الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

جَمِيعاً ) ١ وقوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) ٢.

فإنْ شرطوا في آياتِنا التوبة شرطنا في آياتهم ارتفاع العفو ٣.

وفي هذه المناظرة تتجلى قدرة الشيخ الطوسي على الحوار العلمي الهادئ المتين الذي يتلمس فيه الباحث سعة اطلاع المفسر وقدرته في استخدام الدليل العقلي في البرهنة السليمة الموفقة ، واستشهاده بالنص القرآني الجلي الواضح الذي يعكس المنهج العقلي بكل ما فيه من عمقٍ وواقعيةٍ واستيعابٍ اذ لم يترك أمام محاوره باباً للاستدلال إلا وسده عليه بالحجة الدامغة والدليل القاطع الذي لايملك معه الخصم إلا الإذعان لمنطق الحق وقوة الدليل.

وعند تفسيره للآية الكريمة :

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) ٤

قال : وقال الرماني ومن تابعه من المعتزلة : لايجب هذا الوعد إذا ارتكب صاحبها الكبيرة من الجرم ، كما لايجب إن ارتدّ عن الإيمان إلى الكفر وإنّما يجب لمن أّخلصها مما يفسق بها.

فرد الطوسي قائلاً :

وهذا عندنا ليس بصحيحٍ ، لأنّ القول بالإحباط باطل ، ومفارقة الكبيرة بعد فعل الطاعة لاتحبط ثواب الطاعة بحال ، وإنّما يستحق بمعصيته العقاب وللّه فيه المشيئة ٥.

كما وأشكل الشيخ الطوسي على المعتزلة استدلالهم بالآية الكريمة :

__________________

١. الزمر ( ٣٩ ) الآية ٥٣.

٢. الرعد ( ١٣ ) الآية ٦.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ١٤١.

٤. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٧٤.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، ٢٧٤.

١٢١

(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ... ) ١

فقالوا بخلود مرتكب الكبيرة في النار ، وأنّه إذا قتل مؤمناً فإنه يستحق الخلود ولا يعفى هذه بظاهر اللفظ فاحتج عليهم الطوسي بقوله :

وإنّا إن نقول : ما أنكرتم أنْ يكون المراد بالآية الكفار ومن لاثواب له أصلاً فأمّا من هومستحق للثواب ، فلا يجوز ان يكون مراداً بالخلود أصلاً.

ثم أكّد ذلك بقوله وقد روي عن أصحابنا : أنّ الآية متوجهةٌ إلى من يقتل المؤمن لإيمانه وذلك لايكون إلا كافراً ٢.

هذا وقد حضي المجبرة بالقسط الأوفر من ردود الشيخ الطوسي وإشكالاته عليهم حيث كان مرة يفند مزاعمهم ويدحض أقاويلهم ويسقط ما في أيديهم ، فقال عند تفسيره للآية الكريمة :

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)٣

وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة من ثلاثة وجوه :

أحدها : قوله ( هُدَىً للنّاس ) فَعَم بذلك كلّ إنسان مكلف ، وهم يقولون ليس يهدي الكفار.

الثاني : قوله تعالى ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ) والمجبرة تقول : قد أراد تكليف العبد ما لايطيق مما لم يعطه عليه قدرة ولايعطيه ، ولا عسر أعسر من ذلك.

الثالث : لو أنّ الإنسان حمل نفسه على المشقة التي يخاف معها التلف في الصوم لمرض شديد لكان عاصياً ولكان قد حمل نفسه على العسر الذي أخبر الله : أنّه لايريده بالعبد ، والمجبرة تزعم أنّ كلّ ما يكون من العبد من كفرٍ أو عسرٍ أو غير ذلك من أنواع الفعل

__________________

١. النساء ( ٤ ) الآية ٩٣.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٢٩٥.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية ١٨٥.

١٢٢

يريده الله ١.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ٢

قال الطوسي :

وفي الآية دليل على فساد قول المجبرة في المخلوق والإرادة لأنه تعالى نسب الإخراج من نور الهدى إلى ظلمة الكفر والضلال إلى الطاغوت منكراً لتلك الحال ، ولم يكن لينكر شيئاً أراده ولايغيب شيئاً عنه فَعَلَه تعالى الله عن ذلك ٣.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ٤

قال المفسر :

وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى يريد الظلم ، لأنّه قال : (لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وإذا لم يحب الظالم لم يحب فعل الظلم ، لأنّه إنّما لم يجز محبة الظالم لظلمه ٥.

وعند تفسيره للآية الكريمة :

(يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) ٦

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ١٨٥.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٣١٥.

٤. آل عمران ( ٣ ) الآية ٥٧.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٨٠.

٦. الأعراف ( ٧ ) الآية ٥٢.

١٢٣

قال مفسرنا :

وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة من وجهين :

أحدهما : إنهم كانوا قادرين على الإيمان في الدنيا ، فلذلك طلبوا تلك الحال ، ولولم يكونوا قادرين لما طلبوا الرد إلى الدنيا والى مثل حالهم الأُولى.

والآخر : بطلان مذهب المجبرة في تكليف أهل الآخرة ... وهو خلاف القرآن والإجماع ، ولو كانوا مكلفين لما طلبوا الرجوع إلى الدنيا ، ليؤمنوا ، بل كانوا يؤمنون في الحال. ١

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ) ٢

قال الطوسي :

وقواه (فَمَن شَاء ذَكَرَهُ) دليلٌ على بطلان مذهب المجبرة في أن القدرة مع العقل ، وأن المؤمن لاقدرة له على الكفر ، وأن الكافر لايقدر على الإيمان ، لأنّه تعالى بيّن أن من شاء أن يذكره ذكره ، لأنّه قادر عليه. ٣

ولم يكتف الشيخ الطوسي بالرد على أصحاب الآراء من أتباع الفرق والمذاهب الإسلاميّة المختلفة ، وكذلك أهل الكتاب ، وإنّما حاور الملحدين أيضاً ، وأبطل مزاعمهم فلنستمع إليه يقول :

وقصة أصحاب الفيل من الأدلة الواضحة والحجج اللائحة على الملحدين ومن أنكر الصانع ، لأنّه لايمكن نسب ذلك إلى طبيعة ولاموجبٍ ، وكما تأولوا الزلازل والرياح والخسوف وغير ذلك مما اهلك الله به الأُمم ، لأنّه ليس في الطبيعة اقبال طيرٍ بأحجارٍ ، وتقصد أقواماً دون غيرهم حتى تهلكهم بما ترميهم به ، ولاتعدّى إلى غيرهم ، بل ذلك من أوضح الأدلة على أنه من فعل الله تعالى ، وليس لأحدٍ أن يضعف ذلك ، وينكر الخبر به ، لأنّ النبي (ص) لما قرأ على أهل مكة هذه السورة ، كانوا قريبـي العهد بالفيل ، فلو لم يكن كذلك ، ولم يكن له أصلٌ لأنكروه ، فكيف وهم أرخوا به كما أرخوا بنيان الكعبة وموت

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٠ ، ٤٢١.

٢. عبس ( ٨٠ ) الآيات ١١ و ١٢.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٢٧١.

١٢٤

قصي وغيره؟ وقد نظم الشعراء في قصة الفيل الشعر ونقلته الرواة ، فلايمكن جحد ذلك لأنّه مكابرةٌ ١.

ومثل هذه اللفتات الذكية نجدها مبثوثةً في تفسير الشيخ الطوسي ، ويزدحم بها تبيانه ممايؤكد انتهاجه نهجاً عقلياً متميزاً في التفسير ، حيث ترك هذا السلوك العقلي أثراً واضحاً على صفحات التبيان ، وما زخرت به بحوثه تشكل بمجموعها منهجاً عقلياً بحث المفسر فيه عن الحقيقة ، وظل ينشد مصاديقها ، ويتحرى الأدلة عليها ليحاور ويناقش من يختلف معه في الرأي بروية وهدوء وانضباطٍ مما يدلل على ثقة المفسر بنفسه وقوة الحجة التي يمتلكها ، الأمر الذي أضفى على تفسير التبيان صيغة موضوعية ومسحة عقلية تركت بصماتها الواضحة في ذهن كل من طالع التبيان وتدبر بحوثه ، فاستحق بذلك الشيخ الطوسي كل ماحصل عليه من مديحٍ وثناءٍ وإطراءٍ ، إذ استطاع وبجدارة أن يسهم في عملية تطوير التفسيرو الإنتقال به من التقليد والانشداد للأثر والرواية إلى حيث التدبر والنزعة العقلية ، مع الأخذ بالحديث الصحيح المعتبر ، فتمكن من أن يجمع ما في المنهجين ( النقلي والعقلي ) من مزايا ومحاسن.

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٤١١.

١٢٥
١٢٦

الفصل الثالث :

الجانب الأثري في التبيان

تفسير القرآن بالقرآن

تشهد كتب التفسير القديمة والحديثة على أن هذا اللون من التفسير قد مارسه المفسرون القدامى والمحدثون ، بل واعتبره العلماء أوّل الطرق في تفسير القرآن الكريم التي ينبغي للمفسر أنْ يسلكها وينتهجها عند أيّةٍ محاولة تفسيريةٍ لكتاب الله ، وبذلك قالوا :

من أراد تفسير الكتاب العزيز يطلبه أوّلاً من القرآن ، فإن أعياه ذلك طلبه من السنة ، فإنّها شارحة للقرآن وموضحة له ١.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل من عمد إلى هذا السبيل ، فانتهجه ، حيث كان يستعين ببعض آيات القرآن الكريم ليشرح بها البعض الآخر ، ومن ذلك تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وآله للظلم في قوله تعالى : ( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ٢ بالشرك ، واستدل بقوله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ٣.

وبهذا يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أرسى لمن بعده قواعد منهجٍ تفسيريّ لايستغني عنه أي مفسر وعلى هذا النهج سار أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، كما شهد عصر الصحابة مثل هذا اللون من

__________________

١. السيوطي ، الإتقان ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

٢. الأنعام ( ٦ ) الآية ٦٥.

٣. الجامع الصحيح للبخاري بحاشية السندي ، كتاب تفسير القرآن ، لقمان ( ٣١ ) الآية ١٣.

١٢٧

التفسير ، فيقول الذهبي :

« وهو يعني تفسير القرآن بالقرآن ماكان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن » ١.

وتذكر روايات عديدة أن عمربن الخطاب أُحضرت عنده امرأة قد ولدت لستة أشهر فهم برجمها ، فنهاه الإمام علي عليه‌السلام عن ذلك ، وأوضح أنّ مدة حملها جاء وفق أحكام القرآن ، واستدل بهاتين الآيتين ، فخلى سبيلها ، فقال : « لولا علي لهلك عمر ».

وإلى هذا أشار ابن كثير في تفسيره فقال في معنى قوله تعالى :

(وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) إنّ جماعة من الصحابة استنبطوا أنّ أقل مدة للحمل ستّة أشهر لقوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) ٢.

ويقول ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى : ( ربَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ )

بأنهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ، أو كانوا ترابا قبل أن يخلقوا فهي ميتة ، ثم أحياها فهذه إحياءة ، ثم يميتهم الميتة التي لابد منها في الدنيا وهي ميتة أُخرى ، ثم يحييهم ويبعثهم يوم القيامة ، وهذه احياءة أُخرى ، وعلى هذا تحصل ميتتان وحياتان ، فهو قول الله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ٣.

بعد عصر الصحابة تابعهم التابعون على نفس المنهج التفسيري ، حيث كانوا يفسرون بعض آيات القرآن الكريم باياتٍ كريمةٍ أُخرى ، ومن ذلك تفسير قوله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) ٤.

فعن محمد بن كعب القرظي وسعيدبن جبير أنّ الغاشية هي النار ، تغشى وجوه الكفار ،

__________________

١. الذهبي ، التفسير والمفسرون ، ط ٢ ، ج ١ ، ص ٤١.

٢. ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، ط ٣ ، ج ٣ ، ص ٤٤٥ ، الآيات : لقمان ( ٣١ ) ١٤ ، والأحقاف (٤٦) ١٥.

٣. محمدبن جرير الطبرى : جامع البيان عن تأويل القرآن ، تحقيق محمود محمد شاكر ، ج ١ ص ٤١٨ ؛ الآيات : غافر ( ٤٥ ) ١١ ؛ والبقرة ( ٢ ) ٢٨.

٤. الغاشية ( ٨٨ ) الآية ١.

١٢٨

وهو قوله تعالى : (َتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) ١.

ويأتي اهتمام المفسرين بهذا اللون من التفسير ، لأنّ القرآن وكما قال عنه الإمام علي عليه‌السلام : ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ٢.

وبهذا يقول الزمخشري مادحاً لهذا النوع من التفسير : « أسد المعاني ما دل عليه القرآن »٣.

ويقول ابن تيمية :

ان أصح الطرق في ذلك ـ يعني التفسير ـ أن يفسر القرآن بالقرآن فما أُجمِلَ في مكان قد فسر في موضع آخر ، وما أُختصر في مكان فقد بسط في موضع اخر ٤.

والشيخ الطوسي اعتمد هذا الأُسلوب في تفسيره لآيات الكتاب المبين ، فتراه أحياناً يفسر مفردة قرآنية بجمع القرائن الدالة على معناها ، من خلال إحضاره لعدد من الآيات التي تشكل بمجموعها دليلاً قاطعاً على المراد ، كما نجده أحياناً يثبت حكماً شرعياً تنص عليه آية بضمه آيات أُخرى إليها فتتكامل الصورة الداخلة على الحكم من خلال آياتٍ قرآنيةٍ متفرقة يعمل الطوسي على جمعها في المورد ، كما يستعين بالآيات القرآنية أحياناً في دعم رآي له ، أو رد آراء غيره من المفسرين عندما يراهم قد ابتعدوا في تفسيرهم عن الصواب ، كما يحاول في مناسباتٍ عديدة من أن يحل إشكالاً ظاهريا أو تناقضاً بدويّاً بين بعض الآيات القرآنية ، وبهذا يكون الطوسي قد استفاد من القرآن أيما استفادة في شرحه لمعاني الآيات ومفاهيمها ، وهنا نورد جملة من الشواهد التي تؤكد انتهاجه لهذا النوع من التفسير ، فهو عند تفسيره لكلمة الرب في قوله تعالى (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ٥ قال :

أمّا الرب فله معنيان في اللغة ، فيسمى السيد المطاع ربا ، ومنه قوله تعالى : (أَمَّا أَحَدُكُمَا

__________________

١. الطبرسي ، مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٧٨. والآية : إبراهيم ( ١٤ ) ٥٠.

٢. محمد عبده ، شرح نهج البلاغة ، ج ٢ ، ص ١٧ ، بيروت.

٣. الزمخشري ، الكشاف ، ج ٢ ، ص ١٩٣.

٤. ابن تيمية ، مقدمة في أُصول التفسير ، تحقيق د. عدنان زرزور ، ص ٦٣.

٥. الفاتحة ١. الآية ٢.

١٢٩

فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) ١ يعني سيده ، ومنه قيل : رب ضيعةٍ ، اذا كان يحاول اتمامها ، و ( الربانيون ) ٢ من هذا من حيث كانوا مدبرين لهم.

وقوله : ( رب العالمين ) اي المالك لتدبيرهم والمالك للشيء يسمى ربه ، ولايطلق هذا الاسم إلا على الله ، أما في غيره فيقيد ، فيقال : رب الدار ، وقيل : انه مشتق من التربية ، ومنه قوله : (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم) ٣.

ومتى قيل في الله : انه رب بمعنى انه سيد فهو من صفات ذاته ، واذا قيل بمعنى انه مدبرٌ مصلح ، فهو من صفات الافعال ٤.

وعند تفسيره للختم في قوله :

(خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) ٥

قال الشيخ الطوسي :

(خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ) اي شهد عليها بأنها لاتقبل الحق يقول القائل : أراك تختم على كل مايقول فلان ، أي تشهد به وتصدقه.

وقيل : المعنى في ذلك إنّه ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنها لايدخلها الإيمان ولايخرج منها الكفر.

والختم اخر الشيء ومنه قوله تعالى (خِتَامُهُ مِسْكٌ) ٦ ومنه (َخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ٧ أي اخرهم ٨.

وعند تفسيره لكلمة ( استوى ) في قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ) ٩

__________________

١. يوسف ( ١٢ ) الآية ٤٤.

٢. المائدة ( ٥ ) الآية ٦٦.

٣. النساء ( ٤ ) الآية ( ٢٢ ).

٤. انظر التبيان ، ج ١ ، ص ٣٢.

٥. البقرة ( ٢ ) الآية ٧.

٦. المطففين ( ٨٣ ) الآية ٢٦.

٧. الاحزاب ( ٣٣ ) الآية ٤٠.

٨. انظر التبيان ، ج ١ ، ص ٦٤.

٩. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٩.

١٣٠

قال المفسر :

وقال قومٌ : معنى (اسْتَوَى) اي استولى على السماء بالقهر كما قال (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) ١ أي تقهروه.

ومنه قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) ٢ أي تمكن من أمره وقهر هواه بعقله فقال ( ثم استوى إلى السماء ) في تفرده بملكها ، ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه ٣.

وعند تفسيره ( للظلم ) في قوله تعالى (فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) ٤.

قال الطوسي :

وأصل الظلم انتقاص الحق لقوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) ٥ أي لم تنقص ، وقيل : أصله وضع الشيء في غير موضعه من قولهم : من يشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه ، وكلاهما مطرد وعلى الوجهين فالظلم اسم ذمٍّ ، ولايجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله : (أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ ) ٦.

وقوله (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ٧ حكاية عن يونس من حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه ٨.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) ٩. قال في معنى الفرق :

والفرق : الطائفة من كل شيء ، ومن الماء إذا انفرق بعضه عن بعض ، وكل طائفة من ذلك

____________

١. الزخرف ( ٤٣ ) الآية ١٣.

٢. القصص ( ٢٨ ) الآية ١٤.

٣. انظر التبيان ، ج ١ ، ص ١٢٦.

٤. البقرة ( ٢ ) الآية ٣٥.

٥. الكهف ( ١٨ ) الآية ٣٣.

٦. هود ( ١١ ) الآية ١٨.

٧. الانبياء ( ٢١ ) الآية ٨٧.

٨. انظر التبيان ، ج ١ ، ص ١٦٠.

٩. البقرة ( ٢ ) الآية ٥٠.

١٣١

فرق ، وقوله : (فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ١ يعني الفرق من الماء ، والفريق الطائفة من الناس ، والفرقان : اسم للقرآن ، وكل كتاب انزل الله ، وفرق به بين الحق والباطل فهوفرقان ، وسمى الله التوراة فرقاناً ، وقوله : (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) ٢ كان يوم بدرٍ ويوم احد ، فرق الله بين الحق والباطل.

وقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ) ٣ معناه احكمناه كقوله : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ٤ وتقول :

مفرق ما بين الطرفين ٥.

وعند تفسيره لكلمة العقاب في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ٦ حاول الشيخ الطوسي ان يجمع ما تشابه في اللفظ مع العقاب ، واستشهد لبيان ذلك بايات من القرآن الكريم ، فقال في معرض شرحه لمعنى العقاب :

عقب الشيء بمعنى خلف بعد الاول ، واعقب اعقاباً ، وتعقب الراي تعقباً (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ٧ اي الاخرة. (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا) ٨ اي نعقب بالشر بعد الخير ، والعقبة : ركوبٌ اعقبه المشي و ( لَهُ مُعَقَّباتٌ ) ٩ : ملائكة الليل تخلف ملائكة النهار ، وعقب الإنسان : نسله ، وعقبه مؤخر قدمه ... والعقاب : الطائر ... (لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ١٠ اي لاراد لقضائه ١١.

__________________

١. الشعراء ( ٢٦ ) الآية ٦٣.

٢. الانفال ( ٨ ) الآية ٤١.

٣. الاسراء ( ١٧ ) الآية ١٠٦.

٤. الدخان ( ٤٤ ) الايه ٤.

٥. انظر التبيان ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

٦. البقرة ( ٢ ) الآية ١٩٦.

٧. الأعراف ( ٧ ) الآية ١٢٧.

٨. الأنعام ( ٦ ) الآية ٧١.

٩. الرعد ( ١٣ ) الآية ١٢.

١٠ ـ الرعد ( ١٣ ) الآية ٤١.

١١. انظر التبيان ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٣٢

وقد يتوسع الشيخ الطوسي ويسهب في شرح بعض المفردات القرآنية ، وياتي بالشواهد القرآنية العديدة على توضيح المعنى المراد كما في قوله تعالى : (وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ١.

فقال :

يعني في العدل من غير حاجة إلى خطٍ ولاعقد ، لانه ـ عز وجل ـ عالمٌ به ، وانمايحاسب العبد مظاهرةً في العدل ، واحالةً على مايوجبه الفعل من خيرٍ او شر ... ونقول من الحساب : حسب الحساب يحسبه حسباً ... واحسبني من العطاء احساباً اي كفاني (عَطَاء حِسَابًا) ٢ اي كافياً.

والحسبان : سهام قصار ومنه (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء) ٣.

(يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) ٤ اي بغير تضييقٍ.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) ٥ اي قدر لها مواقيت معلومةً لايعدونها ٦.

وهكذا نجده ياتي بكل لفظ مشابهٍ او قريبٍ من الحساب ، فيعطيه مايستحقه من التوضيح والبيان ، وبهذا يكون الشيخ الطوسي ، قد منح قارئ التبيان اوسع فرصةٍ للاستفادة من المفردة القرآنية من خلال ربطها بغيرها ، فتتكامل الصورة عن الكلمة ومشتقاتها ، ومايقرب منها فى الذهن مع شد القارئ لاستحضار العديد من الآيات القرآنية ، والتي من شانها ان تخلق في ذهنه نوعاً من المران ، يستطيع من خلالها ان يربط بين المتشابه في الالفاظ القرآنية ، ويخلق منها وحدة متكاملة ، لاشباع الموضوع واغنائه ، وهو اسلوبٌ عملي عال لايستبعد ان يكون الشيخ الطوسي هادفاً لخلقه ، سيّما وانّه قد مارس طريقة الحوار ردحاً من الزمن ، واعطته المناظرات العقائدية المستمرة مع علماء عصره مثل هذه

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٠٢.

٢. النبا ( ٧٨ ) الآية ٣٦.

٣. الكهف ( ١٨ ) الآية ٤١.

٤. البقرة ( ٢ ) الآية ٢١٢.

٥. الرحمن ( ٥٥ ) الآية ٥.

٦. انظر التبيان ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

١٣٣

التجربة التي ربما حاول تعميمها وترويجها عبر تداول مثل هذا الطرح الشمولي في الفاظ الكتاب العزيز.

وهذا الاسهاب المقصود والربط الهادف بين آيات القرآن الكريم نجده في اكثر من مكان بين صفحات التبيان فهو في تفسيره لقوله تعالى :

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ١. وضح المعنى لكلمة (رَبَّنَا أَفْرِغْ) بشيء من التفصيل : فقال :

وقوله : (أَفْرِغْ) فالافراغ : صب السيال على جهة اخلاء المكان منه ، واصله الخلو ، وانما قيل :

(أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) تشبيهاً بتفريغ الاناء من جهة انه نهاية ماتوجبه الحكمة ، كما انه نهاية ما في الواحد من الانية.

وقوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ) ٢ معناه سنعمد ، لانه عملٌ مجردٌ من غير شاغل.

ومنه قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) ٣ اي خاليا من الصبر ، والفرغ مفرغ الدلو ٤.

ومثل هذه الاطالة النافعة نجدها في تفسير الشيخ الطوسي لكلمة الاعصار في قوله تعالى :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) ٥ فقال :

وقوله : (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) فالعصر عصر الثوب ونحوه من كل شيء رطبٍ عصرته عصراً فهو معصورٌ.

والعصر : الدهر وفي التنزيل (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ٦ والعصر ، العشي ، ومنه صلاة

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٥٠

٢. الرحمن ( ٥٥ ) الآية ٣١.

٣. القصص ( ٢٨ ) الآية ١٠.

٤. انظر التبيان ج ٢ ، ص ٢٩٨.

٥. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٢٦.

٦. العصر ( ١٠٣ ) الآيات ١ و ٢.

١٣٤

العصر ، لانها تعصر اي تؤخر الشيء بالتعصر فيه.

والعصر النجاة من الجدب ، ومنه قوله تعالى : (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ١ ، لانه كعصر الثوب في الخروج من حالٍ إلى حالٍ.

والاعصار غبار يلتف بين السماء والارض كالتفاف الثوب في العصر ، والمعصرات السحاب ، ومنه قوله تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) ٢.

كما ونجد شيخنا الطوسي يطيل في توضيحه كلمة ( الهوى ) في قوله تعالى : ( كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) ٣.

فقال :

والهوى هو لطف محل الشيء من النفس مع الميل إليه بما لاينبغي ، فلذلك غلب على الهوى صفة الذم ، كما قال تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ٤.

ويقال : منه هوى يهوى ، ويقال : هوى يهوي هوياً ، اذا انحط في الهواء ... (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) ٥ أي جهنم ، لانه يهوي فيها.

وقوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) ٦ قيل : فيه قولان :

احدهما : انها منحرفة لاتقي شيئاً كهواء الجو.

والاخر : انه قد اطارها الخوف.

ومنه قوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ ) ٧ اي استهوته من هوى النفس ٨.

__________________

١. يوسف ( ١٢ ) الآية ٤٩.

٢. انظر التبيان ، ج ٢ ، ص ٣٤٢ والاية : النبا ( ٧٨ ) الآية ( ١٤ ).

٣. المائدة ( ٥ ) الآية ٧٠.

٤. النازعات ( ٧٩ ) الآيات ٤٠ و ٤١.

٥. القارعة ( ١٠١ ) الآية ٩.

٦. إبراهيم ( ١٤ ) الآية ٤٣.

٧. الأنعام ( ٦ ) الآية ٧١.

٨. انظر التبيان ، ج ٣ ، ص ٥٨٢.

١٣٥

وقد يعمد المفسر احياناً إلى تسليط الاضواء على جوانب من المفردة القرآنية ، ويشبعها بحثاً بعد ان يجمع الاشتات ، فيكون منها صوراً مختلفةً ، قد تتباين احياناً لتؤدي اكثر من معنى من خلال استعمالاتٍ متعددةٍ ، تقتضيها طبيعة السياق والصياغة القرآنية ، كما في قوله تعالى : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ١. اذ نجد الشيخ الطوسي يفترض اشكالا على النص بغية استجلاء الحقيقة وابرازها فيقول :

فان قيل : كيف يجمع بين قوله : (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ٢ وقوله :

( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) ؟ ثم يجيب الطوسي على هذا الاشكال الذي افترضه بقوله :

قلنا فيه قولان :

احدهما : انه نفى ان يسالهم سؤال استرشادٍ واستعلامٍ ، وانما يسالهم سؤال توبيخ ‌وتبكيتٍ.

الثاني : تتقطع المسالة عند حصولهم على العقوبة ، كما قال : (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) وقال في موضع اخر : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) ٣ والوجه ما قلناه : انه يسالهم سؤال توبيخ قبل دخولهم في النار ، فاذا دخلوها انقطع سؤالهم ٤.

ثم ياتي الشيخ الطوسي بالعديد من الآيات القرآنية الكريمة التي تعرضت لموضوع السؤال فيصنفها تصنيفاً رائعاً ويضع كلّاً منها في مكانه الطبيعي الذي تتجلى من خلاله روعة النص القرآني واسلوب التعبير الفني الذي جاءت به الآيات البينات فيقول :

وقوله : (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ٥ المراد به لايسالون سؤال استعلام واستخبارٍ ليعلم ذلك من قولهم ، لانه تعالى عالم باعمالهم قبل خلقهم ، واما قوله : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وقوله : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ٦. فهو

__________________

١. الأعراف ( ٧ ) الآية ٦.

٢. القصص ( ٢٨ ) الآية ٧٨.

٣. الصافات ( ٣٧ ) الآية ٢٤.

٤. انظر التبيان ، ج ٤ ، ص ٢٤٩.

٥. القصص ( ٢٨ ) الآية ٧٨.

٦. الحجر ( ١٥ ) الآية ٩٢.

١٣٦

مسالة توبيخ وتقريعٍ كقوله : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ) ١ وسؤاله للمرسلين ، ليس للتوبيخ ولاللتقريع ، لكنه توبيخ للكفار ، وتقريع لهم أيضاً ، واما قوله : (فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) ٢ فمعناه سؤال تعاطي واستخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك ، وقوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) ٣ فهو سؤال توبيخٍ وتقريعٍ وتلاومٍ ، كما قال : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) ٤.

وهكذا نجد الشيخ الطوسي يعطي الكلمة القرآنية حقها من التوضيح ، كما ويحل اي تناقضٍ بدوي يتوهمه القارئ لهذه الآيات المباركة ، وقد يستعين مفسرنا ببعض الآيات القرآنية الكريمة ، ليفرق بين كلمتين متشابهتين في اللفظ ومتغايرتين في المعنى ، كما في كلمتي الريح والرياح ، فيورد الطوسي حديثاً شريفاً يوضح الفرق بينهما ، ثم يردف ذلك بعدد من النصوص القرآنية التي تفيد التمييز بين هذين اللفظين فيقول :

ان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول اذا هبت ريح اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً.

وهذا يوضح ان لفظ الرياح دلالة على السقيا والرحمة كقوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) ٥.

وقوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) ٦.

وقوله : (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء) ٧ وماجاء بخلاف ذلك كقوله : (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) ٨ وقوله : (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ٩

__________________

١. يس ( ٣٦ ) الآية ٥٩.

٢. المؤمنون ( ٢٣ ) الآية ١٠١.

٣. الصافات ( ٣٧ ) الآية ٢٧.

٤. انظر التبيان ، ج ٤ ، ص ٣٥٠ والاية : القلم ( ٦٨ ) ٣٠.

٥. الحجر ( ١٥ ) الآية ٢٢.

٦. الروم ( ٣٠ ) الآية ٤٦.

٧. الروم ( ٣٠ ) الآية ٤٨.

٨. الذاريات ( ٥١ ) الآية ٤١.

٩. الحاقة ( ٦٩ ) الآية ٦.

١٣٧

وقوله : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ١.

كما يستعين المفسر بايات القرآن الكريم لحل اشكالٍ ، قد يرد في عدد من الآيات وتبدو وكأنها متناقضةً او مختلفة النتائج ، ومن ذلك قوله في تفسيره للآية الكريمة (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ٢.

قال الطوسي :

فان قيل : قوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ٣ (وَخَلَقَ الجِبالَ والأقوات في أربَعَةِ أيّامٍ) ٤ وخلق السماوات في يومين يكون ثمانية ايام ، ذلك مناف لقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ٥.

قلنا : لاتنافي بين ذلك ، لانه خلق السماوات والارض ، وخلق الجبال والاشجار والاقوات في اربعة ايام ، منها اليومان المتقدمان ، كما يقول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة ايامٍ ، ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، اي في تمام هذه العدة ، ويكون قوله :

(فقضاهن سبع سموات في يومين) تمام ستة ايام ، وهو الذي ذكره في قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وزال الاشكال ٦.

وهكذا نجد الشيخ الطوسي يجمع الاشتات ، فيوحد بينها ، ويعطي السورة القرآنية وجهها الصحيح مزيلاً لما يعلق في الذهن من لبسٍ او اشكال ، وهو منهج سليم يفسر فيه الطوسي القرآن بالقرآن ، ويوضح معاني اياته باياتٍ اخر.

مثل هذه التوضيح كان الطوسي ، قد بينه على قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم

__________________

١. انظر التبيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٨ الاحقاف ( ٤٦ ) الآية : ٢٤.

٢. فصلت ( ٤١ ) الآية ١٢.

٣. فصلت ( ٤١ ) الآية ٩.

٤. يشير إلى قوله تعالى : ( وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين ) فصلت ( ٤١ ) الآية ١٠.

٥. الأعراف ( ٧ ) ، الآية ٥٤ ، يونس ( ١٠ ) ، الآية ٣.

٦. انظر التبيان ، ج ٩ ، ص ١١٠.

١٣٨

بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ١. فقال :

ووصف الله تعالى ـ هاهنا ـ المؤمن بانه يطمئن قلبه إلى ذكر الله ، ووصفه في موضع آخر بانه اذا ذكر الله وجل قلبه ٢ ، لان المراد بالاول انه يذكر ثوابه وانعامه فيسكن إليه ، والثاني يذكر عقابه وانتقامه فيخافه ، ويجل قلبه ٣.

وبذلك ابعد الشيخ الطوسي اي منافاة بين الايتين الكريمتين ، كما ويستعين الشيخ الطوسي بالقرآن الكريم في رده على اقوال المفسرين والفرق الاخرى كأهل الحشو ، حينما يوردون شبهةً او وجهاً لايرى فيه صواباً ، عندها يستشهد بايات من القرآن الكريم ، فيدحض كل ما اوردوه ومن ذلك قوله في (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ٤ بعد مافسرها البعض بان المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم جاءه الاعمى عبد الله بن ام مكتوم ، فردهم الطوسي قائلا :

وهذا فاسد ، لان النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اجل الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب ، وقد وصفه بانه (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ٥ وقال : (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) ٦.

وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ٧.

وهكذا يستشهد الطوسي بالقرآن لينفي شبهةً ، او يدحض راياً فاسداً ، لان القرآن اقوى حجةٍ يمتلكها مناظر او مجادلٌ.

وقد يستدلّ الشيخ الطوسي بايات القرآن الكريم لاثبات حكمٍ شرعى ، او موقفٍ

__________________

١. الرعد ( ١٣ ) الآية ٢٨.

٢. مشيرا إلى قوله تعالى : ( انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلي ربهم يتوكلون ) الانفال ( ٨ ) الآية ٢.

٣. انظر التبيان ، ج ٦ ، ص ٢٥٠.

٤. عبس ( ٨٠ ) الآية ١.

٥. القلم ( ٦٨ ) الآية ٤.

٦. آل عمران ( ٣ ) الآية ١٠٩.

٧. انظر التبيان ، ج ١٠ ، ص ٢٦٨ الأنعام ( ٦ ) الآية : ٥٢.

١٣٩

اسلامي تشير إليه آيةٌ ما ، كما فعل مع قوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ ) ١.

فقال :

وفي الآية دلالةٌ على انه لايجوز ملاطفة الكفار.

قال ابن عباس : نهى الله سبحانه المؤمنين ان يلاطفوا الكفار ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) ٢. وقال:

(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ) ٣ وقوله تعالى : (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ٤. وقال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ٥. وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ٦.

وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ٧. وكل ذلك يدل على انه ينبغي ان يعاملوا بالغلظة والجفوة دون الملاطفة ، والملاينة الا ماوقع من النادر لعارضٍ من الامر ٨.

والطوسي هنا يسوق العديد من الآيات القرآنية الكريمة دون تعليقٍ مفصّلٍ ، لانّ جملة الآيات تعطي تصوّراً واضحاً عمّا يجب ان تكون عليه العلاقة بين المؤمنين والكفّار ، وبهذا المنهج استطاع المفسر ان يوضّح الكثير من المفاهيم ، ويحدّد جملةً من الأحكام الشرعيّة ، ومثل ذلك تجده يصنع في تفسيره لقوله تعالى : (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ

__________________

١. آل عمران ( ٣ ) الآية ٢٨.

٢. آل عمران ( ٣ ) الآية ١١٨.

٣. المجادلة ( ٥٨ ) الآية ٢٢.

٤. الأنعام ( ٦ ) الآية ٦٨.

٥. الأعراف ( ٧ ) الآية ١٩٨.

٦. التوبة ( ٩ ) الآية ٧٣.

٧. المائدة ( ٥ ) الآية ٥١.

٨. انظر التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٤

١٤٠