حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

جعفر السبحاني

حوار مع الشيخ صالح بن عبد الله الدرويش

المؤلف:

جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-357-051-7
الصفحات: ١٨٧

١٢

نهي الإمام علي عليه‌السلام عن الغلو

يقول الشيخ :

١ ـ وجاء في نهج البلاغة أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «وسيهلك فيّ صنفان : محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحق ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق ، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه ، والزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة وإيّاكم والفرقة» (١).

٢ ـ وجاء في نهج البلاغة ما يخالف اعتقاد الشيعة

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ١٢٣ ، شرح محمد عبده ؛ شرح ابن أبي الحديد : ٨ / ١١٢.

١٤١

في عصمة الأئمة ـ حيث قال أمير المؤمنين ـ كما يروي صاحب النهج : «فلا تكفُّوا عن مقالة بحقّ ، أو مَشُورة بعدل ، فانّي لست في نفسي بفوق أن أُخْطِئ ولا آمن ذلك من فعلي» (١).

٣ ـ وفي نهج البلاغة أيضاً كان علي عليه‌السلام يوصي ابنه الحسن عليه‌السلام حيث قال :

«فإن أشكل عليك في ذلك فاحمله على جهالتك به ، فانّك أوّل ما خُلِقْتَ جاهلاً ثم علمت ، وما أكثرَ ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ، ويَضلُّ فيه بصرك ثم تُبصره بعد ذلك» (٢).

٤ ـ كان علي يناجي ربَّه بهذا الدعاء كما يروي صاحب النهج : «اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به مّني فإن

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٢١١ ، شرح محمد عبده ؛ شرح ابن أبي الحديد : ١١ / ١٠١ ـ ١٠٢.

٢. نهج البلاغة : قسم الرسائل : ٣١ ، شرح محمد عبده ؛ شرح ابن أبي الحديد : ١٦ / ٧٤.

١٤٢

عُدْتُ فَعُدْ علي بالمغفرة» إلى آخر الدعاء. (١) فهذا علي يدعو الله بأن يغفر ذنوبه من السهو وغيره فهل هذا ينافي العصمة. (٢)

المناقشة :

الغلو هو عبارة عن تجاوز الحد ومنه غلا السعر ، يغلو غلاءً ، وغلا بالجارية لحْمُها وعظُمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِداتها.

والغلو ممقوت أينما كان وحيثما كان وفي أي أمر كان ، ولاسيّما في الدين ، وقد نهى عنه سبحانه في الكتاب العزيز مرتين ، وقال : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (٣).

والمراد غلو النصارى في المسيح حيث اتّخذوه ربّاً

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٧٥ ، شرح محمد عبده ؛ شرح ابن أبي الحديد : ٦ / ١٧٦.

٢. تأمّلات في شرح نهج البلاغة : ٢٧.

٣. النساء : ١٧١ ؛ المائدة : ٧٧.

١٤٣

وإلهاً. وعلى ذلك فالغلو هو الإفراط ويمكن أن يكون المراد هو الأعم حتّى يعمّ التقصير والتفريط أيضاً كغلو اليهود في أُمّ عيسى حتّى قذفوا مريم ، فيكون المنهي عنه هو مطلق الخروج عن الحد الحقيقي من غير فرق بين الإفراط والتفريط وعليه بعض المفسرين. (١)

وقد نقل الزمخشري عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قوله : «إنّ دين الله بين المقصّر والغالي ، فعليكم الفرقة الوسطى فيها يلحق المقصِّر ويرجع إليها الغالي» (٢).

وهناك كلمة قيّمة أُخرى نقلها الرضي عن علي عليه‌السلام في قصار الحكم ، وهي : «الثناء بأكثر من الاستحقاق مَلَق ، والتقصير عن الاستحقاق عِيٌّ أو حسد» (٣).

إلاّ أنّ المهم هو معرفة الحد الواقعي الذي لا ينبغي أن يتجاوزه الإنسان ، لأنّ الإفراط في الثناء يعد ملقاً والتقصير يعد عيّاً أو حسداً ، لكنَّه موضوع آخر خارج عن

____________________

١. تفسير القرطبي : ٦ / ٢١.

٢. ربيع الأبرار للزمخشري.

٣. قصار الحكم ، برقم ٣٤٧.

١٤٤

وضع هذا المؤلَّف ، ولكن نقتصر على دراسة كلمات الإمام التي استدلّ بها فضيلة الشيخ على عدم عصمة الإمام أو عصمة ولده الحسن عليهما‌السلام.

أمّا الخطبة الأُولى فلا صلة لها بما يرتئيه الشيخ فإنّه يخبر عن صنفين : محب مفرط ومبغض مفرط ، فالأوّل يذهب به الحب إلى غير الحق ، كما إذا ذهب إلى أنّه ربّ ، والثاني يذهب به البغض إلى غير الحق فيصبح ناصبيّاً ، وليس هذا منطق الإمام وحده بل منطق القرآن الكريم. والشيعة تكفر من قال هو بربوبيته ومن حسن الحظِّ ان الدهر قضى عليهم.

نعم ثَمّة شيء ربّما يخفيه فضيلة الشيخ في قرارة نفسه ، وهو أنّه يظن أن الشيعة الإمامية من المحبّين المفرطين بشهادة أنّهم ينقلون فضائله وكراماته ، وإخباره عن الغيب ـ بتعليم من نبيّه ـ واستجابة دعائه في برأ الأمراض الصعبة العلاج وزيارة ضريحه والتبرّك به والدعاء والصلاة عند مرقده ، ولكنّ عزب عن الشيخ أنّه لو كان هذا ملاك الغلو فالمسلمون قاطبةً ـ إلاّ من شذّ من

١٤٥

أتباع محمد بن عبد الوهاب ـ من الغلاة حيث يعتقدون كل ما ذكرناه في حق النبي ويعملون نفس ما أشرنا إليه.

فأيّ غلو في نقل الفضائل التي ملأت الصحاح والمسانيد.

وأيّ غلو في أن يخبر الإمام عن الغيب بتعليم من النبي كما أخبر غير واحد من الأنبياء عن الغيب بتعليمه تعالى ، وهذا هو النبي صالح عليه‌السلام يخبر عن هلاك قومه بعد ثلاثة أيّام حيث قال لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب) (١).

وهذا هو النبي يوسف عليه‌السلام يُخبر عن الغيب بتعليم من الله سبحانه في مواضع متعددة من الذكر الحكيم ، منها قوله : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (٢).

____________________

١. هود : ٦٥.

٢. يوسف : ٤١.

١٤٦

فعلم الغيب النابع من الذات غير المحدّد كمّاً وكيفاً من خصائص الله سبحانه ، وأمّا الإخبار عنه في موارد محدّدة بإعلام من الله وتعليم منه فهو من خصائص الأنبياء والأئمة والأولياء.

ومنه يُعلم سائر ما يعتقده الشيعة في حق إمامهم ، وقد صدروا في اعتقادهم هذا عن الدليل. والتفصيل موكول إلى كتب العقائد.

وقد أوضح الإمام نفسه هذا الأمر ، حينما قال له بعض أصحابه من بني كلب لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ، فضحك عليه‌السلام ، وقال :

يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم! وإنما علم الغيب علم الساعة ، وما عدَّده الله بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ... فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعِلمٌ علَّمَه الله نبيَّه فعَلَّمَنيهِ ، ودعا لي بأن يَعِيَهُ صدري ، وتضطمَّ عليه جوانحي (١).

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ١٢٤ ، شرح محمد عبده.

١٤٧

وقال عليه‌السلام أيضاً : ... فوالّذي فَلَقَ الحبّة ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ ، إن الّذي أُنبِّئُكم به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما كَذَب المُبَلِّغ ، ولا جَهِلَ السامعُ ... (١)

وأمّا الخطبة الثانية الّتي ربّما يستظهر منها جواز الخطأ على الإمام ، أعني قوله : «فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن من ذلك من فعلي إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي» (٢).

فهي على خلاف مقصود المستدل أدلّ ، وذلك لأنّ كلّ إنسان حسب ذاته ليس بفوق أن يخطئ كيف وهو فقير بالذات ، لا يملك كمالاً ، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَني الْحَمِيدُ) (٣). وقوله سبحانه :

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ٩٧ ، شرح محمد عبده.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ٢١١ ، شرح محمد عبده.

٣. فاطر : ١٥.

١٤٨

(إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْر) (١) وإنّما يصان عن الخطأ في مرحلتيْ الفكر والعمل بإعصام من الله سبحانه ولا ينال تلك الفضيلة إلاّ الأمثل فالأمثل بفضله سبحانه ، وقد أشار يوسف في قوله (وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي) (٢) إلى كلا الأمرين :

فإلى الأوّل : أي انّ الإنسان حسب ذاته لا يملك كمالاً ولا عصمة أشار إليه بقوله : ِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوء).

وإلى الثاني : أي إنّ العصمة لطف من الله سبحانه أشار إليه بقوله : (إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي).

ومن عجيب الأمر انّ الإمام في كلامه السابق يشير إلى كلا الأمرين أيضاً :

الأوّل : انّه حسب الذات ليس مصوناً عن الخطأ.

____________________

١. العصر : ٢.

٢. يوسف : ٥٣.

١٤٩

الثاني : انّه سبحانه إذا كفاه يكون مصوناً عن الخطأ.

فيشير إلى الأوّل بقوله : «فإنّي لست في نفسي بفوق ان أُخطِئ».

وإلى الثاني بقوله : «إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي».

وكان على الشيخ أن يجتني من الشجرة الطيبة (خطبة الإمام) الثمرة الطيبة (عصمة الإمام عن الخطأ) ولكنه مع الأسف لأجل اعتقاده المسبق أفسد الثمرة ولم يستسغها.

وليس هذا (كلّ إنسان خاطئ بالذات مصون عنه باعتصام الله) منطق الإمام وحده ، بل منطق الأنبياء كلّهم ، حيث يأمر سبحانه نبيه أن يقول : (قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ) (١).

____________________

١. الأعراف : ٨٨.

١٥٠

وأما الخطبة الثالثة ـ أعني : خطاب الإمام لنجله الحسن عليه‌السلام ـ : «فإن أشكل عليك في ذلك فاحمله على جهالتك به ، فإنّك أوّل ما خُلِقْت جاهلاً ثم علمتَ ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ويضلّ فيه بصُرك ثم تُبصره بعد ذلك» (١).

فقد استدلّ به الشيخ على أن الإمام الحسن عليه‌السلام لم يكن مصوناً عن الخطأ ، ولكنّ الاستنتاج بعيد عن الصواب ، ونابع عن عدم الدقة في معرفة هدف الرسالة ، وذلك :

إنّ الرسالة وإن كانت موجّهة إلى الحسن عليه‌السلام ، وهو فيها محور توجيهات أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إلاّ أنّ الغاية القصوى منها ـ كما هو الشأن في رسائل المصلحين ـ هي الإرشاد والنصح لعامّة الآباء والأبناء.

ويؤيّد ذلك أنّ الإمام يخاطبه بقوله : «إنّما قلب

____________________

١. نهج البلاغة : قسم الرسائل : ٣١ ، شرح محمد عبده.

١٥١

الحدث كالأرض الخالية ، ما أُلقي فيها من شيء قَبِلَتْه ، فبادرتُكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبُّك».

يخاطبه الإمام بهذا القول مع أنّ الحسن عليه‌السلام كان يومذاك من أبناء الخمسة والثلاثين حيث إنّ الإمام كتبها عند منصرفه من صفين في منطقة «حاضرين» وعندئذ فما معنى قوله «فبادرتك بالأدب» وقد انقضى شبابه والتحق بالكهول (١).

وقد قلنا : إنّ ما سلكه الإمام من الخطاب لولده العزيز والغاية هي عامّة أولاد المسلمين ، هو مسلك المصلحين حيث يخاطبون أبناءهم ومَن يتعلّق بهم ويوبّخونهم ، لغاية إسماع الغير ، وقد ورد في المثل : «إيّاك أُعني واسمعي يا جارة».

على أنّ المراد من الجهل في العبارة هو الجهل بأسرار القدر وخفاء وجه الحكمة في بعض الأُمور ، فلم

____________________

١. الكهل من كان بين الثلاثين والخمسين في العمر.

١٥٢

يدلّ دليل على أنّ السبط الحسن عليه‌السلام يعلم عامّة أسرار الخلقة ، ولعلّ هناك علوماً استأثر الله بها لنفسه.

وأمّا الخطبة الرابعة ـ أعني قوله ـ : «اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به منّي فإن عُدْتُ فُعد عليَّ بالمغفرة ...».

فالعارف بأدعية الإمام وأهل بيته الواردة في الصحيفة العلوية أو الصحيفة السجادية يعرف أنّ هذه الأدعية لغاية تأديب الناس وتعليمهم كيفيةَ الاستغفار من الذنوب ، فاقرأ يا فضيلة الشيخ دعاء «كميل» تجد فيه حلاوة المناجاة ، وانّ أكثر ما ذكره الإمام واستغفر منه لا يُحتمل في حقّه ، بل لا يحتمل في حقّ من دونه ، وإنّما ذكرها تأدّباً وتعليماً.

وهناك بيان آخر ذكره الكاتب الكبير أبو الفتح الإربلي (المتوفّى ٦٩٣ ه‍) في كتاب «كشف الغمة في معرفة الأئمة» فقال : إنّ الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، وقلوبهم مملوءة به ، وخواطرهم

١٥٣

متعلّقة بالملأ الأعلى ، وهم أبداً في المراقبة ، كما قال عليه‌السلام : «أعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تراه فانّه يراك» ، فهم أبداً متوجهون إليه ومقبلون بكلّهم عليه.

فمتى انحطّوا عن تلك الرتبة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب ، والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات ، عدّوه ذنباً واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه (١).

وحاصل كلامه عبارة عمّا ورد في بعض الآثار من أن «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين» وعلى هذا يحمل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّه ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله بالنهار سبعين مرّة».

____________________

١. كشف الغمة : ٣ / ٤٧.

١٥٤

١٣

ليس لدفع الموت سبيل

يقول الشيخ :

جاء في نهج البلاغة عن عليّ أنّه قال : «أُوصيكم بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش وأسبغ عليكم المعاش ، ولو أن أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان بن داود عليه‌السلام» (١).

ويضيف الشيخ بأنّ كلام الإمام ينقض ما نقله الكليني في «الكافي» بأنّ الأئمة يعلمون متى يموتون ،

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ١٧٧ ، شرح محمد عبده ؛ شرح ابن أبي الحديد : ١٠ / ٩٢.

١٥٥

وانّهم لا يموتون إلاّ باختيار منهم ، كيف؟ وعليّ يقول : أو لدفع الموت سبيلاً.

المناقشة :

لا شك في أنّه لم يكتب لأحد البقاءُ إلاّ لِذات الله سبحانه ووجهه ، قال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) (١). وهو من أوضح المعارف القرآنية.

والإمام في خطابه بصدد إيقاظ الغافل ، غير المكترث بفرائض الله سبحانه وعزائمه ، المعتمد على قوته ومنعته ، غافلاً عن أنّ المنعة والقدرة غير مانعة عن قضاء الله سبحانه ، ولو كانت مانعة لكان سليمان النبي أولى بذلك ، حيث كانت الريح العاصفة تجري بأمره ، والشياطين يعملون له و ... (٢) ومع ذلك ما أغنته عندما

____________________

١. الرحمن : ٢٧ ـ ٢٨.

٢. الأنبياء : ٨١ ـ ٨٢.

١٥٦

قُضي عليه الموت وأدركه الأجل (١).

والآن نرجع إلى ما نقله عن «الكافي» ، فقد نقل عنه أمرين :

١ ـ إنّ الأئمة يعلمون متى يموتون.

٢ ـ إنّ الأئمة يموتون باختيارهم.

وزعم أنّ بين هذين الأمرين وما ذكره الإمام في خطبته تعارضاً.

أقول : أيّة معارضة ، بين ما جاء في خطاب الإمام من فناء كل إنسان وبين ما روي أنّ فريقاً من الناس يعلمون متى يموتون ، وهل علم الإنسان بوقت الموت عين بقائه في الدنيا؟

وإن كنت في ريب فلاحظ القضيتين التاليتين :

١ ـ كل من عليها فان.

٢ ـ بعض الناس يعلم متى يموت.

____________________

١. سبأ : ١٤.

١٥٧

فهل ترى بين القضيتين تعارضاً مع أنّه يشترط في التناقض وحدة المحمول ، فهل المحمول فيهما واحد؟

وأمّا الأمر التالي وهو أنّهم لا يموتون إلاّ باختيارهم فليس معناه أنّهم لو اختاروا البقاء في الدنيا ، لما ماتوا ، كيف وقد ورد الوحي في بيوتهم : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان) (١) و (كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) بل معناه انّه سبحانه كتب لهم آجالاً مختلفة فخيّرهم بينها.

أضف إلى ذلك انّ كتاب «الكافي» ، كتاب حديث خاضع للنقاش في السند والدلالة ، وليس عندنا كتاب صحيح غير خاضع للمناقشة إلاّ كتاب الله سبحانه ، حتّى ولو صحّ السند وتمت الدلالة فلا يكون أيضاً دليلاً على العقيدة ، لأنّه لا يحتج بخبر الآحاد على المسائل الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها الإذعان ، إذ لا يحصل اليقين بالخبر الواحد. هذا وللبحث صلة لا يسعها المقام.

____________________

١. الرحمن : ٢٦.

٢. آل عمران : ١٨٥.

١٥٨

١٤

هل الأئمة يوحى إليهم أو أنهم محدَّثون

يقول الشيخ :

جاء في نهج البلاغة عن علي رضي‌الله‌عنه انّه قال في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرسله على حين فترة من الرسل ... فقفّى به الرسلَ وختم به الوحي». (١)

فأين هذا القول مما في الكافي (٢) «في الفرق بين الرسول والنبي والإمام ان الرسول ينزل عليه جبرائيل فيراه

____________________

١. نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣ ، شرح محمد عبده ؛ وشرح النهج.

٢. الكافي : ١ / ١٧٦.

١٥٩

ويسمع كلامه ، والإمام هو الّذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص» (١).

المناقشة :

لا شك ان سيدنا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله وخاتم الرسل وبه خُتم الوحي والرسالة ، ويعدّ ذلك من ضروريات الدين ، فمن أنكر الخاتمية فقد أنكر أصلا ضروريّاً من أُصول الإسلام ، وإنكاره يلازم إنكار رسالتة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أشبعنا البحث في ذلك في كتابنا «الخاتمية في الكتاب والسنّة» وذكرنا الآيات الكريمة والروايات المتضافرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل بيته عليهم‌السلام الدالة على الخاتمية.

وقد أشار الإمام علي عليه‌السلام إلى خاتمية الرسول في غير واحدة من خطبه ومنها في الخطبة الأُولى من قوله : «إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنجاز

____________________

١. تأمّلات في كتاب نهج البلاغة : ٢٩.

١٦٠