حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

جعفر السبحاني

حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

المؤلف:

جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-357-051-7
الصفحات: ١٨٧

«وقد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه هل هو جَمْعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل : إنّه ليس من كلام علي ، وإنّما الذي جمعه ونسبه اليه هو الذي وضعه ، والله أعلم (١).

أقول : (إنْ يَتَّبِعونَ إلاّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ) إنّ ابن خلّكان قد تبع الظن وبذر بذرة التشكيك ولم يأت على ذلك بأي دليل ، وأعجب من ذلك أنه نقل اختلاف الناس فيمن هوالجامع أو المؤلّف هل هو السيد المرتضى أو الرضي؟ مع أنّه لم يختلف اثنان إلى عصر ابن خلكان في أنّ الجامع هو الرضي وقد صرح به في غير واحد من آثاره (٢).

____________________

١. وفيات الاعيان : ٣ / ٣.

٢. لاحظ المجازات النبوية : ٤٠ وحقائق التأويل : ١٦٧. وكلاهما من تأليفات الرضي.

٢١

ابن خلّكان ونزعته الأُموية :

إنّ من يحمل نزعة أموية ويكون مْغرَماً بشعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، لا يستضيء بنور نهج البلاغة ، بل تحمله نزعاته إلى بذر الشك فيه ، كيف وهو يصف نفسه بأنّه أوّل من جمع شعر يزيد بن معاوية واعتنى به وهو صغير الحجم في ثلاثة كراريس؟! ثم قال : وكنت حفظت جميع ديوان يزيد لشدة غرامي به سنة ٦٣٣ ه‍ بمدينة دمشق وعرفت صحيحه من المنسوب إليه.

وكان ابن خلّكان مستهزءاً بالقيم الأخلاقية ، حيث ابتلي في أواخر أيامه بحب أحد أولاد الملوك ، وهو مسعود بن الملك المظفر ، حتى أنّ الغلام زاره في بعض الأيام فبسط له ابن خلكان الطرحة (١) وقال له : ما عندي أعزّ من هذا تطأ عليه ولمّا فشى أمرهما ، وعلم به أهله ، منعوه من الركوب إليه ، فقال ابن خلكان في ذلك أشعاراً

____________________

١. الطرحة هي الطيلسان وهو كساء أخضر يلبسه القضاة والمشايخ يوم ذاك.

٢٢

ذكر بعضها ابن شاكر في (فوات الوفيات) وقد شغفه حبّه ، وتيّمه هواه حتى امتنع من النوم فكان يدور الليل كلّه ، ويكرر قول ابن سكرة الهاشمي :

أنا والله هالك

آيس من سلامتي

أو أرى القامة التي

قد أقامت قيامتي

إلى أن يصبح على هذه الحال ، ويروى أنّه مات وهو ينشدهما ، وكان ذلك آخر ما نطق به (١).

قل لنا يا صاحب الفضيلة أي الرجلين أحقّ بالاتّباع؟ هل هذا الرجل الذي تعرّفنا عليه عن كثب ، أو السيد الرضي الذي يعرّفه الثعالبي في اليتيمة بقوله : هو اليوم أبدع أبناء الزَّمان ، وأنجب سادة العراق ، يتحلّى مع محتده الشريف ، ومفخره المنيف ، بأدب ظاهر ، وفضل باهر وحظٍّ من جميع المحاسن وافر. (٢)

____________________

١. فوات الوفيات : ١ / ١٠١ و ١٠٢.

٢. ديوان الشريف الرضي : ٢ / ٤٢.

٢٣

ويعرّفه ابن الجوزي بقوله : كان الرَّضي نقيب الطالبيِّين ببغداد حفظ القرآن في مدَّة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قويّاً وكان عالماً فاضلاً وشاعراً مترسِّلاً ، عفيفاً عالي الهمَّة متديِّناً. (١)

إلى غير ذلك من كلمات الثناء التي يضيق المقام بنقل قليل منها.

أضف إلى ذلك انّه لو كانت هذه الخطب والرسائل والكلم من منشآت الرضي فلماذا نسبها إلى الإمام أمير المؤمنين ، بل كان الأولى أن ينسبها إلى نفسه فيما يصلح أن يكون راجعاً إليه كخطبه في التوحيد والأخلاق والسياسة والآداب.

ليس في النهج دخيل

إنّ كلام صاحب الفضيلة ربّما يعرب أن في «نهج البلاغة» دخيلاً ، حيث نقل عن عبد العزيز الدهلوي أن

____________________

١. المنتظم : ١٥ / ١١٥ برقم ٣٠٦٥.

٢٤

الصحيح من كلام أمير المؤمنين قد يبلغ عشره أو نصف عشره والباقي من كلام الرضيّ والمرتضى.

قد عرفت أنّ ابن خلّكان نسب الجميع إلى الشريفين ، وهذا القائل نسب ماوراء العشر أو نصف العشر إليهما.

أقول : إنّ الدسّ في الخطب البليغة الّتي هي في أقصى مراتب الفصاحة والمحتوية على كنوز علوم الحكمة والمعرفة ليس كالدسّ والإدخال في الحديث والرواية ، ولا يتمكنّ من هذا الأمر كلّ من عرف اللغة العربية ومارس الأدب والشعر.

ثمّ إن هذا الدسّ إمّا أن يكون من الشريفين أو من غيرهما ، وكلا الاحتمالين باطلان جدّاً ، أمّا الأوّل ، فيكفي في ذلك ما ذكره ابن الخشّاب ، في ردّ من زعم أن إحدى الخطب منحولة ، فقال : لا والله وإنّي لأعلم أنّها كلامه (الإمام) ، كما أعلم أنّك مصدِّق. قال : فقلت له : إنّ كثيراً من

٢٥

الناس يقولون إنّها من كلام الرضيّ (رحمه الله) فقال : أنّى للرضيّ ولغير الرضيّ هذا النفس وهذا الاسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضيّ ، وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في خلّ ولا خمر (١).

وأفاض ابن أبي الحديد في بيان هذا المعنى ، فقال : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه ، والأوّل باطل بالضرورة لأنّا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ... والثاني يدلّ على ما قلناه ، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين ... وأنت إذا

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٠٥.

٢٦

تأملتَ نهج البلاغة وجدته ماءً واحداً ونَفَساً واحداً وأسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية. (١)

وأمّا الثاني أي أن يكون الدّسّ من جانب غيرهما ، فهو من المحالات العاديّة ، إذ لا نعرف في التاريخ شيعياً قبل زمن الشريف أو في عصره بلغ في الفصاحة والبلاغة شأواً يقتدر به أن يساجل أمير المؤمنين عليه‌السلام في فصاحته ، ويأتي بمثل كلامه ويُدخله فيه ، ولو كان في الشيعة أو في الصوفية من لديه هذه القدرة لاشتهر أمره وعُرِف خبره ولعدّ من أعاظم الخطباء وأكابر الحكماء.

مصادر نهج البلاغة

إن الشريف الرضي ذكر الخطب والرسائل والكلم القصار مجرّدة عن المصادر والأسانيد ، وذلك للغرض الّذي كان يتوّخاه وهو أن يخرج للناس جانباً من كلام

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ١٠ / ١٢٨.

٢٧

أمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الاطراف في كتاب (١).

ومع ذلك فإن جميع ما نقله الشريف الرضيّ ، موجود في الكتب المؤلفة قبل الرضيّ ، فالمصادر الّتي يجد الباحث مجموع النهج فيها ، موجودة الآن ومتوفّرة ، وهي على أقسام :

١ ـ ما ألّفت قبل سنة أربعمائة الّتي هي عام صدور نهج البلاغة.

٢ ـ ما ألِّفت بعد زمن الشريف ولكن روت كلام الإمام بأسانيد متصلة لم تمرّ في طريقها على الرضي ولا على كتابه.

٣ ـ كتب صدرت بعد الرضيّ ولكنها نقلت كلام

____________________

١. مقدمة نهج البلاغة.

٢٨

الإمام بصورة تختلف عمّا في النهج.

وقد وفّق الله سبحانه العالم المتتبع الموفق السيد عبد الزهراء لاستخراج عامّة مصادر نهج البلاغة من تلك المصادر المتوفّرة وقد بلغ عددها حسب ما ذكره إلى ١١٤ مضافاً إلى ما ذكره الرضيّ من المصادر ، ومع هذا فهل يصحّ لباحث أن يشكّ في نهج البلاغة؟ (١)

وليس يصحّ في الافهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

المحور الثاني : كيف يروي الشريف عن علي عليه‌السلام مباشرة؟

هذا هو المحور الثاني من كلام فضيلة الشيخ وهو أنه يتعجب من رواية الرضيّ الّذي ولد عام ٣٥٩ ه‍ وتوفّي عام ٤٠٦ ه‍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي توفّي عام ٤٠ ه‍؟

____________________

١. مصادر نهج البلاغة : ٢٩ ـ ٤١.

٢٩

إنّ كتاب «نهج البلاغة» وما أدراك ما نهج البلاغة ـ دونه أكثر المصادر شأناً واستعرضته الافكار ونخبة الآراء ـ ، وقد أظهره الشريف في عصر ازدهرت فيه الآداب ، ونبغ النوابغ ، وأنتج للأُمّة العربية أعظم ثروة علمية. فهو كان على يقين من صدور هذه الخطب عن إمام الفصاحة والبلاغة ، وكانت المصادر الدالة على صدورها عن الإمام عليه‌السلام متوفّرة ، فلأجل ذلك لم يكن يشك فيها ذو مسكة ، فلأجل ذلك حذف المصادر وأتى بلبّ اللباب ، فلو لم يكن على يقين منه وثقة به ، لما حذف الأسانيد والمصادر.

وممّا يؤيد ذلك أنه يذكر لخصوص بعض الخطب والكتب والكلم القصار مصدرها ، وذلك فيما لم تثبت عنده نسبته إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام بخلاف غيره فانّه كان على ثقة منه ويقين ، فلم يكن محتاجاً إلى ذكر مصدر له ، تكون العهدة عليه في النقل والنسبة ، وكان هذا إحدى السنن الدارجة بين القدماء في التأليف.

٣٠

وها نحن نذكر بعض المصادر الّتي أشار إليها الرضي في ذيل بعض الخطب والرسائل والكلم :

١ ـ كتاب البيان والتبيين لعمرو بن بحر الجاحظ.

٢ ـ كتاب المقتضب للمبرد في باب اللفظ بالحروف.

٣ ـ كتاب المغازي لسعيد بن يحيى الأموي.

٤ ـ كتاب الجمل للواقدي.

٥ ـ كتاب المقامات في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الاسكافي.

٦ ـ تاريخ ابن جرير الطبري.

٧ ـ حكاية أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام.

٨ ـ رواية اليماني عن ابن قتيبة.

٩ ـ ما وجد بخط هشام بن الكلبي.

١٠ ـ خبر ضرار بن حمزة الضبابي.

١١ ـ رواية أبي جحفة.

١٢ ـ حكاية ثعلب.

٣١

٣ ـ مؤلّف مستدرك نهج البلاغة يروي عن علي عليه‌السلام مباشرة

هذا هو المحور الثالث في كلام الشيخ ، يتعجّب من عمل الشيخ هادي كاشف الغطاء الّذي يروي عن علي مباشرة ، ولكن التعجب في غير محلّه لأنّه ألّفه على منوال نهج البلاغة مرتبّاً كتابه على الأبواب الثلاثة. ففضيلة الشيخ يتعجّب كيف يروي المؤلّف الّذي عاش في القرن الرابع عشر عن الإمام الّذي عاش في القرن الأوّل؟! ولكن الشيخ لم يقرأ مقدّمة الكتاب ولو قرأها لما تفوّه بذلك!! فإنه صرّح في مقدّمة كتابه أنّه ألّف هذا الكتاب ناهجاً منهج السيد الشريف ، جرياً على سنته ، لأنّه ـ كما يقول ـ قدوتي في هذا المشروع الجليل وأُسوتي في هذا العمل الصالح ... الخ.

٣٢

٢

اين النص الالهي لعلي في نهج البلاغة

يقول الشيخ :

فبالرغم من مكانة هذا الكتاب عند الشيعة والمكانة الّتي يُعطونها لعلي لكن النهج خال عن التنصيص بالإمامة ، فلو كان الإمام علي عليه‌السلام منصوصاً من جانب الله سبحانه لاستدلّ به الإمام في خطبه ورسائله.

المناقشة :

يبدو أن فضيلة الشيخ لم يمعن النظر في «نهج البلاغة» ، أو لم يقرأ منه إلاّ صحائف قليلة ، ولو طالع الكتاب برمّته لما تسرّع في هذا الحكم ، فإنّ في خطب

٣٣

الإمام احتجاجاً على إمامته وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام بالوصاية ، ونحن نذكر فقرات من خطبه وكلماته في مواطن مختلفة :

١ ـ [يقول في حق آل النبي : لا يُقاسُ بآل محمد من هذه الأُمّة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين وعماد اليقين. إليهم يَفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة. الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونُقل إلى منتقله] (١).

فقوله : «فيهم الوصية» دليل على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى بخلافتهم وإمامتهم ، كما أنّ قوله «فيهم الوراثة» دليل على ميراث المال ، وياللأسف فإن الأُمّة ـ لا كلّها ـ تركت كلا الأمرين وراء ظهرها. والدليل على أنّ المراد من الوصاية هو الخلافة ، قوله في ذيل الخطبة «الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله» فما هو المراد من الحق

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٢ ، ط عبده.

٣٤

الّذي كان خارجاً ثم رجع إلى أهله؟ أليس هو الإمامة والخلافة الّتي غُيِّب عنها الإمام طيلة ٢٥ سنة ثم رجعت إليه بعد تلك الفترة؟

٢ ـ أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذبوا بغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطى الهدى ويُستجلى العمى. إنّ الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم. (١)

وأيّة كلمة أوضح من قوله «إن الأئمة من قريش»؟ وبما أن قريشاً كانت ذات بطون ، حدّد الإمام البطن الّذي غُرست فيه الإمامة بقوله : «غرسوا في هذا البطن من هاشم».

وفيه تصريح بأنّ الإمامة لا تصلح إلاّ في قريش من بطن هاشم خاصة ، ولم يدّع أحد من بني هاشم الإمامة إلاّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ١٤.

٣٥

ولمّا كان هذا الكلام صريحاً في التنصيص على الإمامة لم يجد ابن أبي الحديد شارح كتاب نهج البلاغة بدّاً من الإذعان به ، حيث قال : وإنْ صحّ أن عليّاً عليه‌السلام قاله ، قلتُ كما قال ، لأنّه ثبت عندي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّه مع الحق وإن الحق يدور معه حيثما دار» (١).

٣ ـ فو الله مازلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ ، منذ قبضَ الله نبيَه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يوم الناس هذا (٢).

ما هو الحق الّذي استأثره الناس على علي عليه‌السلام منذ أن قبض الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يوم الناس هذا؟ فلو كان المراد من الحق ، هو الحق الناتج عن بيعة الناس فلم يكن هناك أيّة بيعة عامّة لعلي يوم ذاك حتّى يكون الإمام ذا حق من تلك الجهة ، فيتعيّن أن يكون هو الحق الّذي حبا الله به علياً في غير واحد من المواضع ، كحديث يوم الدار ، وغزوة خيبر ، وغزوة تبوك ، وغدير خم إذ نصّبه إماماً

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ٩ / ٨٨.

٢. نهج البلاغة ، الخطبة ٥.

٣٦

بمرأى ومسمع جموع غفيرة من الناس.

إنّ الإمام يذكر في هذه الخطبة الّتي أخذنا منها ذلك المقطع ، عصيان طلحة والزبير عليه وهو يضرب بالمقبل إلى الحق ، المدبرَ عنه ، ثم خروجهما يقول : ليس هذا أوّل مرة هُضم فيها حقه ، بل هُضمَ منذ أن قبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤ ـ وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه ، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين ، هبَّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني به.

اللهم إني استعينك على قريش ومن أعانهم؟ فإنهم قطعُوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هُوَ لي ، ثم قالوا : ألا إنَّ في الحق أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه (١).

إنّ الإمام يذكر في هذه الخطبة ما جرى في يوم

____________________

١. نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٧ ، ط عبده.

٣٧

السقيفة ، حيث قال له أبو عبيدة بن الجراح : إنك على هذا الأمر لحريص ، فأجابه الإمام بقوله : «بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب».

ثم يقول «وإنما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه» ، فما هو الحق الّذي كان الإمام يطلبه وأصحاب السقيفة يحولون بينه وبينه ويضربون وجهه دونه؟! أليس هو التنصيص من الله سبحانه عن طريق نبيه على خلافته وقيادته ، وإلاّ لم يكن هناك حق حتّى يطلبه علي عليه‌السلام ، بل كان عليه أن يصبر حتّى يتم أمر البيعة فعندئذ يتبيّن صاحب الحق عن غيره.

هذا غيض من فيض ممّا صرح به الإمام على خلافته وإمامته بالحق الثابت له ، ولو أنّ فضيلة الشيخ يتأمّل هذه الفقرات وغيرها لأذعن بأنّ الإمام يعرِّف نفسه وصياً للرسول في أمر الخلافة ، وإماماً للمسلمين بعد رحيل الرسول ، وكونه ذا حق ثابت وقد حيل بينه وبين حقه ، وها نحن نذكر مقاطع أُخرى على وجه الإيجاز ،

٣٨

وربّما سبق ذكره في بعض ما تقدم أيضاً تاركين التفصيل إلى وقت آخر.

قال ابن أبي الحديد : واعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه عليه‌السلام بنحو من هذا القول ، نحو قوله : «مازلت مظلوماً منذ قبض الله رسوله حتّى يوم الناس هذا».

وقوله : «اللّهم أخز قريشاً ، فإنّها منعتني حقي ، وغصبتني أمري».

وقوله : «فجزى قريشاً عنِّي الجوازي ، فإنّهم ظلموني حقي ، واغتصبوني سلطان ابن أُمّي».

وقوله ، وقد سمع صارخاً ينادي : أنا مظلوم ، فقال : «هلمّ فلنصرخ معاً ، فإنّي مازلت مظلوماً».

وقوله : «وانه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى».

وقوله : «أرى تراثي نهبا».

وقوله : «أصغيا بإنائنا ، وحَمَلا الناسَ على رقابنا».

٣٩

وقوله : «إنّ لنا حقاً إن نُعْطَه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الأبل وإن طال السُّرى».

وقوله : «مازلت مستأثراً عليّ ، مدفوعاً عمّا أستحقه واستوجبه». (١)

ولعلّ هذا المقدار يكفي في إقناع الشيخ ومن على طريقته بأنّ الإمام احتجّ على إمامته وخلافته في مواضع مختلفة من النهج.

وهنا نكتة أُخرى وهي أنّ «نهج البلاغة» ليس كتاباً عقائدياً يشرح كل عقيدة ويبرهن عليها ، وانّما هو مجموع خطب ورسائل وكلم ، انتخبها الرضي من كثير من خطبه ورسائله وكلمه.

وكتاب كهذا لا يمكن أن نتوقع منه أن يلج في كل صغير وكبير ـ وإن كانت الولاية الإلهية لعليّ من مهامّ الأُمور ـ.

____________________

١. شرح نهج البلاغة : ٩ / ٣٠٦.

٤٠