حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

جعفر السبحاني

حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

المؤلف:

جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-357-051-7
الصفحات: ١٨٧

٥

احتجاج الإمام بمبايعة الناس لأبي بكر وعمر

يقول الشيخ :

وأورد المرتضى في النهج عن علي عليه‌السلام في كتابه الذي كتبه إلى معاوية :

«إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّى» (١).

____________________

١. نهج البلاغة : ٤٤٦ ، قسم الرسائل : ٦ ، ط محمد عبده.

٦١

وهنا يستدل الإمام على صحة خلافته وانعقاد بيعته بصحة بيعة من سبقه ، وهذا يعني بوضوح أنّ علياً كان يعتقد بشرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان (١).

المناقشة :

لقد سها قلم الشيخ وقال : قال المرتضى مكان أن يقول قال الرضي ، كما أنّه حذف من آخر الخطبة ما يبيّن مقصود الإمام الذي لا صلة له بما يرتئيه المستدلّ.وهو قوله :

ولعمري ـ يا معاوية ـ لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه ، إلاّ أن تتجنّى فَتَجَنَّ مابدا لك ّ والسلام (٢).

وليس فضيلة الشيخ أوّل من استدلّ بهذا الكلام على أنّ بيعة المهاجرين والأنصار طريق إلى الإمامة

____________________

١. تأمّلات في نهج البلاغة : ١٦.

٢. نهج البلاغة : قسم الرسائل : ٦.

٦٢

والخلافة ، بل استدلّ شيوخ المعتزلة به على مقاصدهم ، ولكنّهم ـ سامحهم الله ـ غفلوا عن الظروف الّتي أدلى بها الإمام عليه‌السلام كلامه هذا.

كما غفلوا عن مخاطَبه ، وتصوّروا أنّ الإمام يُدلي بقاعدة كلامية عامّة حول الإمامة ، مفادها انّ الشورى حق للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك إماماً ولله فيه رضا.

وهذا التفسير لكلام الإمام عليه‌السلام مرفوض جدأً ، إذ ليس الإمام بصدد تبيين قاعدة كلامية ، بل هو بصدد الاحتجاج على خصم عنود لدود بايع الخلفاء السابقين الذين استمدوا شرعية خلافتهم من بيعة المهاجرين والأنصار ولكنّه لم يبايع عليّاً وخالفه ونازعه.

فالإمام يحتجّ على هذا الشخص «بأنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد».

٦٣

فهذا النوع من الاحتجاج هو الجدل الذي دعانا إليه الذكر الحكيم وقال :

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) (١).

فالاستدلال بالبرهان هوالدعوة بالحكمة ، كما أنّ الدعوة بالنصائح هي الدعوة بالموعظة الحسنة ، والاستدلال على الخصم بعقائده وأفكاره وأعماله هو الجدال بالتي هي أحسن.

فالإمام ورد من الطريق الثالث فاحتج على الخصم بما هو موضع قبوله ، فلذلك بدأ رسائله بقوله :

«فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنّه بايعني القوم» (٢).

____________________

١. النحل : ١٢٥.

٢. إنّ قوله : «فانّ بيعتي بالمدينة» وان لم يكن موجوداً في نسخة «نهج البلاغة» لكنه جاء فى سائر المصادر. لاحظ كتاب صفين : ٢٩ لنصر بن مزاحم.

٦٤

وختمها بقوله : «ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنَّ أنّي كنت في عزلة عنه ، إلاّ أن تتجنّى فتجنَّ ما بدا لك والسلام». (١)

والرسالة طويلة لخّصها الرضي ، لأنّه يقتصر على الموضع البليغ من كلامه ومن قرأ كتاب الإمام إلى خصمه بتمامه لوقف على أنّ الإمام اتّخذ موقف المجادل الذي يحتجّ على خصمه بمقبولاته وأفكاره ، ولا يعدّ مثل ذلك دليلاً على أنّه من مسلّماته ومقبولاته.

وها نحن نذكر ما تركه الرضي من الرسالة ليكون دليلاً على صدق ما بيّناه قال الإمام في ذيل كلامه السابق :

«وإنَّ طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى نجا الحق

____________________

١. نهج البلاغة : قسم الرسائل : ٦.

٦٥

وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخُلْ فيما دخل فيه المسلمون ؛ فإنَّ أحبَّ الأُمور إليَّ فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء. فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت اللهَ عليك. وقد أكثرتَ في قتلة عثمان فادخلْ فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك التي تريدها فخُدعة الصبيِّ عن اللبن. ولعمري لئن نظرتَ بعقلكَ دون هَواك لتجدنِّي أبرأَ قريش من دم عثمان. واعلم أنّك من الطلقاء (١) الذين لا تحلُّ لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشُّورى. وقد أرسلتُ إليك وإلى من قِبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة. فبايعْ ولا قوة إلاّ بالله».

____________________

١. الطلقاء : جمع طليق ، وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلّى سبيله. ويراد بهم : الذين خلّى عنهم رسول الله يوم فتح مكة وأطلقهم ولم يسترقهم.

٦٦

٦

وصف الخليفة بأعلى الصفات

يقول الشيخ :

وفي النهج عن علي عليه‌السلام : «لله بلاء فلان لقد قوّم الأود ، وداوى العمد ، وأقام السنّة ، وخلّف البدعة ، وذهب نقي الثوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها واتّقى شرها ، أدّى لله طاعته واتقاه بحقه ، رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدي إليها الضال ، ولا يستيقن المهتدي» (١).

ثم قال : لقد وصف الإمام عمر بن الخطاب من الصفات بأعلى مراتبها وناهيك بها (٢).

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣ ، شرح محمد عبده.

٢. تأمّلات في نهج البلاغة : ١٨.

٦٧

تنبيه :

قبل مناقشة كلام الشيخ نذكر بعض التصرفات التي جـاءت في نقل الكلام ، وهي أُمور :

١ ـ بلاء فلان ، وفي النهج «بلاد فلان».

٢ ـ «خلّف البدعة» وفي النهج «خلّف الفتنة».

٣ ـ «اتقى شرها» وفي النهج «سبق شرَّها».

٤ ـ «لا يهتدي إليها الضال» وفي النهج «لا يهتدي فيها الضال».

ولعل النسخة المتوفرة عند الشيخ كانت على غرار ما كتب. ولكن الأولى والأصح لا يخفى على من له إلمام بالكلام الفصيح.

تفسير مفردات الخطبة :

١ ـ يقال : لله بلاد فلان : يراد البلاد التي أنشأته وانبتته ، وربّما يقال : «لله در فلان» ويراد : لله الثدي الذي أرضعه. ولو كانت النسخة لله بلاء فلان فهي بمعنى لله ما صنع.

٦٨

٢ ـ «الأوَد» : العوج.

٣ ـ «العَمدَ» : انفضاخ سنام البعير. والمراد في المقام «العلّة».

٤ ـ أصاب خيرها : خير الولاية.

٥ ـ سبق شرّها : مات قبل استفحاله.

٦ ـ واتّقاه بحقه : أي بادر حقه والقيام به (١).

المناقشة :

اختلف شرّاح نهج البلاغة في المكنّى عنه بهذا الكلام ولهم فيه آراء :

١ ـ ذهب قطب الدين الراوندي إلى أنّه عليه‌السلام مدحَ به بعض أصحابه بحسن السيرة. وانّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله من الاختيار والإثرة.

٢ ـ وذهب ابن أبي الحديد إلى أنّ المكنّى عنه هو

____________________

١. شرح النهج : ١٢ / ٥ ـ ٦.

٦٩

عمر بن الخطاب قال : وقد وُجدتْ النسخةُ التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت «فلان» «عمر» حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي.

٣ ـ يظهر من الطبري أنه ليس من كلام الإمام ، بل هو من كلام «ابنة أبي حثمة». وأنّ الإمام صدّقها في كلمتين «ذهب بخيرها ، نجا من شرها» أي ذهب بخير الولاية ونجا من شرها الّذي ابتلي به عثمان. روي عن صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال : لما مات عمر رضي‌الله‌عنه بكتْه ابنةُ أبي حثمة فقالت : واعمراه ، أقام الأود ، وأبرأ العَمدَ ، أمات الفتن ، وأحيا السنن ، خرج نقيّ الثوب ، بريئاً من العيب.

قال : وقال المغيرة بن شعبة لمّا دفن عمر أتيت علياً عليه‌السلام وأنا أُحبُّ ان أسمع منه في عمر رضي‌الله‌عنه شيئاً ، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أنّ الأمر سيعود إليه ، فقال : يرحم الله ابن الخطاب لقد صدَقَتْ ابنة أبي حثمة : لقد ذهب بخيرها ونجا من

٧٠

شرها. أما والله ما قالت ولكن قُوّلت (١).

والظاهر طروء النقص على عبارة الطبري ، إذ كيف ارتجل الإمام بكلامه وقال : رحم الله ابن الخطاب من دون أن يتكلم المغيرة بن شعبة بكلام حول عمر ، وهذه قرينة على أنّ المغيرة عندما واجه علياً أخبره بما سمعه من ابنة أبي حثمة ، فَحلفَ الإمام بأنّها ما قالت ولكن قوّلت.

ويريد أنّ الكلام لم يكن من إنشائها ، بل من إنشاء شخص آخر ، وقد علّمه إيّاها لكي تندب به الخليفة. ولعلّه عليه‌السلام يشير بذلك إلى التواطؤ الّذي كان بينها وبين المغيرة ، وسيوافيك أنّها كانت نادبة.

ولقد كان للخليفة يد بيضاء على المغيرة بدرء الحد عنه لمّا اتّهم بالزنا في عصر الخليفة وهو أمير على الكوفة ، فقد شهد عليه بالزنا : أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد ، وقالوا بأنّهم رأوه يولجه ويخرجه ، فلمّا قدم الرابع (زياد

____________________

١. تاريخ الطبري : ٢ / ٥٧٥ ط دار الكتب العلمية ، بيروت.

٧١

بن أبيه) للشهادة ، حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحدّ بالشبهة ، فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلاً لم يخز الله على لسانه رجلاً من المهاجرين ... (١).

ولقد جازاه المغيرة بما قام به بعد وفاته.

وقال ابن شبّه (٢) : بلغنا انّ عبد الله بن مالك بن عيينة الأزدي حليف بني المطلب ، قال : لمّا انصرفنا مع عليّ رضي‌الله‌عنه من جنازة عمر رضي‌الله‌عنه دخل فاغتسل ، ثم خرج إلينا فصمت ساعة ، ثم قال : «لله بلاء نادبة عمر قالت : واعمراه أقام الأود ، واعمراه ، ذهب نقيّ الثوب ، قليل العيب ، واعمراه أقام السنّة وخلّف الفتنة. ثم قال : والله ما درتْ هذا ولكنها قوَّلَته ، وصدقت والله أصاب عمر خيرها وخلّف شرها ... (٣)

____________________

١. سير أعلام النبلاء : ٣ / ٢٨ رقم الترجمة ٧ ؛ الأغاني : ١٤ / ١٤٦ ؛ تاريخ الطبري : ٤ / ٢٠٧ ؛ الكامل : ٢ / ٢٢٨.

٢. أبو زيد عمر بن شبّه النميري البصري : (١٧٣ ـ ٢٦٢ ه‍).

٣. تاريخ المدينة المنورة : ٣ / ٩٤١ ـ ٩٤٢ ، تحقيق فهيم محمد شلتوت.

٧٢

بالله عليك يا صاحب الفضيلة ، هل يصحّ الاستدلال بكلام لم يُعرف قائله ، وهل هو من نسج المغيرة أو من نسج غيره؟! وقد أُلقي إلى النادبة توخيّاً لمصالح معينة ، وخلافاً لنهي عمر عن ندب الموتى.

ومن المحتمل جداً أن يكون تكرار الإمام لكلام النادبة من باب إظهار التعجب منه ، إذ سيرة الخليفة لم تكن تنسجم ومضامين ذلك الكلام.

وفي نهاية المطاف نقول : إنّ حياة الخليفة كانت مزيجاً من الإيجابيات والسلبيّات ، ومن أبرز صفاته أنّه لم يكن مستأثرا ببيت المال ، ولا مُسلّطاً بني عدي على رقاب الناس ، ولا مترفعاً على المهاجرين والأنصار ، إلى غير ذلك من الصفات البارزة الّتي تعد من سمات خلافته ؛ مقابل خلافة عثمان الّذي استأثر ببيت المال ، وحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ، وسلّم الأُمور بيد مروان بن الحكم اللعين بن اللعين على لسان رسول الله (١) ، إلى غير

____________________

١. المستدرك للحاكم : ٤ / ٤٨١.

٧٣

ذلك من الأُمور الّتي أثارت غضب المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من سائر البلاد ، فقِتل في عقر داره بمرأى ومسمع منهم.

فلو صحّ صدور هذا الكلام من الإمام وأغمضنا النظر عمّا حوله من الشكوك والإبهامات ، فقد صدر منه لغاية إلايعاز إلى الحكم الّذي سوف يُبتلى به المسلمون ولذلك وصفه بقوله «وخلّف الفتنة» وهي الّتي رافقت خلافة عثمان ، فقد كان مشغوفاً بحب بني أبيه ، آل أُمية وتفضيلهم على الناس ، وقد تنشّب ذلك في قلبه وكان معروفاً به من أوّل يومه ، ولذلك قال عمر بن الخطاب لابن عباس : لو وليها عثمان لحمل آل أبي معيط على الناس ، ولو فعلها لقتلوه. (١)

وبكلمة قصيرة : إنّ المدح والتنزيه نسبيّان ، وليسا بمطلقين ، يعلم ذلك من التدبّر في كلامه عليه‌السلام.

____________________

١. انساب البلاذري : ٥ / ١٦ وقد رويت كلمة الخليفة بصورة مختلفة لاحظ الغدير : ٨ / ٢٨٩.

٧٤

٧

مدح عثمان على لسان الإمام

يقول الشيخ :

جاء في «نهج البلاغة» على لسان عليّ بخصوص عثمان رضي الله عنهما :

«والله ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئاً تَجْهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنُخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلِّغكه ، وقد رأيتَ كما رأينا وسمعتَ كما سمِعنا وصحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيجة رحم منهما وقد نلت من صهره ما لم ينالا».

٧٥

فانظر هذا المدح والثناء على عثمان من علي رضي الله عنهما وانظر إلى قوله : «وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب ، بأولى بعمل الحق منك» فهذه شهادة على أنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهم كانا على الحق وعملا به وليسا بأولى من عثمان رضي‌الله‌عنه في ذلك ، فهو لعمل الحق أهل. (١)

المناقشة :

إنّ فضيلة الشيخ ذكر كلام الإمام مبتوراً وقد حذف صدره ، كما حذف ذيله ، مع أنّ صدر كلامه وذيله يشهدان بوضوح أنّ الإمام بصدد بذل النصح للخليفة بُغية معالجة المشاكل التي حاقت بالخلافة قبل ان تستفحل الفتنة الّتي أودت بحياته ، وما وصفه بكونه «أقرب إلى رسول الله وشيجة رحم منهما وقد نال من صهره ما لم ينالا» إلاّ لأجل تشجيعه على إخماد نار الفتنة ، وتنشيط عزمه ، على إقامة السنّة وإماتة البدعة الّتي غطت حياة الخلافة في عصره.

____________________

١. تأمّلات في كتاب نهج البلاغة : ٢٠.

٧٦

ولأجل إيقاف القارئ على مقاصد الإمام في كلامه هذا نأتي بنصّ كلامه مشفوعاً بمقدّمة الرضي :

ومن كلام له عليه‌السلام لعثمان بن عفّان. قالوا :

لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان ، وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم ، فدخل عليه‌السلام على عثمان ، فقال :

«إنَّ النَّاسَ وَرَائي وقدِ اسْتَسْفَرُوني بينكَ وبينهمْ ؛ وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ ، وَلاّ أَدُلُّكَ عَلَى أَمْر لاَ تَعْرِفُهُ!

إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ ؛ مَا سَبَقْنَاكَ إلى شَيء فَنُخْبرَكَ عَنْهُ ، وَلاَ خَلَوْنَا بِشَيء فَنُبَلِّغَكَهُ ؛ وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا ، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا ، وَصَحِبْتَ رَسُول اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبي قُحَافَةَ وَلاَ ابْنُ الخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الحقّ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إلى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وَشِيجَةَ رَحِم مِنْهُمَا ، وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالاَ ؛ فَاللهَ الله في نَفْسِكَ ،

٧٧

فَإنَّكَ وَاللهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً ، وَلاَ تُعَلَّمُ مِنْ جَهْل ؛ وَإنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ ، وَإنَّ أعلامَ الدِّينِ لقائمةٌ.

فَاعلَمْ أنَّ أفضل عباد الله عند اللهِ إمامٌ عادلٌ ؛ هُدِيَ وهَدَى ، فأقام سُنَّةً معلومةً ، وأمات بدعةً مجهولةً ؛ وإنَّ السُّننَ لنيرةٌ لها أعلامٌ ، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلامٌ ؛ وإنَّ شرَّ الناس عند اللهِ إمامٌ جائرٌ ضلَّ وضُلَّ به ؛ فأمات سنَّةً مأخوذةً ، وأحيا بدعةً متروكةً! وإنِّي سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولُ : يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر ، وليس معه نصيرٌ ولا عاذرٌ ، فيلقى في نار جهنَّمَ ، فيدور فيها كما تدور الرَّحى ؛ ثمَّ يرتبط في قعرها.

وإنِّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّهُ كان يقال : يقتل في هذه الأُمَّة إمامٌ يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويُلبِس أُمورها عليها ، ويبثُّ الفتن فيها ، فلا يبصرون الحقَّ من الباطل ؛ يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مَرجاً. فلا تكوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقك

٧٨

حيث شاء بعد جَلال السِّنِّ ، وتقضِّي العمر».

فقال له عثمان رضي‌الله‌عنه :

كَلِّم النَّاس في أَنْ يؤجِّلوني ، حتَّى أخرج إليهم من مظالمهم.

فقال عليه‌السلام :

«ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ؛ وما غاب فأجله وصولُ أمرك إليه». (١)

أقول : إنّ من أمعن في خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحاط بالظروف الحرجة التي صدرت فيها ، يقف على أنّ الإمام عليه‌السلام ليس بصدد مدح الخليفة وتنزيهه عمّا نقم عليه الناس ، وإنّما كان يتوخّى تحقيق هدفين :

الأوّل : إعادة الخلافة الإسلامية إلى مسارها الصحيح بعد أن زاغت عنه بممارسة الجهاز الحاكم

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٩ ؛ شرح النهج : ٩ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٧٩

للأعمال المنافية لأهدافها الكبرى ، كالاستئثار بأموال المسلمين ، وتعيين أغلمة بني أُمية وشبابها المترف في الولايات والأعمال ، وتوطيد السبل لطغيانهم واستطالتهم على الناس ، وغير ذلك من الأُمور الّتي فتحت باب الفتن والجور على مصراعيه.

فكان في نيّة الإمام بكلامه هذا أن يقوم الخليفة بتغيير الوضع السائد ، بعزل ولاة الجور وإعطاء أزمّة الأُمور إلى الصالحين من الأُمّة ، وتقسيم بيت المال على المسلمين بالعدل والإنصاف.

الثاني : إنقاذ الخليفة من القتل بيد الثائرين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من سائر الأمصار الإسلامية ، ولم يكن من مصلحة الإسلام قتل الخليفة ، ولذلك كان الإمام عليه‌السلام يخاطب عثمان بقوله : «وإنّي أنشدك الله أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول».

هذان هما الهدفان اللّذان كان الإمام عليه‌السلام يتوخّاهما ، ويدلّ على ما ذكرنا ، الأُمور التالية :

٨٠