة ودليلاً كي لا يتشتّتوا أو يختلفوا بتألّفهم ، ويقيم أَوَدَهُم (١) ويخبرهم بفرض ربّهم ، قال : فمن هو؟ قال : رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال هشام : فبعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : الكتاب والسنّة ، قال هشام : فهل نفعنا الكتاب والسنّة في رفع الإختلاف عنّا؟ قال الشامي : نعم ، قال : فلِمَ اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟ قال : فسكت الشامي.

فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام للشامي : ما لك لا تتكلّم؟ قال الشامي : إن قلت لم نختلف كذبت ، وإن قلت إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الإختلاف أبطلتُ لأنّهما يحتملان الوجوه ، وإن قلت قد إختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلاّ أنّ لي عليه هذه

__________________

(١) الأوَد ، بفتح الهمزة والواو هو : الإعوجاج.

٢٨٩

الحجّة (١).

فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : سله تجده مليّا ، فقال الشامي : ياهذا! من أنظر للخلق أربّهم أو أنفسهم؟ فقال هشام : ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم ، فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودَهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟ قال هشام : في وقت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الساعة؟ قال الشامي : في وقت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والساعة مَن؟ فقال هشام : هذا القاعد الذي تشدّ إليه الرحال (٢) ويخبرنا بأخبار السماء والأرض ، وراثة أبٍ عن جدٍّ ، قال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام : سله عمّا بدا لك ، قال الشامي : قطعتَ عذري (٣) فعليَّ السؤال. فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : ياشامي! كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا ، فأقبل الشامي يقول : صدقت ، أسلمت للّه الساعة ، فقال أبو عبداللّه عليه‌السلام : بل آمنت باللّه الساعة ، إنّ الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون (٤) ، فقال الشامي : صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّك وصي الأوصياء» (٥).

٥ ـ الحديث الرضوي الشريف الجامع الذي رواه عبدالعزيز بن مسلم قال :

__________________

(١) أي تلك الحجّة التي كانت له عليّ.

(٢) أي يأتيه الناس من كلّ مكان ويقبلون عليه في مواسم الحجّ.

(٣) أي لا عذر لي بعد هذا.

(٤) لمزيد المعرفة لاحظ بيان ذلك في أحاديث اُصول الكافي : (ج٢ ص٢٤ ـ ٢٨).

(٥) اُصول الكافي : (ج١ ص١٧١ باب الإضطرار إلى الحجّة ح٤).

٢٩٠

كنّا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مَقْدمنا فأرادوا (١) أمر الإمامة وذكروا كثرة إختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيّدي عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال :

«ياعبدالعزيز! جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم ، إنّ اللّه عزوجل لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً ، فقال عزوجل : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) وأنزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاْءِسْلاَمَ دِينا) (٣) وأمر الإمامة من تمام الدِّين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بيّن لاُمّته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحقّ وأقام لهم عليّا عليه‌السلام علما وإماما وما ترك [لهم] شيئا يحتاج إليه الاُمّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللّه عزوجل لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه ومن ردّ كتاب اللّه فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الاُمّة فيجوز فيها إختيارهم ، إنّ الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم.

__________________

(١) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : فأداروا.

(٢) سورة الأنعام : (الآية ٣٨).

(٣) سورة المائدة : (الآية ٣).

٢٩١

إنّ الإمامة خصّ اللّه عزوجل بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره فقال : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما) فقال الخليل عليه‌السلام سرورا بها : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال اللّه تبارك وتعالى : (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثمّ أكرمه اللّه تعالى بأن جعلها في ذرّيته أهل الصفوة والطهارة فقال : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (٢) فلم تزل في ذرّيته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتّى ورّثها اللّه تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال جلّ وتعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّه وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

فكانت له خاصّة فقلّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام ، بأمر اللّه تعالى على رسم ما فرض اللّه ، فصارت في ذرّيته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم والإيمان ، بقوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاْءِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) (٤) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصّة إلى يوم القيامة ؛ إذ لا نبي بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟!

إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء.

__________________

(١) سورة البقرة : (الآية ١٢٤).

(٢) سورة الأنبياء : (الآيتان ٧٢ و ٧٣).

(٣) سورة آل عمران : (الآية ٦٨).

(٤) سورة الروم : (الآية ٥٦).

٢٩٢

إنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام.

إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين.

إنّ الإمامة اُسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي (١).

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف (٢).

الإمام يُحلّ حلال اللّه ويحرّم حرام اللّه ويقيم حدود اللّه ويذبّ عن دين اللّه ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة.

الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم وهي في الاُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى (٣) وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار.

الإمام الماء العذب على الظما والدالّ على الهدى والمنجي من الردى.

الإمام النار على اليفاع (٤) ، الحارّ لمن إصطلى به ، والدليل في المهالك ، من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل والشمس المضيئة والسماء

__________________

(١) الاُسّ والأساس هو أصل البناء ، والسامي هو العالي المرتفع.

(٢) فالإمام هو الآمر بها ، ومبيّن أحكامها ، وشرط صحّتها.

(٣) أي الظلمات الشديدة كظلمات الفتن والشبهات.

(٤) اليفاع : ما ارتفع من الأرض.

٢٩٣

الظليلة والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق والأخ الشقيق والاُمّ البرّة بالولد الصغير ومفزع العباد في الداهية النآد (١).

الإمام أمين اللّه في خلقه وحجّته على عباده وخليفته في بلاده والداعي إلى اللّه والذابّ عن حُرُم اللّه.

الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّا عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعزّ المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين (٢).

الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا إكتساب ، بل إختصاص من المُفضِل الوهّاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه إختياره؟!

هيهات! هيهات!! ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء وكلّت الشعراء وعجزت الاُدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله وأقرّت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكلّه أو ينعت بكنهه أو يُفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه؟!

لا ، كيف وأنّى وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف

__________________

(١) أي الاُمور العظيمة.

(٢) البوار : بمعنى الهلاك.

٢٩٤

الواصفين!

فأين الإختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟!

أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

كذّبتهم واللّه أنفسهم ومنّتهم الأباطيل (١) ، فاتّقوا (٢) مرتقا صعبا دحضا تزلّ عنه إلى الحضيض أقدامهم ، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلّة ، فلم يزدادوا منه إلاّ بعدا ، [قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون] ولقد راموا صعبا وقالوا إفكا وضلّوا ضلالاً بعيدا ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين.

رغبوا عن إختيار اللّه وإختيار رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته إلى إختيارهم والقرآن يناديهم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣) وقال عزوجل : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٤) ـ الآية ، وقال : (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (٥) وقال عزوجل : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ

__________________

(١) أي أوقعت في أنفسهم الأماني الباطلة ، والدحض هو الزَلَق.

(٢) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : فارتقوا.

(٣) سورة القصص : (الآية ٦٨).

(٤) سورة الأحزاب : (الآية ٣٦).

(٥) سورة القلم : (الآية ٣٦ ـ ٤١).

٢٩٥

عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (١)؟! أم طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون؟! أم (قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢) أم (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) (٣) بل هو فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.

فكيف لهم بإختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل وراعٍ لا ينكل (٤) ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسل المطهّرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب ، فالبيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرضا من اللّه عزوجل ، شرف الأشراف والفرع من عبد مناف ، نامي العلم ، ملُ الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر اللّه عزوجل ، ناصح لعباد اللّه ، حافظ لدين اللّه.

إنّ الأنبياء والأئمّة صلوات اللّه عليهم يوفّقهم اللّه ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٥) ، وقوله تبارك وتعالى :

__________________

(١) سورة محمّد : (الآية ٢٤).

(٢) سورة الأنفال : (الآيات ٢١ ـ ٢٣).

(٣) سورة البقرة : (الآية ٩٣).

(٤) أي لا يضعف ولا يجبن.

(٥) سورة يونس : (الآية ٣٥).

٢٩٦

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرا كَثِيرا) (١) وقوله في طالوت : (إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (٢) وقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَأَنزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيما) (٣) وقال في الأئمّة من أهل بيت نبيّه وعترته وذرّيته صلوات اللّه عليهم : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرا) (٤).

وإنّ العبد إذا اختاره اللّه عزوجل لاُمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي (٥) بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو معصوم مؤيّد مسدّد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصّه اللّه بذلك ليكون حجّته على عباده وشاهده على خلقه ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.

فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّمونه؟ تَعَدُّوا ـ وبيتِ اللّه ـ الحقّ ، ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم ، كأنّهم لا يعلمون وفي كتاب اللّه الهدى والشفاء ، فنبذوه

__________________

(١) سورة البقرة : (الآية ٢٦٩).

(٢) سورة البقرة : (الآية ٢٤٧).

(٣) سورة النساء : (الآية ١١٣).

(٤) سورة النساء : (الآيتان ٥٤ و ٥٥).

(٥) أي لم يعجز.

٢٩٧

واتّبعوا أهواءهم ، فذمّهم اللّه ومقتهم وأتعسهم فقال جلّ وتعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنْ اللّه إِنَّ اللّه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١) وقال : (فَتَعْسا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (٢) وقال : (كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣) وصلّى اللّه على النبي محمّد وآله وسلّم تسليما كثيرا» (٤).

٦ ـ حديث جابر ، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال :

«قلت : لأي شيء يحتاج إلى النبي والإمام؟

فقال : لبقاء العالم على صلاحه ، وذلك أنّ اللّه عزوجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أم إمام ، قال اللّه عزوجل : (وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٥) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون ، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون» يعني بأهل بيته الأئمّة الذين قرن اللّه عزوجل طاعتهم بطاعته فقال : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ) (٦).

وهم المعصومون المطهّرون الذين لا يذنبون ولا يعصون ، وهم المؤيَّدون الموفَّقون المسدَّدون ، بهم يرزق اللّه عباده ، وبهم يعمر

__________________

(١) سورة القصص : (الآية ٥٠).

(٢) سورة محمّد : (الآية ٨).

(٣) سورة غافر : (الآية ٣٥).

(٤) اُصول الكافي : (ج١ ص١٩٨ باب نادر ح١).

(٥) سورة الأنفال : (الآية ٣٣).

(٦) سورة النساء : (الآية ٥٩).

٢٩٨

بلاده ، وبهم ينزل القطر من السماء ، وبهم تخرج بركات الأرض ، وبهم يمهل أهل المعاصي ولا يعجّل عليهم بالعقوبة والعذاب ، لا يفارقهم روح القدس ولا يفارقونه ، ولا يفارقون القرآن ولا يفارقهم صلوات اللّه عليهم أجمعين» (١).

٧ ـ حديث سليمان بن جعفر الجعفري قال : سألت الرضا عليه‌السلام فقلت :

«تخلو الأرض من حجّة؟

فقال : لو خلت الأرض طرفة عين من حجّة لساخت (٢) بأهلها» (٣).

٨ ـ إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا عليه‌السلام :

«نحن حجج اللّه في أرضه وخلفاؤه في عباده ، واُمناؤه على سرّه ، ونحن كلمة التقوى ، والعروة الوثقى ، ونحن شهداء اللّه وأعلامه في بريّته ، بنا يمسك اللّه السماوات والأرض أن تزولا ، وبنا ينزّل الغيث ، وينشر الرحمة ، لا تخلو الأرض من قائم منّا ظاهر أو خافٍ ، ولو خلت يوما بغير حجّة لماجت بأهلها كما يموج البحر (٤) بأهله» (٥).

وكلامهم الشريف هذا إرشاد إلى نور العقل وإثارة لدفائن العقول .. وبتدبّر ذوي الألباب يدرك العقل صدق كلامهم ، ويصدق اللبّ حقيقة بيانهم ، ويستيقن بنعمة الإمامة وفيض الإمام.

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٢٣ ص١٩ ب١ ح١٤).

(٢) ساخت الأرض أي خسفت.

(٣) بحار الأنوار : (ج٢٣ ص٢٩ ب١ ح٤٣).

(٤) يقال : ماج البحر أي إضطرب موجه.

(٥) بحار الأنوار : (ج٢٣ ص٣٥ ب١ ح٥٩).

٢٩٩

الفصل الثاني

الإمامة انتصابية لا انتخابية وتعيينها بيد الخالق لا المخلوق

من الواضح أنّ من يُنصب لأجل إمامة الخلق بعد الرسول ، ولتصدّي رئاسة الدين ، وزعامة الدنيا ، وحفظ الشرع ، وإصلاح المجتمع ، وإقامة الأحكام ، وتربية المسلمين ، وتنظيم شؤون البشر ، وإدارة اُمورهم ، وتهذيب نفوسهم ، وتضمين سعادتهم يلزم أن يكون أفضلهم وأعلمهم وأعقلهم والأرجح منهم .. معصوما من الخطأ ، ومحفوظا عن الزلل ، حتّى لا يلزم أن يعطي الشيء فاقده ، أو يهب الفضيلة من هو متخلٍّ منها .. ولئلاّ يكون مخطئا فيلزم من خطأه إنحطاط المجتمع البشري وإنهيار معالم الإنسانية.

وإذا حصلت هذه المزايا والملاكات في شخص كان لائقا وجديرا بأن يتصدّى هذه الاُمور ، وطبيعي أنّ الفوز والنجاح يكون حليفه في هذه الشؤون .. وهنا نسأل أنّه من هو الذي يعرف الأفضل والأعلم والأعقل والأرجح والأصلح من الخلق حتّى يختاره وينصبه لهذا الأمر الجليل لتحمّل أعباء هذه الاُمور الجسيمة؟

ومن الذي يعلم السرائر ويطّلع على الضمائر حتّى يعرف عواقب

٣٠٠