كليات في علم الرجال

الشيخ جعفر السبحاني

كليات في علم الرجال

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٣١

اليه ، وضعيف تردّ روايته ، وعندما يلاحظ المستنبط الاسماء المشتركة في الاسناد لا يقدر على تعيين المراد.

ولأجل ذلك عمد الرجاليون إلى تأسيس فرع آخر لعلم الرجال أسموه بـ « تمييز المشتركات » ، أهمها وأعظمها هو « تمييز المشتركات للعلامة الكاظمي » ولذلك يجب على المستنبط في تعيين المراد من الاسماء المشتركة ، مراجعة فصل « تمييز المشتركات » ، ولولاه لما انحلت العقدة ، غير أن كثيراً من كتب الرجال فاقدة لهذا الفرع ، وإنما يذكرون الاسماء بالآباء والأجداد ، من دون أن يذكروا ما يميَّز به المشترك عن غيره. ولقد أدخل العلاّمة المامقاني ما كتبه العلاّمة الكاظمي في رجاله ، وبذلك صار كتاباً جامعاً بالنسبة ، وقد تطرق ذلك النقص إلى أكثر الكتب الرجالية ، لأجل أنها اُلِّفت على ما رسمه القدماء على ترتيب الحروف الهجائية ، دون ترتيب الطبقات.

بروز نمط خاصّ في تأليف الرجال

ولأجل هذه النَّقائص الفنية في هذه الخطة ، نهضت عدة من الاعلام والمشايخ في العصر الماضي والحاضر الى فتح طريق آخر في وجوه المجتهدين والمستنبطين ، وهذا الطريق هو لمس حالهم بالمباشرة لا بالرجوع الى أقوال أئمة الرجال بل بالرجوع الى سند الروايات المتكررة في الكتب الحديثَّية المشتملة على اسم الراوي ، فان في هذا الطريق إمكان التعرّف على ميزان علم الراوي وفقهه وضبطه ووثاقته في النقل ، اذ بالرجوع إلى متون أحاديث الراوي المبعثرة على الابواب وملاحظتها لفظاً ومعنى ، وكمّاً وكيفاً يعرف أمور :

١ ـ يفهم من رواياته ، مدى تضلّع الرواي في الفقه والكلام والتاريخ والتفسير وغيرها من المعارف ، كما يعرف عدم مهارته وحذاقته في شيء منها ، إذا قيست رواياته بعضها ببعض ، وبما رواه آخرون في معناها.

٢ ـ يعرف مقدار رواياته قلَّة وكثرة ، وأنه هل هو ضابط فيما يروي أو

١٤١

مخلّط أو مدلّس.

٣ ـ تعرف طبقات الرواة مشايخهم وتلاميذهم.

٤ ـ يحصل التعرّف على وضع الاسناد من حيث الكمال والسقط ، فربما تكون الرواية في الكتب الاربعة مسندة إلى الامام ، ولكن الواقف على طبقات الرجال يعرف المفقودة أثناء السند.

يقول الاستاذ الشيخ « محمد واعظ زاده الخراساني » في رسالة نشرت بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ الطوسي قدس‌سره :

« إن الرجاليّين كانوا وما يزالون يتعبدون في الاكثر بقول أئمة هذا الفنّ ويقلدونهم في جرح الرواة وتعديلهم ، الا أن الأمر لا ينحصر فيه ، فهناك بإزاء ذاك ، باب مفتوح إلى معرفة الرواة ولمس حالهم بالمباشرة. وهذا يحصل بالرجوع إلى أمرين :

١ ـ الرّجوع إلى أسناد الروايات المتكررة في الكتب الحديثية المشتملة على اسم الراوي ، وبذلك يظهر الخلل في كثير من الاسانيد ، وينكشف الارسال فيها بسقوط بعض الوسائط وعدم اتصال السلسلة ، ويمكننا معرفة الحلقة المفقودة في سلسلة حديث باستقراء الاشباه والنظائر إذا توفَّرت وكثرت القرائن ، وقامت الشواهد في الاسانيد المتكثّرة.

٢ ـ الرّجوع إلى متون أحاديث الراوي المبعثرة على الابواب ، واعتبارها لفظاً ومعنى وكمّاً وكيفا ، فيفهم منها أن الراوي هل كان متضلّعاً في علم الفقه او التفسير او غيرهما من المعارف ، او لم يكن له مهارة وحذاقة في شيء منها؟ يفهم ذلك كله إذا قيست رواياته بعضها ببعض وبما رواه الآخرون في معناها ، ويلاحظ أنه قليل الرواية او كثيرها وأنه ثبت ضابط فيما يرويه أو مخلط مدلس.

وإذا انضمّ اليه أمر ثالث ينكشف حال الراوي أتمَّ الانكشاف ، وهو مراجعة الاحاديث التي وردت في حال الرواة ، وقد جمع معظمها أبو عمرو

١٤٢

الكشي في رجاله ، فهي تعطينا بصيرة بحال رواة الحديث من ناحية اُخرى وهي موقف الرواة من الائمة الهداة ، ودرجات قرب الرجال وبعدهم عنهم.

وعلى الجملة فمعرفة الرواة وطبقاتهم عن طريق أحاديثهم وملاحظتها متناً وسنداً ، تكاد تكون معرفة بالمباشرة والنّظر لا بالتقليد والأثر » (١).

١ ـ جامع الرواة

ان أول من قام بهذا العمل بصورة النواة ، هو الشيخ المحقق الاردبيلي ( مؤلف جامع الرواة ) المعاصر للعلامة المجلسي ، فانه يلتقط في ترجمة الرجال جملة من الاسانيد عن الكتب الاربعة وغيرها ، ويجعلها دليلا على التعرّف على شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وعصره.

٢ ـ طرائف المقال

وقام بعده بهذا العمل السيّد محمد شفيع الموسوي التفريشي ، فألَّف كتابه المسمّى بـ « طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال ». فقد جعل مشايخه الطبقة الاولى ، ثمَّ مشايخ مشايخه ، الطبقة الثانية ، الى أن ينتهي إلى عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء الكل في اثنتين وثلاثين طبقة وجعل الشيخ الطوسي ومن في طبقته ، الطبقة الثانية عشر. توجد نسخة من هذا الاثر النفيس في مكتبة آية الله المرعشي ـ دام ظله ـ وهو بعد لم يطبع.

٣ ـ مرتب الاسانيد

وقام بعده المحقّق البروجردي ، إمام هذا الفّن بعملين كبيرين يعدّان من أبرز الاعمال وأعمقها في الرجال.

الاول : رتَّب اسانيد كلّ من الكتب الاربعة وسمّاها « مرتّب أسانيد

__________________

١ ـ لاحظ الرسالة : ٦٨٣ ـ ٦٨٥ بتلخيص منّا.

١٤٣

الكافي » و « مرتَّب أسانيد التهذيب » ، ثم انصرف إلى ترتيب أسانيد الكتب الاربعة الرجالية وغيرها من كتب الحديث ، مراعياً فيها ترتيب الحروف ، فباستيفاء الاسانيد وقياس بعضها مع بعض يعرف جميع شيوخ الراوي وتلاميذه وطبقته وغيرها من الفوائد.

فبالرجوع إلى هذا الفهرس يعلم مقدار مشايخ الراوي وتلاميذه ، كما يعرف من هو مشاركه في نقل الحديث وكان في طبقته ، كما يعلم مشايخ كل واحد من هؤلاء الرّاوة وطرقهم إلى الامام.

الثاني : قام بتأليف كتاب باسم « طبقات الرجال » فقد جعل سلسلة الرواة من عصر النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان الشيخ الطوسي اثنتي عشرة طبقة ، فجعل الصحابة الطبقة الاولى ، ومن أخذ عنهم الحديث الطبقة الثانية ، وهكذا والعمل الثاني منتزع من العمل الاول أعني تجريد الاسانيد ، وهذا الاثر النفيس ، بل الآثار النفيسة بعد غير مطبوعة ، بل مخزونة في مكتبته الشخصية العامرة ، نسأل الله سبحانه أن يوفق أهل الجدّ والعلم للقيام بطبع هذه التركة النفيسة.

يقول الاستاذ « واعظ زاده » وهو يتحدّث عن الامام البروجردي في تلك الرسالة وأنه أحد من سلك هذا الطريق ، وان لم يكن مبتكراً في فتح هذا الباب :

« إنَّ الإشراف على جميع روايات الرّاوي يستدعي جمعها في كرّاس واحد ، وهذا ما عمله قديماً علماء الحديث من الجمهور ، وسمَّوا هذا النوع من الكتب « المسند » ، وكان الغرض الأهم لهم من هذا العمل ، التلاقي مع الرواة في أحاديثهم. أما الشيعة الامامية فلم يهتمّوا بالمسانيد وكان الامام البروجردي ، يحبِّذ هذا العمل ويرغب طلاب العلم بالاشتغال به ، ولا ريب أنه فراغ في حديثنا يجب أن يسدَّ.

١٤٤

والإمام البروجردي اكتفى من ذلك بجمع اسانيد كل راو إلى الامام فقط ، ورتَّبها في فهارس كاملة. هذا ما ابتكره الإمام ولم يسبقه فيه غيره. نعم ، استخبار طبقة الرواة وشيوخهم وتلاميذهم من سند الاحاديث لم يتغافل عنه السّابقون ، كيف وإنهم يستدلون بذلك في كتبهم ، وقد اكثر الشيخ محمد الاردبيلي في كتابه « جامع الرواة » منه. فإنه يلتقط في ترجمة الرجال ، جملة من الاسانيد من الكتب الاربعة وغيرها ، ويستدلّ بها على شيوخ الراوي وتلاميذهم وطبقته من دون استقصاء.

نعم ، إنّ البروجردي ليس أول من تفطن والتفت إلى مدى تأثير الاسانيد في معرفة الرواة وطبقاتهم ، وإنما الاستاذ أول من رتَّب الاسانيد واستقصاها في فهارس جامعة ، وبذلك وضع أمام المحقّقين ذريعة محكمة للاستشراف على شتّى الاسانيد للرواة والانتفاع بها.

إنّ الاُستاذ لما أحسَّ بضرورة استقصاء الاسانيد التي وقع فيها اسم الراوي ، وكانت الاسانيد مبعثرة مع أحاديثها في ثنايا الكتب ، بحيث يصعب او يستحيل الاحاطة بها عادة ، تفطَّن بأنه يجب أن يلتقطها من مواضعها فيرتّبها في قوائم وفهارس.

وابتدأ عمله هذا بأسانيد الكتب الاربعة وسمّاها « مرتَّب أسانيد الكافي » ، ثم « مرتَّب أسانيد التهذيب » وهكذا. ثمَّ انصرف إلى الكتب الاربعة الرجالية وكثير من غيرها من كتب الحديث مراعياً ترتيب الحروف.

وها نحن نعرض نموذجاً من عمل الإمام الأكبر حتى يعرف منه ما تحمله من المشاق في سدّ هذا الفراغ.

ومن لاحظ هذا الاُنموذج ، يعرف مدى ما لهذه الفهارس من الأثر في علم الرجال كما يقف على اُسلوبها ، ولتوضيح حال هذا الانموذج نقول :

إن الشيخ الطوسي مؤلف « التهذيب والاستبصار » أخذ جميع ما يرويه في

١٤٥

هذين الكتابين ، من كتب وجوامع ظهرت في القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري ، فيكتفي في نقل الحديث باسم صاحب الكتاب في اول السند ، ثم يذكر طريقه إلى أرباب الكتب في خاتمة الكتابين ، في باب اسماه المشيخة ، وقد سبقه إلى هذا العمل الشيخ الصدوق في « من لا يحضره الفقيه ».

وممَّن نقل في التهذيب عنه « الحسن بن محمد بن سماعة » فقد نقل من كتابه أحاديث كثيرة في مختلف الابواب.

فالإمام البروجردي ذكر طرق ابن سماعة إلى الأئمة على ترتيب الحروف ، فيبدأ باسم أحمد بن أبي بشير ، ثم أحمد بن الحسن الميثمي ، ثم اسحاق. فمن تأمل في هذا الاُنموذج يعلم مشايخ ابن سماعة في التهذيب ويعلم مشايخ هذه المشايخ وطرقهم إلى الامام ، فاذا ضمَّ ترتيب اسانيد الحسن بن محمد بن سماعة في التهذيب إلى سائر الكتب يعلم من المجموع مشايخه ومشايخ مشايخه وطبقاتهم ، كما يعرف من ملاحظة المتون مقدار تضلّعه في الحديث وضبطه وإتقانه إلى غير ذلك من الفوائد.

٤ ـ معجم رجال الحديث

وأخيراً قام العلاّمة المحقّق الخوئي ـ دام ظلّه الوارف ـ بتأليف كتاب اسماه « معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة » ومن خصائص ومزايا هذا الكتاب هي أنه قد ذكر في ترجمة كل شخص جميع رواته ومن روى هو عنهم في الكتب الاربعة ، وقد يذكر ما في غيرها أيضاً ولا سيَّما رجال الكشي ، فقد ذكر أكثر ما فيه من الرواة والمرويّ عنهم ، وبذلك خدم علم الرجال خدمة كبيرة.

أوّلاً : يعرف بالمراجعة الى تفصيل طبقات الرّواة ـ أعني الَّذي ذيل به كل جزء من أجزاء كتابه البالغة ٢٣ جزء ـ طبقات الرواة من حيث العصر والمشايخ والتلاميذ ، وبذلك يقف الانسان على كمال السَّند ونقصانه ، وربما

١٤٦

يعرف الحلقة المفقودة في أثنائه إذا كان حافظاً للمشايخ والتلاميذ.

ثانياً : يحصل التمييز الكامل بين المشتركات غالباً ، فان قسماً كبيراً من الرواة مشترك الاسم في الشخص والأب فلا يعرف الانسان أنه من هو ، ولكن بالوقوف على تفصيل طبقات الرواة يميز المشترك ويعين الراوي بشخصه ، والكتاب من حسنات الدَّهر.

رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الباقين منهم وجعلنا مقتفين لآثارهم إن شاء الله.

١٤٧
١٤٨

الفصل الخامس

التوثيقات الخاصة

* نصّ أحد المعصومين أو الأعلام المتقدّمين أو المتأخّرين.

* دعوى الاجماع أو المدح الكاشف.

* سعي المستنبط على جمع القرائن.

١٤٩
١٥٠

المراد من التوثيقات الخاصة ، التوثيق الوارد في حق شخص أو شخصين من دون أن يكون هناك ضابطة خاصة تعمّهما وغيرهما ، وتقابلها التوثيقات العامة ، ويراد منها توثيق جماعة تحت ضابطة خاصة وعنوان معيَّن ، وسنذكرها في فصل قادم ، إن شاء الله.

ويثبت التوثيق الخاصّ بوجوه نذكرها واحداً بعد آخر :

الاول : نصّ أحد المعصومين عليهم‌السلام

اذا نصّ احد المعصومين عليهم‌السلام على وثاقة الرجل ، فان ذلك يثبت وثاقته قطعاً ، وهذا من اوضح الطرق وأسماها ، ولكن يتوقف ذلك على ثبوته بالعلم الوجداني ، او برواية معتبرة ، والاول غير متحقّق في زماننا ، إلا أن الثاني موجود كثيراً. مثلاً ; روى الكشي بسند صحيح عن علي بن المسيّب قال : « قلت للرّضا عليه‌السلام : شُقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فعمَّن آخذ معالم ديني؟

فقال : من زكريّا بن آدم القمّي ، المأمون على الدّين والدّنيا » (١).

__________________

١ ـ رجال الكشي : ٤٩٦.

١٥١

نعم يجب أن يصل التوثيق بسند صحيح ، ويترتب عليه أمران :

الأول : لا يمكن الاستدلال على وثاقة شخص برواية نفسه عن الامام ، فان اثبات وثاقة الشخص بقوله يستلزم الدور الواضح ، وكان سيدنا الاستاذ الامام الخميني (١) ـ دام ظلّه ـ يقول : « إذا كان ناقل الوثاقة هو نفس الرّاوي ، فان ذلك يثير سوء الظن به ، حيث قام بنقل مدائحه وفضائله في الملأ الاسلامي ».

الثاني : لا يمكن إثبات وثاقة الرجل بالرواية الضعيفة ، فان الرواية إذا لم تكن قابلة للاعتماد كيف تثبت بها وثاقة الرجل؟

وربما يستدل على صحة الاستدلال بالخبر الضعيف لإثبات وثاقة الراوي إذا تضمن وثاقته ، بادّعاء انسداد باب العلم في علم الرجال ، فينتهي الأمر إلى العمل بالظن لا محالة ، على تقدير انسداد باب العلم إجماعاً ، ولكنه مردود بوجهين :

الأول : باب العلم والعلميّ بالتوثيقات غير مسندٍّ ، لما ورد من التوثيقات الكثيرة من طرق الاعلام المتقدمين بل المتأخرين ، لو قلنا بكفاية توثيقاتهم ، وفيها غنى وكفاية للمستنبط ، خصوصاً إذا قمنا بجمع القرائن والشواهد على وثاقة الراوي ، فان كثرة القرائن توجب الاطمئنان العقلائي على وثاقة الراوي وهو علم عرفيّ ، وحجة بلا إشكال.

الثاني : إن ما ذكره يرجع إلى انسداد باب العلم في موضوع التوثيقات ، ولكن ليس انسداد باب العلم في كل موضوع موجباً لحجية الظن في ذلك الموضوع ، وإنما الاعتبار بانسداد باب العلم في معظم الاحكام الشرعية ، فان ثبت الأخير كان الظن بالحكم الشرعي من أي مصدر جاء حجة ، سواء كان باب

__________________

١ ـ كان الإمام عندما يجري القلم على هذه الصحائف الماضية حيّاً يرزق وقد وافاه الأجل الليلة التاسعة والعشرين من شهر شوال المكرم من شهور عام ١٤٠٩ هـ ، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.

١٥٢

العلم في الرجال منسداً أم لم يكن ، وإذا كان باب العلم والعلميّ بمعظمها مفتوحاً ، لم يكن الظن الرجالي حجة سواء كان أيضاً باب العلم بالتوثيقات منسداً أم لم يكن.

وبالجملة ؛ انسداد باب العلم والعلمي في خصوص الاحكام الشرعية هو المناط لحجية كل ظن ( ومنه الظن الرجالي ) وقع طريقا إلى الاحكام الشرعية ، أما إذا فرضنا باب العلم والعلميّ مفتوحاً في باب الاحكام ، فلا يكن الظن الرجاليّ حجّة وان كان باب العلم والعلمي فيه منسداً.

وقد أشار إلى ما ذكرنا الشيخ الأعظم في فرائده عند البحث عن حجية قول اللغوي حيث قال :

« إنَّ كل من عمل بالظن في مطلق الاحكام الشرعية ، يلزمه العمل بالظن بالحكم النّاشي من الظنّ بقول اللّغوي ، لكنه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللّغات ، بل العبرة عندهم بانسداد باب العلم في معظم الاحكام ، فانه يوجب الرجوع إلى الظن بالحكم ، الحاصل من الظن باللغة ، وان فرض انفتاح باب العلم في ما عدا هذا المورد من اللغات » (١).

الثاني : نص أحد أعلام المتقدمين

إذا نصّ أحد اعلام المتقدمين كالبرقي والكشي وابن قولويه والصدوق والمفيد والنجاشي والشيخ وأمثالهم على وثاقة الرجل ، يثبت به حال الرجل بلا كلام ، غير أن هناك بحثاً آخر وهو : هل يكتفي بتوثيق واحد منهم أو يحتاج إلى توثيقين؟ وتحقيق المسألة موكول إلى محلها في الفقه وخلاصة الكلام هو أن حجيّة خبر الثقة هل تختص بالاحكام الشرعية أو تعمّ الموضوعات أيضاً؟ فعلى القول الأول لا يصحّ الاعتماد على توثيق واحد ، بل يحتاج إلى ضمِّ توثيق

__________________

١ ـ الفرائد : بحث حجية قول اللغوي : ٤٦ ـ ٤٧ ـ طبعة رحمة الله.

١٥٣

آخر ، وعلى الثاني يكتفي بالتوثيق الواحد ، ويكون خبر الثقة حجَّة في الاحكام والموضوعات ، إلا ما قام الدليل على اعتبار التعدّد فيه ، كما في المرافعات وثبوت الهلال ، والمشهور هو الأول ، والاقوى هو الثاني وسيوافيك بيانه في آخر البحث.

الثالثة : نص أحد أعلام المتأخرين

وممّا تثبت به وثاقة الراوي أو حسن حاله هو نصّ أحد أعلام المتأخرين عن الشيخ وذلك على قسمين :

قسم مستند إلى الحس وقسم مستند إلى الحدس.

فالاول ؛ كما في توثيقات الشيخ منتجب الدين ( المتوفّى بعد عام ٥٨٥ هـ ) وابن شهرآشوب صاحب « معالم العلماء » ( المتوفّى عام ٥٨٨ هـ ) وغيرهما فانهم لأجل قرب عصرهم لعصور الرواة ، ووجود الكتب الرجالية المؤلفة في العصور المتقدمة بينهم ، كانوا يعتمدون في التوثيقات والتضعيفات على السماع ، أو الوجدان في الكتاب المعروف أو إلى الاستفاضة والاشتهار ودونهما في الاعتماد ما ينقله ابن داود في رجاله ، والعلاّمة في الخلاصته عن بعض علماء الرجال.

والثاني ؛ كالتوثيقات الواردة في رجال من تأخر عنهم ، كالميرزا الاسترآبادي والسيّد التفريشي والاردبيلي والقهبائي والمجلسي والمحقق البهبهاني وأضرابهم ، فان توثيقاتهم مبنية على الحدس والاجتهاد ، كما تُفصح عنه كتبهم ، فلو قلنا بأن حجيّة قول الرجالي من باب الشهادة ، فلا تعتبر توثيقات المتأخرين ، لأن آراءهم في حقّ الرواة مبنية على الاجتهاد والحدس ، ولا شك في أنه يعتبر في قبول الشهادة إحراز كونها مستندة إلى الحسّ دون الحدس ، كيف وقد ورد في باب الشهادة أن الصادق عليه‌السلام قال : « لا تشهدنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفَّك » (١). وفي حديث عن النبي

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ١٨ أبواب الشهادات ، الباب ٢٠ ، الحديث ١ و ٣.

١٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن الشهادة ، قال : « هل ترى الشَّمس؟ على مثلها فاشهد أو دع » (١).

هذا إذا قلنا بأن العمل بقول الرجالي من باب الشهادة ، وأما إذا قلنا بأن الرجوع اليهم من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، فاجمال الكلام فيه أنه لا يشترط في الاعتماد على قول أهل الخبرة أن يكون نظره مستنداً إلى الحسّ ، فان قول المقوّم حجّة في الخسارات وغيرها ، ولا شكَّ أن التقويم لا يمكن ان يكون مستنداً إلى الحسّ في عامة الموارد. وعلى ذلك فلو كان الرجوع إلى علماء الرجال من ذاك الباب ، فالرجوع إلى أعلام المتأخرين المتخصّصين في تمييز الثّقة عن غيره بالطرق والقرائن المفيدة للاطمئنان ممّا لا بأس به.

وما يقال من أن الفقيه غير معذور في التقليد ، فيجب على الفقيه أن يكون بنفسه ذا خبرة في التعرف على أحوال الرواة ، غير تام لان تحصيل الخبروية في كل ما يرجع إلى الاستنباط أمر عسير ، لو لم يكن بمستحيل ، فان مقدمات الاستنباط كثيرة ، وقد أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر فناً ، ولا يمكن للمجتهد في هذه الايام أن يكون متخصصاً في كل واحد من هذه الفنون ، بل يجوز أن يرجع في بعض المقدمات البعيدة أو القريبة إلى المتخصصين الموثوق بهم في ذاك الفن ، وقد جرت على ذلك سيرة الفقهاء ، بالأخص في ما يرجع إلى الأدب العربي ولغات القرآن والسنة وغير ذلك ، وليكن منها تمييز الثقة عن غيره. هذا على القول بأنّ الرجوع إلى أهل الرجال من باب الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بقولهم.

وهناك وجه ثالث في توثيقات المتأخّرين ، وهو أنّ الحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره عن المعصوم عليه‌السلام لا خصوص خبر الثقة ، وبينهما فرق واضح ، إذ لو قلنا بأنّ الحجّة قول الثقة يكون المناط وثاقة الرّجل وإن لم يكن نفس الخبر موثوقاً بالصّدور.

__________________

١ ـ المصدر السابق.

١٥٥

ولا ملازمة بين وثاقة الراوي وكون الخبر موثوقاً بالصدور ، بل ربما يكون الراوي ثقة ، ولكن القرائن والأمارات تشهد على عدم صدور الخبر من الإمام عليه‌السلام ، وأن الثقة قد التبس عليه الأمر ، وهذا خلاف ما لو قلنا بأنّ المناط هو كون الخبر موثوق الصدور ، إذ عندئذ تكون وثاقة الراوي من إحدى الأمارات على كون الخبر موثوق الصدور ولا تنحصر الحجية بخبر الثقة ، بل لو لم يحرز وثاقة الراوي ودلّت القرائن على صدق الخبر وصحته يجوز الأخذ به.

وهذا القول غير بعيد بالنظر إلى سيرة العقلاء فقد جرت سيرتهم على الأخذ بالخبر الموثوق الصدور ، وإن لم تحرز وثاقة المخبر لأنّ وثاقة المخبر طريق إلى إحراز صدق الخبر ، وعلى ذلك فيجوز الأخذ بمطلق الموثوق بصدوره إذا شهدت القرائن عليه.

ويوضح هذا مفاد آية النَّبأ وهو لزوم التثبّت والتوقّف حتى يتبين الحال ، فاذا تبينت وانكشف الواقع انكشافاً عقلائياً بحيث يركن اليه العقلاء يجوز الركون اليه والاعتماد عليه. فلاحظ قوله سبحانه : ( يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا ) فإنّ ظاهره أن المناط هو تبيّن الحال وإن كان الرّاوي غير ثقة.

وعلى هذا ( أي حجّية الخبر الموثوق الصدور ) يجوز الركون إلى توثيقات المتأخرين المتخصّصين الماهرين في هذا الفنّ ، إذا كان قولهم ورأيهم أوجب الوثوق بصدور الخبر ، خصوصاً إذا انضمّ اليها ما يستخرجه المستنبط من قرائن اُخر ممّا يوقفه على صحَّة الخبر وصدوره.

الرابع : دعوى الاجماع من قبل الأقدمين

وممّا تثبت به الوثاقة أو حسن حال الراوي أن يدّعي أحد من الاقدمين ، الاجماع على وثاقة الراوي إجماعاً منقولاً ، فانه لا يقصر عن توثيق مدّعي الاجماع بنفسه ، وعلى ذلك يمكن الاعتماد على الاجماع المنقول في حقّ

١٥٦

إبراهيم بن هاشم والد علي بن إبراهيم القمّي ، فقد ادّعى ابن طاووس الاتفاق على وثاقته. فهذه الدعوى تكشف عن توثيق بعض القدماء لا محالة وهو يكفي في إثبات وثاقته.

بل يمكن الاعتماد على مثل تلك الاجماعات المنقولة حتى إذا كانت في كلمات المتأخرين ، فانه يكشف أيضاً عن توثيق بعض القدماء لا محالة.

الخامسة : المدح الكاشف عن حسن الظاهر

ان كثيراً من المدائح الواردة في لسان الرجاليين ، يكشف عن حسن الظاهر الكاشف عن ملكة العدالة ، فان استكشاف عدالة الراوي لا يختصّ بقولهم : « ثقة أو عدل » بل كثير من الألفاظ التي عدُّوها من المدائح ، يمكن أن يستكشف بها العدالة ، وهذا بحث ضاف سيوافيك شرحه.

السادسة : سعي المستنبط على جمع القرائن

ان سعي المستنبط على جمع القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان على وثاقة الرّاوي أو خلافها ، من أوثق الطرق وأسدّها ، ولكن سلوك ذاك الطريق يتوقف على وجود قابليات في السالك وصلاحيات فيه ، ألزمُها التسلط على طبقات الرواة والاحاطة على خصوصيات الراوي ، من حيث المشايخ والتلاميذ ، وكمية رواياته من حيث القلة والكثرة ، ومدى ضبطه ، إلى غير ذلك من الاُمور التي لا تندرج تحت ضابط معيَّن ، ولكنها تورث الاطمئنان الذي هو علم عرفاً ولا شك في حجيته ، وبما أن سلوك هذا الطريق لا ينفكّ عن تحمل مشاقٍّ لا تستسهل ، قل سالكه وعزَّ طارقه ، والسائد على العلماء في التعرف على الرواة ، والرجوع إلى نقل التوثيقات والتضعيفات.

هذه الطرق ممّا تثبت بها وثاقة الراوي بلا كلام وهي طرق خاصة تثبت بها وثاقة فرد خاص ، وهناك طرق عامة توصف بالتوثيقات العامة ، تثبت بها وثاقة جمع من الرّواة وسيأتي البحث عنها في الفصل القادم إن شاء الله.

١٥٧

بحث استطرادي وهو هل يكفي تزكية العدل الواحد؟

قد وقفت على أن كثيراً من العلماء ، يعتبرون قول الرجالي من باب الشهادة ، وعندئذ اختلفوا في أنه هل يكتفي في تزكية الراوي بشهادة العدل الواحد أو لا؟ على قولين : الأول ؛ هو المشهور بين أصحابنا المتأخرين. والثاني ؛ هو قول جماعة من الاُصوليين وهو مختار المحقق وصاحب « منتقى الجمان ».

استدل صاحب « المنتقى » للقول الثاني بأن اشتراط العدالة في الراوي ، يقتضي اعتبار العلم بها ، وظاهر أن تزكية الواحد لا يفيده بمجردها ، والاكتفاء بالعدلين مع عدم افادتهما العلم ، إنما هو لقيامهما مقامه شرعاً ، فلا يقاس تزكية الواحد عليه (١).

استدلّ المتأخرون بوجوه. منها : أن التزكية شرط لقبول الرواية ، فلا تزيد على شروطها وقد اكتفى في اصل الرواية بالواحد.

ولا يخفى أن الاستدلال أشبه شيء بالقياس ، إذ من الممكن أن يكتفي في أصل الرواية بالواحد ولا يكتفي في إحراز شرطها به.

منها : أن العلم بالعدالة متعذّر غالباً فلا يناط التكليف به (٢).

وفيه أنه ادعاء محض مع كفاية العدلين عنه.

ولا يخفى أن استدلال صاحب « المنتقى متين لو لم يكن هناك اطلاق في حجّية خبر الواحد في الموضوعات والاحكام جميعاً ، والظاهر وجود الاطلاق في حجيَّة قول العادل أو حجية خبر الثقة في الموارد كلّها ، حكماً كان أو موضوعاً ، من غير فرق بينهما إلا في التسمية ، حيث إن الأول يسمى بالرواية

__________________

١ ـ منتقى الجمان : ١ / ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ نفس المصدر السابق.

١٥٨

والثاني بالشهادة. فظاهر الروايات أن قول العدل أو الثقة حجَّة إلا في مورد خرج بالدليل ، كالمرافعة والهلال الذي تضافرت الروايات على لزوم تعدّد الشاهد فيهما (١).

ويدلّ على ما ذكرنا ـ أعني حجيّة قول الشاهد الواحد في الموضوعات ـ السيرة العقلائية القطعية ـ لأنهم يعتمدون على أخبار الآحاد في ما يرجع إلى معاشهم ومعادهم ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة تكون مُمضاة من قبل الشارع في الموضوعات والاحكام.

نعم لا يعتبر الشاهد الواحد في المرافعات بل يجب تعدّده بضرورة الفقه والنصوص الصحيحة.

وتدلّ على حجية قول الشاهد الواحد في الموضوعات ، مضافاً إلى السّيرة العقلائية التي هي أتقن الادلة ، عدَّة من الروايات التي نشير إلى بعضها :

١ ـ روى سماعة عن رجل تزوَّج جارية أو تمتع بها ، فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال : إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة ، فقال : إن كان ثقة فلا يقربها وان كان غير ثقة فلا يقبل منه (٢).

٢ ـ وروى عيسى بن عبدالله الهاشمي عن أبيه ، عن جدّه عن علي عليه‌السلام ، قال : المؤذّن مؤتمن والإمام ضامن (٣).

٣ ـ روى الصدوق وقال : قال الصادق عليه‌السلام في المؤذنين إنَّهم الاُمناء (٤).

٤ ـ وروى أيضاً باسناده عن بلال ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ٧ كتاب الصوم ، الباب ١١ من أبواب أحكام شهر رمضان ، مضافاً إلى ما ورد في باب ٢٤ من أبواب الشهادات والباب ١٤ من أبواب كيفية الحكم.

٢ ـ الوسائل : الجزء ١٤ ، الباب ٢٣ من أبواب عقد النكاح واولياء العقد ، الحديث ٢.

٣ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الاذان والاقامة ، الباب ٣ ، الأحاديث ٢ ، ٦.

٤ ـ المصدر السابق.

١٥٩

عليه وآله ) يقول : المؤذنون اُمناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ولحومهم ودمائهم (١).

٥ ـ روى عمر بن يزيد قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل ، فوضعت بعد موته غلاماً ، ثمَّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الارض ، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهلَّ وصاح حين وقع إلى الارض ، ثم مات ، قال : على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام (٢).

٦ ـ وقد تضافرت الروايات على قبول قول المرأة الواحدة في ربع الوصية. روى الربعي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في شهادة امرأة حضرت رجلاً يوصي ليس معها رجل ، فقال : يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها. (٣)

٧ ـ ويشعر بحجَّية قول المؤذّن الواحد ما رواه الفضل بن شاذان في ما ذكره من العلل لأمر الناس بالاّذان (٤).

٨ ـ كما يشعر بذلك أيضاً ما رواه أحمد بن عبدالله القزويني عن أبيه في مذاكراته مع الفضل بن ربيع (٥).

وهذه الروايات ( مع إمكان الخدشة في دلالة بعضها ) مع السيرة الرائجة بين العقلاء ، تشرف الفقيه إلى الاذعان بحجيَّة قول الثقة في الموضوعات كحجّية قوله في الاحكام ، إلا ما خرج بالدليل ، كباب القضاء والمرافعات وهلال الشهر ، والتَّفصيل موكول إلى محلّه (٦).

__________________

١ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الأذان والإقامة ، الباب ٣ ، الحديث ٧.

٢ ـ الوسائل : الجزء ١٨ أبواب الشهادات ، الباب ٢٤ ، الحديث ٦.

٣ ـ الوسائل : الجزء ١٣ كتاب الوصايا ، الباب ٢٢ ، الحديث ١ إلى ٥.

٤ ـ الوسائل : الجزء ٤ أبواب الأذان والاقامة ، الباب ١٩ ، الحديث ١٤.

٥ ـ الوسائل : الجزء ٣ أبواب المواقيت ، الباب ٥٩ ، الحديث ٢.

٦ ـ ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مقباس الهداية في علم الدراية : ٨٨ ـ ٩٢.

١٦٠