جعفر السبحاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
ISBN: 964-357-051-7
الصفحات: ١٨٧
وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منّي» (١).
وقال : «يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال لوَدِدْت أنّي لم أَرَكم ، ولم أعرفْكم معرفةً ـ والله ـ جرّت ندماً وأعقبتْ سَدَماً ، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً ، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان». (٢)
المناقشة :
إنّ فضيلة الشيخ يتصوّر أنّ أهل العراق كانوا على رأي واحد ، وكانوا كلهم شيعة الإمام عليهالسلام ، وذم الإمام عليهالسلام يتوجّه إلى شيعته وتابعيه ، وبذلك استدلّ على أنّ الشيعة
____________________
١. نهج البلاغة : الخطبة ٢٤ ط عبده ؛ شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٣٣.
٢. نهج البلاغة : الخطبة ٢٦ ، ط عبده ؛ شرح نهج البلاغة : ٢ / ٧٤ ـ ٧٥.
خالفوا إمامهم ، ولكنّه لو قلب صفحات التاريخ لوقف على أنّ أهل العراق كانت لديهم أهواء مختلفة ومشارب متنّوعة.
يقول ابن أبي الحديد : إنّ أصحاب علي كانوا فرقتين :
إحداهما : تذهب إلى أن عثمان قُتل مظلوماً وتتولاّه وتبرأ من أعدائه.
والأُخرى ـ وهم جمهور أصحاب الحرب وأهل الغَناء والبأس ـ : يعتقدون أنّ عثمانَ قتِل لأحداث أوجبت عليه القتل ، وقد كان منهم من يصرّح بتكفيره. وكل من هاتين الفرقتين يزعم أنّ علياً عليهالسلام موافق لها على رأيها ، وتطالبه في كل وقت بأن يبدي مذهبه في عثمان وتسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره ، وكان عليهالسلام يعلم أنّه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأُخرى وأسلمته وتولّت عنه وخذلته ، فأخذ عليهالسلام يعتمد في جوابه ويستعمل في كلامه
ما يظن به كل واحدة من الفرقتين أنّه يوافق رأيها ويماثل اعتقادها (١).
والإمام وإن كان يخاطب أهل الكوفة ويذمّهم ، إلاّ أنّ المجتمع الكوفي لم يكن آنذاك معقل الشيعة حسب ، بل كانت تتقاسمه اتجاهات مختلفة :
١ ـ طائفة كانت علويّة الهوى تقاتل مع علي عليهالسلام عن عقيدة وثبات بما أنّه خليفة الرسول الذي نصّ على خلافته في يوم الغدير وغيره ، وهم الشيعة الخلّص كعمار بن ياسر ، وحجر بن عدي ، وعمرو بن الحَمِق ، وصعصة بن صوحان ، وزيد بن صوحان ، وكميل بن زياد ، وميثم التمار ، وغيرهم من أعيان الشيعة وروّادهم.
٢ ـ طائفة أُخرى كانت على عقيدة التربيع ، وأنّ الإمام رابع الخلفاء وتجب إطاعته كإطاعة السابقين ، فلذلك أجابوا دعوته وحاربوا الناكثين في البصرة
____________________
١. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٧ / ٧٣ ـ ٧٤.
والقاسطين في صفين والمارقين في النهروان.
٣ ـ طائفة ثالثة كانت عثمانية الهوى ، وهم أهل البصرة الذين ساندوا طلحة والزبير في محاربتهما عليّاً ، ولمّا قُتلا انضمّوا إلى جيش علي عليهالسلام كرهاً لا طوعاً ، وكانوا يضمرون لعلي عليهالسلام الحقد والكراهية ، ويطيعونه في الظاهر.
٤ ـ طائفة رابعة هي الطابور الخامس لمعاوية ، كالأشعث بن قيس (ومن كان معه) الذي أفسد الأمر على الإمام في قضية رفع المصاحف ، وحتى خُدع به جمع غفير ممّن كان في عسكر الإمام عليهالسلام وإنْ ندموا على فعلهم فيما بعد ، وهم الخوارج.
والذي يوقفك على أنّ الإمام لا يخاطب فئة خاصة ، بل يخاطب المجتمع الكوفي بكافة عناصره ، ما رواه المؤرخون في أنّ الإمام عليهالسلام بعدما خاطب القوم بقوله : «يا أشباه الرجال ولا رجال حُلوم الأطفال ، وعقول ربَّات
الحجال» قام إليه رجل آدم طوال ، فقال : ما أنت بمحمد ، ولا نحن بأُولئك الذين ذكرت ، فقال عليهالسلام : «أحسن سمعاً تُحسن إجابة ، ثكلتكم الثواكل! ما تزيدونني إلاّ غمّاً! هل أخبرتكم أنّي محمد ، وأنّكم الأنصار! إنّما ضربت لكم مثلاً ، وإنما أرجو أن تتأسّوْا بهم» (١).
ثم قام رجل آخر ، فقال : ما أحوج أمير المؤمنين اليوم وأصحابه إلى أصحاب النهروان. ثم تكلّم الناس من كل ناحية ولغطوا ، وقام رجل منهم ، فقال بأعلى صوته : استبان فقدُ الأشتر على أهل العراق! أشهد لو كان حياً لقلّ اللغط ، ولعلم كلّ امرئ ما يقول.
فقال علي عليهالسلام : «هبلتكم الهوابل! أنا أوجب عليكم حقّاً من الأشتر ، وهل للأشتر عليكم من الحقّ إلاّ حقّ المسلم على المسلم»!
فقام حجر بن عدي الكندي وسعيد بن قيس
____________________
١. شرح نهج البلاغة : ١ / ٨٩ ـ ٩٠.
الهمداني ، فقالا : لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين ، مرنا بأمرك نتبعه ، فوالله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدتْ ، ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك ، فقال : «تجهّزوا للمسير إلى عدونا». (١)
وقد ابتُلي الإمام بهذه الطوائف المختلفة الأهواء المتعددة المشارب ، ومع ذلك حارب بها الناكثين والقاسطين والمارقين ، وهذا يدلّ على حكمته وصبره.
قال ابن أبي الحديد :
إنّ علياً كان يقرأ في صلاة الصبح وخلفه جماعة من أصحابه ، فقرأ واحد منهم رافعاً صوته ، معارضاً قراءة أمير المؤمنين عليهالسلام (إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلينَ) (٢) فلم يضطرب عليهالسلام ولم يقطع صلاته ولم يلتفت وراءه ، ولكنّه قرأ معارضاً له على البديهة (فاصْبِرْ
____________________
١. شرح نهج البلاغة : ١ / ٩٠.
٢. الأنعام : ٥٧.
إنّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ وَلا يَسْتَخفَّنّكَ الّذينَ لا يُوْقِنُونَ) (١). وهذا صبر عظيم (٢).
____________________
١. الروم : ٦٠.
٢. شرح نهج البلاغة : ٧ / ٧٣.
١١
الإمام ينهى عن الجزع في المصيبة
يقول الشيخ :
١ ـ وفي نهج البلاغة : وقال علي عليهالسلام بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مخاطباً إيّاه : لولا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون (١).
٢ ـ وذكر في نهج البلاغة أيضاً انّ علياً عليهالسلام قال : من ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط أجره (٢).
____________________
١. نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٠ ، شرح محمد عبده ؛ شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٤.
٢. نهج البلاغة : قصار الحكم ، ١٤٤ ؛ شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٣٤٢.
المناقشة :
إنّ فضيلة الشيخ ذكر هاتين الكلمتين تحت في عداد البحث عن الغلو مع أنّهما لا صلة لهما بالغلو وانّما هي مسألة أُخرى ، وهي جواز البكاء على الميت وعقد المجالس لأجله ، وهذه مسألة فقهية ثبت جوازها بقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وفعله ، وإليك التفصيل :
الحزن والتأثّر عند فقدان الأحبّة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية ، فإذا ابتلي الإنسان بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه ، يحسُّ بحزن شديد ، تُذرف على أثره الدموع ، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.
ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكارَ جد وموضوعية ، ومن الواضح بمكان انّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
قال سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (١).
____________________
١. الروم : ٣٠.
ولا يمكن لتشريع عالميٍّ أن يمنع الحزن والبكاء على فقد الأحبّة ويحرّم البكاء إذا لم يقترن بشيء يُغضبُ الربّ.
ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.
فهذا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يبكي على ولده إبراهيم ، ويقول : «العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولانقول إلاّ ما يُرضي ربنا ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون» (١).
روى أصحاب السِّيَر والتاريخ ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي ، جاء صلىاللهعليهوآلهوسلم فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه ووضعهُ في حجره ، وقال : «يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئاً ـ ثمّ ذَرفتْ عيناه وقال : ـ إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تَبكي العينُ ويحزن القلبُ ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولولا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل
____________________
١. سنن أبي داود : ١ / ٥٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨٢.
مأتيّة ، لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».
ولمّا قال له عبد الرحمان بن عوف : «أو لم تكن نهيت عن البكاء»؟ أجاب بقوله : «لا ، ولكن نَهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين ، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان ، وصوت عن نغمة لهو ، وهذه رحمة ، ومن لا يَرحم لا يُرحَم» (١).
وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه صلىاللهعليهوآلهوسلم عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل كان صلىاللهعليهوآلهوسلم بكى على ابنه «طاهر» ويقول : «إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن ، ولا نعصي الله عزّ وجلّ» (٢).
هذا ولو حاولنا أن نجمع الموارد التي بكى فيها النبي والصحابة والتابعون على أعزائهم عند افتقادهم ، لخرجنا برسالة مفردة ولكننا نقتصر هنا على بعض الموارد : (٣)
____________________
١. السيرة الحلبية : ٣ / ٣٤٨.
٢. مجمع الزوائد للهيثمي : ٣ / ٨.
٣. لاحظ كتابنا «بحوث قرآنية في التوحيد والشرك» : ١٤١ ـ ١٤٩.
١ ـ لما أُصيب حمزة رضياللهعنه وجاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه فحال بينها وبينه الأنصار ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوها ، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإذا نشجت نَشَجَ ، وكانت فاطمة عليهاالسلام تبكي ، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّما بكت يبكي ، وقال : لن أُصاب بمثلك أبداً (١).
٢ ـ ولما رجع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهن ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم لا تبكين أحداً حتى تبدأن بحمزة ، قال : فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلاّ بدأن بحمزة (٢).
٣ ـ وهذا هو صلىاللهعليهوآلهوسلم ينعى جعفراً وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وعيناه تذرفان (٣).
____________________
١. امتاع المقريزي : ١٥٤.
٢. مجمع الزوائد : ٦ / ١٢٠.
٣. سنن البيهقي : ٤ / ٧٠.
٤ ـ وهذا هو صلىاللهعليهوآلهوسلم قد زار قبر أُمه وبكى عليها وأبكى من حوله (١).
٥ ـ وهذا هو صلىاللهعليهوآلهوسلم يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميت ودموعه تسيل على خده (٢).
٦ ـ وهذا هو صلىاللهعليهوآلهوسلم يبكي على ابن لبعض بناته ، فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الرحمة التي جعلها الله في بني آدم وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء (٣).
٧ ـ وهذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقول : يا أبتاه مِنْ ربه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه (٤).
____________________
١. سنن البيهقي : ٤ / ٧٠.
٢. سنن أبي داود : ٢ / ٦٣.
٣. سنن أبي داود : ٢ / ٥٨ ، سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨١.
٤. مستدرك الحاكم : ٣ / ١٦٣.
إذا وقفت على ذلك لتبيّن ان البكاء على الميت والحزن على فقدان الأحبّة أمر جميل جرت عليه السيرة ، نعم الجزع المُعرِب عن الاعتراض على قضاء الله أمر مذموم وهذا ما قصده الإمام من قوله : «ولو لا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع».
إنّ ما أجاب به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على اعتراض عبد الرحمان بن عوف يوضح ما هوالمنهي عنه في المقام حيث قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما نهيت عن صوتين أحمقين ، وآخرين : صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنة شيطان» ومعنى ذلك هو انّ المنهي عنه هو الجزع الملازم لخمش الوجوه وشق الجيوب ورنة الشيطان ، ومن المعلوم أنّ الجزع بهذا المعنى لا يفارق الاعتراض على قضاء الله وتقديره ، وأين هو من البكاء على فقد الأحبّة ، مسلّماً لقضاء الله وراضياً بتقديره ، دون أن يتكلّم بشيء يغضب الربّ أو يعمل عملاً يسخطه.
والّذي يدلّ على ذلك أنّ الإمام جعل ضرب اليد على الفخذ عند المصيبة سبباً لحبط أجره ، لأنّ الضرب نظير خمش الوجوه وشقّ الجيوب.
والحاصل : انّ البكاء والندب على فقد الأحبة وتبادل التعازي ، لا ينافي الصبر الّذي أمرنا الله به سبحانه وقال : (وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (١).
وليس كبح النفس عن البكاء ، وعدم تذريف الدموع آية الصبر ، وخلافها آية الجزع بل يجمعهما الرضا بالقضاء والقدر سواء أبكي أم لا ، ذرفت عينه الدموع أم لا.
نعم ، بقي هنا كلام ، وهو ان فضيلة الشيخ ندّد بمظاهر الحزن التي تُنشر في أيام عاشوراء وجعلها من أمارات الجزع.
ونُلفت نظر فضيلة الشيخ إلى النقاط التالية ، وإنْ كان
____________________
١. البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٦.
الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام :
الأُولى : إنّ اجتماع الشيعة في أيّام عاشوراء وإظهار الحزن على ما جرى على الحسين عليهالسلام وأولاده وأصحابه في ذلك اليوم ، يُعد من مظاهر الحب للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وآله ، ومن الواضح أنّ حبَّ الرسول وأهل بيته من أُصول الإسلام ، فقد تضافرت الأدلّة على ذلك ويكفيك ما يلي!
فقد أمر الكتاب والسنّة بحب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وودّه أوّلاً ، وتكريمه وتوقيره ثانياً ، وحثّ عليهما في الشريعة قال سبحانه : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (١).
١ ـ وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى
____________________
١. التوبة : ٢٤.
أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» (١).
٢ ـ وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده وولده» (٢).
٣ ـ وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ثلاث من كنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما ، وأن يُحبّ في الله ويُبغض في الله ، وأن تُوقَد نار عظيمة ، فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً (٣).
وهل يشك أحد في أنّ إظهار الحزن والندب يوم عاشوراء بصور ومظاهر مختلفة آية حب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام ، نعم كثيراً ما نسمع من خطباء الحرمين أنّ الحبّ هو الاتّباع ، وهذا لا يخالف ما ذكرنا فإنّ للتعبير عن الحب مظاهر مختلفة ، فالاتّباع من مظاهره ، كما أنّ الفرح يوم فرحهم والحزن يوم حزنهم من مظاهره.
____________________
١. جامع الأُصول : ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ برقم ٢٠ و ٢١ و ٢٢. وهنا روايات ، تعطف حبّ العترة على حب الرسول فلاحظ.
٢. المصدر السابق.
٣. المصدر السابق.
الثانية : إنّ إقامة المآتم ليس أمراً بدْعيّاً ، فقد قام بها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حال حياته وأهل بيته بعد رحيله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مواقف مختلفة ، نذكر منها موردين ليكون نموذجاً لما لم نذكر :
١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند عن عبد الله بن نجيّ ، عن أبيه : أنّه سار مع علي رضياللهعنه فلما جازوا نينوى وهو منطلق إلى صفين ، فنادى علي : اصبر أبا عبد الله! اصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات! قلت : وماذا؟ قال : دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات يوم وعيناه تفيضان. قلت : يا نبي الله : أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال : بل قام من عندي جبريل قبل فحدّثني : أنّ الحسين يُقتل بشطِّ الفرات ، قال : فقال : هلَ لك إلى أن اشهدك من تربته؟ قال : قلت : نعم ، فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا (١).
____________________
١. مسند أحمد : ٢ / ٦٠ ـ ٦١.
٢ ـ أخرج الحافظ الترمذي عن رزين قال : حدثتني سلمى ، قالت : دخلت على أُم سلمة وهي تبكي فقلت : ما يبكيك؟ قالت رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ تعني في المنام ـ وعلى رأسه ولحيته التراب ، فقلت : مالك يا رسول الله؟ قال شهدتُ قتل الحسين آنفاً (١).
اقتصرنا على ذكر هذين الموردين ، ومن أراد الوقوف على عدد المآتم التي أُقيمت في عصر الرسول وبعد رحيله بين أهل بيته فعليه الرجوع إلى كتاب «سيرتنا وسنتنا سيرة نبيّنا وسنته» للعلاّمة الأميني.
الثالثة : إن الغاية من عقد المجالس وتشكيل الأندية ليس هو إظهار الحزن والندب على شهيد الطف فحسب ، بل ثمة غاية أُخرى وهي تخليد الثورة الحسينية في نفوس الأُمّة حتى يتّخذها الأحرار نبراساً مضيئاً ينير درب الجهاد والتضحية ، فإن الحسين عليهالسلام كما يعرّفه ابن أبي الحديد
____________________
١. سنن الترمذي : ١٣ / ١٩٣.
هو : سيد أهل الإباء الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف ، اختياراً له على الدنيّة ، أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهالسلام عُرض عليه الأمان ، فأنف من الذل ، وخاف من ابن زياد ان يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله ، فاختار الموت على ذلك. (١)
نعم ، إنّ الذين يسودهم الجبن ويروْن الخروج على الإمام الظالم حراماً لا تروقهم تلك المظاهر الحزينة ويكنّون للأحرار وسيّدهم حقداً دفيناً ، يقول الشيخ عمر النسفي في كتابه العقائد النسفية :
ولا ينعزل الإمام بالفسق ـ أي الخروج على طاعة الله تعالى وظلم عباده ـ لأنّ الفاسق من أهل الولاية ، وربّما يعلّل ذلك بأنّه قد ظهر الفسق واشتهر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ولا يروْن الخروج عليهم. (٢)
____________________
١. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٤٩.
٢. شرح العقائد النسفية ممزوجاً مع المتن : ١٨٥ ـ ١٨٦.