كليات في علم الرجال

الشيخ جعفر السبحاني

كليات في علم الرجال

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٣١

الأولى انه استدل على ان روايات كتاب « الفقيه » كلها صحيحة ، بمعنى كون من جاء في اسانيده من الرواة ثقات ، بقوله قدس‌سره1 : « بل قصدت إلى ايراد ما افتي به واحكم بصحته » والمراد من الصحة في هذه العبارة ، هو الحكم بعدالة الراوي او وثاقته ، فتكون هذه العبارة تنصيصاً من الشيخ الصدوق على ان من ورد في اسناد ذلك الكتاب ، كلهم عدول او ثقات ، ولا يخفى ان استفادة ذلك من تلك العبارة مشكل جداً.

اما أوّلاً ، فلأن الصحيح في مصطلح القدماء ومنهم الصدوق ، غير الصحيح في مصطلح المتأخرين ، إذ الصحيح عند المتأخرين هو كون الراوي عدلاً امامياً ، ولكن الصحيح عند القدماء عبارة عمّا اعتضد بما يقضي اعتمادهم عليه ، او اقترن بما يوجب الوثوق والركون اليه واسبابه عندهم مختلفة.

منها : وجوده في كثير من الاصول الاربعمائة المؤلفة في عصور الائمة عليهم‌السلام ، او وجوده في اصل معروف الانتساب لمن اجتمعت العصابة على تصديقهم كزرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما.

ومنها : اندراجه في احدى الكتب التي عرضت على الائمة ـ صلوات الله عليهم ـ فاثنوا على مصنفيها ، ككتاب عبيدالله الحلبي الذي عرض على الصادق عليه‌السلام وكتاب يونس بن عبد الرحمن وفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه‌السلام.

ومنها : كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء الفت بيد رجال الفرقة المحقة ككتاب الصلاة لحريز بن عبدالله ، وكتب الحسن والحسين ابني سعيد ، وعلي بن مهزيار ، او بيد غيرهم ككتاب حفص بن غياث ، وكتب الحسين بن عبيدالله السعدي وكتاب القبلة لعلي بن

٣٨١

الحسن الطاطري (١) ، وقد جرى الشيخ الصدوق على متعارف القدماء فحكم بصحة جميع احاديثه ، وهذا غير ما نحن بصدده من عدالة الراوي او وثاقته.

قال المحقق البهبهاني : « ان الصحيح عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم أعم من ان يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات ، او امارات اُخر ، ويكونوا قطعوا بصدوره عنهم او يظنون » (٢).

وعلى ذلك فبين صحيح القدماء وصحيح المتأخرين العموم والخصوص المطلق ، فحكم الشيخ الصدوق رحمه‌الله بصحة احاديثه لا يستلزم صحتها باصطلاح المتأخرين ، من كون الرواة في الاسانيد كلهم ثقات ، لاحتمال كون المنشأ في الجميع او بعضها هو القرائن الخارجية.

وثانياً : سلمنا ان الصدوق بصدد الحكم بوثاقة او عدالة كل من وقع في اسناد كتابه ، ولكنه مخدوش من جانب آخر ، لانه قد علم من حاله انه يتبع في التصحيح والتضعيف شيخه ابن الوليد ، ولا ينظر إلى حال الراوي نفسه ، وانه ثقة او غير ثقة ، ومعه كيف يمكن ان يكون قوله هذا شهادة حسية على عدالة او وثاقة كل من ذكر في اسناد كتابه ، وقد مر عند دراسة كتاب الكافي طريقته في التصحيح والتضعيف. اللّهم إلا ان يكون طريقة شيخه ، موافقة لطريقة المتأخرين ويكون قوله اخباراً عن شهادة استاذه بعدالة او وثاقة الواردين في هذا الكتاب.

وثالثاً : ان المتبادر من العبارة التالية ، انه يعتمد في تصحيح الرواية على وجود الرواية في كتب المشايخ العظام غالباً. قال قدس‌سره : « كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ( رضي الله عنه ) سيء الرأي في محمد بن عبدالله المسمعي راوي هذا الحديث ، واني اخرجت هذا الخبر في هذا

__________________

١ ـ لاحظ مشرق الشمسين للشيخ البهائي.

٢ ـ تعليقة البهبهاني : ٢٧ ، وفي العبارة حزازة.

٣٨٢

الكتاب ، لانه كان في كتاب الرحمة ، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي » (١). وهذا يعرب عن انه ما كان يتفحص عن احوال الراوي عند الرواية ، وهذا ان لم يكن كلياً لكنه أمر ذائع في تصحيحاته.

الثانية : إن أحاديث كتاب الفقيه لا تتجاوز عن ٥٩٦٣ حديثاً ، منها ألفان وخمسون حديثاً مرسلاً ، وعند ذلك يقع الكلام كيف يمكن الركون إلى هذا الكتاب بلا تحقيق اسناده ، مع أن جميع الاحاديث المسندة فيها ٣٩١٣ حديثاً ، والمراسيل ٢٠٥٠ حديثاً ، ومرادهم من المرسل ما لم يذكر فيه اسم الراوي بأن قال « روي » أو قال « قال الصادق عليه‌السلام » او ذكر الراوي وصاحب الكتاب ، ونسي أن يذكر طريقه اليه في المشيخة ، وهم على ما صرَّح به المجلسي أزيد من مائة وعشرين رجلاً.

الثالثة : في اعتبار مراسيل الفقيه وعدمه.

ذهب بعض الأجلة إلى القول باعتبار مراسيله ، قال التفريشي في شرحه على الفقيه :

« الاعتماد على مراسيله ينبغي أن لا يقصر في الاعتماد على مسانيده ، حيث حكم بصحَّة الكل ». وقد قيل في وجه ترجيح المرسل : « إن قول العدل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشعر باذعانه بمضمون الخبر ، بخلاف ما لو قال : حدثني فلان » وقال بحر العلوم : « إن مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن ابي عمير في الحجّية والاعتبار ، وان هذه المزية من خواص هذا الكتاب لا توجد في غيره من كتب الاصحاب ».

وقال الشيخ بهاء الدين في شرح الفقيه ـ عند قول الصدوق : « وقال الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام : كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر » ـ

__________________

١ ـ العيون : الجزء الثاني ، باب ما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الاخبار المنثورة ، الحديث ٤٥.

٣٨٣

« هذا الحديث من مراسيل المؤلف ، وهي كثيرة في هذا الكتاب ، تزيد على ثلث الاحاديث الموردة فيه ، وينبغي أن لا يقصر الاعتماد عليها من الاعتماد على مسانيده ، من حيث تشريكه بين النوعين في كونه ممّا يفتي به ويحكم بصحته ، ويعتقد أنه حجة بينه وبين ربّه ، بل ذهب جماعة من الاُصوليين إلى ترجيح مرسل العدل على مسانيده محتجّين بأن قول العدل « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا » يشعر باذعانه بمضمون الخبر ، بخلاف ما لو قال « حدثني فلان ، عن فلان أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذا » وقد جعل أصحابنا قدس‌سرهم مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها ، لما علموا من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة (١).

وقال المحقّق الداماد في الرواشح : « إذا كان الارسال بالاسقاط رأساً جزماً ، كما قال المرسل « قال النبي ، أو قال الإمام » فهو يتم فيه ، وذلك مثل قول الصدوق في الفقيه « قال الصادق عليه‌السلام : الماء يطهِّر ولا يطهَّر » إذ مفاده الجزم او الظنّ بصدور الحديث عن المعصوم ، فيجب أن تكون الوسائط عدولاً في ظنّه ، وإلا كان الحكم الجازم بالاسناد هادماً لجلالته وعدالته » (٢).

ولا يخفى أن غاية ما يقتضيه الاسناد جازماً ، هو جزم الصدوق او اطمئنانه على صدور الرواية من الإمام عليه‌السلام ، وهذا لا يقتضي أن يكون منشأ جزمه هو عدالة الراوي او وثاقته ، فيمكن أن يكون منشؤه هو القرائن الحافَّة على الخبر التي يفيد القطع او الاطمئنان بصدور الخبر ، ولو كان اطمئنانه حجَّة للغير ، يصحّ للغير الركون اليه وإلا فلا.

الرابعة : قد عرفت أن الصدوق كثيراً ما ذكر الراوي ونسي أن يذكر طريقه اليه في المشيخة ، أو ذكر طريقه ولكن لم يكن صحيحاً عندنا ، فهل هنا طريق

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل : ٧١٨ ، الفائدة الخامسة.

٢ ـ الرواشح : ١٧٤.

٣٨٤

يعالج هذه المشكلة؟ فقد قام المحقّق الاردبيلي صاحب كتاب « جامع الرواة » على تصحيح هذه الروايات بطريق خاصّ نذكره عند البحث عن كتاب « التهذيب ».

والذي عند سيد المحقّقين ، البروجردي قدس‌سره من الاجابة عن هذا السؤال هو أن الكتب التي نقل عن الصدوق في هذا الكتاب كانت كتباً مشهورة ، وكان الأصحاب يعوِّلون عليها ويرجعون اليها ، ولم يكن ذكر الطريق إلى هذه الكتب إلا تبرّعاً وتبرّكاً ، أي لاخراج الكتب عن صورة المرسل إلى صورة المسند وإن كان لبّاً جميعها مسانيد ، لشهرة انتساب هذه الكتب إلى مؤلفيها ، وبذلك كانت تستغني عن ذكر الطريق.

والذي يدل على ذلك ، قوله في ديباجة الكتاب : « وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوَّل واليها المرجع مثل كتاب حريز بن عبدالله السجستاني (١) ، وكتاب عبيدالله بن علي الحلبي (٢) ، وكتب علي بن مهزيار الاهوازي ـ إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً ».

وبعد هذه العبارة لا يبقى شكّ للانسان أن ذكر الطريق إلى هذه الكتب في المشيخة ، لم يكن إلا عملا تبرّعياً غير إلزامي ، ولأجل ذلك نرى أنه لم يذكر طريقاً إلى بعض هذه الكتب ، او ذكر طريقاً فيه ضعف ، لعدم المبالاة بصحَّة الطريق وعدمها ، لانه لم تكن الغاية اثبات انتساب الكتب إلى اصحابها ، فان الكتب كانت مشهورة الانتساب إلى مؤلفيها ، ولأجل ذلك نرى أن المحقّق المولى محمد تقي المجلسي ( المولود عام ١٠٠٣ ، والمتوفى عام ١٠٧٠ هـ ) ذكر في شرحه على الفقيه عند تفسير العبارة المتقدمة ما هذا لفظه : « من كتب

__________________

١ ـ قال حماد بن عيسى للصادق عليه‌السلام اني اعمل به وقرّره الإمام. روضة المتقين : ١ / ١٤.

٢ ـ عرض كتابه على الصادق عليه‌السلام فصححه الإمام ومدحه. روضة المتقين : ١ / ١٤.

٣٨٥

مشهورة بين المحدّثين ، بالانتساب إلى مصنّفيها ورواتها ، والظاهر أن المراد بالشهرة التواتر. عليها المعوّل ، يعني كلها محلّ اعتماد الاصحاب » (١).

وقال أيضاً : « الظاهر منهم النقل من الكتب المعتبرة المشهورة ، فاذا كان صاحب الكتاب ثقة يكون الخبر صحيحاً ، لأن الظاهر من نقل السند إلى الكتاب المشهور المتواتر ، مجرد التيمّن والتبرّك لا سيما إذا كان من الجماعة المشهورين كالفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ـ رضي الله عنهما ـ فان الظاهر أنه لا يضرّ جهالة سنديهما » (٢).

وقال أيضاً : مع كثرة التتّبع يظهر أن مدار ثقة الاسلام ( الكليني ) أيضاً كان على الكتب المشهورة ، وكان اتصال السند عنده أيضاً لمجرّد التيمّن والتبرّك ، ولئلاً يلحق الخبر بحسب الظاهر بالمرسل ، فان روى خبراً عن حمّاد بن عيسى ، او صفوان بن يحيى ، أو محمد بن أبي عمير فالظاهر أنه أخذ من كتبهم فلا يضرّ الجهالة التي تكون في السند إلى الكتب بمثل محمد بن اسماعيل عن الفضل ، او الضعف بمثل سهل بن زياد » (٣).

وبعد ذلك نرى أن البحث عن طرق الصدوق إلى أصحاب الكتب أمر زائد ، فاللازم البحث عن مؤلف الكتاب وطرقه إلى الإمام عليه‌السلام. هذا ما يميل إليه سيّدنا المحقّق البروجردي ويقرّبه.

نعم ، على ذلك كلّما علم أن الشيخ الصدوق أخذ الحديث من الكتب المعروفة ، فالبحث عن الطريق أمر غير لازم ، وأما إذا لم نجزم بذلك واحتملنا أن الحديث وصل اليه بالطرق المذكورة في المشيخة ، فالبحث عن صحَّة الطرق يعدُّ أمراً لازماً.

__________________

١ ـ روضة المتقين : ١ / ١٤.

٢ ـ روضة المتقين : ١ / ٢٩.

٣ ـ روضة المتقين : ١ / ٣١.

٣٨٦

ونقول بمثل ذلك في طرق الكافي ، فاذا علم أنه أخذ الحديث من الكتب التي ثبت اسنادها إلى الراوي ، فلا وجه للبحث عن ضعف الطريق او صحته. وبذلك نستغني عن كثير من المباحث حول طرق الصدوق إلى أرباب الكتب.

ثمّ إنهم أطالوا البحث عن أحوال المذكورين في المشيخة ومدحهم وقدحهم وصحة الطريق من جهتهم.

وقد عرفت أن أول من دخل في هذا الباب هو العلاّمة في « الخلاصة » ، وتبعه ابن داود ثم أرباب المجاميع الرجالية وشرّاح الفقيه ، كالعالم الفاضل المولى مراد التفريشي والعالم الجليل المجلسي الأول وغيرهما (١).

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل : ٣ / ٥٤٧ و ٧١٩ ، ولاحظ مقدمة الحدائق.

٣٨٧
٣٨٨

٣ ـ تقييم احاديث « التهذيب » و « الاستبصار »

٣٨٩
٣٩٠

إن كتاب « تهذيب الاحكام » في شرح المقنعة للشيخ المفيد ، تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( المولود عام ٣٨٥ ، والمتوفى عام ٤٦٠ هـ ) من أعظم كتب الحديث منزلة وأكثرها منفعة ، وقد شرع الشيخ في تأليف هذا الكتاب لمّا بلغ سنه ستّاً وعشرين وهذا من خوارق العادة.

قال المحقّق البروجردي : « يظهر من أدعيته للمفيد في كتاب « التهذيب » عند نقل عبارة المقنعة حيث يقول في أول الكتاب إلى أواخر كتاب الصلاة منه : « قال الشيخ ـ أيَّده الله تعالى ـ » ومنه إلى آخر الكتاب يقول : « قال الشيخ رحمه‌الله » أنه كتب الطهارة والصلاة في حال حياة الشيخ المفيد وقد قدم الشيخ الطوسي العراق عام ٤٠٨ هـ ، وتوفي الشيخ المفيد عام ٤١٣ هـ ، وأنت إذا نظرت إلى كلماته في الكتابين « التهذيب والاستبصار » وما جادل به المخالفين في المسائل الخلافية ، كمسألة مسح الرجلين ، وما أفاده في مقام الجمع بين الأخبار ، واختياراته في المسائل ، وما يستند اليه فيها وما يورده من الاخبار في كل مسألة ، لأذعنت أنه من أبناء سبعين » (١).

__________________

١ ـ مقدمة الخلاف للمحقق البروجردي قدس‌سره.

٣٩١

ثم ان طريقة الشيخ في نقل الاحاديث في هذا الكتاب مختلفة.

قال السيد الاجل بحر العلوم رحمه‌الله : « انه قد يذكر في التهذيب والاستبصار جميع السند ، كما في الكافي ، وقد يقتصر على البعض بحذف الصدر ، كما في الفقيه ، ولكنه استدرك المتروك في اخر الكتابين ، فوضع له مشيخته المعروفة ، وهي فيهما واحدة غير مختلفة ، قد ذكر فيهما جملة من الطرق إلى أصحاب الاصول والكتب ممَّن صدَّر الحديث بذكرهم وابتدأ بأسمائهم ، ولم يستوف الطرق كلها ، ولا ذكر الطريق إلى كل من روى عنه بصورة التعليق ، بل ترك الاكثر لقلّة روايته عنهم ، وأحال التفصيل إلى فهارس الشيوخ المصنفة في هذا الباب ، وزاد في « التهذيب » الحوالة على كتاب « الفهرست » الذي صنفه في هذا المعنى.

قال الشيخ في مشيخة تهذيبه : « والآن فحيث وفَّق الله تعالى للفراغ من هذا الكتاب ، نحن نذكر الطرق التي يتوصل بها إلى رواية هذه الاُصول والمصنفات ، ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار لتخرج الاخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات.

ثم قال : فما ذكرناه في هذا الكتاب عن محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله فقد أخبرنا الشيخ أبو عبدالله محمد بن نعمان رحمه‌الله ، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه‌الله ، عن محمد بن يعقوب رحمه‌الله وأخبرنا به أيضاً الحسين بن عبيدالله ، عن أبي غالب أحمد بن محمد الزراري وأبي محمد هارون بن موسى التلعكبري ، وأبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ، وأبي عبدالله أحمد بن أبي رافع الصيمري ، وابي المفضل الشيباني ، وغيرهم ، كلهم عن محمد بن يعقوب الكليني.

وأخبرنا به أيضاً أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر ، عن أحمد بن أبي رافع ، وأبي الحسين عبد الكريم بن عبدالله بن نصر البزّاز بتنيس وبغداد

٣٩٢

عن أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني جميع مصنفاته وأحاديثه سماعاً وإجازة ببغداد بباب الكوفة ، بدرب السلسلة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة » (١).

وعلى ذلك فربما يتصور أنه يجب التفتيش والتفحّص عن طرق الشيخ إلى أصحاب الكتب والاُصول.

أقول : قد عرفت مذهب سيّد المحقّقين آية الله البروجردي وهو أحد المعنيّين في علم الرجال ، وأنه كان يذهب تبعاً للمجلسيّ الأول إلى أن المشيخة للصدوق وللشيخ ، لم تكن إلا لمجرد إظهار الاحاديث بصور المسندات لا لأجل تحصيل العلم بنسبة الكتب إلى مؤلفيها ، فان نسبة هذه الكتب إلى أصحابها كانت ثابتة غير محتاجة إلى تحصيل السند ، وبالجملة ذكر المشيخة لأجل التبرّك والتيمّن ، ولاتّصال السند كما هو المرسوم في هذه الاعصار أيضا ، حيث يستجيزون عن المشايخ بالنسبة إلى الكتب الاربعة وغيرها حتى يصحّ لهم نقل الاحاديث عن هذه الكتب مسنداً ، وأما كون المشيخة لأجل تحصيل صحة نسبة هذه الكتب إلى أصحابها فهذا ممّا ينافيه كلام الصدوق والشيخ في المشيخة.

أما الصدوق فقد قدَّمنا كلامه ، وأما الشيخ فهو يقول في مشيخة التهذيب : « لتخرج الاخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات » فان هذه العبارة تعطي أن الغاية من ذكر المشيخة جعل الحديث وإخراجه بصورة المسانيد لا غير ، ولأجل ذلك نرى أن الشيخ يبتدئ في المشيخة بذكر الطرق إلى كتاب الكافي للكليني ، مع أن ثبوته له أظهر من الشمس ، وبذلك تعرف أن البحث في طرق الشيخ إلى أصحاب الكتب في المشيخة ممّا لا طائل تحته ، وليس على الفقيه إلا التفتيش عن أحوال أصحاب الكتب ومن يروون عنهم.

اللّهم إلا إذا كانت الكتب غير معروفة ، فعندئذ يجب الفحص عن كلّ

__________________

١ ـ التهذيب : ١٠ / ٢٥ ـ ٢٩ من المشيخة.

٣٩٣

من في الطريق كما لا يخفى.

تصحيح أسانيد الشيخ

ثم إنه لمّا كان كثير من طرق الشيخ الواردة في مشيخة التهذيب ، معلولاً بضعف ، أو إرسال ، او جهالة ، او بدء الحديث باناس لم يذكر لهم طريق في المشيخة ، حاول بعض المحقّقين لرفع هذه النقيصة من كتاب التهذيب بالرجوع إلى فهرست الشيخ أولا ، وطرق من تقدمه عصراً ثانياً ، او عاصره ثالثاً.

أما الأول ، فلأن للشيخ في الفهرست طرقاً إلى أرباب الكتب والاُصول الذين أهمل ذكر السند إلى كتبهم في التهذيب ، فبالرجوع إلى ذلك الكتاب يعلم طريق الشيخ إلى ارباب الكتب التي لم يذكر سنده اليها في التهذيب.

أما الثاني ، فبالرجوع إلى مشيخة الفقيه ورسالة الشيخ أبي غالب الزراري ، إذا كان لهما سند إلى الكتب التي لم يذكر سنده اليها في التهذيب ، لكن إذا أوصلنا سند الشيخ إلى هؤلاء ، وبالنتيجة يحصل السند إلى أصحاب هذه الكتب.

أما الثالث ، فبالرجوع إلى طريق النجاشي ، فانه كان معاصراً للشيخ ، مشاركاً له في أكثر المشايخ كالمفيد والحسين بن عبيدالله الغضائري ، وابنه أحمد بن الحسين ، وأحمد بن عبدون الشهير بابن الحاشر ، فاذا علم رواية النجاشي للأصل والكتاب بتوسّط أحد هؤلاء كان ذلك طريقاً للشيخ أيضاً.

ثم إن المتتبع الخبير الشيخ محمد الاردبيلي ( المتوفّى عام ١١٠١ هـ ) احد تلاميذ العلاّمة المجلسي قد قام بتأليف كتابين في الرجال ، ولكلّ دور خاص.

١ ـ « جامع الرواة ». وقد عرفنا مكانته عند البحث عن الاصول الرجالية المتأخرة في الفصول السابقة ، والكتاب مطبوع.

٣٩٤

٢ ـ « تصحيح الاسانيد » وهو بعد غير مطبوع ، ولم نقف عليه إلى الآن ، لكن ذكر المؤلف مختصره ، وديباجته في آخر كتاب « جامع الرواة » (١) واختصره المحدّث النوري ونقله في « خاتمة المستدرك » وأضاف عليه زيادات (٢).

وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب تصحيح أسانيد الشيخ في التهذيبين بطريق آخر غير ما ذكرناه من الرجوع إلى مشيخة الفهرست ، او مشيخة من تقدمه ، أو عاصره ، واليك بيانه :

إن العلاّمة الحلي في « الخلاصة » ، والسيد الجليل الميرزا الاسترآبادي في « تلخيص المقام » والسيد مصطفى التفريشي في « نقد الرجال » عمدوا إلى ذكر الشيوخ الذين اُخذت أحاديث « التهذيب » و « الاستبصار » من اُصولهم وكتبهم ، وابتدأ الشيخ في معظم أسانيدها بذكرهم اختصاراً ، مع أنه لم يدرك زمانهم ، ولكن ذكر طريقه اليهم في آخر الكتابين ، وهم تسعة وثلاثون شيخاً.

وقد اعتبر العلاّمة والاسترآبادي من هؤلاء المشيخة خمسة وعشرين ، وتركا الباقي ولعلّ منشأه أن طريق الشيخ إلى غير هؤلاء غير معتبر عندهم.

وأما السيد التفريشي فقد (٣) زاد على مشيخة التهذيبين أحداً وثلاثين شيخاً ، الذين لم يذكر الشيخ سنده اليهم في خاتمة الكتابين ، وقام هو باستخراج سنده اليهم من الفهرست ، فبلغت المشايخ حسب عدّه سبعين شيخاً ، ولكن المعتبر عنده من مجموع الطرق ثلاثون طريقاً ، وقد أوجب هذا اضطراباً واشكالاً في اعتبار أحاديث الكتابين ، حيث صار ذلك سبباً لعدم اعتبار

__________________

١ ـ لاحظ الجزء الثاني من جامع الرواة : الفائدة الرابعة من خاتمته ، الصفحة ٤٧٣ ، ونقله العلاّمة المامقاني في خاتمة التنقيح.

٢ ـ مستدرك الوسائل : ٣ / ٧١٩ ، الفائدة السادسة.

٣ ـ نقد الرجال : ٤١٧ في الفائدة الرابعة من الخاتمة.

٣٩٥

أحاديث أربعين شيخاً من سبعين ممَّن صدر الحديث بأسمائهم.

ولأجل ذلك حاول المحقق الاردبيلي لتصحيح اسانيد الكتابين بشكل آخر ، ذكره في مقدمة كتاب « تصحيح الاسانيد » وحاصله :

« إن ما ذكره علماء الرجال من طرق الشيخ قليل في الغاية ، ولا يكون مفيداً في ما هو المطلوب ، والشيخ لمّا أراد إخراج الروايات التي لم يذكر طريقه إلى ارباب الكتب في نفس التهذيب والاستبصار من الارسال ، ذكر في المشيخة والفهرست طريقاً او طريقين او اكثر إلى كل واحد من أرباب الكتب والاُصول ، فمن كان قصده الاطلاع على أحوال الاحاديث ، ينبغي له أن ينظر إلى المشيخة ويرجع إلى الفهرست. ثم قال : إني لمّا راجعت اليهما رأيت أن كثيراً من الطرق المورودة فيهما معلول على المشهور ، بضعف أو إرسال ، او جهالة وأيضاً رأيت أن الشيخ رحمه‌الله ربما بدأ في أسانيد الروايات باُناس لم يذكر لهم طريقاً أصلاً ، لا في المشيخة ولا في الفهرست ، فلأجل ذلك رأيت من اللازم تحصيل طرق الشيخ إلى أرباب الاُصول والكتب ، غير الطرق المذكورة في المشيخة والفهرست ، حتى تصير تلك الروايات معتبرة ، فلمّا طال تفكري في ذلك وتضرّعي ، اُلقي في روعي أن أنظر في أسانيد روايات التهذيبين ، فلما نظرت فيها وجدت فيها طرقاً كثيرة اليهم غير ما هو مذكور في المشيخة والفهرست ، أكثرها موصوف بالصحة والاعتبار فصنَّفت هذه الرسالة وذكرت فيها جميع الشيوخ المذكورين في المشيخة والفهرست ، وذيَّلت ما فيهما من الطرق الضعيفة او المجهولة بالاشارة إلى ما وجدته من الطرق الصحيحة او المعتبرة مع تعيين موضعها ، وأضفت اليهم من وجدت له طريقاً معتبراً ولم يذكر طريقه فيهما » (١).

__________________

١ ـ لاحظ في توضيحه ما ذكره المؤلف في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه « جامع الرواة » الصفحة ٤٧٣ ـ ٤٧٥ وما ذكرناه ملخص ما اورده المحقق البروجردي في تصديره على كتاب « جامع الرواة : ١ / ٢٦٦.

٣٩٦

ولزيادة التوضيح نقول : انه روى الشيخ في « التهذيب » روايات عن علي بن الحسن الطاطري بدأ بذكر اسمه في أسانيده. مثلا روى في كتاب الصلاة هكذا : « علي بن الحسن الطاطري قال : حدثني عبدالله بن وضّاح ، عن سماعة بن مهران قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : إياك أن تصلّي قبل أن تزول ، فانك تصلّي في وقت العصر خير لك أن تصلّي قبل أن تزول » (١).

وقال في المشيخة : « وما ذكرته عن علي بن الحسن الطاطري فقد أخبرني به أحمد بن عبدون ، عن علي بن محمد بن الزبير ، عن أبي الملك أحمد بن عمر بن كيسبة ، عن علي بن الحسن الطاطري ».

وهذا الطريق ضعيف بجهالة اثنين منهم : ابن الزبير وابن كيسبة ومقتضاه عدم اعتبار تلك الروايات التي يبلغ عددها إلى ثلاثين حديثاً في « التهذيب ».

وأما المحاولة ، فهي أنا إذا رأينا أن الشيخ روى في باب الطواف أربع روايات بهذا السند :

« موسى بن القاسم ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان » ، ثم وقفنا على أمرين :

١ ـ إن موسى بن القاسم ـ أعني من صدر به السند ـ ثقة.

٢ ـ طريق الشيخ اليه صحيح ، فعند ذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى الطاطري ، لكن لا عن طريقه اليه في المشيخة ولا في الفهرست ، بل عن طريقه في المشيخة إلى موسى بن القاسم.

ولأجل ذلك يقول الاردبيلي في مختصر تصحيح الاسانيد : « وإلى علي بن الحسن الطاطري ، فيه علي بن محمد بن الزبير في المشيخة والفهرست ، وإلى الطاطري صحيح في التهذيب في باب الطواف ».

__________________

١ ـ التهذيب : ج ٢ ، الحديث ٥٤٩.

٣٩٧

وهذا يعطي ان موسى بن قاسم ليس راوياً لهذه الروايات الاربع فقط ، بل راو لجميع كتاب الطاطري عنه ، فيعلم من ذلك ان الشيخ روى كتاب الطاطري تارة بسند ضعيف ، واخرى بسند معتبر وبذلك يحكم بصحة كل حديث بدأ الشيخ في سنده بالطاطري.

وقس على ذلك سائر الطرق التي للشيخ في الكتابين إلى المشايخ الذين لم يذكر سنده اليهم في المشيخة ولا في الفهرست ، او ذكر لكنه ضعيف عليل ، وبهذا التتبع يحصل له طرق صحيحة انهاها صاحب الكتاب إلى خمسين وثمانمائة طريق تقريباً ، وعدد المعتبر منها قريب من خمسمائة طريق.

هذه خلاصة المحاولة وقد نقده المحقق البروجردي بوجوه :

الأول : ان ما صح طرقه إلى المشايخ وان كان قليلاً ، ولكن الروايات التي رواها الشيخ بهذه الطرق القليلة عن هؤلاء المشايخ في غاية الكثيرة مثلاً :

١ ـ ان ما رواه بطرقه عن أحمد بن محمد بن عيسى يقرب من ١٢٠٠ حديث.

٢ ـ ان ما رواه بطرقه عن الحسن بن محمد بن سماعة قريب ٨٠٠ حديث.

٣ ـ ان ما رواه بطرقه عن الحسين بن سعيد يقرب من ٢٥٠٠ حديث.

٤ ـ ان ما رواه بطرقه عن سعد بن عبدالله يقرب من ٦٠٠ حديث.

٥ ـ ان ما رواه بطرقه عن محمد بن أحمد بن يحيى يقرب من ٩٥٠ حديثاً.

٦ ـ ان ما رواه بطرقه عن محمد بن علي بن محبوب يقرب من ٧٠٠ حديث.

هذا ، وان نقله عن سائر المشايخ الذين صحت طرقه اليهم أيضاً كثير

٣٩٨

جداً ، فكيف لا يكون مفيداً هو المطلوب من اخراج معظم روايات الكتاب عن الارسال.

الثاني : إذا روى موسى بن القاسم عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن ابي منصور ، عن ابن مسكان ، فهو يحتمل من جهة النقل من كتب المشايخ وجوهاً :

١ ـ يحتمل ان موسى بن قاسم اخذ الحديث عن كتاب الطاطري وحينئذ روى موسى هذا الحديث وجميع كتاب الطاطري ، وبذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى كتاب الطاطري وهذا هو الذي يتوخاه المتتبع الأردبيلي.

٢ ـ يحتمل ان موسى بن القاسم اخذ الحديث عن كتاب درست بن ابي منصور وروى هذا الكتاب عنه بواسطة الطاطري.

٣ ـ يحتمل ان موسى اخذ الحديث عن كتاب ابن مسكان ، وروى هذا الكتاب عنه بواسطة شخصين : الطاطري ، ودرست بن ابي منصور.

وعلى الاحتمالين الأخيرين يحصل للشيخ الطوسي طريق صحيح إلى كتاب درست بن ابي منصور ، وكتاب ابن مسكان ولا يحصل طريق صحيح إلى نفس كتاب الطاطري الذي هو الغاية المتوخاة.

والحاصل انه إذا كان طريق الشيخ إلى احد المشايخ الذين صدر الحديث باسمائهم واخذ الحديث من كتبهم ، ضعيفاً ، فلا يمكن اصلاحه بما إذا وقع ذلك الشيخ في اثناء السند ، وكان طريقه اليه طريقاً صحيحاً ، لأن توسط الشيخ ( الطاطري ) في ثنايا السند لا يدل على اخذ الحديث عن كتابه ، بل من الممكن كون الحديث مأخوذاً عن كتاب شيخه اعني درست بن ابي منصور ، او شيخ شيخه اعني ابن مسكان. وهذا الاحتمال قائم في جميع ما استنبطه في اسانيد التهذيبين.

٣٩٩

الثالث : ان هدف الشيخ الطوسي من تصنيف الفهرست وذكر الطرق إلى من ذكر فيه ان له كتاباً او اصلاً ، ليس اخراج التهذيبين من الارسال ولم يبدأ الشيخ في اسانيدهما بهؤلاء المذكورين في الفهرست سوى قليل منهم ، وهم المشيخة المذكورون في آخر الكتابين.

نعم ربما يوجد في بدء اسانيدهما شيوخ لم يذكر لهم طريقاً في المشيخة وعدد رواياتهم لا يزيد على خمسمائة تقريباً ، ولا تخرج هذه الروايات عن الارسال بسبب الطرق المذكورة في الفهرست غالباً.

ولا يخفى ان الشيخ تفنن في الفهرست أيضاً في ذكر الطرق إلى اصحاب الكتب والاصول على وجوه ، فتارة ذكرهم وذكر طريقه إلى كتبهم واخرى ذكر كتبهم واصولهم ولم يذكر الطريق اليهم ، وثالثة ذكر جماعة واشار إلى من ذكرهم او روى عنهم ولم يصل اسناده فيه إلى من ذكر او روى ، وقد جمع القسمين الاخيرين العلاّمة السيد محمد صادق الطباطبائي في مقدمة الفهرس (١).

__________________

١ ـ الفهرست : ١٢ ـ ١٥.

٤٠٠