العقائد الحقّة

السيد علي الحسيني الصدر

العقائد الحقّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الغدير
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-8485-25-1
الصفحات: ٦٦٧

وعصمتهم وطهارتهم ، فإنّ إنكار نبوّتهم أو سبّهم أو الإستهزاء بهم أو الخدشة بمقامهم مساوق للكفر.

وصرّح أعلى اللّه مقامه (١) : بأنّ مذهب أصحابنا الإماميّة هو أنّه لا يصدر من الأنبياء ذنب ، لا صغيره ، ولا كبيره ، لا عمدا ولا نسيانا ، لاخطاءً ولا إسهاءً.

ووقت عصمتهم من ولادتهم إلى أن يلقوا اللّه سبحانه.

ثمّ قال قدس‌سره : والعمدة في ما إختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام من كلّ ذنب ودناءةٍ ومنقصة قبل النبوّة وبعدها هو قول أئمّتنا سلام اللّه عليهم المعلوم لنا قطعا بإجماع أصحابنا رضوان اللّه عليهم ، مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتّى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية.

فعصمة الأنبياء ثابتة بالنقل المتواتر كتابا وسنّة ، وبإجماع الفرقة المحقّة ، وبقيام الأدلّة العقلية الحقّة ..

أمّا الكتاب :

ففي مثل الآيات الشريفة التالية :

١ ـ قوله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ...) (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (٣).

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الاْءَخْيَارِ) (٤).

__________________

(١) في بحار الأنوار : (ج١١ ص٩٠).

(٢) سورة الأنبياء : (الآية ١٠١).

(٣) سورة الدخان : (الآية ٣٢).

(٤) سورة ص : (الآية ٤٧).

٢٢١

أمّا السنّة :

فالنصوص الروائية المتظافرة المصرّحة بعصمة الأنبياء ، وهي كثيرة جاء بعضها في الأمالي (١) .. نختار في الإستدلال واحدة منها ونذكرها بتفصيلها لعموم الفائدة فيها وهو حديث العيون المسند عن الإمام الرضا عليه‌السلام بسند الصدوق القريب عن القرشي ، عن النيسابوري ، عن علي بن محمّد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى عليهما‌السلام فقال له المأمون :

«يابن رسول اللّه! أليس من قولك : إنّ الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ؛ قال : فما معنى قول اللّه عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (٢)؟

فقال عليه‌السلام : إنّ اللّه تبارك وتعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (٣) وأشار لهما إلى شجرة الحنطة (فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ) (٤) ، ولم يقل لهما : لا تأكلا منها وإنّما أكلا من غيرها ، لمّا أن وسوس لهما الشيطان وقال : (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) (٥) وإنّما ينهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها (إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ) (٦) ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) (٧) فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه ، وكان

__________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق : (المجلس العشرون ص٨٠).

(٢) سورة طه : (الآية ١٢١).

(٣) سورة البقرة : (الآية ٣٥).

(٤) سورة البقرة : (الآية ٣٥).

(٥ ـ ٧) سورة الأعراف : (الآيات ٢٠ ـ ٢٢).

٢٢٢

ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلمّا اجتباه اللّه تعالى وجعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال اللّه عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (١) وقال عزوجل : (إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (٢).

فقال له المأمون : فما معنى قول اللّه عزوجل : (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) (٣)؟

فقال له الرضا عليه‌السلام : إنّ حواء ولدت لآدم خمس مئة بطن ذكرا واُنثى وإنّ آدم عليه‌السلام وحواء عاهدا اللّه عزوجل ودعواه وقالا : (لَئِنْ آتَيْتَنا صَالِحا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحا) (٤) من النسل خلقا سويّا بريا من الزمانة والعاهة وكان ما آتاهما صنفين صنفا ذكرانا وصنفا اُناثا فجعل الصنفان للّه تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزوجل ، قال اللّه تبارك وتعالى : (فَتَعَالَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥).

فقال المأمون : أشهد أنّك ابن رسول اللّه حقّا ، فأخبرني عن قول اللّه عزوجل في حقّ إبراهيم عليه‌السلام : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبا قَالَ هَذَا

__________________

(١) سورة طه : (الآيتان ١٢١ و ١٢٢).

(٢) سورة آل عمران : (الآية ٣٣).

(٣) سورة الأعراف : (الآية ١٩٠).

(٤ و ٥) سورة الأعراف : (الآيتان ١٨٩ و ١٩٠).

٢٢٣

رَبِّي» (١)؟

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ إبراهيم عليه‌السلام وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه ، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) فرأى الزهرة قال : (هَذَا رَبِّي) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ) الكوكب (قَالَ لاَ أُحِبُّ الاْآفِلِينَ) لأنّ الاُفول من صفات المحدَث لا من صفات القدم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغا قَالَ هَذَا رَبِّي) (٢) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاَءَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّين) (٣) يقول : لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالّين ، (فَلَمَّا) أصبح و (رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار (فَلَمَّا أَفَلَتْ) قال للأصناف الثلاثة من عبَدة الزهرة والقمر والشمس : (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) (٤) وإنّما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه اللّه تعالى وأتاه كما

__________________

(١) سورة الأنعام : (الآية ٧٦).

(٢ و ٣) سورة الأنعام : (الآية ٧٧).

(٣) سورة الأنعام : (الآيتان ٧٨ و ٧٩).

٢٢٤

قال اللّه عزوجل : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ» (١).

فقال المأمون : للّه درّك يابن رسول اللّه! فأخبرني عن قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢).

قال الرضا عليه‌السلام : انّ اللّه تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام أنّي متّخذ من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على الخلّة قال : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣) فأخذ إبراهيم عليه‌السلام نسرا وطاووسا وبطّا وديكا فقطعهنّ وخلطهنّ ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت عشرة ـ منهنّ جزءا وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ووضع عنده حبّا وماء فتطايرت تلك الأزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم عليه‌السلام عن مناقيرهنّ فطِرن ثمّ وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحبّ وقلن : يانبي اللّه! أحييتنا أحياك اللّه. فقال إبراهيم : بل اللّه يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير.

__________________

(١) سورة الأنعام : (الآية ٨٣).

(٢) سورة البقرة : (الآية ٢٦٠).

(٣) سورة البقرة : (الآية ٢٦٠).

٢٢٥

قال المأمون : بارك اللّه فيك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فقضى موسى على العدو بحكم اللّه تعالى ذكره فوكزه فمات. قال : (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليه‌السلام من قتله (إِنَّهُ) يعني الشيطان (عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).

فقال المأمون : فما معنى قول موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)؟

قال عليه‌السلام : يقول : إنّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلاّ يظفروا بي فيقتلوني (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ؛ قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ) من القوّة حتّى قتلت رجلاً بوكزة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرا لِلْمُجْرِمِينَ) بل اُجاهد في سبيلك بهذه القوّة حتّى ترضى (فَأَصْبَحَ) موسى عليه‌السلام (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالاْءَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) على آخر (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُبِينٌ) قتلت رجلاً بالأمس وتقاتل هذا اليوم لاُودّبنّك وأراد أن يبطش به (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) وهو من شيعته (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسا بِالاْءَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارا فِي الاْءَرْضِ وَمَا

٢٢٦

تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ) (١).

قال المأمون : جزاك اللّه عن أنبيائه خيرا ياأبا الحسن! فما معنى قول موسى لفرعون : (فَعَلْتُهَا إِذا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ) (٢)؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ فرعون قال لموسى لمّا أتاه : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ) بي ، قال موسى : (فَعَلْتُهَا إِذا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْما وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ) (٣) ، وقد قال اللّه عزوجل لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى) (٤) يقول : ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ) يعني عند قومك (فَهَدَى) أي هداهم إلى معرفتك (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى). يقول : أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.

قال المأمون : بارك اللّه فيك يابن رسول اللّه! فما معنى قول اللّه عزوجل : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (٥) كيف يجوز أن يكون كليم اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم أنّ اللّه تبارك وتعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟

__________________

(١) سورة القصص : (الآيات ١٥ ـ ١٩).

(٢) سورة الشعراء : (الآية ٢٠).

(٣) سورة الشعراء : (الآيات ١٩ ـ ٢١).

(٤) سورة الضحى : (الآية ٦).

(٥) سورة الأعراف : (الآية ١٤٣).

٢٢٧

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ كليم اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام علم أنّ اللّه تعالى أعزّ أن يُرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه اللّه عزوجل وقرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللّه عزوجل كلّمه وناجاه ، فقالوا لن نؤمن لك حتّى نستمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبع مئة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفا ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبع مئة ثمّ إختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّهم فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل اللّه تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه فكلّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأنّ اللّه عزوجل أحدثه في الشجرة وجعله منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرةً ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعَتَوا بعث اللّه عزوجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : ياربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم ؛ لأنّك لم تكن صادقا فيما ادّعيت من مناجاة اللّه عزوجل إيّاك فأحياهم اللّه وبعثهم معه ، فقالوا : إنّك لو سألت اللّه أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته؟ فقال موسى : ياقوم! إنّ اللّه تعالى لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه. فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله.

فقال موسى : ياربّ! إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى اللّه تعالى إليه : ياموسى! سَلني فلن اُؤاخذك

٢٢٨

بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ) وهو يهوي (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١) منهم بأنّك لا تُرى.

فقال المأمون : للّه درّك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (٢)؟

فقال الرضا عليه‌السلام : لقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت به لكنّه كان معصوما والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق (عليه‌السلام) أنّه قال : همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل. فقال المأمون : للّه درّك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (٣)؟

فقال الرضا عليه‌السلام : ذاك يونس بن متى عليه‌السلام (ذَهَبَ مُغَاضِبا) لقومه (فَظَنَّ) بمعنى استيقن (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لم نضيّق عليه رزقه ومنه قوله عزوجل : (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٤) أي ضيّق وقتر (فَنادى فِي الظُلماتِ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت : «أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ

__________________

(١) سورة الأعراف : (الآية ١٤٣).

(٢) سورة يوسف : (الآية ٢٤).

(٣) سورة الأنبياء : (الآية ٨٧).

(٤) سورة الفجر : (الآية ١٦).

٢٢٩

سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ» (١) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت فاستجاب اللّه له وقال عزوجل : (فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

فقال المأمون : للّه درّك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (٣)؟

قال الرضا عليه‌السلام : يقول اللّه عزوجل : حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كُذبوا جاء الرسلَ نصرنا.

فقال المأمون : للّه درّك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (٤)؟

قال الرضا عليه‌السلام : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنبا من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاث مئة وستّين صنما ، فلمّا جاءهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : (أَجَعَلَ الاْآلِهَةَ إِلَها وَاحِدا إِنَّ هَذَا لَشَىْ ءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَىْ ءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الاْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ) (٥) فلمّا فتح اللّه عزوجل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة قال له : يامحمّد! (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) مكّة «فَتْحا مُبِينا *

__________________

(١) سورة الأنبياء : (الآية٨٧).

(٢) سورة الصافات : (الآيتان ١٤٣ و ١٤٤).

(٣) سورة يوسف : (الآية ١١٠).

(٤) سورة الفتح : (الآية ٢).

(٥) سورة ص : (الآيات ٥ ـ ٧).

٢٣٠

لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (١) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد اللّه فيما تقدّم وما تأخّر ؛ لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج عن مكّة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون : للّه درّك ياأبا الحسن! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) (٢)؟

قال الرضا عليه‌السلام : هذا ممّا نزل بـ «إيّاك أعني واسمعي ياجارة» خاطب اللّه عزوجل بذلك نبيّه وأراد به اُمّته وكذلك قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (٣) وقوله عزوجل : (وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً) (٤).

قال : صدقت يابن رسول اللّه! فأخبرني عن قول اللّه عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (٥)؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها : سبحان الذي

__________________

(١) سورة الفتح : (الآية ١).

(٢) سورة التوبة : (الآية ٤٣).

(٣) سورة الزمر : (الآية ٦٥).

(٤) سورة الإسراء : (الآية ٧٤).

(٥) سورة الأحزاب : (الآية ٣٧).

٢٣١

خلقك! وإنّما أراد بذلك تنزيه الباري عزوجل عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات اللّه. فقال اللّه عزوجل : (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيما) (١). فقال النبي لمّا رآها تغتسل : سبحان الذي خلقك أن يتّخذ له ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والإغتسال فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله لها : سبحان الذي خلقك .. فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظنّ أنّه قال ذلك لمّا أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : يارسول اللّه! إنّ امرأتي في خُلقها سوء وإنّي اُريد طلاقها. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمسك عليك زوجك واتّق اللّه وقد كان اللّه عزوجل عرّفه عدد أزواجه وأنّ تلك المرأة منهنّ ، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي الناس أن يقولوا : إنّ محمّدا يقول لمولاه : إنّ امرأتك ستكون لي زوجة يعيبونه بذلك فأنزل اللّه عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ) يعني بالإسلام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) يعني بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدّت منه فزوّجها اللّه عزوجل من نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنزل بذلك قرآنا فقال عزوجل : (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولاً) ثمّ علم اللّه عزوجل أنّ المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل اللّه تعالى :

__________________

(١) سورة الإسراء : (الآية ٤٠).

٢٣٢

(مَا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّه لَهُ) (١).

فقال المأمون : لقد شفيت صدري يابن رسول اللّه! وأوضحت لي ما كان ملتبسا عليَّ فجزاك اللّه عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا.

قال علي بن محمّد بن الجهم : فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمّد بن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وكان حاضر المجلس وتبعتهما فقال له المأمون : كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له : عالم ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم. فقال المأمون : إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا إنّ أبرار عترتي وأطائب أرومتي أعقل الناس صغارا وأعلم الناس كبارا فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة (٢).

وانصرف الرضا عليه‌السلام إلى منزله فلمّا كان من الغد غدوت عليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمّه محمّد بن جعفر له فضحك عليه‌السلام ثمّ قال : يابن الجهم! لا يغرنّك ما سمعته منه فإنّه سيغتالني واللّه تعالى ينتقم لي منه» (٣).

ويستفاد من هذا الحديث الشريف عصمة الأنبياء ، كما يستفاد منه أنّ ما يتوهّم كونه ذنبا صادرا منهم ليس هو بذنب ولا عصيان بل هو من ترك الاُولى فلا يضرّ بعصمتهم ، ولا ينافي نزاهتهم.

__________________

(١) سورة الأحزاب : (الآيتان ٣٧ و ٣٨).

(٢) إحقاق الحقّ : (ج٩ ص٤٧٦).

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : (ج١ ص١٥٥ ب١٥ ح١).

٢٣٣

وأمّا حكم العقل بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام :

فبتقارير متعدّدة كثيرة نظير ما يلي :

١ ـ أنّه لو لم يكن النبي معصوما لانتفى الوثوق بقوله ، فلا يُطاع ولا يَقبل أحد منه قولاً ، ويصير نصبه عبثا.

٢ ـ أنّه لو جاز عليه الخطأ خارجا ، مع لزوم اتّباعه عقلاً ، كان الأمر باتّباعه قبيحا بفطرة العقل ، بل يلزم إجتماع الضدّين فيه بوجوب متابعته مع وجوب مخالفته.

٣ ـ أنّه لو جاز عليه الخطأ لأحتاج إلى من يسدّده ، وذلك المسدّد إمّا أن يكون معصوما وهو المطلوب ، وإمّا أن لا يكون معصوما فيحتاج إلى مسدّد آخر وهكذا وهلمّ جرّا ، فيلزم التسلسل الباطل.

٤ ـ أنّ من أغراض النبوّة إقامة العدل ومنع الظلم ، فلو صدرت من النبي معصيّة لانتفى غرض النبوّة.

٥ ـ أنّ النبي اُسوة ، فلو عصى لسقط محلّه من القلوب ، وحُرِمَ انقياد الناس له فتنتفي فائدة البعثة.

٦ ـ أنّ النبي حافظ للشرع ، وحجّة للّه ، فلو جاز عليه الخطأ ، لأدّى ذلك إلى التضليل ، فكان نصبه قبيحا.

٧ ـ انّه إن جاز صدور المعصية منه أمكن صدور أيّ ذنب عظيم منه حتّى القتل والنهب ، وهو فساد يأباه العقل ولا يقبله عاقل.

٨ ـ أنّ النبي راعٍ لاُمّته وصدور الذنب من الراعي أفحش من ذنب الرعيّة ، فيصير بذنبه أسوأ حالاً من رعيّته ، ولا يليق للرئاسة الشرعية عليهم ، والعاصي خائن فلا يؤتمن.

٢٣٤

٩ ـ أنّه لو كان النبي يمكن عليه الخطأ أو السهو أو النسيان أو العصيان ، لكانت رئاسته على الاُمّة من هذه الجهة ترجيحا بلا مرجّح ، وهو قبيح مع أنّه يمكن أن يأمر حينئذٍ بما لم يوحَ إليه ، أو يترك شيئا ممّا اُوحي إليه.

١٠ ـ أنّه لو عصى النبي صار ظالما وبطلت نبوّته التي هي عهد اللّه ، ولا ينال عهد اللّه الظالمين.

وعليه يحكم العقل قطعا بلزوم عدم معصية النبي حتما وعدم خطأه في شيء أبدا ، بل لزوم عصمته الغرّاء في جميع الأشياء.

الثالث : اختيار النبي المعصوم

لا شكّ أنّ منصب النبوّة رئاسة دينيّة وحفظ للشريعة القدسيّة ، وإقامة للأحكام وإدارة للمهام .. وهذا يستلزم كون النبي هو الأعلم من الباقين ، والأصلح من الآخرين والجدير لهذا المقام العظيم واللائق بهذا الشأن الكريم .. لئلاّ يلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وتقديم المفضول على الفاضل.

ومن المعلوم أنّ معرفة الأعلم والأصلح ، والأليق الأرجح واقعا وحقيقة وبنحو الإصابة وعدم المخالفة ، لا يمكن إلاّ لمن هو علاّم الغيوب والضمائر ، ومطّلع على جميع البواطن والسرائر ، وواقف على جميع العواقب والأواخر.

وهذا علما ووجدانا منحصر باللّه الخبير ، والمولى العلي القدير بالبداهة.

هذا مع دليل الإنحصار ، وكون الإختيار بيد اللّه تعالى الملك الجبّار ، بالكتاب والسنّة والعقل :

٢٣٥

أمّا الكتاب :

فآيات كثيرة يكفي منها قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

وأمّا السنّة :

فأحاديث متظافرة نكتفي منها بما يلي :

حديث سعد بن عبداللّه القمّي قال : سألت القائم عليه‌السلام في حِجر أبيه فقلت : أخبرني يامولاي عن العلّة التي تمنع القوم من إختيار إمام لأنفسهم؟

قال :

«مصلح أو مفسد؟

قلت : مصلح.

قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟

قلت : بلى.

قال : فهي العلّة ، أيّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك؟

قلت : نعم. قال : أخبِرْني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه ، وأنزل عليهم الكتب ، وأيّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الاُمم ، وأهدى أن لو ثبت الإختيار ، ومنهم موسى وعيسى عليهما‌السلام ، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالإختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنّه مؤمن؟

__________________

(١) سورة القصص : (الآية ٦٨).

٢٣٦

قلت : لا.

قال : فهذا موسى كليم اللّه مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه إختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلاً ممّن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال اللّه عزوجل : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا) (١) الآية ، فلمّا وجدنا إختيار من قد إصطفاه اللّه للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا إختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور ، وما تكنّ الضمائر ، وتنصرف عنه السرائر ، وأن لا خطر لإختيار المهاجرين والأنصار ، بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح» (٢).

وأمّا العقل :

فإنّه حاكم بالبداهة بلزوم كون إختيار منصب خطير كالنبوّة من قبل اللّه الخبير العلاّم المحيط بكلّ شيء حتّى لا يعقب الظلم والفساد ، أو يحصل أمر خلاف السداد.

ومن المعلوم أنّ خبرويّة اللّه تعالى لا يدانيها خبرويّة أحد ، حتّى يمكن لأحد سدّ المسدّ ، فينحصر به الإختيار ويكون من خصوصه الإرسال.

مع أنّ نفس مقتضى الرساليّة هو أن يكون تعيين الرسول بيد المرسل ، إذ لا معنى لأن يكون النبي رسولاً لأحد بإرسال غيره.

__________________

(١) سورة الأعراف : (الآية ١٥٥).

(٢) بحار الأنوار : (ج٢٣ ص٦٨ ب٣ ح٣).

٢٣٧

فيُعلم بالقطع واليقين كون إختيار النبي بيد ربّ العالمين ، فيكون إختيار النبوّة وتعيين النبي بيد اللّه تعالى الحقّ المبين.

الرابع : طريق معرفة الأنبياء عليهم‌السلام

بعد أن عرفت في هذا البحث لزوم أهليّة النبي بالعصمة ، ثمّ لزوم تعيينه من اللّه تعالى يلزم البحث عن طريق معرفته للخلق حتّى يقتدون به ويهتدون بهدايته.

لا شكّ أنّ أي رسول أو مبعوث أو سفير ، يحتاج إلى برهان ودليل وعلامة تكشف عن صحّة نسبته إلى من أرسله أو بعثه أو جعله سفيرا حتّى تنكشف حقيقة دعوى المحقّ ، وتنقطع تسويلات المدلّس المبطل ، ولابدّ في التصديق من حصول اليقين .. وهذا أمر معقول معمول في جميع المجالات الحياتية الخطيرة واليسيرة.

ومنصب إلهي ديني مرموق كالنبوّة ، لا ريب في إحتياجه إلى برهان قطعي يُمضي صحّة النسبة فيه ، ويقطع الأهواء المزيّفة على مدّعيه.

وطريق معرفة الواسطة بين اللّه وخلقه ، وتشخيص النبي المبعوث عن ربّه ، هي اُمور ثلاثة :

١ ـ الإعجاز : فإنّ إتيان النبي في مقام التحدّي بالمعجزة الخارقة للعادة ، المطابقة لدعواه ، المتعذّر مثلها من الخلق ، المبيّنة لكونها فعل اللّه تعالى ، يوجب القطع بأنّه من عمل اللّه تعالى ، وصاحبها صادق عن اللّه عزوجل فيما يخبر عنه ، ومحقٌ في دعواه النبوّة والرسالة من قِبَلِ اللّه عزّ إسمه.

وتلاحظ تحقيق ذلك موسعا في إرشاد الطالبين (١).

٢ ـ تنصيص النبي السابق ، الثابتة نبوّته ، على النبي اللاحق الذي يراد

__________________

(١) إرشاد الطالبين للفاضل المقداد : (ص٣٠٦).

٢٣٨

معرفته كتنصيص النبي موسى ، والنبي عيسى عليهما‌السلام ، على نبوّة نبيّ الإسلام وصفاته العظام صلوات اللّه عليه وآله الكرام.

فحيث يلزم تصديق النبي السابق في نبوّته ، يلزم أيضا تصديقه في بشارته ومقالته ، فتثبت به نبوّة النبي اللاحق بالضرورة والبداهة.

٣ ـ ملاحظة نفس الرسالة التي جاء بها الرسول ، ومطالعة مفاد الأحكام التي جاء بها النبي ، ودراسة حيثيّة المواعظ والإرشادات والمعالم التي أتى بها صاحب الرسالة.

حيث إنّ حقيقة رسالته المعقولة ، وأحكامه المقبولة ، ومواعظه النافعة ، وإرشاداته البارعة ، وحثّه على المعالم الحسنة ، ونهيه عن الاُمور القبيحة ، وصدقه في أقواله ، وعمله بمقاله ، ومطابقة إنبائاته مع الحقيقة ، وملائمة كلماته مع العلوم الحقّة ، تكشف عن صدقه في دعوته ، ومحقّيته في رسالته ، فإنّه تُعرف نزاهة المُحقّ بحقّه ، وينكشف زيف المُبطل بباطله.

وهذا طريق يحكم به الوجدان ويوجب القطع والإيقان ، ويستفاد من الدليل العيان ، وهو حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«اِعرفوا اللّه باللّه ، والرسول بالرسالة ، واُولي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان» (١).

فهذه طرق ثلاثة لمعرفة النبوّة أساسا ، وغير خفي أنّ جميع هذه البراهين القطعيّة والقرائن اليقينيّة موجودة في نبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالإضافة إلى حيويّة معجزته القرآنية وبقائها إلى زماننا وإلى يوم القيامة.

لذلك يكون القرآن الكريم دليلاً إعجازيا قطعيّا لإثبات رسالة خاتم

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج٣ ص٢٧٠ ب١٠ ح٧).

٢٣٩

الأنبياء لجميع البشر ، وفي جميع الأزمنة ، ومثبتا لعلمه وعصمته وخاتميّته ومحاسن صفاته.

كما وأنّه يُمضي القرآن الكريم نبوّة الأنبياء السلف ، ويصدّق رسالة اُولي العزم من الرسل فهو دليل كامل للنبوّة والأنبياء ، ودستور شامل لوحي السماء.

وسنبيّن إن شاء اللّه وجوه إعجازه في بحث النبوّة الخاصّة ونشير إلى خصوصياته الفائقة في ذلك المبحث.

وأوضح الطرق الثلاثة المتقدّمة في معرفة النبوّة لجميع الطبقات من الناس هو الطريق الأوّل ، يعني جهة الإعجاز ، تلك الجهة التي تثبت نبوّة صاحبها ، وتكون مناسبةً لأزمنتها ، أي بالنسبة إلى زمان كلّ معجزة ، كما تلاحظه في حديث ابن السكيت عن الإمام الرضا عليه‌السلام (١) جاء فيه :

«إنّ اللّه تبارك وتعالى لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وُسع القوم مثله ، وبما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم ..

وإنّ اللّه تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم من عند اللّه عزوجل بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه وأثبت به الحجّة عليهم.

وإنّ اللّه تبارك وتعالى بعث محمّدا في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ... فأتاهم من كتاب اللّه عزوجل ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت الحجّة عليهم ...».

__________________

(١) بحار الأنوار : (ج١١ ص٧٠ ب٣ ح١).

٢٤٠