قواعد الحديث

محي الدين الموسوي الغريفي

قواعد الحديث

المؤلف:

محي الدين الموسوي الغريفي


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٤

ما كان في أصل الخلقُ فزاد أو نقص فهو عيب. فقال له ابن أبي ليلى : حسبك. ثم رجع الى القوم فقضى لهم بالعيب » (١).

وكانوا يناظرون فقهاء العامة وينقضون بعض فتاواهم. فروى عمر بن أذينة قضاء ابن أبي ليلى في واقعة. وقول محمد بن مسلم الثقفي له : « أما إن علي بن أبي طالب (ع) قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت فقال : وما علمك بذلك. قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي (ع) يقول : قضى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث. فقال ابن أبي ليلي : هذا عندك في كتاب. قال : نعم. قال : فأرسل وأئتني به. قال له محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك الحديث. قال : لك ذاك. قال : فأراه الحديث عن أبي جعفر (ع) في الكتاب ، فرد قضيته » (٢).

ولذا قال الشهيد الثاني عند ترجيح كون الراوي عبد الرحمان بن سيابة في رواية تردد راويها بينه وبين عبد اللّه بن سنان : « ويؤيده كونه سأل ابن أبي ليلى في ذلك ، ومن المستبعد جداً أن عبد اللّه بن سنان الفقيه الجليل الامامي سأل ابن أبي ليلى في ذلك ، بل الموجود في الأخبار أن ابن أبي ليلى كان يسأله ويسأل أصحابه مثل محمد بن مسلم وغيره عن كثير من المسائل » (٣). وقال الشيخ يوسف البحراني عند ذكر مضمر رواه زرارة والفضيل بن يسار : « ... وإن كان إضمار مثل هذين العمدتين غير ضائر ، لأنه من المعلوم أنهما وأمثالهما لا يعتمدون على غير الامام عليه‌السلام » (٤).

__________________

١ ـ الكافي ج ٥ ص ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢ ـ الكافي ج ٧ ص ٣٤ ـ ٣٥.

٣ ـ المسالك ج ١ ـ كتاب الوصايا ـ مبحث الوصية المبهمة.

٤ ـ الحدائق ج ٤ ص ٢٢٦.

٢٢١

بل إن فقاهة أولئك الرواة ، ومعرفتهم بمزايا الأحكام وفن الحديث تمنع من نقلهم كلام غير المعصوم (ع) بأسلوبهم الذي ينقلون به الأحاديث عن المعصومين (ع) حذراً من عروض الالتباس ولو بعد حين. وسبب الاضمار أحد أمور.

الأول : وجود القرينة المعيّنة للامام (ع) الذي صدر عنه الحكم عند نقل الراوي ، فاتكل عليها في معرفة مرجع الضمير ، حالية كانت أو مقالية.

الثاني : التقية فلم يجرأ الراوي على التصريح بالامام (ع) خوفاً من ولاة الجور وأذنايهم ، حتى أن الرجل في بعض تلك العصور إذا حدّث عن الامام علي (ع) قال : « عن أبي زينب ». كما سبق (١).

الثالث : تقطيع الأحاديث عند نقلها عن الأصول وتبويبها في المجاميع الواصلة الينا ، كما أشار اليه الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، فان فقهاء الرواة كانوا يسألون الامام (ع) عن عدة فروع في مجلس واحد أو أكثر ثم يحررون الجميع في أصولهم ، وينقلونه الى غيرهم ، فيصرحون في صدر الكلام بالامام المسؤول ويعطفون عليه مضمرين ، كما في أسئلة علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع). ولما بوّب مشايخنا الأحاديث قطّعوها ، وذكروا كل قطعة في بابها فعرض الاضمار.

وأما الدعوى الثانية ، وهي عدم حجية مضمرات باقي الرواة فمن أجل توقف الحجية على إحراز استناد الحكم الى المعصوم (ع) ولو تعبداً بنقل الثقة عنه ، وهذا لم يثبت هنا ، إذ كما يحتمل استناده اليه (ع) يحتمل استناده الى بعض فقهاء الامامية الذين أمرهم الامام (ع) بالافتاء بين الناس ، لتعذر الوصول اليه غالباً ، وأمر الشيعة بالرجوع اليهم وأخذ الحكم منهم ، ولذا نقل عنهم

____________

١ ـ أنظر ص ١٣١ ، وما بعدها.

٢٢٢

كثير من التفاوى في كتب الفقه. كما يحتمل استناده الى بعض فقهاء العامة حيث كانوا قضاة حكّام الدولتين الأموية والعباسية ، فيرجع بعض الشيعة اليهم في الحكم أحياناً لاضطرار أو جهل ، واليك بعض الشواهد على ذلك.

فروى عبد الرحمان بن سيابة فقال : « إن امرأة أوصت اليَّ ، وقالت : ثلثي يقضى به ديني وجزء منه لفلانة. فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى ، فقال : ما أرى لها شيئاً ، ما أدري ما الجزء؟. فسألت بعد ذلك أبا عبد اللّه (ع) عنه ... فقال (ع) : كذب ابن أبي ليلى : لها عشر الثلث ، إن اللّه عز وجل أمر ابراهيم (ع) فقال : اجعل على كل جبل منهن جزءاً (١). وكانت الجبال يومئذٍ عشرة ، فالجزء هو العشر من الشيء » (٢).

وروى أبو ولاد الحنّاط قائلاً : « اكتريت بغلاً الى قصر ابن هبيرة ... فتوجهت نحو النيل ... فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلل منه ... فتراضينا بأبي حنيفة ، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل ... فقال ما أرى لك حقاً ... فخرجنا من عنده ، وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته مما أفتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئاً الخ » (٣).

وروى خالد بن بكير الطويل فقال : « دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال : يا بني اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به ... فقدمتني أم ولد أبي بعد وفاة أبي الى ابن أبي ليلى ... فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقلال لي ابن أبي ليلى : إن كان أبوك الخ » (٤).

____________

١ ـ البقرة / ٢٦٠.

٢ ـ الوسائل ح ٢ ب‍‌ ٥٤ ـ الوصايا.

٣ ـ الكافي ج ٥ ص ٢٩٠ ـ التهذيب ج ٧ ص ٢١٥.

٤ ـ الوسائل ح ٢ ب‍‌ ٩٢ ـ الوصايا.

٢٢٣

وروى ابراهيم بن هاشم مرفوعاً فقال : « سألت امرأة أبا عبد اللّه (ع) فقالت : إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوماً حتى أفتوني بثمانية عشر يوماً. فقال أبو عبد اللّه (ع) : ولمَ أفتوك بثمانية عشر يوماً. فقال رجل : للحديث الذي روي عن رسول اللّه (ص) أنه قال لأسماء بنت عميس حيث نفست بمحمد بن أبي بكر الخ » (١).

فان الظاهر أن المفتين فقهاء العامة مستندين الى ما رووه عن النبي (ص) في قصة أسماء. وعلى فرض أن المفتين غيرهم فهم غير الامام (ع) جزماً.

وروى خلف بن حماد فقال : « تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً لم تطمث (٢) فلما افتضها سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام ... فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا : هذا شيء قد أشكل الخ » (٣).

ولا يدل قوله « فسألوا عن ذلك فقهاءهم » على أن السائلين كانوا من العامة ، إذ لا مانع من إضافة الفقهاء الى العامة لا إلى السائلين قبال فقهائنا وقد تعارف هذا التعبير. وعلى فرض كون السائلين منهم فالزوج من الشيعة.

وبعد هذا كيف يثق الفقيه باستناد الحكم في الحديث المضمر الى المعصوم (ع). وتقطيع الأحاديث عند تبويبها لا يثبت ذلك ، وإنما يذكر علة للاضمار بعد إحراز استناده اليه (ع) من طريق آخر مثل كون الراوي من الفقهاء الذين لا نحتمل فيهم أن يسألوا غير المعصوم (ع).

__________________

١ ـ الوسائل ح ٧ ب‍‌ ٣ ـ النفاس.

٢ ـ الجارية المعصر زنة مكرم التي أول ما أدركت وحاضت ، أو أشرفت على الحيض ولم تحض. والطمث الدم ، وطمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. ( أنظر مجمع البحرين ، مادتي عصر ، وطمث ).

٣ ـ الكافي ج ٣ ص ٩٢.

٢٢٤

وعليه فلا يتم استدلال الشيخ حسن في ( المعالم ) بعروض التقطيع على حجية جميع الأحاديث المضمرة. وأما قوله : « لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدّث بحديث في حكم شرعي ، ويسنده إلى شخص مجهول بضمير ظاهر في الاشارة الى معلوم ». فانما يتم فيما لو أسند الراوي الحكم إلى شخص مجهول حال نقله. لكنه لم يثبت ، فإن الراوي أسنده الى معلوم إما صريحاً أو بالقرائن وقد خفي علينا فتردد بين الامام (ع) وغيره ، فاذا انتفى احتمال الغير لكون الراوي من الفقهاء والأعيان كان حجة وإلا فلا. فلم يحصل الترديد في الحكم الوارد في المضمر بين إسناده الى الامام (ع) ، أو الى شخص مجهول ليتم ما ذكره ، بل يحتمل إسناده الى غير الامام (ع) وهو معلوم حال التكلم ، وإنما خفي علينا. وكما يكون التقطيع علة للاضمار فيما لو كان المسؤول هو الامام (ع) يمكن عروض ما يوجب الاضمار لو كان المسؤول غيره.

على أنه قد يكون هناك دواعي لإخفاء المسؤول من قِبل الراوي نفسه ، كما في التقية لو كان المسؤول هو الامام (ع) ، فالشخص الذي أسند اليه الحكم وإن كان مجهولاً للمخاطب لكنه معلوم للمتكلم.

وعليه فلم يقم دليل يثبت حجية الأحاديث المضمرة مطلقاً. وذكر المشايخ لها في مجاميعهم لا يثبت إلا اجتهادهم في صدور أحكامها عن المعصوم (ع) وهو لا يكفي في إثبات صدورها عنه (ع).

٢٢٥

الأحاديث الموقوفة

المبحث الثاني في الأحاديث الموقوفة. وقد اختلف فيها الفقهاء على أقوال ثلاثة كالمضمرة.

الأول : عدم حجيتها مطلقاً وإن صح السند ، لأن مرجع الحكم فيها الى قول الراوي الذي وقف عليه ، وقوله ليس بحجة (١). وهذا رأي أكثر الفقهاء ، ولذا خدش المحقق في ( المعتبر ) في رواية ابن أذينة السابقة : بأنها موقوفة فلا تكون حجة. واستحسن ذلك السيد محمد في ( مدارك الحكام ) (٢). كما خدش بذلك جماعة في رواية أبي بصير السابقة. منهم المحقق في ( المعتبر ) ، والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، والسيد محمد في ( المدارك ). وأقرّهم الشيخ يوسف البحراني على ذلك وإن صرح برواية الشيخ الطوسي لها موقوفة في باب ، ومسندة في باب آخر ، كما رواها الكليني مسندة فيصح العمل بها لذلك (٣).

الثاني : حجيتها مطلقاً. نسبه الشهيد الثاني الى القيل وضعّفه (٤).

وعُلّل هذا القول : بأن الخبر الموقوف مع صحة سنده يفيد الظن الموجب للعمل. وأجيب عنه ، أولاً : بمنع إفادته الظن مطلقاً. وثانياً بعدم الدليل على حجية مثل هذا الظن (٥).

الثالث : أنها بحكم المراسيل فيجري عليها حكمها. اختاره بعض الأجلة (٦).

__________________

١ ـ الدراية للشهيد الثاني ص ٤٦.

٢ ـ الجواهر ج ٤ ص ٣٧٦.

٣ ـ الحدائق ج ٥ ص ٣٢٥ ، وما بعدها.

٤ ـ الدراية للشهيد الثاني ص ٤٦.

٥ و ٦ ـ مقباس الهداية ص ٤٧.

٢٢٦

تحقيق البحث

والتحقيق أن الراوي الذي وُقف عليه إن لم يكن من الفقهاء الذين لا نحتمل أن يأخذوا الحكم من غير المعصوم (ع) فلا إشكال في عدم حجية حديثه الموقوف ، حيث يلحق بمضمره ويجري فيه حكمه. وإن كان من أولئك الفقهاء فالاشكال في موقوفه من أجل عدم إسناد الحكم فيه الى غيره ليقال بقيام القرائن على أن ذلك الغير هو المعصوم (ع) ، وعليه فنحتمل أنه رأي رآه وأفتى به بناء على ما هو الحق من ثبوت الاجتهاد والفتوى في عصر المعصوم (ع) من قِبل فقهاء الرواة ، وأنهم كانوا يستنبطون الحكم من الأصول والأدلة العامة الصادرة عن أهل البيت (ع) عند فقد النص الخاص ، ويجتهدون عند الجمع بين الأخبار المتعارضة باجراء قواعد التعارض فيها ، ولذا نقل عنهم كثير من الفتاوى في صف فتاوى الفقهاء في عصر الغيبة. واليك بعضها.

قال الشهيد الثاني عند البحث عن ميراث المجوس اذا ترافعوا الى حكّام الاسلام : « وقد اختلف الأصحاب فيه فقال يونس بن عبد الرحمان : إنهم يتوارثون بالنسب والسبب الصحيحين دون الفاسدين وتبعه التقي وابن إدريس ... وقال الفضل بن شاذان وجماعة منهم المصنف في هذا ( المختصر والشرح ) : إن المجوس يتوارثون بالنسب الصحيح والفاسد والسبب الصحيح لا الفاسد » (١). ويونس بن عبد الرحمان من أصحاب الامامين الكاظم والرضا (ع) والفضل بن شاذان من أصحاب الامامين الهادي والعسكري (ع).

____________

١ ـ شرح اللمعة ج ٢ ص ٣٢٢.

٢٢٧

وقال الشيخ يوسف البحراني عند البحث عن كراهة الاقعاء في جلوس الصلاة : « بل ادعى الشيخ في ( الخلاف ) عليه الاجماع. ونقل القول بالكراهة المحقق في ( المعتبر ) عن معاوية بن عمار ومحمد بن مسلم من القدماء ». والأول من أصحاب الامامين الصادق والكاظم (ع) ، والثاني من أصحاب الامامين الباقرين (ع).

وقال عند البحث عن مشروعية القنوت بالفارسية : « اختلف الأصحاب في جواز القنوت بالفارسية فمنعه سعد بن عبد اللّه ، وأجازه محمد بن الحسن الصفار ، واختاره ابن بابويه والشيخ في ( النهاية ) والفاضلان وغيرهم ». وسعد بن عبد اللّه عاصر الامام العسكري (ع) ، ومحمد بن الحسن الصفار صحبه (ع).

وقال عند البحث عن وجوب تسع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين : « ذهب اليه الصدوق بن بابويه وأسنده في ( المعتبر والتذكرة والذكرى ) الى حريز بن عبد اللّه السجستاني من قدماء الأصحاب الخ » (١). وهو من أصحاب الامام الصادق (ع).

ومن هنا أطلق عنوان الفقهاء على جماعة من أصحاب المعصومين (ع) ورواة حديثهم ، وسمّى الشيخ الكشي ثمانية عشر رجلاً منهم ، وهم أصحاب الاجماع الذين سبق البحث عن أحاديثهم ، فليس كل راوي فقيهاً يمكنه استنباط الحكم والفتوى.

وحيث احتملنا استناد الحكم الوارد في الحديث الموقوف الى اجتهاد الراوي وفتواه لا تثبت به السنّة التي يجب اتباعها.

نعم بناء على أن الرواة في عصر المعصومين (ع) لم يستعملوا آراءهم في استنباط الحكم وإنما كانوا متعبّدين بنقل ما سمعوه من أقوال الامام (ع)

____________

١ ـ الحدائق ج ٨ ص ٣١٢ ـ ٣٧١ ـ ٤١٢.

٢٢٨

ورأوه من أفعاله فان فقدوا ذلك توقفوا حتى يصل اليهم الحكم عنه (ع) وليس للتفقه والاجتهاد في عصرنا الحاضر عين ولا أثر في تلك العصور ينتفي احتمال استناد الحكم الى رأي الراوي كما انتفى احتمال استناده الى غير المعصوم (ع) ، لكن الراوي من الفقهاء ، فيتعين الاحتمال الثالث وهو نقله عن المعصوم (ع) ، لكنه لا يدرى أن النقل باللفظ أو بالمعنى كما لا يدرى أنه نقل عن المعصوم (ع) بالذات ليكون مسنداً أو بالواسطة ليكون مرسلاً. بل لا بد من الواسطة على فرض النقل عن الامام الذي لم يعاصره الراوي. وحيث لا علم لنا بحال الواسطة يجري حكم المرسل على الحديث الموقوف ويسقط عن الاعتبار.

وهذا جاري أيضاً في موقوف غير الفقهاء من الرواة ، بعد الغض عن الاشكال السابق في مضمرهم ، ولذا ألحق بعض الفقهاء الأحاديث الموقوفة بالمراسيل مطلقاً.

نعم يمكن القول بأنه لو كان هناك واسطة بين الراوي والامام (ع) لذكرها ، فاهمالها قرينة عدمها ، كما أن الأصل يقتضي العدم عند الشك فيها ، ويؤيده بعض الأحاديث المروية مقطوعة في باب ، مسندة في باب آخر بلا واسطة. لكن هذا لا يرفع احتمال الواسطة ، فلم يثبت صدور الحكم عن المعصوم (ع) ليجب التعّبد به.

٢٢٩
٢٣٠

ـ ٨ ـ

الأَحاديثُ المُعَلّلَة

٢٣١
٢٣٢

معنى العلّة

تطلق العّلة بالكسر ويراد بها المرض ، وبهذا اللحاظ اعتبر في حجية الخبر سلامته من العلة ، وفسّرت بما يقدح في الخبر من أمور خفيّة ، كالارسال فيما ظاهره الاتصال ، كما سبق (١). وأطلق لفظ ( المعللة ) على الأخبار ذات العلل بهذا المعنى (٢).

كما تطلق العلّة ويراد بها السبب ، ومنه التعليل ، فانه « عند أهل المناظرة تبيين علة الشيء ، ويطلق أيضاً على ما يستدل فيه من العلة على المعلول ، ويسمى برهاناً لميّاً » ، ويقال : تعلل الرجل أبدى الحجة ، وتمسك بها (٣).

وهذا المعنى هو مرادنا ب‍‌ ( الأحاديث المعللة ) في محل البحث ، وهي التي ورد الحكم فيها مصحوباً بعلة تشريعه ، وبيان سببه ، فان المشرّع لمّا كان حكيماً لا يصدر منه العبث والجزاف ، ولا يكلف بما لا داعي اليه وإنما هناك دواعي للتشريع من مصالح ومفاسد تدعو للبعث نحو فعل والزجر عن آخر سواء ثبتت لنفس الجعل والتكليف أو لمتعلقه أي المكلف به ، وتلك الدواعي تسمى بعلل الأحكام وبالأسباب الداعية اليه ، ولا وجه للتفرقة بين العلة والسبب ، كما تسمى بمناطات الأحكام بمعنى أن الشرع قد أناط أحكامه بها أي علّقها عليها ، وبملاكات الأحكام جمع ملاك وهو قوام الأمر. هذا ما يقتضيه الواقع ومقام ثبوت الحكم.

وأما في مقام إثباته فان أدلة التشريع وردت غالباً مجردة عن ذكر

__________________

١ ـ انظر ص ٢٥ ـ ٢٦.

٢ ـ منتقى الجمان ج ١ ص ٨.

٣ ـ أقرب الموارد ، مادة علل.

٢٣٣

علله ودواعيه ، وجاءت أحياناً مقرونة بها. وعليه نبحث أولاً عن الدليل المجرد عن العلة ، وثانياً عن الدليل المقرون بها.

العلة المستنبطة أو القياس

أما الأول فيجب الاقتصار على مورده ، فلا يصح التعدي عنه الى الأشباه والنظائر عملاً بالأقيسة والاستحسانات ، فان العقل البشري قاصر عن إدراك ملاكات الأحكام واستنباط عللها.

وقد استفاضت الأحاديث عن أهل البيت (ع) في المنع عن العمل بالقياس والتنديد بمن يعمل به حتى بلغت على ما قيل خمسمائة حديث. فروي عن الامام الرضا (ع) عن آبائه (ع) : أن النبي (ص) قال : « قال اللّه جل جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني ». وروي عن الامام الصادق (ع) قال : « إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بُعداً ، وإن دين اللّه لا يصاب بالمقاييس ». وقال (ع) لأبان : « إن السنّة إذا قيست محق (١) الدين ». وقال (ع) لأبي حنيفة : « بلغني أنك تقيس. قال : نعم أنا أقيس. قال (ع) : لا تقس فان أول من قاس إبليس حين قال : خلقتني من نار وخلقته من طين (٢) » (٣).

____________

١ ـ قيل : المحق أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه أثر. وقيل : نقص الشيء قليلاً قليلاً. ( أنظر أقرب الموارد ، مادة محق ).

٢ ـ الأعراف / ١٢.

٣ ـ أنظر هذه الأحاديث ونظائرها في الوسائل ب‍‌ ٦ ـ صفات القاضي ـ كتاب القضاء.

٢٣٤

كما وردت أحاديث من طرق أهل السنّة تمنع من القياس والعمل به أخرجها ابن حزم الأندلسي في ( رسالته ). منها ما رواه بسنده عن عوف ابن مالك ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « تفترق أمتي على بضع (١) وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلّون الحرام ويحرمّون الحلال » (٢).

وقد كثرت مناظرات الامام الصادق (ع) مع أهل الرأي والقياس كأبي حنيفة ، حيث قال له في رواية ابن حزم : « اتقِ اللّه ولاتقس فانا نقف غداً بين يدي اللّه فنقول : قال اللّه وقال رسوله (ص). وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا » (٣). وفي رواية عمرو بن جميع وعبد اللّه بن شبرمة : « ... يا نعمان حدّثني أبي عن جدي أن رسول اللّه (ص) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال اللّه تعالى له : اسجد لآدم. فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه تعالى يوم القيامة بابليس ، لأنه اتبعه في القياس ». وزاد ابن شبرمة في حديثه « ثم قال جعفر (ع) : أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا. قال : قتل النفس. قال (ع) : فان اللّه عز وجل قِبل في قتل النفس شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم قال (ع) : أيهما أعظم الصلاة أم الصوم. قال : الصلاة. قال (ع) : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ، فكيف ـ ويحك ـ يقوم لك قياسك؟ اتق الله ولا تقس الدين برأيك » (٤).

وإنما أكثر الامام الصادق (ع) مناظرة أبي حنيفة حول القياس وإبطاله

____________

١ ـ البضع ما بين الثلاث الى التسع.

٢ ـ ملخص إبطال القياس ص ٦٩.

٣ ـ ملخص إبطال القياس ص ٧١.

٤ ـ حلية الأولياء ج ٣ ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

٢٣٥

لأنه أول من توسع فيه ، وركّز دعائمه في القرن الثاني للهجرة حتى اشتهر العمل به. وقد أثبت الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتابه ( الوسائل ) (١) عدة أحاديث تضمنت تلك المناظرات يقرب مضمون بعضها من حديث ابن شبرمة السابق ، وجاء في بعضها « يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة فقال : البول. فقال (ع) فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ». وفي حديث آخر « البول أقذر أم المني؟ فقال : البول أقذر. فقال (ع) : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول الخ ».

ولذا كان المنع عن استعمال القياس في الأحكام من ضروريات مذهب الشيعة (٢). بل نقل السيد المرتضى عن قوم من شيوخنا أنهم قالوا : « إنه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام » (٣).

لكن المنحرفين عن أهل البيت (ع) حيث لم يستقوا الفقه من منهله العذب الفيّاض ضاقت بهم مدارك الأحكام فاضطروا الى استعمال القياس واليه يشير ما نقل عن أمير المؤمنين (ع) : إن قوماً ثقلت عليهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعوزتهم النصوص أن يعوها فتمسكوا بآرائهم (٤).

وفي ذلك يقول الشيخ محمد رضا المظفر : « والذي يبدو أن المخالفين لآل البيت الذين سلكوا غير طريقهم ولم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام اللّه وما جاء به الرسول (ص) فالتجأوا الى أن يصطنعوا الرأي والاجتهادات الاستحسانية للفتيا والقضاء بين الناس. بل حكّموا الرأي والاجتهاد حتى فيما يخالف النص أو جعلوا ذلك عذراً مبرراً

____________

١ ـ أنظر ب‍‌ ٦ ـ صفات القاضي ـ كتاب القضاء.

٢ ـ معالم الأصول ص ٢١٣.

٣ ـ مقدمة كتاب السرائر.

٤ ـ فرائد الأصول ص ١٥٧.

٢٣٦

لمخالفة النص ، كما في قصة تبرير الخليفة الأول لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وقد خلا بزوجته ليلة قتله ، فقال عنه : إنه اجتهد فأخطأ وذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يقاد به ويقام عليه الحد. وكان الرأي والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة والتابعين حتى بدأ البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه الخ » (١).

تعريف القياس

وقد اختلفوا في تعريف القياس فقال الشيخ الطوسي : « حد القياس هو إثبات مثل حكم المقيس عليه في المقيس ... وقد أكثر الفقهاء والأصوليون في حد القياس ، وأحسن الألفاظ ما قلناه ». ثم قال : « ... إن القياس محظور استعماله في الشريعة ، لأن العبادة لم تأتِ به ، وهو مما لو كان جائزاً في العقل مفتقر في صحة استعماله في الشرع الى السمع القاطع للعذر الخ « (٢).

وذكر له الشيخ الخضري من أهل السنّة تعاريف خمسة ، وأفاد : أن الثابت عند المقايسة أمران ، أحدهما المساواة بين المقيس والمقيس عليه في الوصف الذي استنبط الفقيه أنه علة الحكم كالمساواة بين الخمر والنبيذ في الاسكار ، ثانيهما ظن المجتهد أن الحكم في الفعلين واحد وهو طلب الاجتناب وهو أثر الأمر الأول ، فأيهما القياس أهو المساواة بينهما في العلة المستبطة أم وحدة الحكم فيهما؟ ، يفهم من بعض التعاريف الأول مثل تعريف ابن

__________________

١ ـ أصول الفقه للمظفر ج ٣ ص ١٥٦.

٢ ـ عدة الأصول ص ٢٥٣ ، وما بعدها.

٢٣٧

الهمام له ب‍‌ « مساواة محل لآخر في علة حكم له شرعي لا تدرك بمجرد فهم اللغة » ، ويفهم من البعض الآخر الثاني مثل تعريف البيضاوي له ب‍‌ « إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت » وبما أن القياس حجة أقامها الشارع لتعرف الأحكام لم يرض المتأخرون بتعريف البيضاوي ونظائره ، بل أخذوا لفظ المساواة فيه ، لأن مساواة المحلين في العلة هي التي تصلح أن تكون معرّفة للحكم ودليلاً.

فاشترطوا في القياس أن يكون للحكم المعلوم علة يدركها العقل ثم توجد العلة في محل آخر. وقالوا : « لا يشترط أن يكون ثبوتها في الفرع قطعياً ، بل يجوز أن تكون ثابتة بدليل مظنون ». واكتفوا بظن المجتهد أن الحكم في الفعلين واحد (١).

وتسمى تلك العلة بالمستنبطة قبال العلة المنصوصة في الدليل. والأولى هي التي أنكر الأئمة من أهل البيت (ع) بناء الأحكام عليها وأقاموا الشواهد على بطلانها ، لقصور العقل عن إدراك علل الأحكام فلا يصح بناؤها على تلك التخمينات والمناسبات والظنون التي لم تثبت حجيتها في الشرع بل ثبت عدمها بالأدلة التي سبق الاشارة الى بعضها. « قل ءآللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون » (٢).

ولذا لم يكن العمل بالقياس معروفاً في صدر الاسلام ، بل هناك تصريحات للصحابة والتابعين بمنعه ذكرها ابن حزم الأندلسي في ( رسالته ) وقال : « ثم حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرأوا منه ». وعلّق عليه سعيد الأفغاني بقوله : « ويؤكد ابن حزم قوله هذا في كتابه ( الاحكام ) فيقول : إنه بدعة حدثت في القرن الثاني

____________

١ ـ أصول الفقه للخضري ص ٣١٧ ، وما بعدها.

٢ ـ يونس / ٥٩.

٢٣٨

ثم فشا وظهر في القرن الثالث » (١).

الحكم العقلي

نعم قد يثبت الحكم الشرعي في مورد فيدرك العقل علته التامة في مورد آخر ، بأن يدرك مقتضيه وشرطه وعدم المانع منه ، كما في إدراكه حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا معنى حكم العقل ، فيثبت حكم الشرع للملازمة بينهما.

وليس هذا من القياس والتعدي عن مورد الحكم الى غيره بتوسط الظنون العقلية بل للجزم بوجود علة الحكم التامة في المورد الثاني ، فهو نظير التعدي عن مورد الحكم المنصوص العلة الى مورد آخر أحرزنا العلة فيه. بل يثبت الحكم الشرعي عند إدراك العقل علته التامة إبتداء في مورد وإن لم يكن ثابتاً في مورد آخر ، للملازمة بين الحكمين العقلي والشرعي.

وقوّى استاذنا المحقق الخوئي أن يكون وجوب حفظ المؤمن من التلف من هذا الباب ، وأفاد في وجه ذلك : أن الدليل النقلي من الكتاب والسنة إنما قام على حرمة قتله وظلمه وإيذائه ، ولم يقم على وجوب حفظه ، لكنه لا يبعد أن يكون وجوبه من المستقلات العقلية ، فان المؤمن محبوب عند اللّه تعالى فلا يرضى بتلفه ، ولا مفسدة تزاحم تلك المصلحة فيحكم العقل بالوجوب ويلزمه حكم شرعي ، فان المشرّع رئيس العقلاء.

لكن هذا نادر جداً ، فان العقل وإن أدرك المصلحة أحياناً لكنه لا يقوى على إدراك عدم المزاحم لها ، لقصوره عن الاحاطة بجميع الخصوصيات الداعية الى التشريع ما لم ينّبه عليها المشّرع. ولذا قال المحقق النائيني :

__________________

١ ـ ملخص إبطال القياس ص ٥.

٢٣٩

« وقد يتحقق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلة فيما إذا أحرز مناط الحكم المذكور في القضية من الخارج يقيناً ، فيحكم بسراية الحكم الى كل مورد تحقق فيه مناط الحكم ، وهذا القسم نادر التحقيق جداً ، إذ الغالب في مناط الحكم أن لا يكون قطعياً ، وإذا لم يكن المناط قطعياً كانت تسرية الحكم من موضوعه الى غيره داخلة في القياس المعلوم عدم حجيته » (١).

وبهذا ينتهي البحث عن الدليل المجرد عن العلة.

العلة المنصوصة

وأما الثاني وهو الدليل المقرون بها فقد شاع التمثيل له بقول المشرّع : « الخمر حرام لأنه مسكر ». فبحثوا عن أن التعليل بالاسكار هل يقضي بالتعدي عن مورد الحكم الى كل مسكر وإن لم يكن خمراً أم يقتصر على مورده وهو الخمر ، فلا يكون لمنصوص العلة مزية على غيره؟.

وهذا البحث وإن كان له أثر مهم بالنسبة للأحكام المعللة لكن لا أثر له فيما ذكروه من المثال لدلالة الأحاديث العديدة على حرمة المسكر بعنوانه مثل صحيح الفضيل بن يسار عن الامام الصادق (ع) أنه قال : « قال رسول اللّه (ص) : كل مسكر حرام. قال : قلت ـ أصلحك اللّه ـ كله. قال (ع) : نعم الجرعة منه حرام » (٢). فلا نحتاج في ثبوت حرمة شرب كل مسكر الى التعدي عن الخمر اليه أخذاً بالعلة المنصوص عليها في الدليل.

على أني لم أجد الجملة التي مّثلوا بها في حديث ، وإنما ورد مضمونها

____________

١ ـ أجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٩.

٢ ـ الوسائل ح ١ ب‍‌ ١٥ ـ الأشربة المحرمة.

٢٤٠