العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

وحنّ له الجذع الذي كان يخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مستندا إليه في مسجد المدينة ، حينما صنع له المنبر حتّى سمع حنينه جميع أصحابه فكان ذلك من الكرامات التي حصلت لأجله ، ثمّ التزَمَ الجذع فسكن.

وأخبر صلوات اللّه عليه وآله ، أمير المؤمنين بشهادته وخضاب لحيته المباركة بدم رأسه الشريف.

وأخبر إبنته الزهراء عليها‌السلام بأنّها أوّل أهله لحوقا به ، والإمام الحسن بصلحه ، والإمام الحسين بشهادته ، فكان كما أخبر غيبا.

وكذلك أخبر عمّارا بأنّه ستقتله الفئة الباغية ، وأخبر بشهادة جعفر وزيد وابن رواحة ساعة قُتلوا في واقعة مؤته .. وأخبر بموت النجاشي بأرض الحبشة ، فكان كما أنبأ .. إلى غير ذلك من الإخبارات الغيبية المحقّقة.

ودعا شجرتين فأتياه وإجتمعتا ثمّ أمرهما فافترقتا.

وأخبر يوم بدر بمصارع صناديد قريش واحدا واحدا قبل الحرب فلم يتعدّوا ذلك الموضع.

ومَسَح ضرع شاة حائل ، لا لبن فيها فدرّت باللبن ، وكان ذلك سبب إسلام عبداللّه بن مسعود.

وبَدَرَت عين بعض أصحابه وسقطت ، فردّها بيده فصارت أصحّ عينيه وأحسنهما.

وألقى ماء فمه المبارك في عين علي عليه‌السلام لمّا رمدت يوم خيبر ، فصحّت من وقتها ولم ترمد بعد ذلك أبدا.

وأخبر الناس أنّه سيظفر علي عليه‌السلام في ذلك اليوم الرهيب بعد هزيمة غيره فكان كما بشّر.

٢٦١

وحكى الحكم بن العاص عليه اللعنة مشيه مستهزءا فقال له : كذلك فكن ، فلم يزل على حاله يرتعش حتّى مات.

وأمرّ يده الشريفة على رؤوس الأقرعين من الأطفال فنبتت شعورهم.

وأعطى رجلاً عُرجونا في ليلة مظلمة فأضاء له الطريق.

وأعطى آخر قطعةً من جريد النخل حين شكا إنقطاع سيفه ، فصارت سيفا في يده.

وألقى بصاقه المبارك على كفّ ابن عفر المقطوعة فلصقت من ساعته.

ودعا آية للدّوسي حتّى يدعو قومه إلى الإسلام ويصدّقوه ، فحصل مصباح على رأس سوطه.

وارتضع من حليمة السعدية ، فظهرت لها البركات ، ودرّ لبنها من ثديها الأيمن بعد ما كان يابسا.

وتناول الحصى فسبّح في كفّه الشريفة.

وظلّل عليه الغمام دون القوم في طريق الشام ، فكان هذا من عظيم شأنه.

وشهد له الذئب برسالته في قضيّة وهبان بن أسفى.

.. إلى غير ذلك من المعجزات الاُخرى التي يتعذّر على الخلق إتيانها ، وتكشف عن صدق صاحبها ، وعن عدم إمكان تقوّله على مولاه ، وتثبت رسالته من ربّه ونبوّته من قبل خالقه ، وقد شاهدها الناس عيانا ، وسمعها بيانا ، ونُقلت لنا ولجميع من جاء بعده بطريق الناقلين تواترا علميّا ، بشكل يُؤمن من تواطئهم على الكذب ، ويحصل بنقلهم القطع من حيث بلوغه أعلى حدّ التواتر ، من نقل المحبّ والمبغض ، والصديق والعدوّ ، فثبتت النبوّة بالعلم.

بل إنّ بعض المعجزات النبوية واردة في الآيات القرآنية التي هي قطعيّة

٢٦٢

ويقينيّة ومعلوم الصدور من الربّ الغفور من قبيل المعراج الشريف ، وشقّ القمر العظيم ، وفتح مكّة بأمن وأمان.

وقد ذكرت تلك الآيات القرآنية في أبواب معجزات الرسول في بحار الأنوار المجلّد السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ، وخصوصا في ما حكى من كلام الشيخ الجليل ابن شهر آشوب السروي (١) ، فلاحظ.

الثالثة : سيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إذا لاحظنا وتأمّلنا سيرة النبي الأكرم صلوات اللّه عليه وآله وسلّم ، وحياته الكريمة ، نرى أنّ نفس سيرته وسريرته وأخلاقه وآدابه وعشرته ورويّته ، تدلّ على أنّه آية إلهيّة عظمى ، وحجّة ربّانية كبرى ، وأهل لأن يكون رسولاً من قِبَل اللّه ربّ العالمين ، وقدوة لأهل الدنيا أجمعين ، بل جامعيته تدلّ على أفضليته.

فقد كان صلوات اللّه عليه وآله ، أجود الخلق يدا ، وأجرأ الناس صدرا ، وأصدقهم لهجةً ، وأوفاهم ذمّةً ، وألينهم عريكةً ، وأكرمهم عشيرةً ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفةً أحبّه ، ولقد كانت أمانته مقبولةً عند الجميع حتّى لقّب بالأمين.

وكان أخشى الناس لربّه ، وأتقاهم لخالقه ، وأعلمهم باللّه ، وأقواهم في طاعة اللّه ، وأصبرهم على عبادته ، وأكثرهم حبّا للّه ، وأزهدهم فيما سواه.

وكان يقوم في صلاته حتّى تنشقّ بطون أقدامه من طول قنوته وقيامه ، وكان إذا قام إلى صلاته تتساقط دموعه إلى الأرض من صدره ، ويسمع من صدره

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج١٦ ص٤٠٢).

٢٦٣

أزيزٌ كأزيز المرجل (١).

وكان ذا خُلُق عظيم ، وإبتهال دائم ، وضراعة كثيرة ، وأدب فائق.

وكان أحلم الناس ، وأشجعهم ، وأعدلهم ، وأسخاهم ، بحيث لم يبق عنده دينار ولا درهم إلاّ أنفقه.

وكان أكثر الناس تواضعا ، يخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويخدم في أهله.

وكان أشدّ الناس حياءا ، ولم يُثبت بصره في وجه أحد استحياءا.

وكان يجيب دعوة الحرّ والعبد ، ويقبل الهديّة ويكافئ عليها ، ولا يأكل الصدقة ، ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين.

وكان غضبه لربّه ولا يغضب لنفسه.

وكان يشيع الجنازة ، ويعود المرضى ، ويجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، ويكرم أهل الفضل ، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم ، ويصل ذوي رحمه ، ولا يجفو على أحد ، ويقبل معذرة المعتذر ، ولا يقول إلاّ حقّا ، ولا يتكلّم إلاّ صدقا.

وكان ضحكه من غير قهقهة ، بل تبسّما إلى أن تبدو نواجذه.

وكان لا يترفّع على عبيده ، ولا يحقّر مسكينا ، ولا يهاب من ملك ، ولا يخاف منه.

ويبدأ من لقيه بالسلام والمصافحة ، ويسلّم على الصبيان.

وكان لا يقوم ولا يقعد إلاّ بذكر اللّه تعالى ، وأكثر ما يجلس مستقبل القبلة ، ويجلس حيث انتهى المجلس ، ولم يُرَ قطّ مادّا رجليه.

وكان يكرم من يدخل عليه حتّى ربّما بسط له ثوبه ، ويُؤْثر الداخل عليه

__________________

(١) المرجل : القدر ، يعني له صوت من خشية اللّه تعالى كصوت القدر حين غليانه.

٢٦٤

بالوسادة ، ويعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه ، ويقضي دَين كلّ ميّت فقير.

وكان دائم البُشر ليس بفظّ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح.

وكان يدعو أصحابه بكُناهم إكراما لهم ، ولا يتنازع في الحديث.

وكان أفصح الناس منطقا ، وأحلاهم كلاما ، إذا نطق ليس بمهذار ، وإذا أوجز ليس في إيجازه إخلال ، أحسن الناس نغمة ، وأنفع الناس للناس.

وقد شرّف بسيادته على ولد آدم ، وكانت اُمّته التابعة له خير الاُمم.

وسيرته في جميع حياته سيرة علياء ، تكشف عن أنّ صاحبها متّصل بربّ السماء ، وأنّه أصلح من وُجد على وجه الأرض لأن يكون اُسوة وقدوة (١).

هذا مضافا إلى أنّه تواترت السنّة ، واتّفقت الاُمّة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء الذين كانوا قبله ، وأنّ كلّ كرامة وفضيلة اُعطيت للأنبياء اُعطي هو أفضل منها ، كما إستفاضت الأخبار بنطقه بالحكمة والصواب هو وأولاده الطاهرين الأطياب ، من حين صغرهم ، وفي جميع حياتهم ، كما أفاده في حقّ اليقين (٢).

هذا ، بالإضافة إلى إنفراده ببعض الفضائل كعظيم سيرته ، وحقيقة سيره في معراجه إلى العوالم الملكوتيّة العُليا ، ممّا لم يكن له مثيل في ذلك ، وقد حاز أقرب قرب معنوي أسنى ، حتّى كان قاب قوسين أو أدنى.

وقد نطق بمعراجه القرآن الكريم ، والأحاديث المفيدة لليقين التي تلاحظها

__________________

(١) فلاحظها بالتفصيل في كتب سيرته ، وأحاديث صفته سلام اللّه عليه وآله ، مثل المجلّد السادس عشر من كتاب بحار الأنوار : (ص١٤٤ ـ ٤٠١ الأبواب ٨ ـ ١١).

(٢) حقّ اليقين : (ج١ ص١٣٥).

٢٦٥

في بابه من الآثار (١).

بل جاء في حديث المزني عروجه إلى السماء مئة وعشرين مرّة كما تلاحظها في الخصال (٢).

هذا ، مع خصائصه وما أعطاه اللّه تعالى وتفضّل به عليه وعلى أهل بيته ممّا تلاحظه في أحاديث البحار (٣).

وجميع ذلك يُثبت أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُسوة وقدوة ، وأنّه أفضل النبيّين والمرسلين.

الرابعة : عصمة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد عرفت في بحث عصمة الأنبياء من النبوّة العامّة أنّ ممّا لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه لزوم عصمة الأنبياء ونزاهتهم عن كلّ ذنب ومعصية ، بعمد أو سهو ، قبل النبوّة وبعدها ، للزوم أن يكون الواسطة بين اللّه وخلقه معصوما حتّى يبلّغ ما أوحى إليه اللّه بصدق وأمانة ، ولا يصدر منه كذب ولا خيانة ، فيُسلب وثوق الاُمّة به وإعتماد الخلق عليه.

كما ويقبح أن يأمر الحكيم بإطاعة من يجوز عليه الخطأ ، فتنتفي فائدة البعثة ، ويسقط غرض الرسالة ، فيحتاج إلى من يسدّده ويمنعه عن الخطأ ، وهكذا متسلسلاً.

فيلزم في كلّ شريعة إلهيّة أن يكون رسولها معصوما حتّى يتمّ الوثوق به

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج١٨ ص٢٨٢ ب٣ الأحاديث).

(٢) الخصال للصدوق : (ص٦٠٠ ح٣).

(٣) بحار الأنوار : (ج١٦ ص٣١٧ ب١١ الأحاديث خصوصا الحديث السابع).

٢٦٦

وتصحّ الإطاعة له ، خصوصا الشريعة الإسلامية الباقية إلى يوم القيامة لِعظم أهميّتها ومزيّتها فمن اللازم الضروري أن يكون رسولها معصوما عن جميع الخطايا ، بل يلزم أن يكون متّصفا بالعصمة الكبرى التي سنذكرها ونبيّنها ..

وقد أفاد شيخنا المفيد (١) : «إنّ نبيّنا والأئمّة عليهم‌السلام من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب والمفترَض قبل حال إمامتهم وبعدها ، وأمّا الوصف لهم بالكمال في كلّ أحوالهم ، فإنّ المقطوع به كمالهم في جميع أحوالهم التي كانوا فيها حججا للّه تعالى على خلقه ، وقد جاء الخبر بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من ذرّيته كانوا حججا للّه تعالى منذ أكمل عقولهم إلى أن قبضهم ، ولم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص وجهل ، وأنّهم يجرون مجرى عيسى ويحيى عليهما‌السلام ، في حصول الكمال لهم مع صغر السنّ وقبل بلوغ الحلم».

وقد قامت البراهين ودلّت الأدلّة على مزيّة عصمة النبي الأكرم ونزاهته وسموّ شأنه وجلالته من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، بما نذكره ونفصّله في مبحث الإمامة ، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، مضافا إلى ما قدّمناه في بحث عصمة الأنبياء بالأدلّة الثلاثة.

ونكتفي هنا بذكر الإشارة فقط إلى عصمة نبيّنا الأكرم ، وتأويل ما يوهم خلاف ذلك ممّا عقد له العلاّمة المجلسي بابا في كتابه الشريف (٢) ، ذكر فيه للعصمة آيات وأحاديث كثيرة ، نتبرّك بذكر واحدةٍ من كلّ دليل من أدلّتها :

__________________

(١) تصحيح إعتقادات الإمامية : (ص١٢٩).

(٢) بحار الأنوار : (ج١٧ ص٣٤ ـ ٩٧ ب١٥).

٢٦٧

فمن الكتاب :

قوله عزّ إسمه : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى) (١).

ومعلوم أنّ الذي لا يكون نطقه عن الهوى والميول الطبيعية لا تكون أفعاله عن الهوى بالأولوية ، خصوصا مع الحصر الملحوظ في الآية الشريفة.

ومن الأحاديث :

ما رواه عمر بن يزيد بيّاع السابري ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام قال :

«قلت لأبي عبداللّه عليه‌السلام : قول اللّه في كتابه : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (٢)؟

قال عليه‌السلام : ما كان له ذنب ولا همّ بذنب ولكنّ اللّه حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له» (٣).

وهذا تصريح وتأكيد بعدم الذنب ولا نيّة الذنب.

وينبغي ملاحظة دليل العصمة في حديث علي بن محمّد بن الجهم في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام المتقدّم (٤).

__________________

(١) سورة النجم : (الآيتان ٣ و ٤).

(٢) سورة الفتح : (الآية ٢).

(٣) بحار الأنوار : (ج١٧ ص٧٣ ب١٥ ح١).

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : (ج١ ص١٥٥ ب١٥ ح١).

٢٦٨

ومن العقل :

ما يأتي من الأدلّة العقلية العشرة الآتية في مبحث العصمة من الإمامة (١).

الخامسة : خاتمية الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يلزم الإيمان بأنّ رسولنا الأكرم صلوات اللّه عليه وآله وسلّم خاتم الأنبياء ، كما صرّح به الدليل القطعي :

١ ـ من الكتاب الكريم :

قوله تعالى : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللّه وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٢).

٢ ـ من السنّة المتواترة :

مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث المنزلة ، المتّفق عليه بين الفريقين الذي ورد فيه : «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» (٣).

٣ ـ أنّ الخاتميّة من ضروريات الدين المبين :

فقد أصبح من بديهيّات الدين المبين أنّ الرسول الأكرم خاتم النبيّين.

__________________

(١) يأتي في ص٣٥٧ من هذا الكتاب.

(٢) سورة الأحزاب : (الآية ٤٠).

(٣) إحقاق الحقّ : (ج٤ ص٧٨) ، وغاية المرام : (ص١٠٩) في سبعين حديثا من طرق الخاصّة ومائة حديث من طرق العامّة.

٢٦٩

ثمّ إنّه يجب الإيمان أيضا بأنّ دينه ناسخ لجميع الأديان ، وأنّه مبعوث إلى العرب والعجم ، والإنس والجنّ ، وكذا أوصياؤه المعصومون حجج اللّه على الخلق أجمعين (١).

فهو صلوات اللّه عليه وآله أفضل من جميع النبيّين ، ودينه ناسخ لكلّ دين ..

والنسخ لغةً هو النقل ، ورفع حكم شرعي بحكم آخر شرعي أيضا متراخٍ عنه على وجه لولا الثاني لبقي الأوّل .. ويكشف الناسخ أنّ الحكم المنسوخ كان موقتا بوقته الخاصّ.

وقد بيّنت السنّة الشريفة أنّ الشرائع السابقة كانت إلى زمن نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ شريعة محمّد لا تنسخ إلى يوم القيامة ، كما تلاحظ ذلك في الحديث التالي :

ما رواه علي بن الحسن بن فضّال ، عن أبيه ، عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال :

«إنّما سمّي اُولو العزم اُولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوح عليه‌السلام كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكلّ نبي كان في أيّام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى ، وكلّ نبيّ كان في زمن موسى وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيّام عيسى ، وكلّ نبي كان في أيّام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعا لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) حقّ اليقين : (ج١ ص١٣٣).

٢٧٠

فهؤلاء الخمسة اُولو العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

وشريعة محمّد لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه» (١).

ويدلّ على النسخ عقلاً أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح ، والمصالح قد تختلف باختلاف الأزمان والأشخاص بحيث يصير ما كان مصلحة في وقتٍ مفسدة في آخر.

ففي وقت صيرورته مفسدة يجب أن يتغيّر الحكم المتعلّق به في وقت مصلحته وإلاّ لزم من التكليف على تقدير صيرورته مفسدة فعل قبيح ، وهو محال على اللّه تعالى (٢).

وأمّا شريعة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد جاءت للبقاء ، ولوحظت فيها المصلحة إلى يوم اللقاء ، فكانت الحكم الأفضل والشرع الأمثل ، وصارت ناسخة غير منسوخة.

ثمّ بعد معرفة ناسخيّة وأكمليّة دينه وأفضليّة شخصه يتّضح لك أنّ الحقّ المحقّق هو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متعبّدا بنفس شريعته المقدّسة الفضلى للأدلّة القائمة في هذا المجال ومنها :

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المستفيض بين الخاصّة والعامّة :

«كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين».

٢ ـ ما استفاض في الأخبار الصحيحة من أنّه كان مؤيّدا بروح القدس من

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج١١ ص٣٤ ب١ ح٢٨) ، وسائل الشيعة : (ج١٨ ص١٢٤ ب١٢ ح٤٧).

(٢) إرشاد الطالبين : (ص٣١٨) ، ولاحظ فيه وقوع النسخ من الأديان السابقة أيضا.

٢٧١

حين ولادته فلم يحتج إلى الأنبياء الذين كانوا قبله.

٣ ـ إنّ مقتضى أفضليته من الأنبياء قبله هو أن يكون كيحيى الذي اُوتي الحكم صبيّا ، وعيسى الذي كان في المهد نبيّا.

وأمّا اقتداؤه بمن سلف قبله في قوله تعالى : (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (١) فهو محمول على هداهم في اُصول الدين ، أو صبره على مشاقّ النبيين لا الإقتداء بأحكامهم وشريعتهم (٢).

هذا تمام الكلام في مبحث النبوّة .. ويليه بحث الإمامة.

__________________

(١) سورة الأنعام : (الآية ٩٠).

(٢) حقّ اليقين : (ج١ ص١٣٥).

٢٧٢

أصل الإمامة

٢٧٣
٢٧٤

أصل الإمامة

الإمامة هي خلافة الرسول ووصاية النبي بعد سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعرّفها الشيخ المفيد قدس‌سره بقوله : «الإمامة هي التقدّم فيما يقتضي طاعة صاحبه ، والإقتداء به» (١).

وقال العلاّمة الحلّي أعلى اللّه مقامه : «الإمامة رئاسة عامّة لشخص من الأشخاص في اُمور الدين والدنيا» (٢).

وقال السيّد البهبهاني قدس‌سره : «الإمامة عبارة عن الخلافة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في اُمور الدين والدنيا ، وإفتراض طاعته على الاُمّة فيما أمر به أو نهى عنه» (٣).

وأوضح في الدائرة (٤) ، بأنّ الإمامة منصب إلهي ، ورئاسة عامّة في اُمور الدين والدنيا يختارها اللّه تعالى لفرد كامل من البشر ، ويأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يرشد الاُمّة إليه ، ويقوم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إرشاد الناس ، وحجّة اللّه على خلقه.

هذا بالنسبة إلى تعريف الإمامة.

وأمّا الإمام فهو المقتدى والمتّبع.

__________________

(١) الإفصاح في الإمامة : (ص٢٧).

(٢) نهج المسترشدين : (ص٦٢).

(٣) مصباح الهداية في إثبات الولاية : (ص٤٨).

(٤) دائرة المعارف الشيعية : (ج٤ ص٢٤٥).

٢٧٥

قال الشيخ الطريحي : «قوله (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما) (١) أي يأتمّ بك الناس ، فيتّبعونك ويأخذون عنك ، لأنّ الناس يؤمّون أفعاله أي يقصدونها ، فيتّبعونها» (٢).

وزاد في المفردات : (أنّ الإمام يُقتدى بأقواله وأفعاله) (٣).

وأفاد الشيخ الطبرسي (٤) : أنّ المستفاد من لفظ الإمام أمران :

أحدهما : أنّه المقتدى في أفعاله وأقواله.

والثاني : أنّه الذي يقوم بتدبير الاُمّة وسياستها والقيام باُمورها وتأديب جُناتها وتولية ولاتها ، وإقامة الحدود على مستحقّيها ، ومحاربة من يكيدها ويعاديها ، هذا بالنسبة إلى تعريف الإمام والإمامة ، وسيأتي بيان مدلولها الشرعي الجامع في هذا المنصب الرفيع.

ولا شكّ أنّ من أشرف معارف اُصول الدين ، هي معرفة إمامة الأئمّة المعصومين ، وخلافة أوصياء الرسول الميامين ، وولاية حجج اللّه في السماوات والأرضين التي تعود إلى معرفة اللّه تعالى بالحقّ واليقين.

وذلك لأنّهم سفراؤه إلى خلقه ، ووسائل لطفه إلى عباده ، فتكون معرفتهم من شؤون معرفته .. يوجب فعلها الهداية ، وتركها الضلالة ، كما في الحديث التالي :

عن أبي حمزة قال : قال لي أبو جعفر ـ الباقر ـ عليه‌السلام :

__________________

(١) سورة البقرة : (الآية ١٢٤).

(٢) مجمع البحرين : (ص٥٠٣ مادّة ـ اُمم ـ).

(٣) المفردات للراغب : (ص٢٠٤).

(٤) مجمع البيان : (ج١ ص٢٠١).

٢٧٦

«إنّما يعبد اللّه من يعرف اللّه ، فأمّا من لا يعرف اللّه فإنّما يعبده هكذا ضلالاً.

قلت : جعلت فداك! فما معرفة اللّه؟

قال : تصديق اللّه عزوجل وتصديق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموالاة علي عليه‌السلام والإيتمام به وبأئمّة الهدى عليهم‌السلام والبراءة إلى اللّه عزوجل من عدوّهم ، هكذا يُعرف اللّه عزوجل» (١).

وإمامة آل محمّد الربّانية الإلهية ، من الاُصول الدعائم والأركان العظائم للدين الإسلامي الحنيف .. وترك معرفتهم يوجب الردى وكفر الجاهلية الاُولى ، لما ورد في الحديث المتواتر بين الفريقين :

«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة» (٢).

وفي حديث عيسى بن السري (٣) قال : قلت لأبي عبداللّه عليه‌السلام : حدّثني عمّا بُنيت عليه دعائم الإسلام .. ـ وسيأتي ذكر الحديث (٤) ـ وقد صرّح بكون الولاية من دعائم الإسلام.

فيلزم على كلّ من أراد معرفة اللّه تعالى معرفتهم ، والدخول في ولايتهم التي هي من دين اللّه عزوجل كما صرّحت به الأحاديث الآنفة مثل حديث أبي

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج١ ص١٨٠ باب معرفة الإمام والردّ إليه ح١).

(٢) لاحظ اُصول الكافي : (ج١ ص٣٧٦ باب من مات وليس له إمام من أئمّة الهدى) ، وبحار الأنوار : (ج٢٣ ص٧٦ ب٣ الأحاديث).

ولاحظ من مصادر العامّة مسند أحمد بن حنبل : (ج٤ ص٩٦) ، وصحيح مسلم : (ج٨ ص١٠٧) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : (ج٣ ص٢٢٤) ، وكنز العمّال للمتّقي الهندي : (ج٣ ص٢٢٠) ، وينابيع المودّة للقندوزي : (ص١١٧) ، ومسند الحافظ الطيالسي : (ص٢٥٩).

(٣) اُصول الكافي : (ج٢ ص٢١ باب دعائم الإسلام ح٩).

(٤) في ص٣٧٧ من هذا الكتاب.

٢٧٧

الجارود زياد بن المنذر (١) ، الذي سيأتي ذكره (٢) ، وصرّح بكون الولاية من الدين.

هذا مضافا إلى أنّ نفس وجوب إطاعتهم تقضي بلزوم معرفتهم لأنّ تحقّق الطاعة يستلزم معرفة المُطاع ، تلك الطاعة التي أمر اللّه بها في قوله عزّ إسمه : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) ، وقد نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام بأخبار الخاصّة والعامّة المتظافرة التي تلاحظها في غاية المرام (٤).

فيلزم معرفتهم وإطاعتهم والإقتداء بهم والتصديق بإمامتهم الكبرى المتّسمة بالمزايا العظمى.

والبحث الآتي شمّة بيان ، وخلاصة برهان لتلك الإمامة الحقّة والولاية المطلقة ، في الفصول الخمسة التالية :

١ ـ إحتياج البشر إلى الإمام وضرورة الإمامة.

٢ ـ أنّ الإمامة كالنبوّة إنتصابيّة وليست بانتخابية ، وتعيينها بيد الخالق لا المخلوق.

٣ ـ إنحصار الإمامة في الهداة الغرر المعصومين الإثني عشر.

٤ ـ معرفة شرائط وخصوصيات الإمام والإمامة.

٥ ـ وظائف الاُمّة اتّجاه أهل بيت العصمة عليهم‌السلام.

ومن اللّه تعالى نستمدّ العون ونسأل التوفيق ، وهو الهادي إلى الحقّ الحقيق.

__________________

(١) اُصول الكافي : (ج٢ ص٢١ باب دعائم الإسلام ح١٠).

(٢) في ص٣٧٨ من هذا الكتاب.

(٣) سورة النساء : (الآية ٥٩).

(٤) غاية المرام : (ص٢٦٣ ـ ٢٦٥ ب٥٨ ـ ٥٩ الأحاديث).

٢٧٨

الفصل الأوّل :

إحتياج البشر إلى الإمام وضرورة الإمامة

البشر بنحو عامّ محتاج إلى إمام يَقتدي به ، ويَستضيء بنور علمه ، وولي يلجأ إليه ويستفيد منه ، كإحتياجه إلى النبي والرسول .. إذ الإمامة إتمام وإمتداد للنبوّة الباقية والرسالة الخالدة.

وهذا أمر فطري وحقيقة إرتكازية يحكم بها العقل السليم والوجدان المستقيم ، وتشهد البداهة بأنّه لابدّ لكلّ قوم ، بل لكلّ عالَم من عوالم الوجود من إمام ورئيس يهديهم إلى سبيل الصلاح ، ويقودهم إلى الخير والفلاح ، ويرفع عنهم النزاع والخلاف ، ويكون داعيا إلى اللّه ومصلحا لعباد اللّه.

وكلّ ما يتصدّى له النبي الأكرم في حياته من الوظائف والقوانين والأحكام والشؤون الدينيّة والإجتماعية والعلمية والقضائية والأخلاقية والإدارية والإرشادية وغيرها يلزم أن يتصدّى له من بعده مَن يكون نموذجا له ، ومظهرا من مظاهره ، وزعيما للدين مثله .. حذرا من زوال الدين وإضمحلال الرسالة التي جاءت للدوام ، وأسّست للبقاء ، وإلاّ كان شأن هذا الدين شأن سائر المبادئ التي تزول بزوال أصحابها ..

وشريعة الإسلام نزلت لتكون باقية بجميع أحكامها وحلالها وحرامها إلى

٢٧٩

يوم القيامة ، كما في حديث سلام بن المستنير عن الإمام الباقر عليه‌السلام (١).

وهذا الدين الإسلامي أبديّ في بقائه ، خاتم للأديان في رسوله ، ولا يُقبل من أحد غيره.

قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الاْءِسْلاَمُ) (٢) ، وقال عزوجل : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (٣).

فالإسلام إذا رسالة سماوية خالدة اُريد لها ـ بواسطة أكمليتها ـ أن تبقى بقاء السماوات والأرضين .. وامتداد الدنيا والآخرة.

فلو كان بناء هذا الدين على عدم الحافظ والوصي والإمام بعد نبيّه الكريم لكان نقضا لغرض البعثة النبوية الشريفة التي بشّرت بها الأنبياء ، وكانت أشرف الغايات ، وخاتمة الرسالات.

ولا يُعقل أن يكون جميع البشائر والمقدّمات لأجل ثلاثة وعشرين سنة مدّة نبوّة سيّدنا الرسول الأمين صلوات اللّه عليه وآله الطاهرين في حياته.

لذلك كان لابدّ لبقاء أشرف الأديان بعد أشرف الرسل من أشرف شخص يكون خليفته ويقوم مقامه ويتصدّى لمناصبه ـ سوى النبوّة ـ ليأتمّ الناس به ، ويهتدون بهداه ، ويسلكون الطريق القويم بنوره حتّى تستمرّ شؤون الرسالة ، وتتمّ فائدة البعثة ، ولا تحرم الأجيال الآتية من الهداية.

فلابدّ لهذا الغرض من تصدّي الوصي لشؤون النبي.

وشؤون النبي التي صرّح بها القرآن الكريم هي :

__________________

(١) وسائل الشيعة : (ج١٨ ص١٢٤ ب١٢ ح٤٧).

(٢) سورة آل عمران : (الآية ١٩).

(٣) سورة آل عمران : (الآية ٨٥).

٢٨٠