قواعد الحديث

محي الدين الموسوي الغريفي

قواعد الحديث

المؤلف:

محي الدين الموسوي الغريفي


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٤

عما ذكرناه ، وأنه لم يكن بصدد توثيق الأب. ويدل عليه أيضاً عدم توثيقه للأب عند ترجمته ، وانما اقتصر على قوله : « علي بن أبي حمزة لعنه اللّه ، أصل الوقف ، واشد الخلق عداوة للولي من بعد أبي ابراهيم عليه‌السلام » (١) ولو كان ثقة لديه لوثقه. ولأجله لم ينسب أحد الى ابن الغضائري توثيق البطائني ، وولده. بل قال الشيخ الأصبهاني في ( الفصول ) (٢) في الأب : « ولم يحك عن أحد توثيقه ». وكذا قال الشيخ المامقاني (٣). وقال في الابن « ... أن الرجل غير معدّل ، ولا موثق ، ولا ممدوح ، بل مطعون فيه طعناً قادحاً فيه. وقد ورد مثل هذه الطعون المذكورة في أبيه » (٤). والبعض الذي نقل عنه المجلسي توثيق البطائني لم يستند الى شهادة ابن الغضائري ، بل لمجموع الأمور الثلاثة السابقة.

وأما دعوى الشيخ الطوسي عمل الطائفة بأخباره فقد صرح بها عند البحث عن روايات الفطحية ونظائرهم. فقال : « وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ، ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أيضاً العمل به إذا كان متحرجاً في روايته ، موثوقاً في أمانته ، وإن كان مخطئاً في أصل الاعتقاد ، فلأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد اللّه بن بكير ، وغيره ، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران ، وعلي بن أبي حمزة ... فيما لم يكن عندهم فيه خلافه » (٥).

فيمكن الاستدلال بهذا الكلام على حجية أخبار البطائني من جهتين. إحداهما : شهادة الشيخ بوثاقته ، بقوله : « إذا كان متحرجاً

____________

١ ـ خلاصة الرجال ص ١١١.

٢ ـ فصل معرفة توثيق المزكي للراوي.

٣ ـ مقباس الهداية ص ٧٢.

٤ ـ تنقيح المقال ج ١ ص ٢٩٠.

٥ ـ عدة الأصول ص ٦١.

١٠١

في روايته موثوقاً في أمانته الخ ». فيكون خبره موثقاً. الثانية : شهادته بأن الطائفة قد عملت بأخباره. فيحصل بواسطة عملها وثوق بصدورها عن المعصوم (ع). لكنه يمكن النقاش في كلا الشهادتين.

أما الشهادة بالتوثيق فتناقش من وجوه.

الأول : أني لم أر أحداً نسبها الى الشيخ الطوسي ، وعبارته تلك مشهورة ، ومعروفة ، فلم يستفد الفقهاء والرجاليون منها ذلك ، وإنما نسبوا اليه دعوى عمل الطائفة بأخباره فحسب ، ولعله من أجل عدم ظهورها في التوثيق ، وإنما ذكر الشيخ أمراً كلياً ، وهو أن الراوي الذي يتصف بذلك يجب العمل بروايته ، ثم علل به عمل الطائفة بأخبار أولئك الجماعة ، فيكون بصدد الاعتذار عن عملها ، وأنها لا ترتكب الجزاف ، لا بصدد إثبات توثيق المذكورين.

الثاني : على تقدير ظهور عبارة الشيخ في توثيق البطائني تحتمل أنه قد استند في ذلك الى رواية ابن أبي عمير ، وصاحبيه عنه ، حيث ادعى في كتاب ( العدة ) : أنهم لا يروون إلا عن ثقة. وصرح في كتاب ( الفهرست ) : بأن ابن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى قد رويا عنه. كما صرح الصدوق برواية البزنطي عنه. كما سبق. لكن عرفت وهن تلك الدعوى ، فلا يقبل التوثيق المبتني عليها.

ويتحكم هذا الاشكال في جميع توثيقات الشيخ التي لا نعلم مدركه فيها ، اذا ثبت رواية أحد أولئك الثلاثة عن الشخص الموثق.

ويمكن القول : بأن الشيخ الطوسي رأيناه لم يوثق بعض من روى عنه اُولئك الثلاثة ، فيكشف ذلك عن عدم استناده في توثيق البعض الآخر الى روايتهم عنه. لكنه يوهن بأن الشيخ قد أهمل النص على توثيق كثير من الثقات ، فلم يلتزم بالتصريح بالتوثيق في كل مورد يقتضيه كي يصلح تركه لتوثيق ذلك البعض كاشفاً عما ذكر.

١٠٢

نعم سبق مناقشة دعوى الشيخ : أن أولئك الثلاثة لا يروون إلا عن ثقة ـ بأنه قد اجتهد في ذلك. وعليه فاذا وثق الشيخ شخصاً ، واحتملنا استناده الى رواية أحد الثلاثة عنه ، يدخل في مسألة تردد التوثيق بين الحسي والحدسي ، وقد بنى العرف على كفاية احتمال الحس في الإخبار. كما سبق لكن الظاهر اختصاص كفايته بصورة احتمال اجتهاد المخبر ، وبناء إخباره عليه. أما في صورة العلم باجتهاده ، واحتمال استناده في إخباره اليه ، كما في محل البحث ، فلم يعلم كفاية احتمال الحس حتى يثبت عدم الفرق بين احتمال الاستناد في الإخبار الى الاجتهاد المحتمل ، وبين احتمال الاستناد فيه الى الاجتهاد المعلوم.

الثالث : أن توثيق الشيخ للبطائني معارض بما صرح به الشيخ في كتاب ( الغيبة ) من ذمه وتكذيبه فيتساقطان ، بل يعارضه جميع ما سبق من أدلة ضعفه ، فتقدم عليه ، ويسقط عن الاعتبار.

وأما الشهادة بعمل الطائفة بأخباره. فتناقش من وجوه أيضاً.

الأول : أن الشيخ لم ينقل عملها بخبره مطلقاً ، بل مشروطاً بأمرين أحدهما : عدم كون ما يرويه مخالفاً لما عليه عملها خارجاً ، الثاني : عدم وجود ما يخالفه من الروايات. ومقتضاه عدم صلاحيته لمعارضة غيره. فينحصر عملها في نطاق خاص ، فلا يصلح مدركاً لاعتبار أخباره مطلقاً.

الثاني : أن الشيخ نقل عن أصحابنا أنهم لا يقبلون الأخبار التي يختص بروايتها الفطحية ، والواقفة ، ونظائرهم ، من الفرق المخالفة في أعيان الأئمة (ع) ، ولا يلتفتون الى ما يروونه (١). ومقتضى هذا الاطلاق عدم الفرق بين البطائني وغيره. وهو ينافي ما نقله سابقاً من اعتبار الطائفة لخبره بذينك الشرطين إلا أن نقيده بذلك.

____________

١ ـ عدة الأصول ص ٥٧.

١٠٣

الثالث : أن مباني الفقهاء مختلفة في العمل بالأخبار على ما سبق.

فلا نعرف الوجه الذي دعا الى العمل بخبره ، ولعله رواية أصحاب الاجماع أو ابن أبي عمير ، وصاحبيه عنه ، أو بعض المباني الأخرى التي لا يرى الفقيه حجيتها.

الرابع : أن الشيخ الطوسي ادعى اجماع الطائفة على العمل بالأخبار التي رووها في تصانيفهم ، ودونوها في أصولهم. وادعى عمل الطائفة بالمراسيل اذا لم يعارضها من المسانيد الصحيحة (١). ومقتضى ذلك لزوم العمل بجميع أخبار تلك التصانيف والأصول ، بلا حاجة الى النظر في أسنادها ولزوم العمل بجميع المراسيل السالمة عن معارضة المسند الصحيح ، مع أن الفقهاء لم يقبلوا ذلك. ودعوى الشيخ في محل البحث نظير ذينك الدعويين فلا وجه لردهما ، والأخذ بها.

الخامس : أن ما سبق ما أدلة ضعف البطائني ، وسقوط أخباره عن الاعتبار لا يبقي مجالاً للأخذ بهذه الدعوى والعمل بها.

حديث البطائني حال استقامته

يبقى البحث في أن البطائني له حال استقامة حدّث فيها قبل موت الامام الكاظم (ع). فيمكن القول : بأن دعوى الشيخ عمل الطائفة بأخباره كاشفة عن قيام قرائن لديهم أورثتهم وثوقاً بصدور رواياته حال استقامته. والجواب عنه.

أولاً : وهن تلك الدعوى في نفسها ، فلا تصلح للكشف عن ذلك.

وثانياً : أن عبارة الشيخ ظاهرة في استمرار اعتماد الطائفة عليه ،

__________________

١ ـ عدة الأصول ص ٥١ ـ ٦٣

١٠٤

لا في خصوص حال استقامته. وصدور بعض أخباره في تلك الحال غير مجدي ، لعدم حجية البعض الآخر الصادر بعد انحرافه ، ولا تمييز بينهما ، والعلم الاجمالي بعدم حجية بعض اخباره مانع من الركون اليها مطلقاً.

وثالثاً : أن القدماء كثيراً ما يعتمدون على الخبر المحفوف بقرائن تفيدهم الوثوق بصدوره عن المعصوم (ع) وإن كان راويه ضعيفاً. فلا يكشف عملهم بأخبار البطائني عن صدورها حال استقامته. وقد نبه على ذلك الشيخ الأصبهاني في ( الفصول ) (١) ، وصرح : بأنه لا وجه لتخصيص رواية أصحابنا عن بعض الفرق المخالفة كالواقفة بحال استقامتهم ولذا رووا عن النوفلي ، والسكوني ، وليس لهما حال استقامة.

وعلى تقدير حصول الوثوق لشخص بصدور جميع أخبار البطائني حال استقامته ، من دعوى الشيخ ، أو غيرها ، تكون حجة في حقه دون من لم ينكشف له ذلك.

وخلاصة البحث أنه لم يقم دليل يمكن الركون اليه في توثيق البطائني أو اعتبار أخباره. وإنما المرجع تلك الأدلة الصريحة في ضعفه ، وسقوطه عن الاعتبار. وهو المشهور بين الفقهاء ، وأرباب التراجم. ويوهن به القول بأن أصحاب الاجماع أو ابن أبي عمير ، والبزنطي ، وصفوان لا يروون إلا عن ثقة.

وبهذا ينتهي البحث عن الطريق الأول لتصحيح الحديث الضعيف السند ، وهو كون الراوي له من أصحاب الاجماع وجاء دور الطريق الثاني. فنقول.

__________________

١ ـ انظر فصل معرفة توثيق المزكي للراوي.

١٠٥
١٠٦

١٠٧

ـ ٤ ـ

الحديث وَشهرة الفتوى

١٠٨

آراء الفقهاء

اشتهر بين الفقهاء المتأخرين أن الخبر الضعيف السند ينجبر بشهرة العمل له ، أي بفتوى أكثر الفقهاء بمضمونه ، واستنادهم اليه في مقام استنباط الحكم ، فيكون حجة لذلك. كما اشتهر أن الخبر الصحيح السند يوهن بشهرة الاعراض عنه ، أي باعراض أكثر الفقهاء ، وهجرهم له بالفتوى على خلافه.

قال الشهيد الثاني : إن جماعة كثيرة أجازوا العمل بالخبر الضعيف اذا اعتضد بشهرة الفتوى بمضمونه في كتب الفقه. بتعليل أن ذلك يوجب قوة الظن بصدق الراوي ، وإن ضعف الطريق ، فان الطريق الضعيف قد يثبت به الخبر مع اشتهار مضمونه (١).

يعني صدق الراوي في خصوص ذلك الحديث الذي اشتهر العمل بمضمونه لا مطلقاً ، وإلا لكان موثقاً ، وزال ضعف الطريق الذي فرض ثبوته. ولذا لا يعامل ذلك الراوي معاملة الثقات في بقية أحاديثه التي لم يشتهر العمل بها. فيكون المراد حصول قوة الظن بصدور ذلك الحديث عن المعصوم (ع).

نعم لو اشتهر العمل بجميع أحاديثه ، ولم ينصّوا على ضعفه أمكن القول : بأن منشأ ذلك كونه ثقة لكن يضعّفه احتمال احتفاف أحاديثه لديهم بقرائن أفادتهم وثوقاً بصدورها عن المعصوم (ع).

وقال اليخ المامقاني عندما عدّ الأخبار المعتبرة : « ومنهم من زاد على ذلك الضعيف المنجبر بالشهرة نظراً الى كشفها عن قرينة شاهدة بصدوره

__________________

١ ـ الدراية ص ٢٧.

١٠٩

من مصدر الحق ، وأن الشهرة القائمة على طبق الخبر لا تقصر في إيراث الوثوق عن التوثيق الرجالي » (١). يعني كشف الشهرة عن قرينة قائمة لدى أولئك الذين تحققت الشهرة بفتواهم.

واختاره المحقق الحلي قائلاً : « والتوسط أصوب. فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عُمل به. وما أعرض الأصحاب عنه ، أو شذ يجب إطراحه لوجوه الخ » (٢). وقال عند ذكر خبر رفعه محمد بن احمد بن يحيى : « وهذا وإن كان مرسلاً إلا أن فضلاء الأصحاب أفتوا بمضمونه » (٣).

كما اختاره المحقق الهمداني بقوله : « ... فلا يكاد يوجد رواية (٤) يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق ، لولا البناء على المسامحة في طريقها ، والعمل بظنون غير ثابتة الحجية ، بل المدار على وثاقة الراوي أو الوثوق بصدور الرواية وإن كان بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة ، أو مأخوذة من الأصول المعتبرة ، مع اعتناء الأصحاب بها ، وعدم إعراضهم عنها ... ولأجل ما تقدمت الاشارة اليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حال الرجال ، والاكتفاء في توصيف الرواية بالصحة كونها موصوفة بها في ألسنة مشايخنا المتقدمين الذين تفحّصوا عن حالهم » (٥).

وخالف في ذلك جماعة من المحققين ، وبنوا على أن شهرة العمل بحديث لا تجبر ضعف سنده ، وشهرة الاعراض عنه لا توهن صحته. منهم

__________________

١ ـ مقباس الهداية ص ٣٧.

٢ ـ المعتبر ص ٦.

٣ ـ المعتبر ص ٢٨٦.

٤ ـ المذكور في النسخة المطبوعة ( خبر ) لكن الضمائر المؤنثة العائدة عليه تقتضي بأن الصحيح ( رواية ). ويناسبه السياق.

٥ ـ مصباح الفقيه ، الصلاة ص ١٢.

١١٠

الشهيد الثاني. فقال : « ووجهه على نحو الايجاز أنا نمنع من كون الشهرة التي ادعوها مؤثرة في جبر الخبر الضعيف ، فان هذا إنما يتم لو كانت الشهرة متحققة قبل زمن الشيخ ، والأمر ليس كذلك ، فان من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقاً ، كالسيد المرتضى. والأكثر على ما نقله جماعة ، وبين جامع للأحاديث من غير التفات ( الى ) (١) تصحيح ما يصح ، ورد ما يرد. وكان البحث عن الفتوى مجردة لغير الفريقين قليلاً جداً ، على من اطلع على حالهم. فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشيخ على وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقق. ولما عمل الشيخ بمضمونه في كتبه الفقهية ، جاء مَن بعده من العلماء ، واتبعه منهم عليها الأكثر تقليداً له إلا من شذ منهم. ولم يكن فيهم من يسبر الأحاديث وينقّب عن الأدلة بنفسه سوى الشيخ المحقق ابن إدريس ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً. فجاء المتأخرون بعد ذلك ، ووجدوا الشيخ ، ومن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضعيف لأمر ما رأوه في ذلك ، لعل اللّه يعذرهم فيه ، فحسبوا العمل به مشهوراً ، وجعلوا هذه الشهرة جابرة لضعفه ، ولو تأمل المنصف ، وحرر المنقّب لوجد مرجع ذلك كله الى الشيخ ، ومثل هذه الشهرة لا تكفي في جبر الخبر الضعيف ... وممن اطلع على هذه القاعدة التي بينتها ، وحققتها ، ونقبتها من غير تقليد ، الشيخ الفاضل المحقق سديد الدين محمود الحمصي ، والسيد رضي الدين بن طاووس ، وجماعة. قال السيد في كتاب ( البهجة لثمرة المهجة ) : أخبرني جدي الصالح ورّام بن أبي فراس ، أن الحمصي حدّثه أنه لم يبق للامامية مفتي على التحقيق ، بل كلهم حاكٍ. وقال السيد عقيبه : والآن فقد ظهر أن الذي يفتى به ، ويجاب عنه على سبيل ما حفظ من كلام

__________________

١ ـ لم توجد كلمة ( الى ) في المصدر ، لكنه غلط.

١١١

العلماء المتقدمين » (١).

وقال الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني « ... وبأن الشهرة التي تحصل معها قوّة الظن هي الحاصلة قبل زمن الشيخ ـ رحمة اللّه ـ لا الواقعة بعده وأكثر ما يوجد مشهوراً في كلامهم حدث بعد زمان الشيخ ، كما نبه عليه والدي في كتاب ( الرعاية ) الذي ألّفه في دراية الحديث الخ » ثم ساق كلام والده الشهيد ملخصاً (٢).

وقال المحقق الأصبهاني في ( شرح الكفاية ) : « نعم الانصاف أن استناد المشهور اذا كشف عن ظفر الكل بموجب الوثوق كان ذلك مفيداً للوثوق نوعاً. لكنه غالباً ليس كذلك ، بل الغالب في تحقق الشهرة تبعية المتأخر للمتقدم في الاستناد الى ما استند اليه لحسن ظنه به واللّه أعلم » (٣) واختاره استاذنا المحقق الخوئي.

الشهرة بين المتأخرين

وصرح جماعة ، منهم الشهيد الثاني وولده في كلامهما السابق ، والشيخ الأنصاري (٤) ، بأن الشهرة الصالحة للجبر والتوهين هي الشهرة لدى قدماء الأصحاب ، فلا عبرة بما اشتهر بين المتأخرين منهم.

وبهذا يقضي استدلالهم على اعتبار الشهرة بأنها تكشف عن قرينة شاهدة بصدور الحديث عن المعصوم (ع) ، فان القرائن الشاهدة بذلك توفرت لدى القدماء ، وخفت على المتأخرين ، كما سبق في مبحث ( تنويع

__________________

١ ـ الدراية للشهيد الثاني ص ٢٧ ، وما بعدها.

٢ ـ معالم الأصول ص ١٦٨ ـ ١٦٩.

٣ ـ نهاية الدراية ج ٢ ص ١٦٦.

٤ ـ المكاسب ص ٨.

١١٢

الحديث ). ولذا قال الشيخ المامقاني في الايراد على من لم يعتبر الشهرة « إن هذا المنع مما لا وجه له ، فان من لاحظ كثرة القرائن للمقاربين لعهد الأئمة عليهم‌السلام واختفاءها علينا اطمأن من اشتهار العمل بالخبر الضعيف بصدوره من مصدر الحق الخ ».

ومع ذلك صرح بكفاية الشهرة الحاصلة بعد زمن الشيخ. فقال : « ضرورة أن المدار على الوثوق والاطمئنان ، فاذا حصل من الشهرة الحاصلة بعد زمن الشيخ فما المانع من جعلها بمنزلة توثيق الشيخ ، ومن تأخر عنه » (١).

وتعدى بعضهم عن ذلك الى كفاية الشهرة ولو في آخر طبقة من طبقات الفقهاء فقط ، فتكون حجة لمن يأتي بعدها. فقال : « ثم إنه هل المراد بالأصحاب خصوص القدماء منهم ، أو كل طبقة بالنسبة لمن تأخر عنها احتمالان. والذي يظهر من تعليلات الجابرية في كلامهم هو الأول ولكن الظاهر عدم الخصوصية ، لاتحاد المناط ، أعني الوثوق ، فانه متى حصل كل مشمولاً لآية النباء والمستفاد منه مطلق الوثوق من مطلق السبب لا وثوق خاص ».

ويورد عليه بأن مراده بالوثوق الحاصل من تلك الشهرة ، إن كان شخصياً فمن المستبعد جداً حصوله لشخص في كل مورد ، وعلى فرض حصوله يكون حجة بالنسبة اليه دون غيره. وإن كان نوعياً ، كما هو الظاهر من قياس الشهرة في كلام بعضهم بالتوثيق الرجالي المفيد للوثوق نوعاً فسيأتي النقاش فيه من أجل اختلاف مباني الفقهاء في العمل بالأخبار مع أن المفروض هنا اختصاص الشهرة ببعض العصور المتأخرة ، فلا يصح القول : بأنها تكشف عن قرينة تشهد بصدور الخبر عن المعصوم (ع) بحيث خفت على جميع الفقهاء القدامى والمتأخرين دون أولئك الجماعة الذين عملوا به. واحتمال وجودها لا يجدي نفعاً. واستدلاله بآية النباء على كفاية

__________________

١ ـ مقباس الهداية ص ٣٧.

١١٣

الوثوق بالصدور ـ على فرض حصوله ـ سيأتي البحث عنه.

على أن ما اختاره ينافي قوله في صدر كلامه : « وهذا النوع من الأخبار يحصل الوثوق بصدوره ، لأن سلفنا الصالح ـ رضوان اللّه عليهم ـ كانوا أقرب منا عهداً ، وأعرف بالأخبار ، ورواتها ، فعملهم بالضعيف لا بد وأن يكون من جهة احتفافه بقرائن كانت عندهم موجبة للأخذ به ».

وقال : « ولا سيما بعد ملاحظة ما كان عليه السلف من الورع ، والتثبت وقرب العهد الخ ».

وهو صريح في أن الوثوق إنما يحصل من عمل القدماء ، لقرب عهدهم بعصر المعصومين (ع).

ومع ذلك يقول في تمهيد كتابه ، عند ذكر وهن الخبر بإعراض المشهور : « ويعللها ضعفاء المدرّسين بأن الأصحاب أقرب عهداً ، وأعرف بالأخبار ، وهو ـ كما تراه ـ استدلال على الظني بمثله ، وعلى حجية الشيء بما لا حجية فيه » (١). وهذا تهافت ظاهر ، حيث ندّد بما استدل به. والعصمة لأهلها.

تحقيق البحث

وتحقيق البحث يستدعي النظر أولاً : في شهرة العمل بالحديث ، وجبرها لضعف سنده. وثانياً : في شهرة الاعراض عنه ، وتوهينها لصحته.

أما شهرة العمل فالبحث عنها في جهات. الأولى : في إمكان إحرازها الثانية : في حصول الوثوق منها بصدور الحديث عن المعصوم (ع) الثالثة : في حجية الحديث الموثوق بصدوره لأجلها.

__________________

١ ـ انظر قواعد الفقيه ص ح ـ ٢٦ ـ ٣٤ ـ ٣٥.

١١٤

أما الأولى فقد سبق نقاش الشهيد الثاني فيها ، لأن العبرة بعمل القدماء بمضمون الخبر ، ولم يحرز ، لأنهم بين مانع من العمل بخبر الواحد مطلقاً كالسيد المرتضى ، فلا نحتمل استناد فتياه اليه ، خصوصاً مع ضعف سنده. ولذا ادعى السيد الاجماع في كثير من فتاواه. واحتمال كون الخبر متواتراً لديه لا يثبت استناد فتياه اليه. وبين جامع للأحاديث بدون فتوى ، وبلا تمييز بين ما يصح منها عن غيره ، ولو للبناء على صحة جميعها عنده ، كالكليني في كتابه ( الكافي ). وبين جامع لفتاوى مجردة عن الدليل ، فلم يعلم مستنده غالباً فيها ، مثل الشيخ المفيد في كتابه ( المقنعة ).

ومحض موافقة الفتوى لمضمون الحديث لا تصلح لجبر ضعفه حتى عند القائلين بالجبر ، وإنما العبرة في ثبوت الاستناد اليه. ولذا قال المحقق الهمداني : « ... الشهرة تصلح جابرة للضعف من جميع الجهات ولكن بشرط استناد المشهور اليه في فتاواهم ، وعملهم به ، لا مجرد موافقة قولهم لمضمونه ، فانه خارجي غير مجدٍ في جبر ضعف الخبر ، كما تقرر في محله الخ » (١). وقال المحقق النائيني : « والشهرة العملية عبارة عن اشتهار الرواية من حيث العمل ، بأن يكون العامل بها كثيراً. ويعلم ذلك من استناد المفتين اليها في الفتوى الخ » (٢).

نعم إن القديمين من فقهائنا ، وهما ابن أبي عقيل الحسن بن علي العماني الحذّاء ، وابن الجنيد محمد بن أحمد الاسكافي الكاتب ، المعاصرين للشيخ الكليني ، قد كتبا في الفروع الفقهية ، واستدلا عليها. فكتب ابن أبي عقيل كتابه ( المتمسك بحبل آل الرسول (ص) ) ، وهو على ما ذكره الشيخ النجاشي « كتاب مشهور في الطائفة ، وقيل : ما ورد الحاج من خراسان

____________

١ ـ مصباح الفقيه ـ الصوم ص ١٨١.

٢ ـ أجود التقريرات ج ٢ ص ٩٩.

١١٥

إلا طلب ، واشتري منه نسخ الخ » (١). وكتب ابن الجنيد كتابه الكبير ( تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة ) المشتمل على عدة كتب ، عدها النجاشي عند ترجمته (٢) ، واختصره في كتابه ( الأحمدي في الفقه المحمدي ).

قال السيد بحر العلوم في ابن أبي عقيل : « وهو أول من هذّب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول ، والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى. وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد ، وهما من كبار الطبقة السابقة ، وابن أبي عقيل أعلى منه طبقة الخ » (٣).

ولكن كتب هذين العلمين لم تصل الينا ، وإنما نقل القدماء عنهما فتاوى خالية من الدليل غالباً. وكثير منها نادر انفردا به. بالاضافة لما اشتهر من عمل ابن الجنيد بالقياس ، فلا يركن الى قوله. قال النجاشي : « وسمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه إنه كان يقول بالقياس » (٤). وقال الشيخ الطوسي فيه : « ... كان يرى القول بالقياس ، فتركت لذلك كتبه ، ولم يعوّل عليها الخ » (٥).

وعليه فأقدم كتاب استدلال وصل الينا هو المبسوط للشيخ الطوسي بل تشير مقدمته الى أنه أول كتاب ألف لهذا الغرض ، بعد الغض عما كتبه الشيخان القديمان ، حيث ورد فيها « ... فاني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهين ، والمنتسبين الى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الامامية ، ويستنزرونه ، وينسبونه الى قلة الفروع ، وقلة المسائل. ويقولون إنهم أهل حشو ، ومناقضة ، وإن من ينفي القياس ، والاجتهاد لا طريق له الى كثرة المسائل ، ولا التفريع على الأصول ... وكنت على قديم

__________________

١ ـ رجال النجاشي ص ٣٥ ـ ٣٦.

٢ ـ رجال النجاشي ص ٢٧٣.

٣ ـ رجال السيد بحر العلوم ج ٢ ص ٢٢٠.

٤ ـ رجال النجاشي ص ٢٧٦.

٥ ـ الفهرست للشيخ الطوسي ص ١٣٤.

١١٦

الوقت وحديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على ذلك الخ. »

فالسابقون على الشيخ الطوسي من الفقهاء لم يحرز عملهم بالأخبار ، والمتأخرون عنه قلده الأكثر في ذلك ، كما اتبع الصدوق شيخه محمد بن الحسن بن الوليد في شأن تصحيح الخبر ، وعدمه. وعليه فلا تبقى شهرة يركن اليها في جبر ضعف سند الحديث.

ويمكن القول بامكان إحراز تلك الشهرة.

إما لأن فتاوى القدماء كانت مضمون روايات ، فيفهم من الفتوى وإن تجردت عن الدليل أن المفتي قد استند فيها الى الخبر الوارد بمضمونها ولذا نقل عمل قدامى الفقهاء بفتاوى الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه الواردة في رسالته ( الشرائع ) « عند إعواز النصوص تنزيلاً لفتاواه منزلة رواياته » (١). بل يمكن ان يستفاد من قول الصدوق في مقدمة كتابه ( المقنع ) : « وحذفت الاسناد منه لئلا يثقل حمله ، ولا يصعب حفظه ، ولا يمله قاريه ، إذا كان ما أبينه في الكتب الأصولية موجوداً الخ ». أن ما أورده فيه من فتاوى عين متون الأحاديث. ولذا قال المحقق الهمداني : « ... ووقوع التصريح بخروج مؤونة القرية ، وخراج السلطان في عبارة ( الرضوي ) و ( الهداية ) و ( المقنع ) ، وغيرها مما يغلب على الظن كونه تعبيراً عن متون الأخبار لا يبقى مجال للتشكيك فيه » (٢). كما وأن تعقيب بعض الروايات بالفتاوى موجود كما في ( الفقيه ) فمن هذا وذاك يمكن القول باحراز شهرة العمل في عصر الشيخ الطوسي ، ومن قبله.

وإما لكفاية عمل الشيخ الطوسي ، ومن تأخر عنه ، فأنه بمنزلة عمل السابقين عليه ودعوى تقليد المتأخرين له في العمل بالأخبار سوء ظن بحملة

__________________

١ ـ فرائد الأصول ص ٩٨.

٢ ـ مصباح الفقيه ـ الزكاة ص ٦٧.

١١٧

الشرع ، على حد تعبير البعض (١).

وأما الجهة الثانية ، وهي حصول الوثوق بصدور الحديث عن المعصوم عليه‌السلام من تلك الشهرة التي فرضنا ثبوتها ، فالنقاش فيها من أجل اختلاف مباني الفقهاء في العمل بالأخبار. فمنها البناء على حجية خبر كل مسلم لم يظهر منه فسق ، وإن لم يوثق. ومنها تصحيح جميع أخبار كتبنا الأربعة ، بل جميع أخبار الكتب المعتبرة. ومنها الاكتفاء بالظن بالوثاقة لانسداد باب العلم فيها. ومنها الاعتماد على مشايخ الاجازة بلا توثيق لهم ونحوها كما سبق تفصيله (٢). وعليه كيف يحصل الوثوق النوعي بصدور الحديث من العمل المبتني على وجوه اختلف الفقهاء في حجيتها.

وأما الوثوق الشخصي فيختص حكمه بالواثق سواء حصل له من شهرة العمل ، أو غيرها من الطرق التي قد يحصل الوثوق لشخص منها.

وأما الجهة الثالثة ، وهي حجية الحديث الضعيف السند الموثوق بصدوره لشهرة العمل به ، أو غيرها مما يفيد الوثوق فالبحث عنها يستدعي النظر أولاً في معنى الوثوق ، وهل أنه الاطمئنان ، أو غيره. فنقول.

حول الاطمئنان

فسر الاطمئنان في اللغة بالسكون ، فيقال : اطمأن الرجل الى كذا أي سكن اليه. وزاد في ( أقرب الموارد ) « وآمن له ». وفسر الوثوق بالايتمان. فقال : وثق به. أي ائتمنه.

وعليه فالوثوق ، والاطمئنان يشتركان في سكون النفس ، وركونها

____________

١ ـ مقباس الهداية ص ٣٧.

٢ ـ انظر ص ٥٥ ، وما بعدها.

١١٨

للشيء ، ولذا قال الزمخشري : « اطمأن اليه سكن اليه ، ووثق به » (١) وقال صاحب ( أقرب الموارد ) في وثق : « رأيته متعدياً بالى في عبارة واردة في ( التاج ) هذا نصها : من العلماء الموثوق اليهم ، كأنه على معنى اطمأن اليهم ».

فوثق يتعدى بالباء. فيقال : وثق به. واطمأن يتعدى بالى. فيقال اطمأن اليه. وتعديته بالباء في الألسن لتضمنه معنى وثق المتعدي بها ، كما في تعدية وثق بالى لتضمنه معنى اطمأن المتعدي بها.

والاطمئنان حجة ببناء العقلاء الذي لم يردع عنه الشرع ، لأن احتمال الخلاف فيه موهون جداً لا يلتفت اليه إلا بعد التأمل ، ولأجله عّبر عن الاطمئنان بالعلم العادي. وحجيته مشهورة لدى الفقهاء.

لحديث المطمأن بصدوره

وعليه فلا إشكال في حجية الحديث المطمأن بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام من أجل شهرة العمل به ، أو غيرها مما أورث الاطمئنان. ولذا استدل الشيخ المامقاني على كفاية الشهرة الحاصلة بعد زمن الشيخ الطوسي : بأن العبرة بالوثوق ، والاطمئنان الحاصل منها ، كما سبق.

وعلى فرض النقاش في حجية الاطمئنان كما فعله البعض ، فلا مناص من الالتزام بحجيته هنا ، لقيام سيرة القدماء المتصلة بعصر المعصومين (ع) على حجية الاخبار الضعيفة السند إذا احتفت بقرائن الصدور. وقد عملوا بها لذك ، ومن المستبعد جداً أن تكون تلك القرائن مفيدة للقطع بصدور جميع تلك الأخبار المحفوفة بها ، وإنما أفادت الاطمئنان بصدورها. ولذا

__________________

١ ـ أساس البلاغة ، مادة طمن

١١٩

حكم الكليني ، والصدوق بصحة جميع الأخبار المثبتة في كتابيهما. فالاطمئنان حجة في محل البحث.

وليس من المجازفة دعوى الاطمئنان في عصرنا الحاضر بصدور الحديث الذي تسالم جميع الفقهاء على العمل به ، والاستناد اليه ، وإن كان ضعيف السند ، كالنبوي الشريف « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » حيث استند اليه الفقهاء في كثير من الفتاوي ، وأثبتوه في عدة مباحث من الفقه ، وبسطوا القول فيهه عند البحث عن ضمان اليد.

فبناء على أن الوثوق هو الاطمئنان ، وانه حجة مطلقاً ، أو في محل البحث خاصة يثبت حجية الخبر الذي حصل الوثوق بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام من تلك الشهرة ، أو غيرها.

أما لو نوقش في اتحاد المعنى بين الاطمئنان ، والوثوق. فقيل : بأن الثاني أضعف من الأول ، أو نوقش في حجية الاطمئنان حتى في محل البحث ، أو لم يحصل الوثوق بالصدور من تلك الشهرة ، وإنما ظن به ، فلا دليل على حجية ذلك الخبر بعد فرض ضعف سنده ، فان خبر الواحد كسائر الامارات الظنية لا يكون حجة ما لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولذا نفى حجيته السيد المرتضى ، وابن إدريس ، وغيرهما ، واعتبروا فيها ان يكون متواتراً. وخص الحجية بعض الفقهاء بما رواه الامامي العدل فلم يعمل بأخبار الثقات ، والحسان اقتصاراً على المتيقن في الخروج عن قاعدة عدم حجية الظنون ، وأنها لا تغني من الحق شيئاً.

وأدلة حجية خبر الواحد لا تشمل ضعيف السند الذي لم يُطمأن صدوره ، فيبقى تحت الظنون التي لم يقم على حجيتها دليل. ويظهر ذلك بالنظر البسيط في تلك الأدلة ، ومؤداها.

١٢٠