الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

الفصل الثاني :

الشيخ الطوسي وعقائد الامامية

تحدث القرآن الكريم في آياتٍ عديدةٍ عن مسائل عقيدية كانت غايةً في الاهمية كصفات الله وخلق القرآن وافعال العباد ، هل هي من خلق الله ام من تدبير الإنسان نفسه؟ إلى جانب مسائل اخرى لاتقل عن هذه اهميةً في مجال العقيدة ، وقد قراها الصحابة والرعيل الاول من المسلمين ، فامنوا بها دون ان يقولوا شيئاً بصددها ، حتى اذا ما اذن النصف الاول للقرن الهجري الاول بالانصراف ، واذا بالمدرسة الإسلاميّة تعيش حالة ارهاصاتٍ لولادة بعض الفرق والمذاهب ، حيث ظهرت عندئذ القدرية ، فكان معبد بن خالد الجهني ( ت ٨٠ ه‍ ) اول من تكلم بالقدر حيث كان يقول : « لاقدر والامر انف » ١ ، وبهذا يكون القدرية قد فتحوا بابا للكلام بين المسلمين اخذ بالانتشار والتوسع شيئاً فشيئاً ، فظهرت بعدذلك الجهمية والتي تنسب إلى جهم بن صفوان ( ت ١٢٨ ه‍ ) ، وهو من القائلين بالجبر ، وقد وافق جهم اراء المعتزلة في نفي الصفات الازلية الا انه خالفهم في اراء اخرى كثيرةٍ منها : انه لايجوز وصف البارئ بصفة يوصف بها خلقه ، لان ذلك يقتضي تشبيهاً ، فنفى كونه حيا عالما واثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً ، لانه لايوصف شيء من خلقه بالقدرة والفعل

____________

١. البغدادي ، الفرق بين الفرق ، ص ( ١٤ )

٢٦١

والخلق ، وان الإنسان ، لايقدر على شيءٍ ، ولايوصف بالاستطاعة ، وانما هو مجبورٌ في افعاله ، لاقدرة له ولا ارادة ولا اختيار ١.

ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت المعتزلة ، والتي كان واصل بن عطاء المتوفّى سنة ١٣١ ه‍ شيخها وقديسها ٢ ، وراح هؤلاء ينقضون اراء الجبرية ، وينفون ما اكده الصفاتيون ، واعتقدوا باصولٍ خمسةٍ ، عرف بها المذهب الاعتزالي فيما بعد ، وهي :

التوحيد ، العدل ، المنزلة بين المنزلتين ، الوعد والوعيد ، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ٣.

وقد اثارت اراء المعتزلة موجةً من الصراع الحاد بينهم وبين السلفيين ، وخاصة في مسالة الصفات الالهية ، وفي هذا يقول الشهرستاني :

اعلم ان جماعةً كبيرةً من أهل السلف كانوا يثبتون للّه ( تعالى ) صفاتٍ ازليةً من العلم والقدرة والحياة والارادة والسمع والبصر والكلام والجلال والاكرام والجود والانعام والعزة والعظمة ، ولايفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل ، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً ، وكذلك يثبتون صفاتٍ خبرية مثل اليدين والرجلين ، ولايؤولون ذلك الا انهم يقولون :

هذه الصفات قد وردت في الشرع ، فنسميها صفاتٍ خبرية ، ولماكان المعتزلة ينفون الصفات ، والسلف يثبتون سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة ٤.

وقد دخل حلبة الصراع جمع اخر من أهل السلف ، كان ابرزهم ابو الحسن الأشعري ، ثم تلاه الباقلاني والجويني والغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم ، وهؤلاء جوزوا الكلام في المسائل الاعتقادية على نحو يختلف مع ماكان عليه بعض السلفيين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الذين حرموا الكلام فيها ، واوجبوا الايمان بها على ماهو ظاهر من

__________________

١. الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٨٦.

٢. المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٥٤.

٣. القاضي عبدالجبار ، شرح الاصول الخمسة.

٤. الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٢.

٢٦٢

نصوص الكتاب والسنة الشريفة ١.

ولقد كان للمدرسة الإماميّة راي في كل مسالة من المسائل التي اثير الكلام حولها ، وسنتعرض لها بشيء من التفصيل ، مع ذكر اراء الشيخ الطوسي فيها باعتباره مفسّراً يتعرض في تفسيره للايات القرآنية التي كانت مثار جدلٍ بين الفرق الإسلاميّة ، ولكونه شيخ الطائفة ومتكلم الشيعة ٢ وفقيه الإماميّة ٣ ، وسنحاول استجلاء موقف الشيخ ‌الطوسي من خلال تفسير التبيان ازاء اصول الدين الخمسة التي تؤمن بها المدرسة الإماميّة ، والتي هي ( التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد ) ٤.

التوحيد

اجمع المسلمون على الايمان بوحدانية الله تعالى ، والامامية ٥ يعتقدون بهذا الاصل كما يعتقد به غيرهم ، وقد امنوا بان الله ( تعالى ) واحدٌ احدٌ ليس كمثله شيء قديم لم يزل ولايزال ، هو الاول والاخر عليم حليم عادل حي قادر غني سميعٌ بصيرٌ لايوصف بماتوصف به المخلوقات ، وقالوا : بانه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات ، فكما يجب توحيده في الذات ( اوّلاً ) ، يجب توحيده في الصفات ( ثانياً ) ، وكذلك يجب توحيده في العبادة ( ثالثاً ) ، فلاتجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه ٦ ، ومثل هذا قال المعتزلة فذكروا :

ان الله واحد ، ليس كمثله شي ، وليس بجسمٍ ولاشبحٍ ولاجثّة ولاصورةٍ ، ولايتحرّكُ ولايسكن ، ولايتبعض ، ولايحيط به مكان ، ولايجري عليه زمان ، ولايوصف بشيءٍ من

__________________

١. مصطـفى حلمي ، قواعد النهج السلفي والنسق الإسلامي في مسائل الالوهية والعالم والانسان عند ابن تيمية.

٢. ابن كثير ، البداية والنهاية ، ج ١٢ ، ص ٩٧.

٣. ابن الجوزي ، المنتظم ، ج ٨ ، ص ١٧٩.

٤. الزنجاني ، عقائد الإماميّة الاثني عشرية ، ص ١١١.

٥. يقول الشيخ المفيد في تسمية الشيعة بالامامية مانصه ( فاما السمة للمذهب بالامامية ووصف الفريق من الشيعة بالامامية فهو علم على من دان بوجوب الامامة ووجودها في كل زمان ) انظر المفيد ، اوائل المقالات ، ص ٧.

٦. المظفر ، عقائد الإماميّة ، ص ٣٦. ٣٧.

٢٦٣

صفات الخلق الدالة على حدثهم ، ولاتدركه الحواس ، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ، ولايزال كذلك ١.

وقداكد الشيخ الطوسي وحدانية الله تعالى خلال تفسيره ، فقال عند تفسيره لقوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ٢ :

لوصح الهان او الهة لصح بينهما التمانع ، فكان يؤدي ذلك إلى ان احدهما اذا اراد فعلاً واراد الاخر ضده ، اما ان يقع مرادهما فيؤدي إلى اجتماع الضدين ، او لايقع مرادهما فينتقض كونهما قادرين ، او يقع مراد احدهما فيؤدي إلى نقض كون الاخر قادراً ، وكل ذلك فاسدٌ ، فاذن لايجوز ان يكون الاله الا واحداً ٣.

وعلى هذا فان الله ( تعالى ) :

واحدٌ في الالهية والازلية ، ولايشبهه شيءٌ ، ولايجوز ان يماثله شيءٌ ، وانه فردٌ في المعبودية لاثاني له فيها على الوجوه كلها والاسباب ، وعلى هذا اجمع أهل التوحيد الا من شذ من أهل التشبيه ، فانهم اطلقوا الفاظه وخالفوا في معناه ) ٤.

ومثل هذا المعنى يوكده الشيخ الطوسي في مكان اخر من التبيان فيقول :

ويدل على ان خالق الجسم لايشبهه ، لانه لواشبهه لكان محدثاً مثله ، ويدل على انه قديم ، لانه لوكان محدثاً لاحتاج إلى محدث ، ولادى ذلك إلى مالايتناهى ٥.

صفات الله تعالى

تعرض الشيخ الطوسي في تفسيره إلى مسالة الصفات ، ورد على المجسمة والمشبهة في اكثر من موضع ، واكد في اكثر من مكان من تبيانه ان الله خالقٌ قادرٌ عالم قديم فقال في

__________________

١. الأشعري ، مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٢٣٥ وما بعدها.

٢. الانبياء ( ٢١ ) الآية ٢٢.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٧ ، ص ٢١١. ٢١٢.

٤. المفيد ، اوائل المقالات ، ص ١٧.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٧٩.

٢٦٤

تفسيره لقوله تعالى :

(إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ) ١.

وفي السماوات والارض لايات للمؤمنين الذين يصدقون باللّه ، ويقرون بتوحيده وصدق انبيائه ... ، وفي السماوات والارض دلالات على الحق من وجوه كثيرة ، منها انه يدل بخلقها على ان لها خالقاً ، وانه قادر لايعجزه شيء ، وانه مخالف لها ، فلايشبهها ، وعلى انه عالم بما فيها من الإتقان والانتظام ، وفي استحالة تعلق القدرة بها دلالة على ان صانعها قديم غير محدثٍ ، ويوقفها مع عظمها وثقل اجرامها بغير عمد ولاسند يدل على ان القادر عليها قادر على الاتيان بما لايتناهى ، ولايشبه احد من القادرين ، وانه خارج من حد الطبيعة ٢.

وهذا ما اكده الامام علي بن موسى الرضا ثامن ائمة الإماميّة بقوله :

الاقرار بانه لا اله غيره ولاشبيه له ، ولا نظير له ، وانه مثبتٌ قديمٌ موجودٌ غير فقير ، وليس كمثله شي. ٣ كما وقال الطوسي عند تفسيره لقوله تعالى :

(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ٤.

وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قيل في معناه ثلاثة اقوال :

احدها : ليس مثل الله شيء من الموجودات ولا المعدومات.

الثاني : قال الرماني : انه بلغ في نفي الشبيه اذا نفى مثله ، لانه يوجب نفي الشبه على التحقيق والتقدير ، وذلك انه لوقدر له مثلٌ لم يكن له مثل صفاته ، ولبطل ان يكون له مثل ، ولتفرده بتلك الصفات ، وبطل ان يكون مثلاً له فيجب ان يكون من له مثل هذه الصفات على الحقيقة لامثل له اصلاً ، اذ لو كان له مثلٌ لم يكن هو بصفاته ، وكان ذلك الشيء الاخرهو الذي له تلك الصفات.

__________________

١. الجاثية ( ٤٥ ) الآية ٣.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٢٤٥.

٣. الصدوق ، عيون اخبار الرضا ، ج ١ ، ص ١٣٣.

٤. الشورى ( ٤٢ ) الآية ١١.

٢٦٥

الثالث : انه نفى ان يكون لمثله مثل واذا ثبت انه لا مثل لمثله فلا مثل له أيضاً ، لانه لو كان له مثل لكان له امثال ١.

وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) معناه انه على صفة يجب ان يسمع المسموعات اذا وجدت ويبصر المبصرات اذا وجدت وذلك يرجع إلى كونه حياً لا افة به ٢.

وقداكد الشيخ الطوسي ايمانه بتنزيه الله عن اوصاف المخلوقين متبعاً في ذلك قول الامام جعفر الصادق ـ سادس ائمة أهل البيت ـ في هذا الصدد حيث يقول (ع) :

هو عز وجل مثبتٌ موجودٌ لامبطل ولامعدود ولا في شيء من صفة المخلوقين ، وله ( عزوجل ) نعوتٌ وصفاتٌ واسماؤه حاويةٌ على مخلوقين مثل السميع والبصير والرؤوف والرحيم واشباه ذلك ، والنعوت نعوت الذات لاتليق الا باللّه تبارك وتعالى ، واللّه نورٌ لاظلام فيه وحيٌّ لا موت له وعالمٌ لا جهل فيه وصمدٌ لا مدخل فيه ، ربنا نوري الذات حي الذات عالم الذات صمدي الذات ٣.

وقد اوضح الشيخ الطوسي هذا الراي الذي عليه اجماع الإماميّة في كل مناسبة يمر عليها عبر آيات الكتاب العزيز فقال في تفسيره لقوله تعالى :

( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) ٤

قال الطوسي :

اختلف المفسرون في وجه مسالة موسى عليه‌السلام ذلك مع ان الرؤية بالحاسة لاتجوز عليه تعالى على ثلاثة اقوال :

احدها : انه سال الرؤية لقومه حين قالوا له (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً) ٥.

الثاني : في اصل المسالة : انه سال العلم الضروري الذي يحصل في الآخرة ، ويكون في

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ١٤٧.

٢. نفس المصدر ، ص ١٤٨.

٣. الصدوق ، التوحيد ، ص ٩٣.

٤. الأعراف ( ٧ ) الآية ١٤٣.

٥. البقرة ( ٢ ) الآية ٥٥.

٢٦٦

الدنيا ، ليزول عنه الخواطر والشبهات ، والرؤية تكون بمعنى العلم كما يكون الادراك بالبصر كما قال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ١.

والثالث : انه سال ايةً من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لايختلج فيه الشك ، كما يعلم في الاخر وهذا قريب من الثاني.

وقوله تعالى : (لَن تَرَانِي) جواب من الله ( تعالى ) لموسى انه لايراه على الوجه الذي ساله ، وذلك دليل على انه لايرى في الدنيا ولافي الآخرة ، لان « لن » تفيد التابيد. ٢

واما التجلي الذي ورد في النص القرآني فيفسره الشيخ الطوسي بما لايخالف راي الإماميّة في الصفات فيقول :

وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) معناه اظهر اياته التي احدثها في الجبل لحاضري الجبل بان جعله دكا. ٣

وقداكد الشيخ الطوسي عدم جواز رؤية الله تعالى في معرض رده على المجسمة والمشبهة فقال عند تفسيره لقوله تعالى :

(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) ٤ :

وقدظن قوم من المشبهة ان قوله (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ) انهم يشاهدونه وهذا فاسدٌ لان المشاهدة لاتجوز الا على الاجسام او على ما هو حال في الاجسام وقد ثبت حدوث ذلك اجمع فلايجوز ان يكون تعالى بصفة ما هو محدثٌ. ٥

ومثل هذا الموقف كان الطوسي قد اتخذه عند تفسيره لقوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ٦.

__________________

١. الفيل ( ١٠٥ ) الآية ١.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٥٣٥. ٥٣٦.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٥٣٦.

٤. الأنعام ( ٦ ) الآية ٣٠.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١١٣.

٦. الأنعام ( ٦ ) الآية ١٠٣.

٢٦٧

فقال :

وفي هذه الآية دلالةٌ واضحةٌ على انه تعالى لايرى بالابصار ؛ لانه تمدح بنفي الادراك عن نفسه ، وكلما كان نفيه مدحاً غير متفضل به فاثباته لايكون الا نقصاً ، والنقص لايليق به تعالى. ١

وبهذا يتفق الشيخ الطوسي مع اراء المعتزلة وبعض الصحابة في عدم جواز القول برؤية الله ( تعالى ) ولذلك يقول :

وقال الشعبي ٢ : قالت عائشة : من قال ان احدا راى ربه فقد اعظم الفرية على الله وقرات الآية ، وهو قول السدي وجماعة أهل العدل من المفسرين كالحسن والبلخي والجبائي والرماني وغيرهم ... وقال أهل الحشو والمجبرة بجواز الرؤية على الله تعالى في الآخرة ، وتاولوا الآية على الاحاطة وقد بينا فساد ذلك. ٣

ولم تنفرد الإماميّة بالقول بعدم جواز الرؤية على الله ( تعالى ) ، بل شاركهم في هذا الراي المعتزلة والخوارج والزيديّة وكثيرٌ من أهل الحديث ، وهذا ما اوضحه الشيخ المفيد حيث يقول :

لايصحّ رؤية الباري سبحانه بالابصار ، وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر من ائمة الهدى من ال محمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه جمهور أهل الإماميّة وعامة متكلميهم الا من شذ منهم لشبهة عرضت له في تاويل الاخبار ، والمعتزلة باسرها توافق أهل الامامة في ذلك ، وجمهور المرجئة وكثيرٌ من الخوارج والزيدية وطوائف من اصحاب الحديث ، ويخالف فيهم المشبهة اخوانهم من اصحاب الصفات. ٤

وقال الطوسي في تفسيره لقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ٥.

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٢٢٣.

٢. الشعبي : هو ابو عمرعامربن شراحيل الكوفي من كبار التابعين كان فقيها شاعرا توفّي سنة ١٠٤ هـ. انظرالمسعودي ، مروج الذهب ، ج ٣ ، ص ٤٠١.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٢٢٦.

٤. المفيد ، اوائل المقالات ، ص ٢٣.

٥. القيامة ( ٧٥ ) الآية ٢٣.

٢٦٨

وقوله : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) معناه منتظرةٌ نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم.

وقوله (وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ١ معناه لاينيلهم رحمته.

وقال الطوسي في تفسيره لقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ٢.

وقوله : (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) معناه منتظرةٌ نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم وقوله (وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ٣ معناه لاينيلهم رحمته ، ويكون النظر بمعنى المقابلة ومنه المناظرة في الجدل ....

وليس النظر بمعنى الرؤية اصلاً بدلالة انهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم اره فلوكان بمعنى الرؤية لكان متناقضاً ....

ثم يقول :

ولوسلمنا ان النظر يعدل الرؤية لجاز ان يكون المراد انها رؤية ثواب ربها ، لان الثواب الذي هو انواع الملذات من الماكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته ويجوز أيضاً ان يكون إلى واحد الالاء وفي واحدها لغات ( الا ) مثل قفا و ( إلى ) مثل معى و ( إلى ) مثل حسى فاذا اضيف إلى غيره سقط التنوين ، ولايكون ( إلى ) حرفاً في الآية وكل ذلك يبطل قول من اجاز الرؤية على الله تعالى ٤.

وليس لاحد ان يقول :

ان الوجه الاخير يخالف الاجماع ، اعني اجماع المفسرين وذلك لانا لانسلم لهم ذلك بل قد قال مجاهد وابو صالح والحسن وسعيد بن جبير والضحّاك : ان المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي عليه‌السلام ٥.

وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي ويقولون : نظر الغضبان ونظر الراضي ونظر عداوة ونظر مودّةٍ قال الشاعر :

__________________

١. آل عمران ( ٣ ) الآية ٧٧.

٢. القيامة ( ٧٥ ) الآية ٢٣.

٣. آل عمران ( ٣ ) الآية ٧٧.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ١٩٨.

٥. نفس المصدر ، ص ١٩٩.

٢٦٩

تخبرني العينان ما الصدر كاتمٌ

ولاحن بالبغضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كذلك فانهم لايضيفونها فدل على ان النظر غير الرؤية والمرئي هوالمدرك ولاتصح الرؤية وهي الادراك الا على الاجسام او الجوهر او الالوان .. ومن شرط المرئي ان يكون هو او محله مقابلا او في حكم المقابل وذلك يستحيل عليه تعالى ، فكيف نجيز الرؤية عليه تعالى؟ ١

ووفق هذا التصور فسر الشيخ الطوسي ( الوجه ) في قوله تعالى:

(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ٢

فقال : المراد بالوجه فيه اختلاف ، قال الحسن ومجاهد : المراد به فثم جهة القبلة ، وهي الكعبة ، لانه يمكن التوجه اليها من كل مكان.

وقيل : معناه فثم وجه الله فادعوه كيف توجهتم.

وقال اخرون واختاره الرماني والجبائي : فثم رضوان الله ، كما يقال وهذا وجه العمل ، وهذا وجه الصواب ، وكانه قال : للوجه الذي يؤدي إلى رضوان الله ٣.

ومثل ذلك قاله في تفسيره للفظة (يَدُ اللَّهِ) في قوله تعالى : (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)٤.

قيل في معناه قولان :

احدهما : عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم ، لانهم بايعوا الله ببيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والاخر : قول الله في نصرة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فوق نصرتهم.

وقيل : يداللّه في هدايتهم فوق ايديهم بالطاعة ٥.

وبهذا يكون الشيخ الطوسي وضح المعنى بما ينسجم والراي الذي اجمع عليه الإماميّة بعيدا عن كل تجسيم او تشبيه بصفات المخلوقين.

وعند تفسيره لقوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ١٩٩.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ١١٥.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ١١٤ ، ١١٥.

٤. الفتح ( ٤٨ ) الآية ١٠.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٣١٩.

٢٧٠

وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ١.

قال : ومعنى الآية ان الارض باجمعها في مقدوره كما يقبض عليه القابض فيكون في قبضته وكذلك قوله (وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) معناه اي في مقدوره طيها وذكرت اليمين مبالغةً في الاقتدار والتحقيق للملك ٢.

وقداكد الشيخ الطوسي ان التشبيه كفرٌ باللّه عز وجل وذلك عند تفسيره لسورة الاخلاص فقال :

وقوله (اللَّهُ الصَّمَدُ) وقيل في معناه قولان :

احدهما : قال ابن عباس وشقيق وابو وائل : انه السيد المعظم.

الثاني : ان معناه الذي يصمد إليه بالحوائج ليس فوقه احد.

ثم اردف قائلاً : ومن قال : الصمد بمعنى المصمت ، فقد جهل الله ، لانه المصمت هو المتضاغط الاجزاء ، وهو الذي لاجوف له ، وهذا تشبيه وكفر باللّه تعالى.

وقوله (لَمْ يَلِدْ) نفي منه تعالى لكونه والداً له ولدٌ.

وقوله (وَلَمْ يُولَدْ) نفي لكونه مولوداً له والدٌ ، لان ذلك من صفات الاجسام وفيه ردٌّ على من قال : ان عزير والمسيح ابناء الله تعالى وان الملائكة بنات الله ٣.

قوله : (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) نفي من الله تعالى ان يكون له مثلٌ او شبيهٌ او نظيرٌ ٤.

خلق القرآن

يجمع الإماميّة على ان القرآن مخلوقٌ محدثٌ لم يكن ثم كان ٥.

وهم بذلك يقصدون الالفاظ والحروف المقروءة التي تضمنها كتاب الله تعالى الذي انزله على نبيه الامين محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

١. الزمر ( ٣٩ ) الآية ٦٧.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٤٥.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٠ ، ٤٣١.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤٣١.

٥. المظفر ، دلائل الصدق ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٢٧١

وهكذا يتضح اعتقاد الإماميّة في هذه المسالة والى هذا المعنى اشار السيد الطباطبائي في الميزان بقوله :

ان اريد بالقرآن هذه الآيات التي تتلوها بما انها كلام دالٌّ على معان ذهنيةٍ فهو ليس بحسب الحقيقة لاحادثاً ولا قديماً ، وانما هو متصف بالحدوث بحدوث الاصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام والقرآن ، وان اريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شيء حقاً قديماً بقدمه ، فالقرآن قديمٌ اي علمه تعالى به قديمٌ ١.

اما الأشعري فيذهب إلى انّ :

القرآن باعتباره كلاماً يدل على معنى العلم الالهي الذي هو عين الذات ، فانه قديمٌ من هذه الجهة ، وعليه فلا يمكن ان يوصف بوصفٍ زماني ، فهو ليس بقديمٍ ولامخلوقٍ ولكنّه كلام الله ٢.

والشيخ الطوسي قال كغيره من علماء الإماميّة بحدوث القرآن ، ودافع عن هذا بحماسٍ ، ومن ذلك قوله عند تفسيره للآية الكريمة (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) ٣ :

وفي هذه الآية دلالةٌ على ان القرآن محدث ، لانه تعالى اخبر انه ليس ياتيهم ذكر محدثٌ من ربهم الا استمعوه ، وهم لاعبون ، ثم قال : والاستماع لايكون الا في الكلام ، وقد وصفه بانه محدثٌ فيجب القول بحدوثه ٤.

كما واكد الشيخ الطوسي مثل هذا المعنى عند تفسيره لقوله تعالى :

(وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) ٥

فقال :

__________________

١. الطباطبائي ، الميزان ، ج ١٤ ، ص ٢٤٧.

٢. الأشعري ، مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ١١٤.

٣. الانبياء ( ٢١ ) الآية ٢.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ٧ ، ص ٢٠٢.

٥. الانبياء ( ٢١ ) الآية ٥٠.

٢٧٢

وفي ذلك دلالة على حدوثه ، لان مايوصف بالانزال وبانه مبارك يتنزل به لايكون قديما ، لان ذلك من صفات المحدثات ١.

ونجده في موضع اخر وعند تفسيره لقوله تعالى :

(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ٢ يقول :

وفي الآية دليلٌ على ان القرآن غير الله ، وان الله هو المحدث له والقادر عليه ، لان ماكان بعضه خيراً من بعض او شراً من بعض فهو غير الله لامحالة ، وفيها دليل ان الله قادرٌ عليه وماكان داخلاً تحت القدرة فهو فعلٌ والفعلُ لايكون الا محدثاً ، ولانه لوكان قديماً لما صح وجود النسخ فيه ٣.

وظل الشيخ الطوسي متبنياً لراي الإماميّة في مسالة خلق القرآن ، ويستثمر لذلك الراي والدفاع عنه كل مناسبة يمكنه الحديث من خلالها حول هذا الموضوع ، ولذلك نراه عندما يفسر قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ٤

يقول :

وفيه دلالةٌ على حدوثه ، لان المجعول هو المحدث ، ولان مايكون عربيّاً لايكون قديما لحدوث العربية ، فان قيل : معنى جعلناه سميناه ، لان الجعل قد يكون بمعنى التسمية ، قلنا : لايجوز ذلك ـ هاهنا ـ لانه لوكان كذلك لكان الواحد منا اذا سماه عربياً فقد جعله عربياً ، وكان يجب لوكان القرآن على ما هو عليه ، وسمّاه اعجمياً لن يكون اعجميا ، اوكان يكون بلغة العجم وسماه عربياً لن يكون عربياً ، وكل ذلك فاسد ٥.

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٧ ، ص ٢٢٦.

٢. البقره ( ٢ ) الآية ١٠٦.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٣٩٩.

٤. الزخرف ( ٤٣ ) الآية ٣.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ١٧٨.

٢٧٣

العدل

وهو الاصل الثاني من اصول الدين عند الشيعة الإماميّة الذين يعتقدون :

ان من صفات الله الثبوتية الكمالية انه عادل غير ظالم ، فلايجور في قضائه ولايحيف في حكمه ، يثيب المطيعين ، وله ان يجازي العاصين ، ولايكلف عباده مالايطيقون ، ولايعاقبهم زيادة على مايستحقون ، وانه سبحانه لايترك الحسن عند عدم المزاحمة ، ولايفعل القبيح لانه تعالى قادرٌ على فعل الحسن وترك القبيح ، مع فرض علمه بحسن الحسن وقبح القبيح وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح ، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه ، ولاالقبيح يفتقر إليه حتى يفعله ، وهو مع كل ذلك حكيمٌ لابد ان يكون فعله مطابقاً للحكمة ، وعلى حسب النظام الاكمل ... وبذلك فان الله تعالى منزهٌ عن الظلم وفعل ماهو قبيحٌ ١.

وقد تطرّق الشيخ الطوسي إلى جملة من المسائل التي تتصل بالعدل ، وطرح رايه فيها ، وناقش اراء من يختلف معهم ، وفند ما لم يقم عليه دليل من تلك الاراء ، كما انه اتفق مع غيرالامامية في كثير من هذه المسائل ، وبين اوجه التشابه بينها ، وهنا نعرض لبعض تلك المسائل التي ادلى فيها الشيخ الطوسي بدلوه ، وهو يفسر آيات الكتاب المجيد :

١. الظلم والفساد : تعرّض الشيخ الطوسي لمسالة الظلم والفساد ، وعلاقة ذلك باللّه تعالى ، فاكد تنزيهه سبحانه ، فقال في تفسيره لقوله تعالى : (وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ): ٢

انه تعالى لايريد ظلماً للعباد ولايؤثره لهم ، وذلك دالٌّ على فساد قول المجبّرة الذين يقولون : ان كل ظلمٍ في العالم بارادة الله ٣.

وقال في تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. المظفر ، عقائد الإماميّة ، ص ٤٠ ومابعدها.

٢. غافر ( ٤ ) الآية ٣١.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٧٣.

٢٧٤

(إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) ١.

وفي الآية دلالة على ان منع الثواب ظلم ، وفيه أيضاً دلالةٌ على انه قادر على الظلم لانهاصفة تعظيمٍ وتنزيهٍ عن فعل مايقدر عليه ، فانه لايفعله لعلمه بقبحه ولانه غني عنه ، ولانه لوفعل لكان ظالماً ... وذلك منزهٌ عنه تعالى ٢.

وقال عند تفسيره للآية الكريمة : (وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ٣ :

فانه تعالى لم يظلم احداً من العباد ، بل كانوا انفسهم يظلمون بجحدهم نعم الله واتخاذهم مع الله الهة عبدوها ، وطغيانهم وفسادهم في الارض ، وذلك يدل على فساد قول المجبرة الذين قالوا : ان الظلم من فعل الله ، لانه لوكان من فعله لماكانوا هم الظالمين انفسهم ، بل كان الظالم لهم من فعل فيهم الظلم ٤.

كما ويرى المفسر ان في الآية الكريمة (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ٥ دلالةً على بطلان مذهب المجبرة في ان الله تعالى يريد الظلم ، لانه قال : (لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) واذا لم يحب الظلم لم يحب فعل الظلم ، لانه انما لم يجزمحبة الظالم لظلمه ، والمحبة هي الارادة ، وفي الآية دلالةٌ على انه لايجازي المحسن بما يستحقه المسيء ولا المسيء بما يستحقه المحسن ، لان ذلك ظلمٌ ٦.

كما واحتجّ الشيخ الطوسي على المجبرة الذين ينسبون الظلم إلى الله ( تعالى ) بدليلين وذلك عندما فسر قوله تعالى :

__________________

١. النساء ( ٤ ) الآية ٤٠.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٢٠٠ ، ٢٠١.

٣. العنكبوت ( ٢٩ ) الآية ٤٠.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ٨ ، ص ١٨٧ ، ١٨٨.

٥. آل عمران ( ٣ ) الآية ٥٧.

٦. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

٢٧٥

(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) ١

قال :

انه تعالى لايفعل القليل من الظلم لامرين : احدهما : انه خرج مخرج جواب للمجبرة وردا عليهم ، لانهم ينسبون كل ظلمٍ في العالم إليه تعالى ، فبين انه لوكان كما قالوا لكان ظلاماً وليس بظالمٍ.

الثاني : انه لوفعل اقل قليل الظلم لكان عظيماً منه ، لانه يفعله من غير حاجة إليه ، فهواعظم من كل ظلم فعله فاعله لحاجته إليه ٢.

أفعال العباد

اختلفت المدارس الإسلاميّة في ارائها حول مسالة حرية الارادة بالنسبة للانسان ، وفيما اذاكانت افعاله التي يقوم بها تاتي بمحض ارادته واختياره ام انه مجبورٌ على فعلها ومسير ازائها ، ولايملك الا ان يفعل ، وفي ذلك نشات مدارس مختلفةٌ في الراي ومتباينةٌ في الاتجاه ، تطرفت احداهن للقول : ان الإنسان مجبورٌ ومسيّرٌ ، وانه لابد له من الاستجابة ، لماجبل عليه من فعل الخير او الشر ، وقالت اخرى :

بان الإنسان مفوّضٌ إليه فعله ، فهو يفعل كما لو لم تكن هناك ارادة الهية تتصرف في هذا الوجود ، وبين هذه المدرسة وتلك وقفت المدرسة الإماميّة لتقول كلمتها فكانت على لسان الامام جعفربن محمد الصادق عليه‌السلام حيث قال :

« لاجبر ولاتفويض ولكن امرٌ بين امرين » ٣.

وبذلك كانت المدرسة الإماميّة تحتل الموقف الوسط بين المدارس الإسلاميّة الاخرى وتمثل الاعتدال في الراي وقد اكد ذلك الامام الصادق عليه‌السلام حين سئل عن الجبر والقدرفقال:

( لاجبر ولاقدر ولكن منزلةٌ بينهما ، فيها الحق ... لايعلمها الا العالم او من علمها اياه

__________________

١. الحج ( ٢٢ ) الآية ١٠.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٢.

٣. الكليني ، اصول الكافي ، كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر والامر بين الامرين.

٢٧٦

العالم ) ١.

وقد دافع الشيخ الطوسي عن الراي الذي تتبناه المدرسة الإماميّة في هذا المجال ، وطرح رايه في اكثر من موقفٍ ، كما ناقش المجبرة كثيراً ، وفند اراءهم ، وهو يمر بعشرات الآيات القرآنية مفسّراً.

فقال في تفسيره لقوله تعالى :

(وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ) ٢

قال :

فخص من ذلك السي ء بانه مكروه عند الله لانه تعالى لايكره الحسن وفي ذلك دلالةٌ على بطلان مذهب المجبرة من ان الله يريد المعاصي لان هذه الآية صريحةٌ بانّ السيّء من الافعال مكروهٌ عند الله ٣.

وقال عند تفسيره لقوله تعالى :

(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) ٤

فقال :

ثم اخبر ان المرسل اليهم مختارون غير مجبرين ولامضطرين ، ودلّ على انّه غير محدثٍ لشيء من افعالهم فيهم ، وان الافعال لهم هم يكتسبونها بما خلق الله فيهم من القدرة وانه قد هداهم وبين لهم وبشرهم وانذرهم فمن امن اثابه ومن عصاه عاقبه ، ولوكانوا مجبورين على المعاصي مخلوقاً فيهم الكفر ، ولم يجعل فيهم القدرة على الايمان لماكان

__________________

١. الشيخ المفيد ، عقائد الصدوق.

٢. الاسراء ( ١٧ ) الآيات ٣٧ و ٣٨.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٦ ، ص ٤٧٨.

٤. الأنعام ( ٦ ) الآيات ٤٨ و ٤٩.

٢٧٧

للاية معنىً ١.

وقال الطوسي عند تفسيره للآية الكريمة :

(إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ الله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ٢

وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال : ان الله ( تعالى ) يحول بين العبد وبين مادعاه إليه ، اذ يخلق فيه مانهاه عنه ... ، لانه قال : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ولوكان شيئاً من ذلك لكان هوالموفك لهم والصارف ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ٣.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ٤

قال الشيخ الطوسي :

اخبر الله تعالى في هذه الآية على وجه التمدح به بانه لايظلم احداً شيئاً ، وانما الناس هم الذين يظلمون انفسهم بارتكاب مانهى الله عنه من القبائح ، فيستحقون بها عقاباً ، فكانهم الذين ادخلوا عليها ضرراً ، فلذلك كانوا ظالمين لانفسهم والمعنى ـ هاهنا ـ ان الله لايمنع احدا من الانتفاع بما كلفهم الانتفاع به من القرآن وادلته ، ولكنهم يظلمون انفسهم بترك النظر فيه والاستدلال به وتفويتهم انفسهم الثواب وادخالهم عليها العقاب ، ففي الآية دلالة على ان فاعل الظلم ظالمٌ كما ان فاعل الكسب كاسب ، وليس لهم ان يقولوا بفعل الظلم ولايكون ظالماً به ٥.

وبهذا يكون الشيخ الطوسي قد نفى الراي القائل بان الله هو الخالق لافعال العباد وليس للانسان القدرة على فعلها.

واكد هذا المعنى أيضاً في تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١٤١.

٢. الأنعام ( ٦ ) الآية ٩٥.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

٤. يونس ( ١٠ ) الآية ٤٤.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٥ ، ص ٣٨٣.

٢٧٨

(أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ١

فقال :

ومن تعلق من المجبرة بقوله (قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ٢ على ان افعال العباد مخلوقةٌ للّه فقد ابعد ، لان المراد بذلك ماقدمناه من انه تعالى خالق كل شيء يستحق بخلقه العبادة دون مالايستحق به ذلك ، ولوكان المراد ماقالوه لكان فيه حجّةٌ للخلق على الله تعالى وبطل التوبيخ الذي تضمنته الآية إلى من وجه عبادته الاصنام ، لانه اذا كان الخالق لعبادتهم الاصنام هو الله على قول المجبرة فلا توبيخ يتوجه على الكفار ، ولا لوم يلحقهم ، بل لهم ان يقولوا : انك خلقت فينا ذلك فما ذنبنا فيه ، ولم توبخنا على فعلٍ فعلته؟فتبطل حينئذ فائدة الآية ٣.

وهذا المعنى كان قد اكده الشيخ المفيد وهو استاذ مفسرنا حين قال :

« الصحيح عن ال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان افعال العباد غير مخلوقة للّه ».

من هنا نجد الشيخ الطوسي حين يفسر قوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ٤ يقول :

ثم نبههم فقال : واللّه تعالى هذا الذي خلقكم وخلق الذي تعملون فيه من الاصنام ، لانها اجسام ، واللّه تعالى هو المحدث لها ، وليس للمجبرة ان تتعلق بقوله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) فنقول : ذلك يدل على ان الله خالق لافعالنا ، لامور :

احدها : ان موضوع كلام إبراهيم لهم بني على التقريع لهم لعبادتهم الاصنام ، ولوكان من فعله تعالى لماتوجه عليهم العيب ، بل كان لهم ان يقولوا :

لم توبخنا على عبادتنا للاصنام واللّه الفاعل لذلك فكانت الحجة لهم لا عليهم.

الثاني : انه قال لهم (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) ونحن نعلم انهم لم يكونوا يعبدون نحتهم الذي

__________________

١. الرعد ( ١٣ ) الآية ١٦.

٢. الرعد ( ١٣ ) الآية ١٦.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٦ ، ص ٢٣٧.

٤. الصافات ( ٣٧ ) الآية ٩٦.

٢٧٩

هو فعلهم ، وانما يعبدون الاصنام التي هي الاجسام وهي فعل الله بلاشك. فقال لهم (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ) وخلق هذه الاجسام ١.

وقداتفق الإماميّة مع المعتزلة في مسالة افعال العباد عندما قالوا بان العبد قادرٌ خالقٌ لافعاله خيرها وشرها مستحقٌّ على مايفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة ، والرب تعالى منزه ان يضاف إليه شر وظلمٌ وفعلٌ ، هو كفرٌ ومعصيةٌ ، لانه لوخلق الظلم كان ظالماً ، كما لو خلق العدل كان عادلاً ٢.

الحسن والقبح

الحسن والقبيح صفتان كاملتان في ذوات الاشياء ، فبعضها حسن وبعضها قبيح ، وان العقل الذي هو الرسول الباطن يدركهما ، ويحكم بهما قبل ورود الشرع. ٣

ولهذا فالقبح والحسن عقليان قبل ان يكونا شرعيين ولذا فالانسان باعتباره كائناً عاقلاً وخالقا لافعاله ، فهو مسؤول عنها ، ومثل هذا الراي قالت به المعتزلة فقسموا الافعال إلى حسنة وقبيحة ، وراوا ان الإنسان قادرٌ ان يميز بعقله قبل ورود الشرع بين حسنها وقبيحها ٤

والى هذا يذهب الشيخ الطوسي اثناء التفسير فيقول عند تفسيره لقوله تعالى : (وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) ٥

قال :

فيه ابطال لمذهب المجبرة في ان الله تعالى يريد القبيح من افعال العباد لان الله تعالى قطع على كذبهم في ان الله تعالى يشاء عبادتهم للملائكة وذلك قبيح لامحالة وعند المجبرة :

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٨ ، ص ٤٧٠.

٢. بدوي ، مذاهب الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٤٨.

٣. الطهراني ، الذريعة ، ج ٧ ، ص ١٧

٤. جار الله ، المعتزلة ، ص ١٠٨.

٥. الزخرف ( ٤٣ ) الآية ٢٠.

٢٨٠