كليات في علم الرجال

الشيخ جعفر السبحاني

كليات في علم الرجال

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٣١

الحاجة إلى علم الرجال

لقد طال الحوار حول الحاجة إلى علم الرجال وعدمها ، فمن قائل بتوقّف الاستنباط عليه وأنّ رحاه تدور على أُمور ، منها العلم بأحوال الرواة ، ولولاه لما تمكّن المستنبط من استخراج كثير من الاحكام عن أدلّتها ، إلى قائل بنفي الحاجة إليه ، محتجّاً بوجوه منها : قطعيّة أخبار الكتب الأربعة صدوراً ، إلى ثالث قائل بلزوم الحاجة إليه في غير ما عمل به المشهور من الروايات ، اليغير ذلك من الأنظار ، وتظهر حقيقة الحال ممّا سيوافيك من أدلّة الأقوال ، والهدف إثبات الحاجة إلى هذا العلم بنحو الايجاب الجزئي ، وأنّه ممّا لا بدَّ منه في استنباط الاحكام في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي الّذي يدّعي قائله بأنّه لا حاجة إليه أبداً ، فنقول :

استدلّ العلماء على الحاجة إلى علم الرجال بوجوه نذكر أهمَّها :

الاول : حجية قول الثقة

لا شكَّ أنَّ الأدلَّة الأربعة دلَّت على حرمة العمل بغير العلم قال سبحانه وتعالى : ( قُلْ ءَاَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (١) وقال ـ عزَّ من قائل ـ ( وَلاَ

__________________

١ ـ يونس : ٥٩.

٢١

تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) وقال أيضاً : ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٢).

وأمّا الروايات الناهية عن العمل بغير العلم فكثيرة لا تحصى ، يقف عليها كلّ من راجع الوسائل كتاب القضاء الباب « ١٠ ـ ١١ ـ ١٢ » من أبواب صفات القاضي فيرى فيها أحاديث كثيرة تمنع من العمل بغير العلم غير أنَّه قد دلَّت الأدلّة الشرعيّة على حجيّة بعض الظنون ، كالظَّواهر وخبر الواحد إلى غير ذلك من الظنون المفيدة للاطمئنان في الموضوعات والاحكام ، والسرُّ في ذلك هو أنَّ الكتاب العزيز غير متكفّل ببيان جميع الأحكام الفقهيّة ، هذا من جانب. ومن جانب آخر إنَّ الاجماع الكاشف عن قول المعصوم قليل جدّاً. ومن جهة ثالثة إنَّ العقل قاصر في أن يستكشف به أحكام الله ، لعدم احاطته بالجهات الواقعية الداعية إلى جعل الاحكام الشرعية.

نعم هو حجّة في ما إذا كانت هناك ملازمة بين حكم العقل والشرع ، كما في ادراكه الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها ، ووجوب الشّيء وحرمة ضدّه ، والملازمة بين حرمة الشّيء وفساده ، إلى غير ذلك من الامور التي بحث عنها الأُصوليون في باب الملازمات العقلية.

فهذه الجهات الثَّلاث أوجبت كون خبر الواحد بشرائطه الخاصّة حجّة قطعيّة ، وعند ذلك صارت الحجج الشرعيّة وافية باستنباط الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أنَّه ليس مطلق الخبر حجّة ، بل الحجّة هو خصوص خبر العدل ، كما مال إليه بعض ، أو خبر الثقة أعني من يثق العقلاء بقوله ، ومن المعلوم أنّ إحراز الصغرى ـ أعني كون الراوي عدلاً أو ثقة ـ يحتاج إلى الرجوع إلى علم الرجال المتكفل ببيان أحوال الرواة من العدالة والوثاقة ، وعند ذلك

__________________

١ ـ الاسراء : ٣٦.

٢ ـ يونس : ٣٦.

٢٢

يقدر المستنبط على تشخيص الثّقة عن غيره ، والصالح للاستدلال عن غير الصالح ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يستغني عنها المستنبط الا بالرجوع إلى الكتب المعدَّة لبيانها.

وهناك رأي ثالث يبدو أنه أقوى الآراء في باب حجّية الخبر ، وهو أنّ الخارج عن تحت الظنون المنهيّة ، هو الخبر الموثوق بصدوره وان لم تحرز وثاقة الراوي ، ومن المعلوم أنّ إحراز هذا الوصف للخبر ، يتوقّف على جمع أمارات وقرائن تثبت كون الخبر ممّا يوثق بصدوره. ومن القرائن الدالّة على كون الخبر موثوق الصدور ، هو العلم بأحوال الرواة الواقعة في اسناد الأخبار.

وهناك قول رابع ، وهو كون الخارج عن تحت الظّنون التي نهي عن العلم بها عبارة عن قول الثّقة المفيد للاطمئنان الّذي يعتمد على مثله العقلاء في أُمورهم ومعاشهم ، ولا شبهة أنَّ إحراز هذين الوصفين ـ أعني كون الراوي ثقة والخبر مفيداً للاطمئنان ـ لا يحصل الا بملاحظة أُمور. منها الوقوف على أحوال الرواة الواقعة في طريق الخبر ، ولأجل ذلك يمكن أن يقال : إنَّه لا منتدح لأيّ فقيه بصير من الرجوع إلى « علم الرجال » والوقوف على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في ذلك العلم.

وانما ذهب هذا القائل إلى الجمع بين الوصفين في الراوي والمروي ( أي وثاقة الراوي وكون المرويّ مفيداً للاطمئنان ) ، لأنَّ كون الراوي ثقة لا يكفي في الحجيّة ، بل يحتاج مع ذلك إلى إحراز كون الخبر مفيداً للاطمئنان ، ولا يتحقّق إلا إذا كان الراوي ضابطاً للحديث ناقلاً إيّاه حسب ما ألقاه الإمام عليه‌السلام ، وهذا لا يعرف إلا بالمراجعة إلى أحوال الراوي ، ومن المعلوم أنَّ عدم ضابطيّة بعض الرواة مع كونهم ثقاتاً أوجد اضطراباً في الأحاديث وتعارضاً في الروايات ، حيث حذفوا بعض الكلم والجمل الدخيلة في فهم الحديث ، اونقلوه بالمعنى من غير أن يكون اللّفظ كافياً في إفادة مراد الإمام عليه‌السلام.

٢٣

وبذلك يعلم بطلان دليل نافي الحاجة إلى الرجال ، حيث قال : « إنَّ مصير الأكثر إلى اعتبار الموثَّق ، بل الحسن ، بل الضّعيف المنجبر ، ينفي الحاجة إلى علم الرجال ، لأنَّ عملهم يكشف عن عدم الحاجة إلى التَّعديل ». وفيه : أنَّ ما ذكره إنَّما يرد على القول بانحصار الحجّية في خبر العدل ، وأنَّ الرجوع إلى كتب الرجال لأجل إحراز الوثاقة بمعنى العدالة. وأمّا على القول بحجّية الأعمّ من خبر العدل ، وقول الثّقة ، أو الخبر الموثوق بصدوره أو المجتمع منهما فالرُّجوع إلى الرجال لأجل تحصيل الوثوق بالصدق أو وثاقة الراوي.

ثمَّ إنَّ المحقّق التّستري استظهر أنَّ مسلك ابن داود في رجاله ومسلك القدماء هو العمل بالممدوحين والمهملين الَّذين لم يرد فيهما تضعيف من الأصحاب ، ولأجل ذلك خصّ ابن داود القسم الأوّل من كتابه بالممدوحين ومن لم يضعّفهم الأصحاب ، بخلاف العلاّمة فإنَّه خصَّ القسم الأوَّل من كتابه بالممدوحين ، ثمَّ قال : وهو الحقُّ الحقيق بالاتّباع وعليه عمل الأصحاب فترى القدماء كما يعملون بالخبر الّذي رواته ممدوحون ، يعملون بالخبر الّذي رواته غير مجروحين ، وإنّما يردّون المطعونين ، فاستثنى ابن الوليد وابن بابويه من كتاب « نوادر الحكمة » عدّة أشخاص ، واستثنى المفيد من شرائع عليّ بن إبراهيم حديثاً واحداً في تحريم لحم البعير ، وهذا يدلّ على أنّ الكتب التي لم يطعنوا في طرقها ولم يستثنوا منها شيئاً كانت معتبرة عندهم ، ورواتها مقبولو الرواية ، إن لم يكونوا مطعونين من أئمّة الرجال ولا قرينة ، وإلا فتقبل (١) مع الطعن ثم ذكر عدَّة شواهد على ذلك فمن أراد فليلاحظ (٢).

وعلى فرض صحّة مااستنتج ، فالحاجة إلى علم الرّجال في معرفة الممدوحين والمهملين والمطعونين قائمة بحالها.

__________________

١ ـ كذا في المطبوع والظاهر « فلا تقبل ».

٢ ـ قاموس الرجال : ١ / ٢٥ ـ ٢٧.

٢٤

هذا هو الوجه الأوّل للزوم المراجعة إلى علم الرجال. واليك الوجوه الباقية.

الثاني : الرجوع إلى صفات الرّاوي في الأخبار العلاجيّة

إنَّ الأخبار العلاجيّة تأمر بالرّجوع إلى صفات الرّاوي ، من الأعدليّة والأفقهيّة ، حتّى يرتفع التعارض بين الخبرين بترجيح أحدهما على الآخر في ضوء هذه الصفات. ومن المعلوم أنّ إحراز هذه الصفات في الرّاوة لا يحصل إلا بالمراجعة إلى « علم الرجال » ، قال الصادق عليه‌السلام في الجواب عن سؤال عمر بن حنظلة عن اختلاف القضاة في الحكم مع استناد اختلافهما إلى الاختلاف في الحديث : « الحكم ماحكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (١).

فإنَّ الحديث وإن كان وارداً في صفات القاضي ، غير أنَّ القضاة في ذلك الوقت كانوا رواة أيضاً ، وبما أنّ الاجتهاد كان في ذلك الزَّمن قليل المؤنة ، بسيط الحقيقة ، لم يكن هناك فرق بين الاستنباط ونقل الحديث إلا قليلاً ، ولأجل ذلك تعدّى الفقهاء من صفات « القاضي » إلى صفات « الراوي ».

أضف إلى ذلك أنّ الروايات العلاجيّة غير منحصرة بمقبولة عمر بن حنظلة ، بل هناك روايات أُخر تأمر بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الراوي أيضاً ، يقف عليها من راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

الثالث : وجود الوضّاعين والمدلّسين في الرواة

إنَّ من راجع أحوال الرواة يقف على وجود الوضّاعين والمدلّسين

__________________

١ ـ الوسائل : ١٨ / ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب التاسع من أبواب صفات القاضي الحديث الأول الصفحة ٧٥.

٢٥

والمتعمّدين للكذب على الله ورسوله فيهم ، ومع هذا كيف يصحّ للمجتهد الافتاء بمجرّد الوقوف على الخبر من دون التعرّف قبل ذلك على الراوي وصفاته.

قال الصادق عليه‌السلام : « إنَّ المغيرة بن سعيد ، دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتَّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربِّنا وسنَّة نبيّنا محمَّد » (١).

وقال أيضاً : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس » (٢).

وقال يونس بن عبد الرحمن : وافيت العراق فوجدت جماعة من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبد الله قال : « إنَّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله ، لعن الله أبا الخطّاب وكذلك أصحاب أبي الخطّاب ، يدسُّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن » (٣).

إنَّ الاستدلال بهذه الرّوايات على فرض تواترها أو استفاضتها سهل ، ولعلَّ المراجع المتتبّع يقف على مدى استفاضتها وتواترها.

ولكنَّ الاستدلال بها يتمّ وإن لم تثبت بإحدى الصُّورتين أيضاً بل يكفي كونها أخبار آحاد مردَّدة بين كونها صحيحة أو مكذوبة ، فلو كانت صحيحة ، لصارت حجَّة على المقصود وهووجود روايات مفتعلة على لسان النّبيّ الأعظم

__________________

١ ـ رجال الكشي : ١٩٥.

٢ ـ رجال الكشي : ٢٥٧.

٣ ـ رجال الكشي : ١٩٥ ـ ترجمة المغيرة الرقم ١٠٣.

٢٦

وآله الأكرمين ، وإن كانت مكذوبة وباطلة ، فيثبت المدّعى أيضاً بنفس وجود تلك الروايات المصنوعة في الكتب الروائيّة.

وهذا القسم من الرّوايات ممّا يثبت بها المدَّعى على كلّ تقدير سواء أصحَّت أم لم تصحّ ، وهذا من لطائف الاستدلال.

ولأجل هذا التخليط من المدلّسين ، أمر الائمة عليهم‌السلام بعرض الأحاديث على الكتاب والسَّنة ، وأنَّ كلَّ حديث لا يوافق كتاب الله ولا سَّنة نبيّه يضرب به عرض الجدار. وقد تواترت الروايات على الترجيح بموافقة الكتاب والسّنة ، يقف عليها القارئ إذا راجع الباب التاسع من أبواب صفات القاضي من الوسائل ( ج ١٨ ، كتاب القضاء ).

ويوقفك على حقيقة الحال ما ذكره الشيخ الطوسي في كتاب « العدَّة » قال : « إنّا وجدنا الطّائفة ميَّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثَّقت الثّقات منهم وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ومن لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذموّا المذموم وقالوا : فلان متَّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلا مخلِّط ، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفيّ وفلان فطحيّ ، وغير ذلك من الطّعون التي ذكروها وصنَّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارستهم » (١).

وهذه العبارة تنصّ على وجود المدلّسين والوضّاعين والمخلِّطين بين رواة الشيعة ، فكيف يمكن القول بحجيّة كلّ ما في الكتب الأربعة اوغيرها من دون تمييز بين الثقّقة وغيره.

وما ربَّما يقال من أنّ ائمّة الحديث ، قد استخرجوا أحاديث الكتب

__________________

١ ـ عدة الاصول ، للشيخ الطوسي : ١ / ٣٦٦.

٢٧

الأربعة من الأُصول والجوامع الأوّلية بعد تهذيبها عن هؤلاء الأشخاص ، وإن كان صحيحاً في الجملة ، ولكن قصارى جهدهم أنّه حصلت للمشايخ الثلاثة وحضرت عندهم قرائن تفيد الاطمئنان على صدور ما رووه في كتبهم الأربعة أو الثَّلاثة (١) عن الأئمة ، ولكن من أين نعلم أنَّه لو حصلت عندنا تلك القرائن الحاصلة عندهم ، لحصل لنا الاطمئنان أيضاً مثل ما حصل لهم.

أضف إلى ذلك أنّ ادّعاء حصول الاطمئنان للمشايخ في مجموع ما رووه بعيد جدّاً ، لأنَّهم رووا ما نقطع ببطلانه.

هذا مضافاً إلى أنّ ادّعاء حصول الوثوق والاطمئنان للمشايخ بصدور عامّة الروايات حتّى المتعارضين أمر لا يقبله الذَّوق السَّليم.

الرابع : وجود العامي في أسانيد الروايات

إنَّ من سبر روايات الكتب الأربعة وغيرها ، يقف على وجود العامي في أسانيد الروايات ، وكثير منهم قد وقعوا في ذيل السند ، وكان الأئمة يفتونهم بما هومعروف بين أئمّتهم ، وقد روى أئمّة الحديث تلك الأسئلة والأجوبة ، من دون أن يشيروا إلى كون الراوي عامياً يقتفي أثر أئمّته وأنّ الفتوى التي سمعها من الإمام عليه‌السلام صدرت منه تقية ، وعندئذ فالرجوع إلى أحوال الرواة يوجب تمييز الخبر الصادر تقية عن غيره.

الخامس : اجماع العلماء

أجمع علماء الإماميّة ، بل فرق المسلمين جميعاً في الأعصار السابقة ، على العناية بتأليف هذا العلم وتدوينه من عصر الأئمة عليهم‌السلام إلى

__________________

١ ـ الترديد بين الأربعة والثلاثة ، انما هو لاجل الترديد في أن الاستبصار كتاب مستقل أو هو جزء من كتاب التهذيب ، وقد نقل شيخنا الوالد ( قدس الله سره ) عن شيخه شيخ الشريعة الاصفهاني ، أنه كان يذهب إلى أن الاستبصار ذيل لكتاب التهذيب وليس كتاباً مستقلاً. ولكن الظاهر من العدة : ١ / ٣٥٦ أنهما كتابان مستقلان.

٢٨

يومنا هذا ، ولولا دخالته في استنباط الحكم الإلهي ، لما كان لهذه العناية وجه.

والحاصل ؛ أنّ التزام الفقهاء والمجتهدين ، بل المحدّثين في عامَّة العصور ، بنقل اسانيد الروايات ، والبحث عن أوصاف الرواة من حيث العدالة والوثاقة ، والدّقة والضبط ، يدلّ على أنَّ معرفة رجال الروايات من دعائم الاجتهاد.

٢٩
٣٠

٢ ـ أدلة نفاة الحاجة إلى علم الرجال

* حجية أخبار الكتب الأربعة.

* عمل المشهور جابر لضعف السند.

* لا طريق إلى اثبات عدالة الرواة.

* تفضيح الناس والتشهير بهم بهذا العلم وعدم اجتماع شرائط الشهادة.

٣١
٣٢

الفصل الثاني

الحاجة الى علم الرجال

١ ـ أدلّة المثبتين.

٢ ـ أدلّة النافين.

٣٣
٣٤

حجة النافين للحاجة إلى علم الرجال

قد عرفت أدلة القائلين بوجود الحاجة إلى علم الرجال في استنباط الاحكام من أدلتها. بقيت أدلة النافين ، واليك بيان المهم منها :

الأوّل : قطعية روايات الكتب الأربعة

ذهبت الاخبارية إلى القول بقطعيّة روايات الكتب الأربعة وأنَّ أحاديثها مقطوعة الصّدور عن المعصومين عليهم‌السلام وعلى ذلك فالبحث عن حال الرّاوي من حيث الوثاقة وعدمها ، لأجل طلب الاطمئنان بالصدور ، والمفروض أنَّها مقطوعة الصُّدور.

ولكن هذه دعوى بلا دليل ، إذ كيف يمكن ادّعاء القطعيّة لأخبارها ، مع أنَّ مؤلّفيها لم يدَّعوا ذلك ، وأقصى ما يمكن أن ينسب اليهم أنَّهم ادَّعوا صحة الأخبار المودعة فيها ، وهي غير كونها متواترة أو قطعيّة ، والمراد من الصحّة اقترانها بقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها عن الأئمة عليهم‌السلام. وهل يكفي الحكم بالصحّة في جواز العمل بأخبارها بلا تفحّص أو لا ، سنعقد فصلا خاصّاً للبحث في ذلك المجال ، فتربّص حتّى حين.

أضف إلى ذلك أنَّ أدلّة الأحكام الشرعيَّة لا تختصّ بالكتب الأربعة ، ولأجل ذلك لا مناص عن الاستفسار عن أحوال الرواة. وقد نقل في الوسائل

٣٥

عن سبعين كتاباً ، أحاديث غير موجودة في الكتب الأربعة وقد وقف المتأخّرون على أُصول وكتب لم تصل إليها يد صاحب الوسائل أيضاً ، فلأجل ذلك قام المحدّث النوري بتأليف كتاب أسماه « مستدرك الوسائل » وفيه من الأحاديث ما لا غنى عنها للمستنبط.

الثاني : عمل المشهور جابر لضعف السند

ذهب بعضهم إلى أنَّ كلَّ خبر عمل به المشهور فهو حجة سواء كان الراوي ثقة أم لا ، وكلّ خبر لم يعمل به المشهور ليس بحجّة وإن كانت رواتها ثقات.

وفيه : أنَّ معرفة المشهور في كلّ المسائل أمر مشكل ، لأنّ بعض المسائل غير معنونة في كتبهم ، وجملة أُخرى منها لا شهرة فيها ، وقسم منها يعدّ من الأشهر والمشهور ، ولأجل ذلك لا مناص من القول بحجيّة قول الثقات وحده وإن لم يكن مشهوراً. نعم يجب أن لا يكون معرضاً عنه كما حقّق في محلّه.

الثالث : لا طريق إلى اثبات العدالة

إنَّ عدالة الراوي لا طريق اليها إلا بالرجوع إلى كتب أهل الرجال الّذين أخذوا عدالة الراوي من كتب غيرهم ، وغيرهم من غيرهم ، ولا يثبت بذلك ، التعديلُ المعتبر ، لعدم العبرة بالقرطاس.

وفيه : أنّ الاعتماد على الكتب الرجالية ، لأجل ثبوت نسبتها إلى مؤلّفيها ، لقراءتهم على تلاميذهم وقراءة هؤلاء على غيرهم وهكذا ، اوبقراءة التّلاميذ عليهم أو بإجازة من المؤلّف على نقل ما في الكتاب ، وعلى ذلك يكون الكتاب مسموعاً على المستنبط أو ثابتة نسبته إلى المؤلف.

والحاصل ؛ أنَّ الكتب إذا ثبتت نسبتها إلى كاتبها عن طريق التواتر والاستفاضة ، أو الاطمئنان العقلائي الّذي يعدّ علماً عرفياً أو الحجّة الشرعيّة ،

٣٦

يصحّ الاعتماد عليها. ولأجل ذلك تقبل الأقارير المكتوبة والوصايا المرقومة بخطوط المُقرّ والموصي أو بخطّ غيرهم ، إذا دلّت القرائن على صحّتها ، كما إذا ختمت بخاتم المُقرّ والموصي أو غير ذلك من القرائن. ومن يرفض الكتابة فإنَّما يرفضها في المشكوك لا في المعلوم والمطمئنّ منها.

أضف إلى ذلك أنَّ تشريع اعتبار العدالة في الراوي ، يجب أن يكون على وجه يسهل تحصيلها ، ولو كان متعسّراً أو متعذّراً ، يكون الاعتبار لغواً والتشريع بلا فائدة.

وعلى هذا فلو كانت العدالة المعتبرة في رواة الأحاديث ، ممكنة التحصيل بالطَّريق الميسور وهو قول الرجاليين فهو ، وإلا فلو لم يكن قولهم حجّة ، يكون اعتبارها فيهم أمراً لغواً لتعسّر تحصيلها بغير هذا الطَّريق.

وللعلاّمة المامقاني جواب آخر وهو : أنَّ التزكية ليست شهادة حتّى يعتبر فيها ما يعتبر في ذلك ، من الأصالة والشفاه وغيرها ، وإلا لما جاز أخذ الأخبار من الأُصول مع أنَّها مأخذوة من الأُصول الأربعمائة ، بل المقصود من الرجوع إلى علم الرجال هو التثبّت وتحصيل الظنّ الاطمئناني الانتظامي الّذي انتظم أُمور العقلاء به فيما يحتاجون إليه وهو يختلف باختلاف الأُمور معاشاً ومعاداً ويختلف في كلّ منهما باعتبار زيادة الاهتمام ونقصانه. (١)

وهذا الجواب انما يتمّ على مذهب من يجعل الرّجوع إلى الكتب الرجالية من باب جمع القرائن والشّواهد لتحصيل الاطمئنان على وثاقة الراوي أو صدور الحديث. وأمّا على مذهب من يعتبر قولهم حجّة من باب الشَّهادة فلا.

فالحقّ في الجواب هو التَّفصيل بين المذهبين. فلو اعتبرنا الرجوع اليهم من باب الشّهادة ، فالجواب ما ذكرناه. ولو اعتبرناه من باب تحصيل القرائن

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٥ ، من المقدمة.

٣٧

والشواهد على صدق الراوي وصدور الرواية ، فالجواب ما ذكره قدس‌سره.

ثمَّ إنَّ محلَّ البحث في حجّية قولهم ، إنَّما هو إذا لم يحصل العلم من قولهم أو لم يتحقّق الاطمئنان ، وإلا انحصر الوجه في قبول قولهم من باب التعّبد ، وأما الصورتان الاُوليان ، فخارجتان عن محلّ البحث ، لأنَّ الأوّل علم قطعيّ ، والثاني علم عرفي وحجّة قطعية وإن لم تكن حجّيته ذاتية مثل العلم.

الرابع : الخلاف في معنى العدالة والفسق

إنَّ الخلاف العظيم في معنى العدالة والفسق ، يمنع من الأخذ بتعديل علماء الرجال بعد عدم معلوميّة مختار المعدِّل في معنى العدالة ومخالفته معنا في المبنى ، فإنَّ مختار الشيخ في العدالة ، أنَّها ظهور الإسلام ، بل ظاهره دعوى كونه مشهوراً ، فكيف يعتمد على تعديله ، من يقول بكون العدالة هي الملكة.

وأجاب عنه العلاّمة المامقاني ( مضافاً إلى أنَّ مراجعة علماء الرجال إنَّما هو من باب التبيُن الحاصل على كلّ حال ) ، بقوله : إنّ عدالة مثل الشيخ والتفاته إلى الخلاف في معنى العدالة ، تقتضيان ارادته بالعدالة فيمن أثبت عدالته من الرواة ، العدالة المتّفق عليها ، فإنَّ التأليف والتَّصنيف إذا كان لغيره خصوصاً للعمل به مدى الدَّهر .. فلايبني على مذهب خاصّ الا بالتّنبيه عليه. (١)

توضيحه : أنَّ المؤلّف لو صرَّح بمذهبه في مجال الجرح والتَّعديل يؤخذ به ، وإن ترك التَّصريح به ، فالظّاهر أنَّه يقتفي أثر المشهور في ذاك المجال وطرق ثبوتهما وغير ذلك ممّا يتعلّق بهما ، إذ لو كان له مذهب خاصّ وراء

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ ، من المقدمة.

٣٨

مذهب المشهور لوجب عليه التنبيه ، حتّى لا يكون غارّاً ، لأنَّ المفروض أنَّ ما قام به من العبء في هذا المضمار ، لم يكن لنفسه واستفادة شخصه ، بل الظّاهر أنَّه ألّفه لاستفادة العموم ومراجعتهم عند الاستنباط ، فلا بدَّ أن يكون متّفق الاصطلاح مع المشهور ، وإلا لوجب التّصريح بالخلاف.

يقول المحقّق القمّي في هذا الصَّدد : والظّاهر أنَّ المصنِّف لمثل هذه الكتب لا يريد اختصاص مجتهدي زمانه به ، حتّى يقال إنَّه صنَّفه للعارفين بطريقته ، سيَّما وطريقة أهل العصر من العلماء عدم الرُّجوع إلى كتب معاصريهم من جهة الاستناد غالباً ، وإنَّما تنفع المصنَّفات بعد موت مصنِّفيها غالباً إذا تباعد الزَّمان. فعمدة مقاصدهم في تأليف هذه الكتب بقاؤها أبد الدهر وانتفاع من سيجيء بعدهم منهم ، فإذا لوحظ هذا المعنى منضمّاً إلى عدالة المصنّفين وورعهم وتقواهم وفطانتهم وحذاقتهم ، يظهر أنَّهم أرادوا بما ذكروا من العدالة المعنى الّذي هو مسلَّم الكلّ حتّى ينتفع الكلّ. واحتمال الغفلة للمؤلّف عن هذا المعنى حين التأليف سيّما مع تمادي زمان التأليف والانتفاع به في حياته في غاية البعد (١).

وهناك قرينة أُخرى على أنَّهم لا يريدون من الثقة ، مجرَّد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وإلاَّ يلزم توثيق أكثر المسلمين ، ولا مجرَّد حسن الظّاهر ، لعدم حصول الوثوق به ما لم يحرز الملكة الرادعة.

قال العلاّمة المامقاني : إنَّ هناك قرائن على أنَّهم أرادوا بالعدالة معنى الملكة وهو أنّا وجدنا علماء الرجال قد ذكروا في جملة من الرواة ما يزيد على ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، بل على حسن الظاهر بمراتب ومع ذلك لم يصرّحوا فيهم بالتعديل والتوثيق ، ألا ترى أنَّهم ذكروا في إبراهيم بن هاشم ، أنَّه أوّل من نشر أحاديث الكوفيّين بقم ، وهذا يدلّ على ما هو أقوى من حسن

__________________

١ ـ القوانين : ١ / ٤٧٤ الباب السادس في السّنة.

٣٩

الظّاهر بمراتب ، لأنَّ أهل قم كان من شأنهم عدم الوثوق بمن يروي عن الضعفاء ، بل كانوا يخرجونه من بلدهم ، فكيف بمن كان هو في نفسه فاسقاً أو على غير الطَّريقة الحقَّة. فتحقّق نشر الأخبار بينهم يدلّ على كمال جلالته ومع ذلك لم يصرِّح فيه أحد بالتّوثيق والتّعديل (١).

الخامس : تفضيح الناس في هذا العلم

إنَّ علم الرجال علم منكر يجب التحرّز عنه ، لأنَّ فيه تفضيحاً للنّاس ، وقد نهينا عن التجسّس عن معايبهم وأمرنا بالغضّ والتستّر.

وفيه أوّلاً : النقض بباب المرافعات. حيث إنّ للمنكر جرح شاهد المدَّعي وتكذيبه ، وبالأمر بذكر المعايب في مورد الاستشارة ، إلى غير ذلك ممّا يجوز فيه الاغتياب.

وثانياً : إنَّ الأحكام الالهيَّة أولى بالتحفّظ من الحقوق التي اُشير اليها.

أضف إلى ذلك أنَّه لو كان التفحّص عن الرواة أمراً مرغوباً عنه ، فلماذا أمر الله سبحانه بالتثبّت والتبيّن عند سماع الخبر ، إذ قال سبحانه : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا ) (٢).

والأمر به وإن جاء في مورد الفاسق ، لكنَّه يعمُّ المجهول للتّعليل الوارد في ذيل الآية ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) فإنَّ احتمال إصابة القوم بجهالة لا يختصّ بمن علم فسقه ، بل يعمّ محتمله كما لا يخفى.

السادس : قول الرجالي وشرائط الشهادة

لو قلنا باعتبار قول الرجالي من باب الشَّهادة ، يجب أن تجتمع فيه

__________________

١ ـ تنقيح المقال : ١ / ١٧٦ من المقدمة.

٢ ـ الحجرات : ٦.

٤٠