حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

جعفر السبحاني

حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

المؤلف:

جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-357-051-7
الصفحات: ١٨٧

٣

رفض الإمام عليه‌السلام لبيعته

يقول الشيخ :

ففي نهج البلاغة خطبة لعلي حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان رضي‌الله‌عنه قال فيها : دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ... إلى أن قال : وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلِّي أسمَعُكم وأطوعُكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً». (١)

فلله العجب إذ لو كان أمر الإمامة أو الخلافة كما يصوّرها الشيعة بأنها نص إلهي في علي عليه‌السلام وأبنائه الأحد

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ٨٨ ، ط عبده.

٤١

عشر من بعده ، ... كيف يستطيع علي عليه‌السلام أن يقول دعوني والتمسوا غيري؟ هل يتّهم الشيعة الإمام علي عليه‌السلام بعصيان الله؟ أين حبهم لعلي؟

إنّ علياً عليه‌السلام هنا يقرر أن الخلافة يجوز أن تكون له أو لغيره ، ويقول نفسه عن نفسه : أكون مقتدِياً خير لي من أن أكون أماماً ، فهو لا يرى الأمر كما يراه الشيعة (١).

المناقشة :

كان على فضيلة الشيخ أن يتأمّل مورد صدور الكلام من الإمام ، وانّه في أيّ موقف رفض بيعة القوم وقال : «دعوني والتمسوا غيري». وأي خلافة رفضها ، وقال في حقها ما قال؟

إنّ الذين أرادوه على البيعة هم الذين بايعوا الخلفاء السابقين ، وكان عثمان منهم ، وقد منع حقّ كثير منهم في العطاء ، فلمّا قُتِل قالوا لعلي عليه‌السلام : نبايعك على أن تَسير فينا

____________________

١. تأمّلات في كتاب نهج البلاغة : ١٠ ـ ١١.

٤٢

بسيرة أبي بكر وعمر لأنّهما لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما فطلبوا من علي عليه‌السلام البيعة على أن يسير بسيرتهما ، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما ، ثم ذكر عدم قبوله في ذيل كلامه وهو «إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول ، وان الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت» مشيراً إلى أنّ الشبهة قد استولت على العقول والقلوب ، وجهل أكثر الناس محجّة الحق ، ففي مثل هذه الظروف لا أقدر ان أسير فيكم بسيرة الرسول في أصحابه مستقلاًّ بالتدبير ، لفساد أحوالكم ، وتعذر صلاحكم.

وقد صدق الخُبْر الخَبَر ، فلمّا قام الإمام بالأمر وقسّم الأموال بينهم بالعدل ، نكثت طائفة ، ومرقت أُخرى ، وقسط آخرون (١).

فالذي رفضه الإمام هو الخلافة الّتي يتقمّصها الإمام

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٣.

٤٣

عن طريق البيعة ، وأمّا الخلافة الالهية الّتي ألبسها الله سبحانه إيّاه يوم الغدير وغيره فلم تكن مطروحة لدى البائعين والإمام ، حتّى يستقيلها أو يقبلها.

فالخلافة الّتي ينحلها الناس عن طريق البيعة ، فالإمام وغيره أمامها سواء ، وفي حقها قال : دعوني والتمسوا غيري. وأمّا الخلافة الإلهية الّتي تدّعيها الشيعة بفضل النصوص الكثيرة فهي غنية عن البيعة ، غير خاضعة لإقبال الناس وإدبارهم. وليست الناس أمامها سواء ، بل تختص بمن خصه سبحانه بها ، وليس لمن خصَّه بها رفضها ولا استقالتها. والإمامة بهذا المعنى لم تكن مطروحة حين الحوار حتّى يرفضها الإمام.

وليس هذا أول كلام للامام وآخره حول رفضه بيعة القوم وإنّ أصرّوا عليه وتداكّوا عليه تداكّ الإبل على حياضها يوم وِرْدها ، يقول :

«وبسطتم يدي فكففُتها ، ومددتموها فقبضُتها ثم

٤٤

تداكّكتم عليّ تداكّ الابل الهِيْم على حياضها يوم وِردها ، حتّى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطُئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب». (١)

قال ابن أبي الحديد في شرح مفردات الخطبة :

التداك : الازدحام الشديد ، والإبل الهيم : العطاش.

وهدج اليها الكبير : مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً ، والمضارع يهدج ، بالكسر.

وتحامل نحوها العليل : تكلّف المشي على مشقّة.

وحسرت إليها الكعاب : كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة ، والكعاب : الجارية الّتي نهد ثديها ، كعُب تكعُب (بالضم).

قوله : «حتّى انقطع النعل وسقط الرداء» شبيه بقوله

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٤ ، ط عبده.

٤٥

في الخطبة الشقشقية : «حتّى لقد وطئ الحسنان وشُقَّ عِطفاي» (١).

أقول : إنّ الذين جاءوا لمبايعة علي من الصحابة والتابعين ، إنّما حاولوا أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء الماضين ، فالخليفة في هذا المقام يستمد شرعية خلافته من بيعة الناس ، وهي التي وقف منها الإمام موقفاً رافضاً لعدم رغبته فيها ، وعلماً منه بأنّ المبايعين لا يطيقون عدله وقضاءه.

وأين ذلك من الإمامة الإلهية الثابتة له بتنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واحد من المواقف؟! فإنّ المبايعين في تلك الظروف العصيبة لم يكن لهم همّ سوى تنصيب الخليفة من دون نظر إلى الإمامة المنصوصة لعلي عليه‌السلام. حتّى يستقيلها الإمام أو يقبلها.

وفي الختام نودّ الإشارة إلى نكتة ، وهي أنّ البيعة

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٣ ـ ٤.

٤٦

الّتي تمّت لعلي عليه‌السلام على النحو الّذي وصفها الإمام عليه‌السلام كانت ظاهرة استثنائية لم يكن لها مثيل في من سبقه من الخلفاء ، ومع ذلك نرى أنّه لمّا استتب الأمر للإمام عليه‌السلام ظهرت بوادر التمّرد والعصيان عليه ، والتي شغلت باله عليه‌السلام منذ تولِّيه منصب الخلافة وحتّى استشهاده عليه‌السلام.

ثم إنّ الإمام في نهاية الأمر يبيّن وجه قبوله لبيعة هؤلاء (مع عدم رغبته في الخلافة) في خطبة أُخرى ، حيث يقول :

أما والّذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (١).

وهذه الفقرات تعرب عن وجه قبول الخلافة

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة رقم ٣.

٤٧

ومبايعة الناس ، كما تعرب عن مكانة الحكم عند الإمام عليه‌السلام.

استدلال آخر بكلام علي عليه‌السلام :

قال فضيلة الشيخ : ورد في نهج البلاغة قول علي عليه‌السلام وهو يذكر أمر الخلافة والإمامة : رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا لله أمره ... فنظرت في أمري ، فإذا طاعتي سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري» (١).

المناقشة :

إنّ فضيلة الشيخ ـ سامحه الله ـ لم ينقل كلام الإمام علي عليه‌السلام على ما هو عليه ، وحذف منه جُملاً لها مدخلية تامة في فهم مراده ، ووضع مكانها عدة نقاط ، فكلام الإمام في النهج على النحو التالي :

«رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا لله أمره ، أتراني

____________________

١. تأمّلات في كتاب نهج البلاغة : ١٢. لاحظ نهج البلاغة طبعة عبده رقم ٣٦.

٤٨

أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أوّل من صدّقه ، فلا أكون أوّلَ من كذب عليه».

«فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري».

ولكل من الفقرتين موضوع خاص. فالموضوع في الفقرة الأُولى يتعلّق بالتنبّؤ عن المستقبل والإخبار عن الملاحم التي تعلّمها من رسول الله.

في حين يتعلّق الموضوع في الفقرة الثانية ، بالخلافة.

وفضيلة الشيخ ـ عفا الله عنه ـ ، أقتطع جزءاً من الفقرة الأُولى ـ أعني قوله : «رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا لله أمره» ـ وضمّه للفقرة الثانية حتى يتمّ استدلاله على ما يرتئيه. غافلاً عن أنّ التنقيب ورائه والله من وراء القصد.

إذا تبين ذلك ، نقول : إنّ كلام الإمام يدور حول محورين :

٤٩

الأوّل : انّ الإمام عليه‌السلام كان يتنبّأ بالملاحم التي سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا تفرّس في قوم من عسكره انّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أخبار الملاحم والغائبات ، أجابهم بقوله : «رضينا عن الله قضاءه ـ إلى قوله : فلا أكون أوّل من كذب عليه».

فليس لقوله : «رضينا عن الله» أي صلة بالخلافة ، وإلاّ انقطعت الصلة بينه وبين قوله : «أتراني أكذب على رسول الله ، والله لأنا أوّل من صدّقه ...».

الثاني : انّ الإمام عليه‌السلام كان يصف حاله بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث إن الغالبية نسيت أو تناست وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق علي وإمامته وخلافته في غير واحد من مواقفه ومع ذلك فقد أوصاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهد إليه أن لا ينازع في أمر الخلافة مع القوم طلباً للمصلحة ، فالإمام يحكي هذه الحقيقة بقوله :

«فإذا طاعتي سبقت بيعتي» أي وجوب طاعة رسول

٥٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووجوب امتثالي أمرهُ ، سابق على بيعتي للقوم ، فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بها.

«وإذا الميثاق في عنقي لغيري» ، أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ عليّ الميثاق بترك الشقاق والمنازعة ، فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره أو أُخالف نهيه (١).

وأين هذا الكلام من نفي الوصاية الإلهية؟! بل هو دليل على أنّ الإمام عليه‌السلام أمسك ولم ينازع لأجل مصلحة عامّة بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو قام على أخذ حقّه لكانت المصيبة عليه أعظم من ذهاب الحق الّذي كان له. وها نحن نأتي بكلمة للإمام عليه‌السلام يصف فيها حاله بعد السقيفة وانه مع اعتقاده بخلافته وإمامته صبر وأمسك يده لمصالح عالية.

١ ـ يقول في خطبة : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت ، واغضيتُ عن القذى ،

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٩٦.

٥١

وشربتُ على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم. (١)

وطلع الفجر :

إنّ القضاء البات في موضوع يقتضي جمع كل ما يمتّ بصلة إلى الموضوع من أقوال المتكلّم ، وعند ذاك يتّخذ الباحث موقفاً حاسماً ، ويُدلي برأيه القاطع حسب شهادة القرائن بعضها على بعض.

وأمّا القضاء بملاحظة بعض ما يرجع إلى الموضوع وتناسي غيره فهو ليس قضاء صحيحاً.

إنّ فضيلة الشيخ ورد من الطريق الثاني حيث أخذ ببعض الكلم ولم يرفع إبهام البعض بالبعض الآخر. وكان عليه أن يرجع في الموضوع إلى الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية ، فإنّ الإمام بيّن فيها موقفه من خلافة الخلفاء ، وقد قال ابن الخشاب في حق هذه الخطبة : إنّي وقفت

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٢٥ ، ط عبده.

٥٢

عليها في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الادب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

وقال ابن أبي الحديد : قد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديّين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب «الإنصاف» وكان أبو جعفر من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي (رحمه الله) موجوداً (١).

وها هو الإمام يبيّن موقفه من خلافة الخلفاء ويقول :

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٥٣

«أما واللهِ لقد تقمّصها ابن أبي قحافةَ ، وإنّهُ ليعلم أنَّ محلّي منها محلُّ القُطبِ من الرّحى ، ينحدِرُ عنّي السّيلُ ، ولا يرقى إليّ الطيرُ ، فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أنْ أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياءَ ، يهرمُ فيها الكبيرُ ، ويشيبُ فيها الصّغيرُ ، ويكدحُ فيها مؤمنٌ حتّى يلقى ربّهُ ، فرأيتُ أنَّ الصّبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العينِ قذىً ، وفي الحلقِ شجاً أرى تُراثي نهباً.

حتّى مضى الأوّل لسبيلهِ ، فأدلى بها إلى ابن الخطّابِ بعدهُ (ثمَّ تمثَّل بقول الأعشى) :

شتّان ما يومي على كورها

ويومُ حيّان أخي جابر

فياعجباً بينا هو يستقيلها في حياتهِ! إذ عقدها لآخر بعدَ وفاتهِ ، لشدَّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناءَ ، يَغلُظُ كَلْمُها ويخشُنُ مسُّها ، ويكثرُ العثارُ فيها ، والاعتذارُ منها ، فصاحبها كراكبِ الصعبةِ ، إنْ أشنق لها خرمَ ، وإنْ أسلسَ لها تقحَّم ، فُمني النّاس ـ لعمرُ اللهِ ـ بخبط

٥٤

وشماس ، وتلوّن واعتراض ، فصبرتُ على طولِ المدَّةِ ، وشدَّةِ المحنةِ.

حتّى إذا مضى لسبيلهِ ، جعلها في جماعة زعمَ أنّي أحدهم ، فياللهِ وللشورى ، متى اعترض الريبُ فيّ مع الأوّل منهم؟ حتّى صرِتُ أقرنُ إلى هذهِ النظائر ، لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا ، وطرتُ إذ طاروا ، فصغى رجلٌ منهم لضغنهِ ، ومالَ الآخرُ لصهرهِ ، مع هن وهن.

إلى أن قام ثالثُ القومِ نافجاً حضنيهِ ، بينَ نثيلهِ ومعتلفهِ ، وقام معهُ بنو أبيهِ يخضمون مال اللهِ خَضْمَةَ الإبلِ نبتة الربيع ، إلى أنِ انتكث عليه فتلهُ ، وأجهز عليه عملُهُ ، وكَبت به بطنتهُ.

فما راعني إلاّ والناس كعُرْف الضَّبُع إليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتّى لقد وُطئ الحسنان ، وشُقّ عطفاي ... (١)

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٥٥

اُفيصح ـ بعد هذا التصريح ... انّ موقف الإمام بالنسبة إلى الخلفاء موقف المادح الّذي لا يرى في حياتهم وخلافتهم ما يؤخذ عليهم؟!

٥٦

٤

ثناء الإمام عليه‌السلام على الخلفاء

يقول الشيخ :

ورد في النهج انّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما استشار عليّاً عند انطلاقه لقتال فارس ، وقد جمعوا للقتال ، أجابه : «إنّ هذا الأمر لم يكن نصَره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة وهو دين الله تعالى الّذي أظهره ... والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب» (١).

____________________

١. تأمّلات في نهج البلاغة : ١٤. ولاحظ نهج البلاغة : الخطبة ١٤٢ وشرح نهج البلاغة : ٩ / ٩٥.

٥٧

المناقشة :

إنّ الإمام عليه‌السلام قد كشف النقاب عن موقفه في التعامل مع الخلفاء كافة في كلامه الآتي ، وذلك لأنّه شهد ـ بعد إقصائه عن الحكم واستتباب الأمر للخليفة الأوّل ـ استفحال المؤامرات الداخلية والخارجية ضد الإسلام وأهله ، فأحسّ انّ وظيفته في هذا الموقف العصيب هي نصرة الإسلام والمسلمين ، والتعاون مع الخلفاء بُغية تحقيق مصالح الإسلام العليا ، والقضاء على المؤامرات الّتي استهدفته ، فهذا هو الحافز الّذي دعا بالإمام إلى التعاون مع الخلفاء.

إنّ المسألة الّتي حازت على اهتمام الإمام علي عليه‌السلام في كلامه المتقدّم ، هي مسألة الإسلام الكبرى ، وما دام الخليفة الثاني أو أي شخص آخر يقود هذا الركب فالإمام عليه‌السلام يبذل له النصح والمشورة ، وهذه الحقيقة جاءت في كتاب الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها ، فقال :

٥٨

فو الله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر ببالي انّ العرب تُزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ولا انّهم مُنحُّوه عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعةَ الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيتُ إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاعُ أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب ، فنهضتُ في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه (١).

وبالجملة فالظروف السائدة آنذاك فرضت على الإمام عليه‌السلام التعاون معهم والإشارة بالحق والصلاح عند الاستشارة ، والإدلاء بالحق عند طلبه ، وليس في هذا أي

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٦٢ ، ط عبده.

٥٩

مدح لشخص الخليفة ، ولو كان في كلامه تكريم فانّما هو لمقام الخلافة سواء أتقمّصها عمر بن الخطاب أم غيره.

ومنه يظهر وجه كلام الإمام لمّا استشاره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزوة الروم ، فقال الإمام عليه‌السلام :

وقد تَوكّلَ اللهُ لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة ، وستر العورة ، والّذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون ، حيّ لا يموت ... الخ (١).

لم يكن الإمام عليه‌السلام ـ نعوذ بالله ـ بالذي يُضمر حقداً أو ضغينة حتى يضنّ بنصيحة أو مشورة فيها عزٌّ للإسلام وحفظ لكيان المسلمين ، فهو عليه‌السلام مثال الإنسان الكريم النفس ، العالي الهمّة ، الذي يقهر ذاته ، ويذوب إخلاصاً لمبادئه ، ويفيض حبّاً ورأفة وحناناً ، فلا غرو إذن أن يسجّل مثل هذه المواقف الرائعة ، وأن يشير بحكمته البالغة إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ١٣٠ ، ط عبده.

٦٠