الشيخ الطوسي مفسراً

خضير جعفر

الشيخ الطوسي مفسراً

المؤلف:

خضير جعفر


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-589-X
الصفحات: ٣٢٠

( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ... ) ١ قال الطوسي : وفي الآية دلالة على فساد قول من يقول بالتقليد وتحريم النظروالحِجاجَ.

وقد هاجم الشيخ الطوسي من يرفض المناظرة والحِجاجَ في الدين والدعوة إلى توحيد الله تعالى فقال :

أخبر الله تعالى أنّ الحُجج التي ذكرها إبراهيم لقومه آتاها الله إيّاه ، وأعطاها إيّاه بمعنى أنّه هداه لها ، فإنّه احتجّ بها بأمر الله ورضيَها منه وصوّبهُ فيها ، ولهذا جَعلها حجّةً على الكفار ... وفي ذلك دلالة على صحّة المحاجة والمناظرة في الدين والدعاء إلى توحيد الله والاحتجاج على الكافرين لأنّه تعالى مدح ذلك واستصوبه ومن حرم الحِجاجَ فقد ردّ صريح القرآن ٢.

٤ ـ تأكيده على أهمية العقل واعتباره حجّةً

أكّد الشيخ الطوسي من خلال تفسيره لآيات الكتاب العزيز على أهمية العقل واعتباره الحجّةَ الأقوى فيما يعتقد الإنسان ويعتد به. وهو مايراه الإماميّة ، حيث يقولون :

إنّ عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون ، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته ٣.

ومن هنا نجد الشيخ الطوسي يقول عند تفسيره الآية الكريمة :

( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) ٤

هذه الآية الكريمة تدل على أشياء :

أحدها : على بطلان التقليد وصحّة الاستدلال في أُصول الدين ، لأنّه حثَّ ودعا إلى

____________

١. الأنعام ( ٦ ) الآية ٨١.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١٩٢.

٣. المظفر ، عقائد الإماميّة ، ص ٣١.

٤. النساء ( ٤ ) الآية ٨٢.

١٠١

التدبر ، وذلك لايكون إلا بالفكر والنظر.

الثاني : يدل على فساد مذهب من زعم أنّ القرآن لايفهم معناه إلا بتفسير الرسول من الحشوية والمجبرة لأنّه تعالى حث على تدبره ليعملوا به ١.

وعند تفسيره للآية الكريمة :

(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا ) ٢

اكد الشيخ الطوسي على حجية العقل واهميته ، فقال :

فأمّا من لم يعلم من حاله أنّ له في إنفاذ الرسل إليه لطفاً فالحجة قائمةً عليه بالعقل ، وأدلّته على توحيده وصفاته وعدله ، ولو لم تقم الحجّةُ بالعقل ولاقامت إلا بانفاذ الرسل لفسد ذلك من وجهين :

أحدهما : إنّ هدف الرسل لايمكن العلم به إلا بعد تقدم العلم بالتوحيد والعدل ، فإنْ كانت الحجة لم تقم عليه بالعقل ، فكيف الطريق له إلى معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدقه؟ والثاني : إنّه لو كانت الحجة لاتقوم إلا بالرسول لاحتاج الرسول أيضاً إلى رسولٍ آخر ، حتى تقوم عليه الحجة ، والكلام في رسوله كالكلام في هذا الرسول ، ويؤدي ذلك إلى مالايتناهى ، وذلك فاسد ٣.

ويصرّح الشيخُ الطوسي على ضرورة التدبر في القرآن الكريم فيقول عند تفسيره لقوله تعالى :

( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ٤

معناه أفلا يتدبرون القرآن بأنْ يتفكروا فيه ويعتبروا به ، أَمْ على قلوبهم قفلٌ يمنعهم من ذلك تنبيهاً لهم على أنْ الأمر بخلافه ، وليس عليها مايمنع من التدبّر والتفكّر والتدبر في النظر في موجب الأمر وعاقبته وعلى ذلك دعاهم إلى تدبّر القرآن.

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٢٧٠.

٢. النساء ( ٤ ) الآية ١٦٥.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٣٩٥.

٤. محمد ( ٤٧ ) الآية ٢٤.

١٠٢

وفي ذلك حجّة على بطلان قول من يقول : لايجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبرٍ وسمعٍ ١.

وهذا مما يؤكّد وبشكل جليّ أنّ الشيخ الطوسي يتبنى منهجيّةً عقليّةً في تفسيره ، إضافة إلى اعتماده على المأثور الصحيح.

٥ ـ وجود بعض الإشارات العلميّة في تفسير التبيان

فقد تضمن التبيان على إشارات علميّة تنمُّ عن الروح العلمية التي اتسمت بها ثقافة الشيخ الطوسي ، وتوحي بانتهاجه منهجاً عقلياً منفتحاً على ما في الكون من معارف وعلوم ، ومن ذلك قبوله لفكرة كرويّة الأرض.

فعند تفسيره لقوله تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ) ٢

قال :

واستدل أبوعلي الجبائي بهذه الآية ، على أنّ الأرض بسيطةٌ ليست كرة ، كما يقول المنجمون والبلخي بأنْ قال : جعلها فراشاً ، والفراش البساط ، بسط الله تعالى إياها ، والكرة لاتكون مبسوطة ، قال : والعقل أيضاً يدل على بطلان قولهم ، لأنّ الأرض لايجوزان تكون كروية مع كون البحار فيها ، لأنّ الماء لايستقر إلا فيما له جنبان يتساويان ، لأنّ الماء لايستقر فيه كاستقراره في الأواني ، فلو كانت له ناحية في البحر مستعليةٌ على الناحية الأُخرى لصار الماء من الناحية المرتفعة إلى الناحية المنخفضة ، كما يصير كذلك إذا إمتلأ الإناء الذي فيه الماء.

وهنا رد الشيخ الطوسي على الجبائي قائلاً :

وهذا لايدل على ماقاله ، لأنّ قول من قال : الأرض كرويّة ، معناه أنّ لجميعها شكل الكرة. ٣

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٩ ، ص ٣٠١.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٢.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ١٠٣.

١٠٣

مثال آخر عند تفسيره لقوله تعالى :

( ... ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ١ قال:

وقال الرماني :

السماوات غير الأفلاك ، لأنّ الأفلاك تتحرك وتدور ، وأما السماوات لاتتحرك ولاتدورلقوله تعالى : ( إنّ الله يُمْسِكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا ) وهذا لبس ، لأنّه يمتنع أن تكون السماوات هي الأفلاك ، وإن كانت متحركة ، لأنّ قوله تعالى : ( يُمْسِكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا ) معناه لاتزول عن مراكزها التي تدور عليها ، ولولا إمساكها لهوت...؟ بما فيها من الإعمالات سفلاً ٢.

مثال ثالث :

لم يستبعد الشيخ الطوسي فكرة نشوء السحاب من تبخر مياه الأرض ، ويتضح ذلك من تفسيره لقوله تعالى :

( ... وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... ) ٣ فقال في معرض طرحه لآراء المفسرين :

فإنْ قيل : هل السحاب بخارات تصعد من الأرض؟

قلنا : ذلك جائز لايقطع به ، ولامانع أيضاً من صحته من دليل عقل. ٤

٦ ـ موقف الشيخ الطوسي من عقائد الإماميّة

استطاع الشيخ الطوسي أنْ يدعم مذهبه الإمامي بكل ما أُوتي من حولٍ وقوّةٍ وقدرةٍ علمية ومنهجٍ عقلي رصينٍ مستفيداً من آيات الكتاب العزيز لبيان صواب وجهات النظر

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٩.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ١٢٧.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية ١٦٤.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٥٨.

١٠٤

التي يؤمن بها الإماميّة في التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد وكل مايتصل بها من فروع ومسائل كالتقية وعصمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة والمتعة ، وكذلك مسألة خلق القرآن وغيرها ، وقد دافع الشيخ الطوسي عنها دفاعاً متّسماً بالحماس والقناعة الثابتة ، ورد كل الإشكالات والأقوال التي كانت تثار حول تلك المسائل ، وبما يؤكّد منهجه المتطور وإبداعه والقدرة على المناظرة والحوار ، فاعطى كلّ موضوعٍ من موضوعات العقائد لدى الإماميّة مايستحقه من الحديث ، وكانت النزعة العقلية بارزةً إلى حدٍ كبير في كل ماتحدث به الشيخ ‌الطوسي ، وقد أفردنا لموقف الشيخ الطوسي من عقائد الإماميّة فصلاً خاصاً وبشيء من التفصيل تحت عنوان ( الشيخ الطوسي وعقائد الإماميّة ).

٧ ـ ردوده على المفسرين ومناقشته لآرائهم

تعرض الشيخ الطوسي لآراء جملة من المفسرين ، وأشكل على الكثير من آرائهم وأقوالهم التي عرضوها في تفاسيرهم ، وقدتناول في التبيان كُلاً من تفسير البلخي والطبري والرماني والجبائي ، وبين الأخطاء التي وقعوا فيها عند تفسيرهم لآيات القرآن الكريم ، وردهم رداً عقلياً هادئاً ، وقديتضح لنا ـ من خلال متابعتنا لتصديه لهم ـ منهجه العقلي في التفسير حيث كان يعرض رأي المفسر ، ثم ياتي عليه بالنقد فيسنده بالدليل والحجة ، ثمّ يعرض رأيه مدعوماً بالدليل والحجة أيضاً.

وقدكان يعمد أحياناً إلى ترجيح رأي لأحد المفسرين على آراء غيره ، ويدعم الرأي الذي يميل إليه بما يملكه من حجةٍ ودليلٍ ، وبهذا يكون الشيخ الطوسي قد أتحف المكتبة الإسلاميّة بالعديد من الآراء التي قالها المفسرون القدامى ، والتي لولا ذكره لها لضاعت مع ماضاع من تراث فكري وثقافي إسلامي ، ولم نحصل على شيء منها بغير ذكره لها.

وهنا نورد بعضاً من ردوده ومناقشاته لآراء جملة من المفسرين :

الطوسي والبلخي

رد الشيخ الطوسي على البلخي في مواضع كثيرة من التبيان نعرض بعضاً منها : ففى

١٠٥

تفسيره لقوله تعالى :

( ... رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ... ) ١ قال :

كان يجوز ان يؤاخذ الله العبد بما يفعله ناسياً أو ساهياً ، ولكن تفضل بالعفو في قوله تعالى ( لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ٢ ، ذكر ذلك البلخي وهذا غلط ، لأنّه كما لم يجزتكليف فعله ولاتركه لم يجز أنْ يؤاخذ به ولايشبه ذلك المتولد الذي لايصح تكليفه بعد وجود سببه لأنّه لايجوز أنْ يتعمد سببه وليس كذلك مايفعله من جهة السهووالنسيان ٣

وعند تفسيره لقوله تعالى : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ) ٤

قال الطوسي :

واستدل أبوالقاسم البلخي بهذه الآية على أنّ العوض دائمٌ بأن قال : بيّن الله تعالى أنّه يحشر الحيوان كلّها ويعوضها ، فلوكان العوض منقطعاً لكان إذا أماتها استحقّت أعواضاً أُخر على الموت وذلك بتسلسلٍ ، فدلّ على أنّه دائم ، وليس هذا بشيء ، لأنّه يجوز أنْ يميت الله الحيوان على وجه لايدخل عليهم الألم ، فلايستحقون عوضاً ثانياً ، فالأوّلى أنْ يقول : إنْ دام تفضلاً منه تعالى ٥.

وفي تفسيره لقوله تعالى :

( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) ٦

قال الطوسي :

وقال البلخي: في الآية دلالة على أنّه لاينصرف أحد عن المعصية إلا بلطف الله عز وجل،

__________________

١. البقره ( ٢ ) الآية ٢٨٦.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٨٦.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٣٨٥ و ٣٨٦.

٤. فاطر ( ٣٥ ) الآية ٢٤.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١٣.

٦. يوسف ( ١٢ ) الآية ٣٣.

١٠٦

لأنّه لو لم يعلم ذلك لماصح خبره به ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، بل فيها ما يدل على أنّ منع يوسف كان لطفٌ ، ولولاه لفعل المعصية ، وأمّا أنْ يدل على أنّه لا أحدٌ ينتهى عن معصية إلا بلطفٍ ، فلا ١.

وفي معرض تفسيره لقوله تعالى : (إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ٢ قال الطوسي :

وسأل البلخي نفسه فقال : إذا قلتم : إنّ من اعتقد الشيء على ما هو به تقليداً أو تخميناً أوتنجيماً يكون عالماً ، فلو أنّ الإنسان اعتقد أنّ امرأة تلد ذكراً أو اُنثى أو رجلاً يموت في بلدٍ بعينه ، ويكسب في الغد كذا ، فوافق ذلك اعتقاده فيجب أن يكون عالماً ، ويبطل الاختصاص في الآية.

وأجاب : إنّ ذلك وإن كان جائزاً فإنّه لايقع لظاهر الآية.

فرده الطوسي بقوله :

وهذا غيرصحيح ، لأنّ من المعلومٍ ضرورةً أنّ الإنسان يخبر شيئاً فيعتقده فيكون على ما اعتقد من هذه الأشياء الخمسة ، وإنّما لايكون علماً ، لأنّه لاتسكن نفسه إلى ذلك ، فأمّا المنع من وقوعه فمعلوم خلافه ٣.

٢. الطوسي والطبري

كما رد الشيخ الطوسي في التبيان على الطبري وآرائه في التفسير ومن ذلك نذكر ماياتي :

قال الشيخ الطوسي عند تفسيره للآية الكريمة :

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٦ ، ص ١٣٥.

٢. لقمان ( ٣١ ) الآية ٣٤.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٨ ، ص ٢٦٠ ، ٢٦١.

١٠٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ١

وقال ابن عباس : نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ذكرهم بأعيانهم من اليهودالذين حول المدينة ، وقال قوم : نزلت في مشركي العرب. واختار الطبري قول ابن عباس والذي نقوله : إنّه لابد أن تكون الآية مخصوصة ، لأن حملها على العموم غيرممكن ، لأنا علمنا أنّ في الكفار من يؤمن ، فلا يمكن العموم ، وأما القطع على واحدٍ مما قالوه فلادليل عليه. ٢

وقد لايردّ الشيخ الطوسي أحياناً بنفسه على الطبري ، وإنّما يكتفي بذكر ما رده به غيره من المفسرين ، كما هو الحال في تفسير قوله تعالى :

(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) ٣

فقال الطوسي :

وقال الأخفش وعد بإتمام أربعين ليلةً أو انقضاء أربعين ليلةً كقولك :

اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان واليوم يومان ، أي تمام يومين.

وقال الطبري : لايجوز ماقاله الأخفش ، لأنّه خلاف ظاهر التلاوة وماجاءت به الرواية.

وهنا نجد الشيخ الطوسي يتبنى رأياً للرماني ويستشهد به للرد على ماقاله الطبري في رده على الأخفش فيقول مفسرنا :

قال الرماني : في هذا ـ أي رأي الطبري ـ غلط ظاهر ، إنّ الوعد لايتصل وقوعه في الأربعين كلها ، اذا كان الوعدُ هو الإخبار الموعود بما فيه النفع ، فلم يكن ذلك الخبر في أول تلك المدة ، فلا يدل على ذلك أن يكون التقدير على ماقاله الأخفش ، أو على وعدناه إقامة أربعين ليلة للمناجاة أو غيبته أربعين ليلة من قومه للمناجاة ، وما أشبه ذلك من التقدير ٤.

وردّ الطوسي رأياً للطبري كان قد أورده عند تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. البقره ( ٢ ) الآية ٦.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٦١.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية ٥١.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٢٣٣.

١٠٨

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ١

فقال : وقال ابن زيد والبلخي والجبائي والرماني : المراد به مشركي العرب ، وضعف هذا الوجه الطبري من بين المفسرين بأن قال : إنّ مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب مسجد الحرام ، وهذا ليس بشيء ، لأنّ عمارة المساجد بالصلاة فيها ، وخرابها بالمنع من الصلاة فيها. ٢

ورد عليه أيضاً عند مروره على ذكر الشهادة في قوله تعالى :

( ... وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ... ) ٣

فقال وهو يعرض الآراء التي قيلت فيها :

الثالث في رواية عن ابن عباس والحسن وأبي عبد الله عليه‌السلام لإقامتها وإثباتها ، وهو أعم فائدة.

وقال الطبري : لايجوز إذا دعوا لاقامتها ، لأنّ قبل أن يشهدوا لايوصفون بأنهم شهداء ، وهذا باطل ، لأنه تعالى قال : ( واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) فسماهما شاهدين قبل إقامةِ الشهادة ٤.

ورد الشيخ الطوسي في موضع آخر على الطبري وهو يفسر قوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ) ٥ فقال :

وقال الطبري : أنّه لايجوز تأويل من قال : أنْ تقبل توبتهم عند حضور موتهم.

قال : لأنّه لاخلاف بين الأُمة ، إنّ الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عينٍ في أن حكمه حكم الإسلام في وجوب الصلاة عليه ومواريثه ودفنه في مقابر المسلمين وإجراء جميع أحكام الإسلام عليه ، ولو كان إسلامه غيرصحيحٍ لَما جاز ذلك.

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ١١٤.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤١٦.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٨٢.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٣٧٥ ، الآية : البقرة ( ٢ ) ٢٢٨.

٥. آل عمران ( ٣ ) الآية ٩٠.

١٠٩

وهنا رد الشيخ الطوسي عليه بقوله :

وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، لأنّه لايمتنع أنْ تتعبد بإجراء أحكام الإسلام عليه ، وإنْ كان إسلامُه على وجه من الالجاء لايثبت معه استحقاق الثواب عليه ، كما أنّا تعبدنا بإجراء أحكام الإسلام على المنافقين وإن كانوا كفاراً. وإنّما لم يجز قبول التوبة في حال الإلجاء إليه لأنّ فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم ، ١ وقد قال الله تعالى :

( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) ٢.

٣. الشيخ الطوسي والرماني

وقد تصدى الشيخ الطوسي للرد على الرماني في آرائه التي كان يتبناها ، ومن ذلك نورد الأمثلة التالية :

قال الرماني : النسخ الرفع لشيء قد كان يلزمه العمل به إلى بدل ، وذلك كنسخ الشمس بالظل ، لأنّه يصير بدلاً منها في مكانها.

فرد الطوسي عليه بقوله :

وهذا ليس بصحيح ، لأنّه ينتقض بمن تلزمه الصلاة قائماً ، ثم يعجز عن القيام فإنّه يسقط عنه القيام لعجزه ، ولايسمى العجز ناسخاً ولا القيام منسوخاً وينتقض بمن يستبيح بحكم العقل عند من قال بالاباحة ، فإذا ورد الشرع بحظره لايقال الشرع نسخ حكم العقل ، ولاحكم العقل يوصف بأنّه منسوخٌ. ٣

واعترض الطوسي على فصل الرماني بين العلم والمعرفة بأن قال :

المعرفة هي التي يتبيّن بها الشيء من غيره على جهة التفصيل ، والعلم قديتميّز به الشيء عن طريق الجملة دون التفصيل كعلمك بأنّ زيداً في جملة العشرة ، وإنْ لم تعرفه بعينه وإن فصّلت بين الجملة التي هو فيها والجملة التي ليس هو فيها.

فاعترضه الشيخ الطوسي قائلاً :

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٥٢٧.

٢. النساء ( ٤ ) الآية ١٨.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٣٩٣.

١١٠

وهذا غير صحيح ، لأنّ المعرفة أيضاً قد يتميز بها الشيء على طريق الجملة ، فلا فرق بينهما ١.

كما خطأ الشيخ الطوسي الرماني عند تفسيره لقوله تعالى :

(وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) ٢

حيث يقول :

ومعنى إله : إنّه يحقّ له العبادة ، وغلط الرماني ، فقال : هو المستحق للعبادة ، ولو كان كماقال لماكان تعالى إلهاً فيما لم يزل ، لأنّه لم يفعل مايستحق به العبادة ، ومعنى ماقلناه : إنّه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة ٣.

كما إنّنا نجد الشيخ الطوسي في موضع آخر يرد على الرماني حين أشكل على البلخي وهويقول : « لايجوز الوعد والوعيد بغير شرط ، لأنّ فيه يأساً من الإيمان أو الكفر ، وذلك بمنزلة الصد عنه ».

وقال الرماني :

وهذا لايصح من قبل أنّ السورة قد دلت على معنى الوعد من غير شرطٍ يوجب الشك ، فلوكان في قطع الوعيد يأس بمنزلة الصد عن الإيمان لكان في قطع الوعد بأمان مايوجب الاتكال عليه دون مايلزم من الاجتهاد ، والذي يخرجه من ذلك أنّ العقاب من أجل الكفر كما أن الثواب من أجل الإيمان.

فرد الشيخ الطوسي على الرماني قائلاً :

وهذا ليس بشيء ، لأنّ للبلخي أن يشرط الوعد بالثواب بانتفاء مايبطله من الكبائر ، كما أنّه شرط الوعيد بالعقاب بانتفاء مايزيله من التوبة فقد سوى بين الأمرين ٤.

كما اعترض الشيخ الطوسي على الرماني وهو يتحدث عن قبح الجهل فقال :

____________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٢١ ، ٢٢.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ١٦٣.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٥٣.

٤. نفس المصدر ، ج ٢ ، ص ٤٠٦.

١١١

وقال الرماني : إنّما يكون قبيحاً ـ يعني الجهل ـ إذا وقع عن تعمد ، فأما إذا وقع غلطاً أوسهواً لم يكن قبيحاً ولاحسناً.

فرد عليه الطوسي بقوله :

وهذا ليس بصحيح ، لأنّ استحقاق الذم عليه يشرط بالعمد فأما قبحه فلا كما نقوله في الظلم سواء. ١

٤ ـ الشيخ الطوسي والجبائي

هذا وقد أكثر الشيخ الطوسي من ردوده واعتراضاته على الجبائي ، وهو يطرح آراءه في جملة من المسائل المختلفة ، نذكر هنا بعضها :

في مسالة صاحب موسى قال الجبائي :

لايجوز أن يكون صاحب موسى الخضر ، لأنّ خضراً كان من الأنبياء الذين بعثهم الله من بني إسرائيل بعد موسى.

قال : ولايجوز أيضاً أنْ يبقى الخضر إلى وقتنا هذا ، كما يقوله من لايدري ، لأنّه لانبي بعدنبينا ، ولأنّه لو كان لعرفه الناس ولم يخف مكانه.

وقد ردّ عليه مفسّرنا بقوله :

وهذا الذي ذكره ليس بصحيحٍ ، لأنّا نعلم أوّلاً أنّ خضراً كان نبياً ، ولو ثبت ذلك لم يمتنع أن يبقى إلى وقتنا هذا ، لأنّ تبقيته في مقدور الله تعالى ، ولا يؤدي إلى أنّه نبي بعد نبينا ، لأن نبوته كانت ثابتة قبل نبينا ، وشرعه ـ إن كان شرعاً خاصاً ـ فإنّه منسوخ بشرع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان يدعو إلى شرع موسى عليه‌السلام ، أو من تقدم من الأنبياء ، فإنّ جميعه منسوخٌ بشرع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يؤدي ذلك إلى ما قال ، وقوله لو كان باقياً لرؤي ولعرف غيرصحيح ، لأنّه لايمتنع أن يكون بحيث لايتعرف إلى أحد منهم ، وإن شاهدوه لايعرفونه. ٢

وفي تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. نفس المصدر ، ص ٤٩٦.

٢. الطوسي ، التبيان ج ٧ ، ص ٧٣.

١١٢

( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ) ١

اعترض شيخنا الطوسي على الجبائي عندما قال :

إنّه خاف عليهم حسد الناس لهم ، وأن يبلغ الملك قوتهم وشدة بطشهم ، فيقتلهم خوفاً على ملكه ، وأنكر العينَ وقال : لم تثبت بحجة ، وإنّما هو شيء يقوله الجهال العامة.

فرد الطوسي عليه قائلاً :

والذي قال غيرصحيح في أمر العين ، بل غير منكر أن يكون ما قال المفسرون صحيحاً ، وقد روي عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : العين حق وأنّه عوذ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال في عوذته : « وأُعيذُ كما من كلِّ عينٍ لامّةٍ » ، وقد رويتٍ فيه أخبارُ كثيرةٌ ، وقدجرت العادة به. ٢

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ... ) ٣

قال :

وقوله ( فَأماتَهُ الله مائةَ عامٍ ثُم بعثَهُ ) قال أبوعلي : لايجوز أن يكون الذي أماته ثم أحياه نبياً ، لأن الله تعالى عجب منه ، ولولا ذلك لجاز أن يكون نبياً على أنّه شك في ذلك قبل البلوغ لحال التكليف ، ثم نُبّئ فيما بعده ، وعلى هذا لايمنع أن يكون نبياً في ما تقدم ، والأوّل أقوى وأقرب ، ويجوز هذه الآية أن تكون في غير زمان نبيٍّ.

وقال الجبائي : لايجوز ذلك ، لأنّ المعجزات لاتجوز إلا على الأنبياء ، لأنّها دالةٌ عليهم فلو وقعت المعجزة في غير زمن نبيٍّ لم يكن وقوعهاً دليلاً على النبوة ، وهذا ليس بصحيح عندنا ـ لأنّ المعجزات تدل على صدق من ظهرت على يده ، وربما كان نبياً ، وربما كان إماماً أو وليا للّه. ٤

__________________

١. يوسف ( ١٢ ) الآية ٦٧.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ٦ ، ص ١٦٧.

٣. البقرة ( ٢ ) الآية ٢٥٩.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٣٢٣.

١١٣

كما وردّ الشيخ الطوسي على مجاهد لقوله : إنّ الحدَّ كفارةٌ.

فقال مفسّرنا :

وهذا غيرصحيح ، لأنّ الله ( تعالى ) دل على معنى الأمر بالتوبة وإنّما يتوب المذنب من ذنبه ، والحد من فعل غيره ، وأيضاً فمتى كان مصراً كان إقامة الحد عليه عقوبةً ، والعقوبة لاتكفر الخطيئة ، كما لايستحق بها الثواب ١.

وخطّأ الشيخ الطوسي رأي السدي عند تفسيره لقوله تعالى :

( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) ٢

فقال :

وقوله (وَأُشِربُوا فِي قُلُوبِهُم العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) فيه وجوه :

أحدها : ماقال قتادة وأبوالعالية : وأُشربوا في قلوبهم حب العجل.

وقال السدي : لمارجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذرّاه في اليم ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال : أُشربوا فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب.

ثم قال الشيخ الطوسي :

والأول عليه أكثر محصلي المفسرين وهو الصحيح ، لأنّ الماء لايقال فيه : أُشرب منه فلان في قلبه وإنّما يقال ذلك في حب الشيء ٣.

٥ ـ مناقشته لأهل الكتاب والفرق الإسلاميّة

أسهب الشيخ الطوسي في مناقشته مع اليهود والنصارى وأظهر ما هم عليه من تناقض واختلاف ، كما وردّ على الكثير من آراء الفرق والمذاهب الإسلاميّة المختلفة كالمعتزلة والأشاعرة والخوارج والمجبرة والمفوضة والمشبهة وغيرهم ، وقد اتسعت ردوده

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٥١٦.

٢. البقرة ( ٢ ) الآية ٩٣.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٣٥٤.

١١٤

وإشكالاته التي أوردها عليهم بالصراحة والموضوعية والدقة العلمية التي أظهر فيها مفسرنا قدرةً فائقةً في المحاججة والمناظرة والحوار بأُسلوب علمي ومنهج عقلائي رائع يتجلى للقارئ من يتجلى خلاله كفاءة الشيخ العلمية ومنهجه الرصين الذي لايدع مجالاً أمام الخصم فلايقوى معه على الرد ولايملك بعدها إلا الإذعان والإقرار ومن ذلك :

رده على ما أدعاه اليهود والنصارى ووصمهم بالتناقض فقال في تفسيره للآية الكريمة ( قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ١ روي عن عبد الله بن عباس ، أنّه قال :

قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يامحمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله تعالى : ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أو نَصارى تَهْتَدُوا ).

فقال الشيخ الطوسي :

وكان في اليهودية والنصرانية تناقض وذلك لايكون من عند الله فصارت ملة إبراهيم أحقُ بالإتّباع من غيرها.

والتناقض في اليهودية مثل منحهم من جواز النسخ مما في التوارة ، وفي التوراة ما يدل على جواز ذلك ، وامتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأُمي ، مع إظهارهم التمسك بها وامتناعهم من الإذعان ، لمادلت عليه المعجزة من نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع اقرارهم بنبوة موسى من أجل المعجزة إلى غير ذلك من أنواع التناقض ٢.

وأما النصارى فقد قالوا : أبُ وابنٌ وروحً قدوسٍ إلهٌ واحد مع زعمهم أنّ الأب ليس هوالابن وأنّ الأب إله والابن إله وروح القدس إله ، فاذا قيل لهم قولوا ثلاثة آلهة امتنعوا من ذلك ، إلى مايصفون به الباري تعالى مما يوجب الحاجة والحدث ، ويقولون مع ذلك : إنّه قديم لم يزل ، إلى غير ذلك من مناقضاتهم التي لا تحصى. ٣

وعند تفسيره لقوله تعالى :

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ١٣٥.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤٧٩.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤٧٩.

١١٥

( قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي الله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) ١

قال :

وكانت محاجتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم زعموا أنّهم أولى بالحق ، لأنّهم راسخون في العلم وفي الدين ، ولتقدم النبوة فيهم ، والكتاب ، فهم أولى بأنْ يكون الرسول منهم ... وغرضهم بذلك الاحتجاج بأنْ الدين ينبغى أن يلتمس من جهتهم ، وأن النبوة أولى أن تكون فيهم ، وليس الأمر على ماظنوا ، لأنّ ( الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ٢.

ومن الذي يقوم باعبائها ويتحملها على وجهٍ يكون أصلح للخلق واُولى بتدبيرهم ٣.

وعند تفسيره لقوله تعالى :

(وَقَالُواْ اتَّخَذَ الله وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ٤

قال :

وفي هذه الآية دلالة على أنه لايجوز له الولد على وجه من الوجوه ، لأنّه إذا كان جميع مافي السماوات والأرض ملكاً له ، فالمسيح عبد مربوبٌ ، وكذلك الملائكة المقربون ، لأن الولد لايكون إلا من جنس الوالد ولايكون المفعول من جنس الفاعل ، وكل جسمٍ فعل للّه فلامثل ولانظير على وجه من الوجوه ٥.

وعند تفسيره للآية الكريمة :

(إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) ٦.

قال الطوسي :

وفي الآية حجة على النصارى بما قال له المسيح مما يقرون به أنّه في الإنجيل من نحو

__________________

١. البقرة ( ٢ ) الآية ١٣٩.

٢. الأنعام ( ٦ ) الآية ١٢٤.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤٨٧.

٤. البقرة ( ٢ ) الآية ١١٦.

٥. الطوسي ، التبيان ، ج ١ ، ص ٤٢٧.

٦. آل عمران ( ٣ ) الآية ٥١.

١١٦

هذا الكلام لأنّ فيه ( أذهبُ إلى إلهي وإلهكم ) كقوله هاهنا : (إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) ١

في تفسيره لقوله تعالى :

(إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) ٢

قال الطوسي :

وفي الآية دلالةٌ على أن الوعيد بالنار قدكان في زمن آدم بخلاف ما يدعيه جماعةٌ من اليهود والنصارى ٣.

من كل هذا تبين لنا أُمور عدة كان الشيخ المفسر يمتازبها في تفسيره منها :

١. سعة اطلاعه على ما في كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، حيث كان يقارن ما فيها مع ما في القرآن الكريم ، ويحتج عليهم بما احتوته كتبهم ، حتى أصبح يرد أهل الإنجيل بانجيلهم وأهل التوراة بتوراتهم.

٢. تمكنه من المحاججة والمناظرة بالدرجة التي لايترك للخصم فرصة الدفاع بها عن آرائه ، ويأتي عليها وفق أُسسٍ منطقيةٍ مثبتةٍ ، فينسفها نسفاً ، ويقيم عليها الحجة ، ويدعم رأيه بالدليل القاطع الذي لاينكره إلا مكابرٌ أو معاندٌ.

٣. استخدامه للاسلوب العقلي في المناقشة والحجاج ، الأمر الذي يفحم فيه الخصم ولايقوى معه على الردّ.

كل هذه المميزات جعلت من الشيخ الطوسي جديراً بأن يتربّع على كرسيّ الكلام في بغداد ، ومن ثمّ مدافعاً عن مذهبه وآرائه ومعتقداته ، وإذا ما حُرم الشيخ الطوسي من المناظرة مع الخصوم مشافهةً بسبب الفتن الطائفية التي عصفت به في مركز الخلافة ، فإنّه قدوجد له في التبيان متنفساً لعرض آرائه وأفكاره ، وسبيلاً للدفاع عن مذهبه ومعتقداته ، لذلك جاء تفسيره مشحوناً بروح المناظرة والجدل العلمي الرفيع ، ليناقش من يرى ضرورة مناقشته من أصحاب الديانات الأُخرى ، أو حتى المنتمين للفرق الإسلاميّة المختفلة ، بل والملحدين

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٤٧٢.

٢. المائدة ( ٥ ) الآية ٢٩.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٣ ، ص ٤٩٦.

١١٧

والكفار أيضاً.

وقد ردّ الشيخ الطوسي على المجسمة الذين قالوا : إنّ الوجه في خلق الله للكرسي أنْ يجلس عليه فقال :

إنّه عز وجل يتعالى عن ذلك ، لأنّ ذلك من صفات الأجسام ، ولواحتاج إلى الجلوس عليه لكان جسما ومحدثا وقدثبت قدمه ١.

كما فَنَّد مزاعمَ الغلاة الذين تعلقوا بقوله تعالى :

(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ الله رَمَى) ٢ فزعموا أنّ الله حال بمحمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : لماقال (وَلَـكِنَّ الله رَمَى) ـ وكان النبى هو الرامي ـ دل ذلك على أنّه الله تعالى ، فردّ عليهم الطوسي معنفاً ، ووصفهم بالجهل وقلة المعرفة بوجوه الكلام فقال :

لو كان ماقالوه لكان الكلام متناقضاً ، لأنّه خطاب للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه لم يرم ، فإن كان هو الله تعالى فإلى من توجه الخطاب؟ وإن توجه إليه الخطاب دل على أنّ الله غيره ، وأيضاً فإذا كان هو الله فقد نفى عنه الرمي ، فإذا أضافه إلى الله بعد ذلك كان متناقضاً ، على أنه قد دلت الأدلة العقلية على أن الله ليس بجسم ، ولاحال في جسم ، فبطل قول من قال : إنّ الله حل في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله . ٣

وقد ردّ الشيخ الطوسي على المشبهة الذين قالوا : إنّ معنى قوله تعالى :

(إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ) ٤ إنّهم يشاهدونه ، فقال مفسرنا :

وهذا فاسد ، لأنّ المشاهدة لاتجوز إلا على الأجسام أو على ما هو حال في الأجسام وقدثبت حدوث ذلك أجمع ، فلايجوز أن يكون تعالى بصفة ما هو محدثٌ.

ثم قال :

وقد بيّنا أن المراد بذلك : وقوفهم على عذاب ربهم وثوابه وعلمهم بصدق ما أخبرهم به

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٢ ، ص ٣١٠.

٢. الأنفال ( ٨ ) الآية ١٧.

٣. الطوسي ، التبيان ، ج ٥ ، ص ٩٣.

٤. الأنعام ( ٦ ) الآية ٣٠.

١١٨

في دار الدنيا دون أن يكون المراد به رؤيته تعالى ومشاهدته ، فبطل ما ظنوه ١.

واستدل الشيخ الطوسي بقوله تعالى : ( الله أحّدٌ ) على فساد مذهب المجسمة قائلاً بأنّ الجسم ليس بأحد ، إذ هو أجزاءٌ كثيرة ، وقد دلَّ الله بهذا القول على أنّه أحدٌ ، فصحّ أنّه ليس بجسم ٢.

وأنكر الشيخ الطوسي على الخوارج قولهم : إنّ مرتكب الكبيرة كافرٌ ، فقال عند تفسيره لقوله تعالى :

(فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) ٣

الإنذار بنار هذه صفتها وهي درك مخصوص مَن أدراكَ جهنم ، فهي تختص بهذا المتوعد الذي كذب بآيات الله وجحد توحيده ( وتوَلّى ) عنها بأن لم ينظر فيها ، أو رجع عنها بعد أن كان نظر فيها ، فصار مرتدّاً. والثاني محذوفٌ لماصحبه من دليل الآي الآخر ، كأنّه قال ومن جرى مجراه ممن عصى ، فعلى هذا لامتعلق للخوارج في أنّ مرتكب الكبيرة كافر ٤.

كما واعترض الشيخ الطوسي على التناسخية الذين استدلوا بقوله تعالى :

(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) ٥ ليقولوا إنّ البهائم والطيور مكلفة ، فرد الشيخ قائلاً :

وهذا باطل ، لانا قد بينا من أي وجه قال : إنّها ( أُمَمٌ أمثالُكُم ) ولو وجب حملها على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها ناساً وفي مثل صورنا وأخلاقنا فمتى قالوا لم يقل أمثالنا في كل شيء ؟ قلنا : وكذلك الامتحان والتكليف ، على أنهم مقرّون بأنّ الأطفال غير مكلفين ولاممتحنين ، فما يحملون به امتحان الصبيان بعينه نحمل بمثله امتحان البهائم ، وكيف يصح تكليف البهائم والطيور ، وهي غير عاقلة ، والتكليف لايصح إلا

__________________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١١٣.

٢. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٤٣٠.

٣. الليل ( ٩٢ ) الآيات ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

٤. الطوسي ، التبيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٦.

٥. الأنعام ( ٦ ) الآية ٣٨.

١١٩

لعاقل ، على أنّ الصبيان أعقل من البهائم ، ومع هذا فليسوا مكلفين ، فكيف يصح تكليف البهائم؟ ١

وقد تصدى الشيخ الطوسي للمعتزلة ، وناقشهم في الآراء التي يختلفون فيها مع الإماميّة ، ودحض أدلتهم التي أقاموها ليستدلوا بها على بعض آرائهم ، وبين وجوه الخطأ في متبنياتهم بأُسلوب عقلي ينم عن روح علمية نزيهةٍ موضوعيةٍ متناهية ، حيث لاينكر عليهم شيئاً إلا بدليل ، ولايعرض رأياً إلا ويدعمه بحجة من القرآن أو العقل ، فقال عند تفسيره لقوله تعالى :

(وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) ٢

واستدلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فاسق أهل الصلاة مخلد في النار ومعاقبٌ لامحالة.

فرد الشيخ الطوسي قائلاً :

وهذا لادلالة لهم فيه من وجوه ، لأنّ قوله ( وَيَتَعدّ حُدُودَهُ ) إشارةٌ إلى من يتعد جميع حدود الله ، ومن كان كذلك فعندنا يكون كافراً ، وأيضاً فلا خلاف إنّ الآية مخصوصةٌ بصاحب الصغيرة ، وإنّ كان فعل المعصية ، وتعدّى حداً ، فإنّه خارج منها ، فإنّ جاز لهم إخراج الصغيرة منها بدليل جاز لنا أنْ نخرج من يتفضّل الله عليه بالعفو ، أو يشفع فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأيضاً ، فإنّ التائب لابدّ من اخراجه من هذه الآية ، لقيام الأدلّة على وجوب قبول التوبة ، فكذلك يجب أن يشترط من يتفضل الله باسقاط عقابه ، فإنْ قالوا : قبول التوبة واجب ، والعفو ليس بواجبٍ ، قلنا : قبول التوبة واجب إن حصلت ، وكذلك سقوط العقاب واجب إذا حصل العفو ، فإن قالوا : يجوز أن لايختار الله العفو ، قلنا : وكذلك يجوز أن لايختارالعاصي التوبة ، فإن جعلوا الآية دالّةً على أن الله لايختار العفو ، جاز لغيرهم أن يجعل الآية دالة على أن العاصي لايختار التوبة على أن هذه الآية معارضة باياتٍ كثيرة في وقوع العفو كقوله : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ٣ وقوله (إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

____________

١. الطوسي ، التبيان ، ج ٤ ، ص ١٢٩ ، ١٣٠.

٢. النساء ٤ الآية ١٤.

٣. النساء ٤ الآية ٤٨.

١٢٠