الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

وقوله تعالى ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ١.

وقد فسر المجوزون نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه واقع على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن ومتشابِهِه ، أو أُريد بالرأي الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه أو مجمل النهي ، أو من يقول في القرآن بظاهر العربية دون أن يرجع إلى المأثور ، وبالتالي فإنّ المفسر بالرأي الذي يستعين بالمأثور وأدوات التفسير الأُخرى من اللغة العربية وعلومها وعلوم القرآن والتاريخ والفقه وأُصوله وعلى العقائد وغيرها ، مما ذكرها الباحثون شروطاً للمفسرين ٢ لايمكن أن يكون مشمولاً بالنهي الوارد في الحديث ٣ ، وهذا يعنى ـ حسب رأي هذا الفريق ـ أن هناك نوعين من التفسير بالرأي : أحدهما جائز معتبر ، وهوالذي تراعى فيه الأُصول والمعايير المعتبرة لدى المفسرين ، والتي لايخرج منها المفسر من أحكام الشريعة وروح القرآن الكريم ، والنوع الآخر هو النوع المنهي عنه والذي لايلتزم فيه المفسر بالمعايير والضوابط المعروفة التي درج عليها المفسرون ، وبالتالي فسوف تأتي تفسيراتهم ، وهي تحمل معها بذور التناقض والخلاف مع الأحكام الإسلاميّة والمنطق القرآني.

هذا وإن التفسير بالرأي قد اتّخذ مسارات وطرقاً مختلفة تتناسب ونوع الثقافة التي حصل عليها المفسر وطريقة التفكير في المدرسة التي ينتمي إليها ، ويمكن ذكر أهم المناحي التفسيرية في هذا المجال وهي :

١. المنحى الفقهي في التفسير : وهو المنهج الذي سلكه المفسرون في بيان آيات الأحكام ، وتوضيح المراد منها ، وقد اتسع هذا الإتجاه من التفسير بعد أن ظهرت المذاهب الإسلاميّة المختلفة ، والتي اختلف معها المفسّرون كلّ حسب مايعتقده ومايتبناه من أفكارٍ ومفاهيم ، فلأهل السنة بمذاهبهم الأربعة تفسير فقهي متنوع تبعاً لهذه المذاهب الفقهية ، وكذلك الظاهرية والخوارج ، ٤ وآخرون غيرهم.

____________

١. محمد ( ٤٧ ) الآية : ٢٤.

٢. السيوطي ، الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٠.

٣. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٢٥٣ ومابعدها.

٤. نفس المصدر ، ص ٤٣٢ ومابعدها.

٨١

فللحنفية كتاب أحكام القرآن لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص ( ت ٣٧٠ ه‍ ) ، وعند الشافعية كتاب أحكام القرآن لأبي الحسن الطبرى ( ت ٥٤٠ ه‍ ) ، ولدى المالكية كتاب ( أحكام القرآن ) لأبي بكربن العربي ( ت ٥٤٣ ه‍ ).

٢. المنحى العقيدي : والذي نشأ بسبب اتجاه رجال كلّ فرقة إلى إعمال عقولهم في تأويل النص القرآني ، وتحكيم معتقداتهم فيه ، ومِن ثمّ استخراج الأدلة منه على سلامة اتّجاههم ١.

وقدكان هذا المنحى خطيراً جداً حيث ظهرت امتدادات الصراع الفكري والعقائدي بشكلٍ مؤثر حاول الكثير من الفرق تسخير كتاب الله وجره بما ينسجم ومتبنياتها واتجاهاتها ، فتأولت آيات الكتاب بشكل قسري ، وكثيرا ماكانت تبتعد فيه عن الروح الموضوعية والنزاهة ، وقدكان للمعتزلة دورٌ كبيرٌ في هذا الميدان ، حيث إنّهم حاولوا تطويع النص القرآني لما يخدم أفكارهم ، وركبوا عامل اللغة للوصول إلى هذا الهدف ، وتفسير الكشاف للزمخشري ٢ حافل بهذا النوع من التأويل والتفسير الذي تطفح فيه النزعة الاعتزالية بشكل جلّي ، يقابله في الجانب الآخر الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب ، والذي دافع فيه عن أهل السنة وأبرز النزعة الأشعرية ، وهاجم المعتزلة ، وأشبع تفسيره نقداً لهم واحتجاجاً عليهم ، كما ودخل علماء المدرسة الإماميّة حلبة الصراع وطرحوا أراءهم ومعتقداتهم في كتب التفسير ، حيث لم يكونوا متفقين مع المعتزلة في جميع معتقداتهم ، وكذلك مع أهل السنة ٣ ، إلى جانب ذلك فقد ظهرت فرقٌ اُخرى عديدة أخذت تتوسّل بالقرآن في إثبات عقائدها وأفكارها كالخوارج والجهمية والمرجئة وغيرهم ٤.

__________________

١. الشحات زغلول ، الاتجاهات الفكرية في التفسير ، ص ١٨٤

٢. نفس المصدر.

٣. شرح المفسرون من الإماميّة أفكارهم في مسألة الصفات ورؤية الله وخلق القرآن والعدل والحسن والقبح والعصمة والتقية والرجعة إلى غير ذلك من المسائل المختلف عليها مع الفرق الإسلاميه الاُخري.

٤. علي سامي النشار ، نشاة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٨٢

٣. المنحى الفلسفي : وقدنشأ هذا المنهج بعد اتصال المسلمين بغيرهم فيما بعد عصرالفتوحات ، وكذلك بعد أن نشطت حركة الترجمة من الكتب والثقافات الأُخرى كاليونانية والفارسية والهندية ١ ، فقام الفلاسفة المسلمون بمحاولة التوفيق بين الثقافة الإسلاميّة وغيرها من الثقافات الأُخرى ، كما حاولوا التوفيق بين الفلسفة وبين الدين الإسلامي من خلال تأويل النصوص الدينية ، وحملها على معان تتفق وماتقول به الفلسفة ٢.

فالفارابي فسر الملائكة بأنّها صورٌ علميةٌ ، جواهرها علوم ابداعيّةٌ قائمةٌ بذواتها ، تلحظ الأمر الأعلى فينطبع في هوياتها ماتلحظ ، وهي مطلقةٌ لكن الروح القدسية تخاطبها في اليقظة ، والروح النبوية تعاشرها في النوم ٣ وفسر ابن سينا قوله تعالى ( الله الصَّمد ) فقال : للصمد في اللغة تفسيران : أحدهما الذي لاجوف له ، والثاني : السيد ، فعلى التفسير الأول معناه سلبي ، وهو إشارةٌ إلى نفي الماهية ، فإن كان ماله ماهية فله جوف وباطن ، وهوتلك الماهية ، ومالابطن له ، وهو موجود فلاجهة ولا اعتبار في ذاته إلا الوجود ، والذي لااعتبار له إلا الوجود فهو غيرُ قابلٍ للعدم ، فإنّ الشيء من حيث هو هو موجود غير قابل للعدم ، إذ الصمد الحق واجب الوجود مطلقاً من جميع الوجوه ، وعلى هذا التفسير الثاني معناه إضافي ، وهو كونه سيّداً للكلّ أي مبدأ للكلّ ٤.

٤. المنحى الباطني : وأصحاب هذا المذهب هم من الإسماعيليّة الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن الإمام جعفرالصادق ، والباطنية كانت قد ظهرت أيام حكم الأامون العباسي ، وانتشرت في زمان المعتصم ٥.

وقد أسرفت هذه الفرقة في التمسك بباطن الآيات القرآنية دون ظاهرها المعلوم من اللغة ، وقالوا : إنّ نسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشور متشبثين بقوله تعالى :

__________________

١. السيد خليل ، نشأة التفسير ، ص ٥٥.

٢. الشحات زغلول ، الاتجاهات الفكرية في التفسير ، ص ٣٠١.

٣. نفس المصدر ، ص ٣١٧.

٤. الشحات زغلول ، الاتجاهات الفكرية في التفسير ، ص ٣٢٧.

٥. عبدالقاهر البغدادي ، الفرق بين الفِرَق ، وبيان الفِرقة الناجية منهم ، ص ١٧٠.

٨٣

( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) ١.

وقد أفرد الغزالي كتاباً خاصّاً لنقض أفكارهم والتشهير بهم سماه فضائح الباطنية ، يقول في بعض فقراته :

ولمّا عجزوا عن صرف الخلقِ عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق زخرفوها ، واستفادوا إبطال معاني الشرع ، وكلّ ماورد من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأُمور الإلهية ، فكلها أمثلة ورموزٌ إلى بواطن ٢.

وذكر بعضاً من نماذجهم التفسيرية منها :

الزنى هو القاء نطفة العلم الباطن في نفس مَنْ لم يسبق معه عقد العهد.

والاحتلام : هو أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله ، فعليه الغسل ، أي تجديد المعاهدة.

أما نار إبراهيم فهي غضب نمرود لا النار الحقيقية.

وذبح إسماعيل معناه أخذ العهد عليه ٣.

ومثل هذا التفسير لم يجد رواجاً واسعاً ، خاصة وأنّه يخالف النصوص القرآنية مخالفةً صريحة ، كما ولم يدعمه أصحابه بما يوثقه من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أحاديث الأئمة من أهل البيت باعتبارهم من القائلين بإمامة علي والحسنين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق عليهم‌السلام.

٥. المنحى الصوفي : وأصحاب هذا المذهب من المتصوفة الذين عرفوا بالاتجاه الروحي ، والذين يغلب عليهم طابع الزهد والتقشّف ، وقد حاول هؤلاء اخضاع القرآن الكريم إلى مايعتقدونه ، شأنهم بذلك شأن غيرهم من أصحاب المذاهب المختلفة ، وقدجاء تفسيرهم لآيات القرآن الكريم متميزاً بالرمزيّة واستعمال الإشارة في التعبير ، وهم في ذلك يلتقون مع الباطنية في بعض المواقف التفسيرية إزاء النصوص ، وهم في منحاهم هذا

__________________

١. نفس المصدر ، ص ١٨١ ، مناهل العرفان للزرقاني ، ج ٢ ، ص ٧٤ والآية : الحديد ( ٥٧ ) ١٣.

٢. الغزالي ، فضائح الباطنية ، تحقيق عبدالرحمن بدوي ، ص ٥٥.

٣. الغزالي ، فضائح الباطنية ، ص ٥٥ ومابعدها.

٨٤

يستندون إلى ما في القرآن من دعوة للتامل والتدبر ، والى ماروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل آية ظهرٌ وبطنٌ ، ولكلّ حرفٍ حدٌّ ، ولكلِّ حدٍّ مطلعٌ و ... ١ ، وبذلك تأولوا آيات القرآن الكريم ، وفسروها بما يتناسب ورؤاهم ، ومن ذلك تفسير قوله تعالى ( وَإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماءُ وإنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ) ٢ ، فذكروا أن مراتب القلوب في القسوة مختلفة فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح بترك الملذات والشهوات وبعض الأشياء والمشبهة بخرق العادات ، كما يكون لبعض الرهبانيين واليهود.

والتي تشقق ( فَيَخْرُج مِنْهُ المَاءُ ) هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحُجُب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء والتي ( يَهْبِطُ مِن خَشيَةِ الله ) مايكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحُجُب ، فيقع فيها الخوف والخشية وهذه المراتب مشتركةٌ بين المسلمين وغيرهم ٣.

٣ ـ التفسير اللغوي : وقد تبنى أصحاب هذا المنهج استخدام اللغة كاداةٍ أساسيةٍ في فهم النص القرآني واستخلاص معاني الآيات منه باعتباره نصّاً أدبيّاً معجزاً ، ومن أشهر أصحاب هذا الاتجاه الفراء ( ت ٢٠٧ ) ، ومن ثمّ جاء أبو عبيده ( ت ٢١٠ ) ، واعقبهم في ذلك ثعلب ( ت ٢٩١ ) ، وغيرهم ممن كتبوا في معاني القرآن ، وقد أوجد هذا الاتجاه حركةً واسعةً في مجال الدراسات اللغوية ، فظهرت بعد ذلك آثار علمية في غريب القرآن وأمثال القرآن ومصادرهاوغيرها ٤ ، وقد أكثر أصحاب هذا الإتجاه من الاستشهاد بالشعر العربي على الآيات القرآنية ، وعنوا عنايةً خاصّةً باللغة صرفتهم عن الاشتغال بالقصص القرآني وتفصيل القول فيه ٥ ،

__________________

١. الشاطبي ، الموافقات ، ج ٣ ، ص ٣٨٢.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ٧٤.

٣. نظام الدين النيسابوري ، غرائب القرآن ورغائب الفرقان ، ج ١ ، ص ٣٤٨.

٤. السيد خليل ، نشأة التفسير ، ص ٥٨.

٥. أبوعبيدة ، مجاز القرآن ، ج ١ ، ص ١٦٨.

٨٥

وقد أثر هذا الاتجاه تاثيراً خاصّاً في استحصال التحليل الذي لايدع النصَّ مخلقاً أو مطوّياً على نفسه دون الاستفادة بكل ما فيه من إيثار لفظةٍ على اُخرى أو حرف على آخر ١ ، ولعل أوّل من حفز على انتهاج هذا السبيل هو ابن عباس حينما قال : إذا سالتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر ، فإنّ الشعر ديوان العرب ٢.

وصف مجمل للتبيان

يقع التبيان في عشرة مجلدات ضخمة تحتوي على (٥٣١٢) صفحةً ، وقد افتتح الشيخ ‌الطوسي تفسيره بمقدمةٍ قصيرة أشار فيها إلى الأسباب التي دعته أن يكتب هذا التفسير ، حيث قال :

ان الذي حملني على الشروع في عمل هذا الكتاب ، إني لم أجد أحداً من أصحابنا ـ قديماً وحديثاً ـ من عمل كتاباً يحتوي على تفسير جميع القرآن ، ويشتمل على فنون معانيه ، وإنّما سلك جماعةٌ منهم في جميع مارواه ونقله وانتهى إليه في الكتب المروية في الحديث ، ولم يتعرض أحدٌ منهم لاستيفاء ذلك وتفسير مايحتاج إليه ، فوجدت من شرع في تفسير القرآن من علماء الأُمة ، بين مطيل في جميع معانيه ، واستيعاب ماقيل فيه من فنونه كالطبري وغيره ، وبين مقصّرٌ اقتصر على ذكر غريبه ومعاني ألفاظه ، وسلك الباقون المتوسطون في ذلك مسلك ماقويت فيه منتهم ، وتركوا مالامعرفة لهم به ، فإنّ الزجاج والفراء ومن اشبههما من النحويين افرغوا وسعهم في الإعراب والتصريف ، ومفضل بن سلمة وغيره استكثروا من علم اللغة واشتقاق الألفاظ ، والمتكلمين كأبي علي الجبائي وغيره صرفوا همتهم إلى مايتعلق بالمعاني الكلامية ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الكلام في فنون علمه ، فأدخل فيه مالايليق به من بسط فروع الفقه واختلاف الفقهاء كالبلخي وغيره ، وأصلحُ من سلكَ في ذلك مسلكاً جميلاً مقتصداً محمد بن بحر أبومسلم الإصفهاني وعلي بن عيسي الرماني ، فإنّ كتابيهما أصلح ماصنّف في هذا

__________________

١. السيد خليل ، دراسات في القرآن ، ص ٧٠.

٢. القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، ط ٢ ، ج ١ ، ص ٢٤.

٨٦

المعنى ، غير أنهما أطالا الخطب فيه ، وأوردا فيه كثيراً مما لايحتاج ، وسمعت جماعةً من أصحابنا ـ قديماً وحديثاً ـ يرغبون في كتابٍ مقتصدٍ يجتمع على جميع فنون علم القرآن من القراءة والمعاني والإعراب والكلام على المتشابه والجواب عن مطاعن الملحدين فيه وأنواع المبطلين كالمجبرة والمشبهة والمجسمة وغيرهم ، وذكرمايختص أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحة مذاهبهم في أُصول الديانات وفروعها. ١

بناءً على ذلك كتب الشيخ الطوسي تفسيره الذي يمكننا أنْ نصفه بما يلي :

١. من حيث المنهج استطاع المفسر أن ياتي بتفسيرٍ يعتمد على الأثر والمنقول كمايعتمد على المعقول ، واعتماده الأثر كان يتم وفق ضوابط ومعايير خاصةٍ ، أساسها النقد والمحاكمة والترجيح وفي خصوص التفسير يشترط الطوسي مراعاة الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ، وبذلك رسم الخطوط العامّة لهذا المنهج التفسيري الذي لم يتجاوزها أثناء التفسير ، بل ظل ملازماً لها وملتزماً بها في تبيانه.

٢. في بداية كلّ سورةٍ يريد تفسيرها يشيرُ الطوسي إلى عدد آياتها وينبه إلى الاختلاف الحاصل بين القراء في العدد إنْ وجد.

ففي سورة الحج قال : وهي ثمانٌ وسبعون آيةً في الكوفي ، وستٌ في المدنيين ، وخمسٌ في المكّي ٢

بينما أكّد عدم وجود الخلاف في عدد آيات سورة الزخرف فقال : وهي تسعٌ وثمانونَ آيةً بلاخلافٍ ٣.

وهكذا يعمل في بداية كلّ سورة.

٣. ينبّه المفسّر إلى المكّي والمدني من الآيات في كلّ سورةٍ ، مع ذكر أسماء بعض المفسرين وآراءهم بذلك.

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٢

٢. انظر التبيان ، ج ٧ ، ص ٢٥٥.

٣. نفس المصدر ، ج ٩ ، ص ١٧٧.

٨٧

ففي سورة المنافقون قال : مدنية بلاخلاف ، وهو قول ابن عباس وعطاء والضحاك١.

وعن سورة عبس قال : مكية في قول ابن عباس والضحاك ٢.

كما يبين الشيخ الطوسي الأقوال المختلفة في كون الآيات مكية أم مدنية ، كما في سورة الأنفال حيث قال : هذه السورة مدنية في قول قتادة وابن عباس ومجاهد وعثمان ، وقال : هي أول مانزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحكى عن ابن عباس أنّها مدنية إلا سبع آيات أولها ( وَإنْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِين كَفَرُوا ) إلى آخر سبع آيات بعدها ٣.

ومثل هذا الاختلاف بين المفسرين ذكره الطوسي عند تفسيره لسورة النحل فقال :

وهي مكية إلا آية هي قوله ( وَالَّذِينَ هاجَرُوا في الله مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ).

وقال الشعبي : نزلت النحل كلّها بمكة إلا قوله ( وإن عاقَبتُم ) ... إلى آخرها.

وقال قتادة : من أوّل السورة إلى قوله ( كُنْ فَيَكُون ) مكّي والباقي مدني.

وقال مجاهد : أوّلها مكّي وآخرها مدني ٤.

٤. يشير المفسر في اوائل السور أحياناً إلى وجود النسخ أو عدمه في السورة ، فهو في تفسيره لسورة السجدة قال : ليس فيها ناسخٌ ولامنسوخٌ ٥ ومثل ذلك قاله في تفسيره لسورة الرعد ٦.

بينما نجده في سورة الأعراف يذكر اختلاف المفسّرين حول وقوع النسخ فيها فيقول:

وقال قوم : هي محكمةٌ كلّها ، وقال آخرون : حرفان منها منسوخان :

أحدهما : قوله ( خُذِ العَفْو ) يريدُ من أموالهم وذلك قبل الزكاة.

والآخر : قوله ( وَأعرِضْ عَنِ الجاهِلين ) نسخ بآية السيف ٧.

__________________

١. نفس المصدر ، ج ٥ ، ص ٧١.

٢. نفس المصدر ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٣. نفس المصدر ، ج ٥ ، ص ٧١.

٤. نفس المصدر ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٥. نفس المصدر ، ج ٩ ، ص ١٠١.

٦. نفس المصدر ، ج ٦ ، ص ٢١١.

٧. يريد بها الآية ٥ من سورة التوبة ( ٩ ) : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ

٨٨

وقال قوم : ليس واحد منهما منسوخاً ، بل لكلِّ منهما موضع والسيف له موضعٌ.

وهنا قال الطوسي مرجحاً للرأي الثاني : وهو الأقوى ، لأن النسخ يحتاج إلى دليلٍ ١.

٥. يشرح المفسر آراء اللغويين والاختلافات الواردة في آرائهم ، وقد يرد على بعضها ، ويرجح البعض الآخر ، كما ويطرح رأياً خاصّاً به مخالفاً بذلك كلّ الآراء المطروحة ٢ وقد يستعينُ الشيخ الطوسي بذكر الآراء اللغويّة لكشف المقصود من الآية ولبيان المعنى المستودع فيها.

٦. يذكر المفسر من الآعراب وآراء النحاة مايعينه على استيضاح معنى الآية ، وفهم المراد منها ، وهو في هذا المجال يناقش آراء النحاة ، ويرد على بعضهم ، وقد يرجح آراء البعض الآخر ، كما يورد احياناً آراء خاصّةً به مما يؤكد قدرته العالية في هذا الباب ٣.

٧. لايحظى الشعر عند الطوسي باهميةٍ خاصّةٍ في تفسيره ، وإن أكثر من الاستشهاد به ، كما وأنّه لايرقى لأن يكون حجّة لإثبات حقيقةٍ دينيّةٍ ، وإنّما يذكره لتأكيد المعنى ، أو تاييداً لاستعمال لغوي ضمن السياق القرآني ، وقد لايذكر أسماء الشعراء الذين يستشهد بشعرهم ، وربما يعود ذلك إلى قلة إكتراثه بهم ٤.

٨. استخدم عدداً من الأمثال مما قالتهُ العربُ في استيضاح بعض المعاني أو المفاهيم ، ولكنّه لم يكثر منها ٥

٩. اكثر من الحديث حول القراءات وبين آراء جمع من القراء والاختلاف في قراءتهم ولكنّه أجاز القراءة بأيٍّ من القراءات المشهورة ، ولم يعترض على واحدةٍ منها ٦.

__________________

وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ).

١. انظر التبيان ، ج ٤ ، ص ٣٤٠.

٣. انظر صفحة ١٧٥ ومابعدها من هذه الرسالة.

٣. انظر صفحة ١٨٩ ومابعدها من هذه الرسالة.

٤. انظر صفحة ٢١٩ ومابعدها من هذه الرسالة.

٥. انظر صفحة ٢١٧ ومابعدها من هذه الرسالة.

٦. انظر صفحة ٢٠٦ ومابعدها من هذه الرساله.

٨٩

١٠ ـ تخفّف الشيخ الطوسي في تفسيره من البلاغة ، ولم يسهب في الكلام حولها ، وربماكان يشير إليها أحياناً دون عناية مشهودة ، ولم اجد في التبيان ما يؤكد اهتمام المفسر بها ، كماهو الحال في القراءة أو اللغة والإعراب ، وقد ذكرها في موارد معدودة كما في تفسيره لقوله تعالى :

( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ١

فقال :

والمكر وان كان قبيحاً ، فإنّما أضافه تعالى إلى نفسه لمزاوجة الكلام ، كما قال : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ٢ وليس باعتداء ، وإنما هو جزاءٌ ، وهذا أحدُ وجوه البلاغة ، لأنه على أربعة أقسام :

أحدها : المزاوجة نحو ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله ).

والثاني : المجانسة نحو قوله : ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ٣ بالنصب على مجانسة الجواب للسؤال.

والثالث : المطابقة نحو قوله ( مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا ) ٤ وبالنصب على مطابقة يتبع الجواب للسؤال.

والرابع : المقابلة نحو قوله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ). ٥ و ٦

١١. استعان الشيخ الطوسي في تفسير الآيات بذكر آياتٍ اءخرى ليفسر بعضها بالبعض الاخر وفقا لمبدا تفسير القرآن بالقرآن ٧ كما واستفاد من السياق والنظم بين الآيات

__________________

١. آل عمران ( ٣ ) الآية ٥٤.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ١٩٤.

٣. النور ( ٢٤ ) الآية ٣٧.

٤. النحل ( ١٦ ) الآية ٣٠.

٥. القيامة ( ٧٥ ) ٢٢ ـ ٢٥.

٦. التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٧٦ ،

٧. انظر صفحة ١٣٣ وما بعدها من هذه الرسالة.

٩٠

لاستجلاء الكثير من المعاني من خلال ربط الآيات القرآنية بما قبلها من آيات كريماتٍ.

١٢. يكثر الشيخ الطوسي من ذكر آراء المفسرين ، فيفند بعضها ويناقش بعضها الآخر ، ليردَّ ما يردُّ عن بينة ، ويقبل ما يقبل عن بيّنةٍ ، وقد كانت الثقة العالية بالنفس تدعوه أحياناً ، لأنّ يخالف جمهور المفسرين داعماً رأيه بالدليل والبرهان.

١٣. ردّ الشيخُ الطوسي على أهل الكتاب وناقشهم في معتقداتهم ، كما ناقش أصحاب المدارس الكلاميّة من الإسلامييّن ، واعترض على الكثير من مقولاتهم ، كما هو الحال في رده على المعتزلة والأشاعرة والخوارج والمجبرة والمشبهة والمجسمة والقائلين بأن المعارف ضرورية وما شاكلهم ، كما ودافع بحماسٍ منقطع النظير عن الإماميّة ومعتقداتهم ١.

١٤. عند تفسيره للآية القرآنية كان يذكرها ثم يورد ما يتعلّق بها من القراءة وأسباب النزول ـ إن وجدت ـ واللغة ومن ثمّ المعنى ، وهنا نورد هذا النموذج من تفسيره :

قوله تعالى :

( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ الله مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ٢

القراءة :

قرأ ابن كثير والكسائي ( وسلوا ) بغير همزة ، وكذلك كلّما كان أمر للمواجهة ٣ في جميع القرآن ، الباقون بالهمزة ، ولم يختلفوا في ( وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ) ٤ ، لأنّه أمرٌ لغائبٍ ، قال أبوعلي الفارسي : كلاهما جيد ، إنْ ترك الهمزة او أثبتها ٥.

النزول :

وقيل في سبب نزول هذه الآية إنّ اُم سلمة قالت : يا رسول الله لانغزو مع الرجال ولنا نصفُ الميراث ، يا ليَت كنّا رجالاً ، فكنا نقاتل معهم ، فنزلت هذه الآية في قول مجاهد.

____________

١. انظر الشيخ الطوسي وعقائده الإماميّة ، ص ٢٧٩ ، وما بعدها من هذه الرسالة.

٢. النساء ( ٤ ) الآية ٣٢.

٣. في المصدر للمواجه.

٤. الممتحنة ( ٦٠ ) الآية ١٠.

٥. في المصدر واثباتها.

٩١

وقال الزّجاج : قال الرجال ليتنا كنا فضلنا في الآخرة على النساء ، كما فضلنا عليهن في الدنيا ، وبه قال السدي.

اللغة :

والتمني هو قول القائل : ليت كان كذا لِما لم يكن ، وليت لم يكن كذا لِما كان ، وفي الناس من قال : هو معنى في القلب ، وقال الرماني : هو ما يجب على جهة الاستمتاع به. ومن قال : هو معنى في القلب ، قال : ليس هو من قبيل الشهوة ، ولا من قبيل الإرادة ، لأنّ الإرادة لاتتعلّق إلا بما يصح حدوثه ، والتمنّي قد يتعلّق بما مضى ، والشهوة أيضاً كالإرادة في أنها لاتتعلّق بما مضى.

المعنى :

وظاهر الخطاب يقتضي تحريم تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض ، وقال الفراء : هوعلى جهة الندب والاستحباب ، والأوّل هو حقيقة التمني ، والذي قلناه هو قول أكثر المفسرين ووجه تحريم ذلك أنّه يدعو إلى الحسد ، وأيضاً فهو من دنايا الأخلاق ، وأيضاً فأنّ تمني الإنسان لحال غيره ، قد يؤدي إلى تسخّط ما قسم الله له ، ولايجوز لأحدٍ أن يقول ، ليت مال فلان لي ، وإنّما يحسن أن يقول : ليت مثله لي.

وقال البلخي : لايجوز للرجل أن يتمنى إن كان امرأةً ، ولا للمرأة ان تتمنى لو كانت رجلا بخلاف ما فعل الله ، لأنّ الله لايفعل من الأشياء إلا ما هو أصلح ، فيكون قد تمنى ما ليس باصلح ، او ما يكون مفسدة ، ويمكن أنّ يقال : إنّ ذلك يحسن بشرط أنْ لايكون مفسدة ، كما يقول في حسن السؤال سواء. ١

ومثل هذا الطرح في التفسير نجده في أغلب صفحات التبيان عند تفسيره لآيات القرآن الكريم.

١٥. تجنب الطوسي التكرار الممل والاختصار المخلّ ، وكذلك الاسهاب من غيرضرورةٍ ، وبهذا كان المفسِّر معتدلاً مقتصداً في كلّ ما طرح.

ويبقى الشيخ الطوسي أحد أولئك الرواد في التفسير الذين أسدوا خدمةً جُلّى لتوضيح معاني الكتاب العزيز واستجلاءِ أسراره ، وفي ذلك يصرّح أبوعلي الفضل بن الحسن

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ١٨٣.

٩٢

الطبرسي (٥٤٨) ، الذي هو أحد تلامذة الشيخ الطوسي وصاحب تفسير مجمع البيان ، حيث يقول في معرض وصفه للتبيان :

إنّه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق ويلوح عليه رواء الصدق ، قد تضمن من المعاني الأسرار البديعة ، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة ، ولم يقتنع بتدوينها دون تبيينها ، ولابتنميقها دون تحقيقها ١.

وبهذا يكون التبيان أوّل محاولة تفسيرية كاملةٍ عند الشيعة الإماميّة التي لازالت موضع تقدير العلماء وإجلالهم.

__________________

١. الطبرسي. مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٠.

٩٣
٩٤

الفصل الثاني :

الجانب العقلي في التبيان

إنّ معرفة الطرق التي يسلكها المفسر ـ أي مفسر ـ لتبيان المعنى المراد من النص القرآني ، تسهم مساهمةً حادة وفعالة في استيضاح منهجه في التفسير ومنحاه في استنطاق آيات الكتاب العزيز.

ولعل الحديث حول مسلكي الرأي والأثر عند الشيخ الطوسي ، والمحصلة النهائية التي نستخلصها من طبيعة التفاعل القائم بين المسلكين ، والعلاقة الناشئة من خلال ربط احدهمابالاخر ، سوف تسلط الأضواء على منهجية مفسّرنا ، وتُعيننا بالتالي على تحديد تلك المنهجية ، والتعرف على خصائصها ومميزاتها الأساسية ، ولذلك جهدت في أن أعرض للجانب العقلي في التبيان بفصل خاص ، ثم خصصت الحديث في الفصل التالي للجانب الأثري من التفسير عند الطوسي ، مبيّناً طريقته في تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنّة ، بعدها تحدثت عن استخدام الشيخ الطوسي للجانب اللغوي في الكشف عن مدلول الآيات القرآنية ومعانيها ، والصفحات التالية في هذا الباب ستوضح منهج الطوسي في التفسير وأُسلوب تناوله للآيات القرآنية الكريمة وطريقته في التعامل مع النص القرآني لمعرفة معناه.

أكد الشيخ الطوسي على اهمية التفكر ، واعتمد أُسلوب النظر في فهم النصوص القرآنية

٩٥

واستعمال العقل في معرفة آيات الله وأحكامه ، وقد حفل التبيان بالعديد من الإشارات التي تنم عن المنهجية العقلية التي كان يتبعها مفسرنا في تصديه لتفسير آيات الكتاب العزيز والتي يمكن تلخيصها فيما يلي :

موقف الطوسي من النظر والاستدلال في آيات اللّه

تبنى الشيخ الطوسي موقفاً مؤيداً لاستخدام العقل والنظر في فهم أُمور الشريعة ، وقد أورد الكثير من الردود في تفسيره على الذين يقولون بحرمة النظر ، كما استدل بالقرآن على صحة رأيه القائل بضرورة النظر وإعمال العقل ، وهنا نورد بعض الأمثلة التي امتلأبها تفسير التبيان منها :

مثال :

فى تفسيره للآية الكريمة :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ١ قال الشيخ الطوسي :

والمَثَلُ ذكرٌ سائر يدل على أنّ سبيل الثاني سبيل الأوّل ، فذكر الله آدم بأن أنشأه من غير والدٍ ، يدل على أنّ سبيل الثاني سبيل الأول في باب الإمكان والقدرة ، وفي ذلك دلالةٌ على بطلان قول من حرم النظر ، لأنّ الله تعالى احتج به على المشركين ، ولا يجوز أن يدلهم إلا بما فيه دليلٌ ، فقياس خلق عيسى من غير ذكرٍ كقياس خلق آدم ، بل هو فيه أوجب ، لأنّه في آدمُ من غير أُنثى ولا ذكرٍ ٢.

مثال : وعند تفسيره لقوله تعالى :

( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ٣

قال الطوسي :

__________________

١. آل عمران ( ٣ ) الآية ٥٩.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٨٢.

٣. الملك ( ٦٧ ) الآية ٢٢.

٩٦

وفي الآية دلالة على وجوب النظر في الدين لأنّه تعالى ضرب المثل بالناظر في مايسلكه ، حتّى خلص إلى الطريق المستقيم ، فمدحه بهذا ، وذم التارك للنظر مكبّاً على وجهه ، لايثق بسلامة طريقه ١.

مثال : وعند تفسيره لقوله تعالى :

( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ) ٢

قال الطوسي :

وفي الآية دلالة على صحة استعمال النظر ، لأن الله ( تعالى ) أقام الحجة على المشركين بقياس النشأة الثانية على النشأة الأُوّلى ، وأنّه يلزم من أقر بالأُوّلى أن يقر بالثانية ٣.

كما وقد تبنى الشيخ الطوسي مبدأ الأخذ بالقياس العقلي واعتباره حجّةً ، كما في تفسيره لقوله تعالى :

( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) ٤

فقال : وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي ، وهو أنّ من قدر على إحياء الإنسان قادر على إحيائه بعد الإماتة ٥.

وفي الوقت الذي نجد الشيخ الطوسي يدلل على صحة القياس العقلي ، نجده لايقرّ بصحّة القياس في الشريعة ، فيقول عند تفسيره لقوله تعالى :

( ... فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) ٦

ومن استدلّ بهذه الآية على صحّة القياس في الشريعة فقد أبعد ، لأنّ الاعتبارَ ليس من القياس في شيء وإنّما معناه الاتّعاظُ ولايليقُ بهذا الموضع قياس في الشرع ، لأنّه لو قال

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٦٨ و ٦٩.

٢. يس ( ٣٦ ) الآية ٧٧.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٨ ، ص ٤١٨.

٤. القيامة ( ٧٥ ) الآية ٤٠.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٢٠٣.

٦. الحشر ( ٥٩ ) الآية ٢.

٩٧

بعد قوله : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيدْيِ المُؤْمِنِينَ ) فقيسوا الأَرُزَ على الحنطة لما كان كلاماً صحيحاً ، ولا يليق بما تقدم ، وإنّما يليق بما تقدم الاتعاظ والانزجار عن مثل أفعال القوم من الكفر باللّه. ١

٢. رفضه للفكرة القائلة بأنّ المعارف ضرورية

وقد استدل المفسر بأُسلوب عقلي رائع على القائلين بها وفند مزاعمهم ، ومن ذلك قوله عند تفسيره للآية الكريمة :

(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ٢

فقال :

وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال : إنّ المعارف ضرورةٌ ، لأنّها لو كانت ضرورةً لماجاز أن يدعوهم إلى خلافها ، كما لايدعوهم إلى خلاف ما هم مضطرون إليه من أنّ السماء فوقهم والأرض تحتهم ، وما جرى مجراه مما يعلم ضرورة ٣.

كما ورد الشيخ الطوسي على القائلين بأنّ المعارف ضرورة عند تفسيره لقوله تعالى :

( وًإذا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ أشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأخِرَةِ ) ٤.

فقال : وفي قوله اشمأزّتْ قلوبهم دليلٌ على فسادِ قول من يقول : المعارف ضرورة.

وقال الطوسي عند تفسيره لقوله تعالى :

( وَإذا قِيلَ لَهُم تَعالَوا إلى ما أنزَل الله وإلى الرَّسولِ قَالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيهِ آباءَنا أوْ لَوْ كانَ أباؤُهُم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ ) ٥

وفيها دلالة على وجوب المعرفة ، وأنّها ليست ضروريّة ، لأنّ الله تعالى بيّنَ الحِجاجَ

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٥٥٨.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ١٦٩.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٧٤.

٤. الزمر ( ٣٩ ) الآية ٤٥.

٥. المائدة ( ٥ ) الآية ١٠٤.

٩٨

عليهم في هذه الآية ، ليعرفوا صحة ما دعا الرسول إليه ، ولو كانوا يعرفون الحق ضرورةً لم يكونوا مقلدين لآبائهم ، وكان يجب أن يكون آباؤهم أيضاً عارفين ضرورة ولو كانوا كذلك لماصح الإخبار عنهم بأنّهم لايعلمون شيئاً ولايهتدون ، وإنّما نفى عنهم الاهتداء والعلم معاً ، لأن بينهما فرقاً ، وذلك أنّ الاهتداء لايكون إلا عن بيان وحجة ١.

٣. رفضه التقليد في أُصول الدين

رفض الشيخ الطوسي التقليد في الأُمور الاعتقادية شأنه في ذلك شأن كل أتباع المذهب الإمامي القائل بعدم صحة الاعتقاد المبني على التقليد والاتّكال على تقليد المربين أو الآباء :

بل يجب على الإنسان بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل في أُصول اعتقاداته المسماة بأُصول الدين ، التي أهمها التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاده هذه الأُصول فقد ارتكب شططاً وزاغ عن الصراط المستقيم ، ولايكون معذوراً أبداً ٢.

وقد أكّد الشيخ الطوسي رفضه التقليد في ثنايا تفسيره ، ورد على القائلين به في أكثر من مناسبة ، فهو عند تفسيره لقوله تعالى :

(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) ٣

قال :

والتقليدُ قبيح بموجب العقل ، لأنّه لو كان جائزاً للزم فيه أن يكون الحق في الشيء ونقيضه ، فيكون عابد الوثن يقلّد أسلافه ، وكذلك يقلّد أسلافه اليهودي والنصراني والمجوسي ، وكلّ فريق يعتقد أنّ الآخر على خطإٍ وضلال ، وهذا باطل بلاخلافٍ ، فإذاً

__________________

١. الطوسي ، التبيان ج ٤ ، ص ٣٩ ٤٠.

٢. المظفر ، عقائد الإماميّة ، ص ٣٢.

٣. الزخرف ( ٤٣ ) الآية ٢٣.

٩٩

لابدّ من الرجوع إلى حُجّةِ عقل أو كتابٍ منزلٍ من قبل الله تعالى ١.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ٢

قال :

وفي الآية حجة على أصحاب المعارف وأهل التَقْليد لأنّه ذم الفريقين ، ولو كان الأمرعلى مايقولون لماتوجه عليهما الذم ٣.

وفي تفسيره قوله تعالى :

(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ٤

قال :

معنى هذه الآية أنْ الحِجاجَ بأنْ الطريق الموصل إلى صِحّة مذهبهم غير مسند .... ؟ اذالم يثبت مِن جهة حجّة عقلٍ ولاسمعٍ ، وما لم يصح أن يثبت من أحد هذين الوجهين باطل لامحالة ٥.

ثم يردف الطوسي قائلاً :

وفي الآية دلالة على فساد التقليد ، لأنّه لو كان التقليدُ جائزاً لما طالب الله الكفار بالحجة على صحة مذهبهم ، ولما كان عجزهم على الإتيان بها دلالة على بطلان ما ذهبوا إليه ٦.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ١٩٠.

٢. الأعراف ( ٧ ) الآية ٢٨.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٣٨٣.

٤. الأنعام ( ٦ ) الآية ١٥٠.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٣١٢.

٦. نفس المصدر ، ص ٣١٣.

١٠٠