الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

الدكتور محمّد محمود عبود زوين

الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

المؤلف:

الدكتور محمّد محمود عبود زوين


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-79-9
الصفحات: ١٣٩

الصيغة الثانية ـ اللاّم الجازمة والفعل المضارع (فعل الدعاء) (صيغة ليفعل) (١) :

أصل استعمال اللاّم الجازمة للأمر الحقيقي (٢) وتخرج للدعاء عندما يكون المخاطب أدنى رتبة من المخاطب وهناك من جعل ( لام ) الدعاء نوعاً آخراً كـ ( لام ) الأمر وليس بخارج عنها (٣) ولا بأس في ذلك لأجل بيان دلالة الدعاء ومعناه. وهذا الباب على ألاّ يكون ذلك لغرض التنويع في المصطلحات من دون معنى يقصد أو دلالة ترجى فحينئذٍ لا تقدم جديداً يخدم المعنى بل على العكس إنّ كثرة المصطلحات دون توجيه دقيق يزيد الموضوع غموضاً وتعقيداً ولأنّ كلا اللاّمين ـ لام الأمر ولام الدعاء ـ يقصد بهما الطلب وكلاهما يدخلان على الفعل المضارع ليؤذنا بأنه مطلوب

__________________

(١) تسمى هذه اللاّم مرة بلام الأمر كما في الكتاب ٨ : ٣ واللاّمات / الزجاجي : ٨٨ ومعاني الحروف / الرماني : ٥٧ ، ١٤٧ ة تسمى لام الطلب مرة أخرى كي تشمل الأمر والدعاء والالتماس كما في الجنى الداني : ١٥٢ ، ومغني اللبيب ٢٢٣ : ١ وهمع الهوامع / السيوطي ٥٥ : ٢.

(٢) من المفيد أن نذكر أن الأمر باللاّم الجازمة يكاد يفترق في شيء من دلالته عن الأمر بصغة اللاّم والفعل المضارع فيه شي من اللين والتلطيف ولا يعدل إليها إلاّ إذا أريد معنى التلطيف وبذل النصيحة ونحو ذلك من المعاني ظ : نحو الفعل / د. عبد الستار الجواري : ٥٨ ـ ٥٩.

(٣) ذهب المالقي إلى أن تسمية (اللاّم الجازمة) يتضح من دلالتها فيسميها لام الأمر ولام الوعيد عند دلالتها على الوعيد ولام الدعاء حينما تخرج للدعاء نحو قولك : لتغفر لزيد ولترحمه ظ : رصف المباني في شرح حروف المعاني : ٢٢٦ ـ ٢٣٠ المقرب / ابن عصفور : ٢٩٧.

٦١

للمتكلم (١) قلنا : إنّ الفرق لا يلحظ بينهما إلاّ باشتراط الرتبة والاستعلاء وصدور الطلب على سبيل التلطّف والخضوع. وحركة اللاّم ـ كما عند النحاة ـ مكسورة « لضرورة الابتداء » (٢) أي إن لم تسبق بعطف كـ ( الفاء والواو وثم ) فإنّها حينذاك تسكن (٣) وعمل اللاّم الخارجة للدعاء جازمة تجز الفعل المضارع بعدها كما في حروف الجزم الأخرى (٤) وهي بذلك ـ أي بالجزم ـ تشبه ( لام الأمر ) ومافي عملها اختلاف حين يكون « الطلب أمراً ... أو دعاءً » (٥) وجاءت لام الدعاء والفعل المضارع في القرآن الكريم في آية واحدة واختلف القول في أربع آيات أما الآية فقد جاءت على لسان أهل النار في دعائهم مالكاً خازن النار قال تعالى : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربّك ... ) (٦) فقد أجمع العلماء (٧) أنّ اللاّم في (ليقض) للدعاء وظاهر في الآية كيفية صدور الدعاء من أهل النار فقد جاء نداؤهم يحمل عظيم آلامهم ومعااتهم حتى أنّهم طلبوا الفناء الأبدي بدلاً من العذاب المتجدد وكأنما للمح في دعائهم ذلّهم وتمسكنهم من جهة وتعظيمهم المنادى بإضافة الضمير الدال عليه إلى لفظ الربويية (ربّك) وما في ذلك بعد من تشريف وتعظيم

__________________

(١) ظ : البرهان ٣٤٩ : ٤ شرح الكافية / الرضي ٢٥١ : ٢.

(٢) همع الهوامع ٥٥ : ٢ تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد / ابن مالك : ٢٣٥.

(٣) ظ : اللاّمات / الزجاجي : ٨٩ ـ ٩٠ معاني الحروف : ٥٧ رصف المباني : ٣٢٨ ـ ٢٢٩.

(٤) ظ : الكتاب ٨ : ٣ (باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها) المقرب : ٢٩٧.

(٥) مغني اللبيب / ابن هشام ٢٢٣ : ١.

(٦) سورة الزخرف : ٤٣ / ٧٧.

(٧) ظ : الجنى الداني : ١٥٢ مغني اللبيب ٢٢٣ : ١ همع الهوامع ٥٥ : ٢ تفسير الكشاف ٢٦٤ : ٤ البحر المحيط ٢٨ : ٨ الجامع لأحكام القرآن ١١٧ : ١٦.

٦٢

للمدعو.

أما الآيات الأربع (١) فنأخذ شاهداً منها آيتين هما قوله تعالى : ( ... ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم ) (٢) وقوله عزّ وعلا : ( ... ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصّلاة فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم .. ) (٣).

ولقد تباين القول في الآيتين (٤) حيث ذهب الزمخشري إلى أن قوله تعالى : ( ليضلّوا ) « دعاء بلفظ الأمر كقوله : ( ربّ ، اطمس ) ، ( اشدد ) ... كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليكونوا ضلاّلاً » (٥) بمعنى أنه ـ أي موسى ـ استوثق من كفرهم وإصرارهم على الضلال فلم يكن منه إلاّ

__________________

(١) الآيتان هما : سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠ سورو فصلت : ٤١ / ٢٩ وقد ذهب العري في رسالة الغفران إلى أن اللاّم في آية سورة البقرة لام الدعاء ظ : رسالة الغفران تحقيق بنت الشاطئ : ٢٧٤.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨٨.

(٣) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٤) معنى تباين القول فيهما إنّهما قد تتحملان أن تكونا (لام الأمر) خرجت للدعاء أو أن يكونا (لام كي) لذلك فقد وضع عبد الخالق عضيمة هاتين الآيتين ضمن مجموعة الآيات التي يمكن أن ترد للوجهين ظ : دراسات لأسلوب القرآن الكريم ٤٧٩ : ٢.

(٥) الكشاف ٣٦٥ : ٢ وتفسير البيضاوي ١٦ : ٣ ولا بدّ أن نذكر أنّ رأي الزمخشري قد ردّة أحمد بن المنير الإسكندري في كتابه الإنصاف المطبوع بهامش الكشاف : ظ : ٣٦٥ : ٢ فضلاً عن ذلك فقد استعبد أبو حيان الأ ، دلسي أن يكون (ليضلوا) دعاء : ظ : البحر المحيط ١٨٦ : ٥.

٦٣

الدعاء عليهم والذي يميل إليه البحث أنّ اللاّم في قوله : (ليضلّوا) (لام كي) وهو قول أغلب النحاة والمفسرين (١) وهو مذهب الخليل وسيبويه (٢) في أن معناها ـ أي اللاّم ـ العاقبة والصيرورة (٣) أي : « لما كان عافبة أمرهم إلى الضلال صار كأنّه أعطاهم ليضلّوا » (٤).

أمّا قوله تعالى : ( ... ربّنا ليقيموا الصّلاة ... ) (٥) فتحتمل اللاّم أن تكون لام الأمر خرجت للدعاء فكأن إبراهيم دعا الله تعالى ورغب إليه في تو فيقهم لإقامة الصلاة (٦) ولعل اللاّم في هذه الآية كالتي قبلها في أنّها (لام كي) متعلقة بقوله : ( أسكنت ) (٧) والذي سوّغ القول بأنها لام الأمر خرجت للدعاء في الآيتين هو مجيئهما في سياق الدعاء يسبقها في الآيتين قول الداعي ونداؤه المولي الجليل ( ربّنا ) وهي كلمة الداعين في أكثر آيات الدعاء القرآني والله أعلم.

وبعد استعراض ضيغتي الأمر ـ افعل ليفعل ـ لابدّ من النظر في جوابهما وما نعبر عنه بجواب فعل الدعاء الخارج من الأمر.

__________________

(١) ظ : معاني القرآن / الفراء ٤٧٧ : ١ معاني القرآن / الأخفش ٣٤٧ : ٢ البحر المحيط ١٨٦ : ٥ جامع البيان / الطبري ١٥٧ : ١١ إذ يقول ( والصواب من القول في ذلك عندي : أنّها لام كي ).

(٢) إعراب القرآن / النحاس ٧٢ : ٢ الجامع لأحكام القرآن ٣٧٤ : ٨.

(٣) لام العاقبة (أو الصيرورة) قسم من أقسام (لام كي) كما عند البصريين وليست كذلك عند الكوفيين لأنّها ناصبة بنفسها ظ : البرهان / الزركشي ٣٤٧ : ٤

الجني الداني : ١٦٠.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٣٧٤ : ٨.

(٥) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٦) ظ : الجامع لأحكام القرآن ٣٧١ : ٩ البحر المحيط ٤٣٢ : ٥.

(٧) ظ : الكشاف ٥٥٨ : ٢ تفسير البيضاوي ٧٩ : ٣.

٦٤

جواب فعل الدعاء الخارج من الأمر (١) :

معلوم إنّ الجملة الطلبية يجاب عنها بجواب مجزوم (٢) والدعاء بكونه طلباً يخرج عن الأمر يجاب عليه كذلك وعلة الجزم لجواب الجملة الطلبية كما يراها البلاغيون هي أنّها ـ أي الجملة ـ « تشترك في كونها قرينة دالة على تقدير الشرط بعدها كقولك : أكرمني أكرمك أي : إن تكرمني » (٣).

والذي أشار إليه البلاغيون بجزم جواب الشرط ب ( إن ) الشرطية المضمرة هو يعض ما قاله النحاة في ذلك (٤) وهو لا يخلو من تأويل بعيد ولو أخذنا برأي الخليل وسيبويه من أنه جزم بالطلب نفسه (٥) لا بتعدنا عن التأويل والتقدير وتجاوزنا عن الآراء على تكلّف في تقدير العوامل الجازمة لجواب الطلب (٦).

لذلك فقبول الرائي القائل يجزم الطلب ـ والدعاء منه على وجه الخصوص ـ بتقدير الشرط فيه نظر إذ لا ينطبق هذا على فعل الدعاء الخارج

__________________

(١) ظ : الأصول ١٩٤ : ٢ إذ تحدّث عن جواب الدعاء.

(٢) ظ : الكتاب ٩٣ : ٣.

(٣) الإيضاح ٢٤٤ : ١ ظ : مختصر التفتازاتي شارحاً قول القزويني : « وهذه الأربعة : التمني والاستفهام والأمر والنهي يجوز تقدير الشرط بعدها وإيراد الجزاء عقيبها مجزوماً ب ( أن ) المضمرة مع الشرط » شروح التلخيص ٣٢٧ : ٢.

(٤) ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ أساليت الطلب عند النحويين والبلاغيين : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٥) ظ : مغني اللبيب ٢٢٦ : ١ شرح الكافية ٢٦٥ : ٢.

(٦) ظ : أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين : ١٥٤.

٦٥

عن الأمر وهو ما أفصح عنه الفراء في حديثه عن جواب الدعاء إذ يقول : « وليس الجواب سهل في الدعاء لأنّه ليس بشرط » (١) أي ليس سهلاً ارتباط الشرط بجوابه في الدعاء فإذا لم يرتبط فعل جواب الدعاء بما قبله ( فعل الدعاء ) ارتباط جملة الشرط ( فعلاً وجواباً ) لا يصح أن نقول بأنّه شرط مقدّر لأنّ تقديره ـ أي الشرط ـ متعلق بصلاحية ما بعده لأن يكون شراطاً فإذا انتفي الشرط لم يجز جزم فعل جواب الدعاء باعتباره جواب الطلب (٢).

ومثاله قوله تعالى على لسان موسى : ( وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معي ردءاً يصدّقني ) (٣) فقد رفع فعل الجواب ( يصدّقني ) « ولم يجزم لأنّه ليس على إرادة معنى الشرط إذ ليس معناة : (إن ترسله يصدقني) ولذا ارتفع ولو أراد معنى الشرط لجزم » (٤) ونظير ذلك قوله تعلى : ( ... فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ... ) (٥) حيث اختلف في قراءة هذه الآية والتي قبلها بين رفع جوابهما وجزمه (٦).

لذلك فمن رفع فعل الجواب (يرثني) لم يرد الشرط ومن جزمه فعلى مجاز الشريطة والمجازاة كقولك : « فإنك إن وهبته لي

__________________

(١) معاني القرآن / الفراء ٤٧٨ : ١.

(٢) ظ : حاشية الدسوقي على المختصر : شروح التلخيص ٣٢٧ : ٢ معاني النحو ٣٩٨ : ٤.

(٣) سروة القصص : ٢٨ / ٣٤.

(٤) معاني النحو ٣٩٢ : ٤.

(٥) سروة مريم : ١٩ / ٤ و ٥.

(٦) ظ : مجمع البيان ١١ :`٤ ، ٢٩١ : ٥ والكشاف ٤ : ٣ ، ٤٠٩ : ٣ الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة للجرجاني ( ت / ٧٢٩ه ) : ١١٩.

٦٦

[ يرثني ] » (١). (٢)

ولا شك في أنّ مسألة كهذه تحتاج إلى دقة وتفحّص لأنّ الجواب هنا متعلق بالدعاء والدعاء سبيله التضرّع والخضوع فلا يعقل إذاً أن يجعل الداعي طلبه في موضع الاشتراط لذلك فإن « الأمر والنهي إذا خليا عن الاستعلاء كما في الدعاء والالتماس لا يجوز تقدير الشرط بعدها إلاّ لقرينة » (٣) والقرينة ـ فيما يبدولي ـ هي أن يكون الفعل في موضع جزم يختلف عن جزم الشرط المقدّر لأنّ هذا الأسلوب يكون « الشرط فيه طلباً دائماً » (٤).

وقد ورد فعل الدعاء الخارج عن الأمر في القرآن الكريم مجاباً في ستة مواضع لا غيرها (٥) جاء بعضها في موضع نصب لاتصاله بالفاء لأن الواو أو الفاء إذا اتصلتا « بالفعل المستقبل وكانتا جواباً فإنّ الفعل ينتصب في ستة مواضع : في الأمر والنهي والدعاء والجحود والتمنّي والستفهام » (٦) ومن ذلك قوله تعالى : ( ... فلا يؤمنوا حتّي يروا العذاب الأليم ) (٧) فقد أجمع النحاة

__________________                    

(١) الأصل في مجاز القرآن لفظ ( ورثني ) وما بين القوسين الكبيرين أعلاه تصحيح يبدو أن المحقق سها عن ذلك لأنّ تقدير الشرط يقتضي الجزم كما هو واضح من السياق وهذا ما هو موجود فعلاً في الإيضاح ٢٤٤ : ١.

(٢) مجاز القرآن ١ : ٢ الإيضاح ٢٤٤ : ١.

(٣) حاشية الدسوقي على المختصر : شروح التلخيص ٣٢٧ : ٢.

(٤) معاني النحو ٣٩٨ : ٤.

(٥) ظ : صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم : المحق رقم ( ٥٨ ) : ٣٦٤.

(٦) دقائق التصريف : ٣٥.

(٧) سورة يونس : ١٠ / ٨٨.

٦٧

والمفسرون (١) على نصب ( فلا يؤمنوا ) ـ في وجه من وجوه إعرابها (٢) ـ جواباً للدعاء ( اطمس وأشدد ) ولا ريب في أنّ ثمة فرقاً بين إثبات الفاء وإسقاطها فإسقاطها مثلاً من قوله تعالى : ( فلا يؤمنوا ) يخرج قوله تعالى عن الدعاء « فتكون نتيجة الطمس عدم الإيمان وليس فيه تنصيص على أن ذلك مراد له وإنما هو تقدير حقيقة فقط يتبين من ذا أنّ ثمة فرقاً كبيراً بين ذكر القاء واسقاطها والجزم على الطلب فإن لكل معنى » (٣) وعليه فقد أوّ النحاة والمفسرون نصب الفعل المتصل بالفاء وجزم المعطوف عليه كما في ةقوله جلّ شأنه : ( ... ربّ لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن من الصّالحين ) (٤) فعطف ( أكن ) المجزوم على ( أصدّق ) المنصوب ليس على توهّم الشرط الذي يدلّ عليه بالتمنّي كما حكاه سيبويه عن الخليل فقد ردّة أبو حيان الأندلسي (٥) لأنّ العطف على موضع الشرط عنده يستدعي أن يكون الشرط ظاهراً في حين أنّ الشرط هنا « ليس بظاهر وإنّما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط » (٦) واختار أغلب النحاة والمفسرين رأياً في عطف ( أكن ) وهو

__________________

(١) ظ : معاني القرآن / الفراء ٤٧٧ : ١ ـ ٤٧٨ معاني القرآن / الأخفش ٣٤٨ : ٢ ، جامع البيان ١٥٩ : ١١ الكشاف ٣٦٥ : ٢ البيان في غريب إعراب القرآن ٤٢٠ : ١ البحر المحيط ١٨٦ : ٥.

(٢) أجمع النحاة على نصب ( فلا يؤمنوا ) من وجهين وجزمها من وجه واحد من ذلك نصبها جواباً للدعاء ظ : مشكل إعراب القرآن ٣٥٣ : ١ التبيان في إعراب القرآن ٢٠ : ١.

(٣) معاني النحو ٣٩٧ : ٤.

(٤) سورة المنافقون : ٦٣ / ١١.

(٥) ظ : البحر المحيط ٣٧٥ : ٨ البرهان ١١١ : ٤ ـ ١١٢.

(٦) البحر المحيط ٢٧٥ : ٨.

٦٨

عطفها على موضع أو محل ( فأصّدّق ) « كأنّه قيل إن أخرتني أصدق وأكن » (١) وهو مذهب أبي علي الفارسي واختاره ابن عطية (٢) وفرق بين العطف على التؤهّم والعطف على الموضع فـ « العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره والعامل في العطف على التؤهم مفقود وأثره موجود » (٣). ومن خلال ما مضى نلحظ فرقاً بيّناً بين جواب الطلب وجواب الشرط ويوضح الدكتور فاضل السامرائي الاختلاف بين الجوابيين بقوله : « إن ما يسمعى بجواب الشرط إنّما هو أسلوب شرطي غير أن هذا الأسلوب يختلف عن أسلوب الشرط المشهور ـ وهو الذي تذكر فيه أداة الشرط وفعله وجزاؤه ـ وذلك أنّ الارتباط ليس بأداة شرط بل الارتباط بمعنى الجزاء وإن الشرط في الأسلوب الشرطي المشهور يكون فعلاً ماضياً أو مضارعاً بخلاف هذا الأسلوب فإن الشرط فيه يكون طلباً دائماً » (٤).

ومن ذلك نستطيع أن نفرّق بين الشرط في أسلوبه وبين تقديره في جواب الطلب حيث يكون في الثاني دالّاً على أنّ الاشتراط لا بدّ أن يكون طلبياً فقوله تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) (٥) لا يمكن تقديره بقولنا : ( إن تدعوني

__________________

(١) الكشاف ٥٤٤ : ٤ مجمع البيان ٨٤ : ٦ حيث يقول : « فلما كان الفعل المنصوب بعد الفاء في موضع مجزوم بأنّه جواب الشرط حمل قوله : (وأكن) عليه : ظ : معاني القرآن / الفراء ١٦٠ : ٣ إعراب القرآن / النحاس ٤٣٨ : ٣ الجامع لأحكام القرآن ١٣١ : ١٨.

(٢) ظ : البحر المحيط ٢٧٥ : ٨.

(٣) البحر المحيط ٢٧٥ : ٨.

(٤) معاني النحو ٣٩٨ : ٤.

(٥) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

٦٩

أستجب لكم ) فالقول يختلف عن الآية تماماً لأنّ المعنى « في الآية يفيد أن الدعاء مطلوب من العبد مراد لله تعالى » (١) وهذا يجري في جواب كل دعاء حيث يتباين المعنى بين تقدير الشرط وبين معنى الدعاء نفسه.

وفي نهاية المطاف لابدّ من تأكيد أن الدعاء على صيغة ( ليفعل ) يجاب عنه وقد أجاز الكسائي ذلك (٢) إلاّ أن جواب الدعاء على هذه الصيغة لم يردله في القرآن العظيم شاهد والله أعلم.

الصيغة الثالثة ـ الدعاء بصيغة المصدر :

الصيغة الثلاثة التي يتمثل بها الدعاء صيغة المصدر النائب عن فعل الأمر والدعاء ويؤتي به لأغراض منها أن التعبير بالمصدر عموماً ـ وفي الدعاء بخاصة ـ يكون أدل على مراد الداعي لأنّ طلبه ودعواه غير مقيّدة بزمن كل هذا من خلال دلالة المصدر نفسه فالمصدر يختلف عن الفعل بركن من ركنيه فدلالة المصدر على الحدث فقط في حين أن دلالة الفعل الحدث والزمن المجرد وحده لأنه آكد من الفعل (٣).

ومن الأغراض البلاغية الأخرى للدعاء بامصدر المبالغة والاختصار وذلك من خلال إقامة المصدر مقام فعله (٤). وينتصب المصدر بفعل

__________________

(١) معاني النحو ٣٩٨ : ٤.

(٢) ظ : الأصول / ابن السراج ١٩٤ : ٢.

(٣) ظ : معاني النحو ٥٩١ : ٢.

(٤) ظ : الكشاف ٣١٦ : ٤ المثل السائر / ابن الأثير ٣٠١ : ٢ ـ ٣٠٢.

٧٠

مضمر (١) « لكونه بدلاً من اللفظ منها المصادر التي تستعمل في الدعاء للإنسان أو عليه فإن كان له فعل انتصب به وإن لم يكن له فعل قدر من معناه فمن المتعدي سقياً ورعياً في الدعاء عليه بعداً وسحقاً أي بعد سحق » (٢) وحذف الفعل في هذه المصادر جوزاً أو وجوباً مرتبطاً ببيانها وتعينها بما تعلقت به من فاعل أو مفعول فيجب حذف الفعل فيها فقوله تعالى : ( فبعداً للقوم الظّالمين ) (٣) و ( ... فسحقاً ) (٤) و ( فتعساً ... ) (٥) فقد بيّنت المصادر الثلاثة « بعداً سحقاً تعساً » أفعالها بحرف الجر فوجب حذف الفعل فيها وتعليل وجوب حذف الفعل صرّح به الرضي فقال : « وإنما وجب حذف الفعل مع هذا الضابط لأنّ حق الفاعل والمفعول به أن يعمل فيهما الفعل ويتصلان به فاستحسن حذف الفعل في بعض المواضع أما إبانة لقصد الدوام واللزوم بحذف ما هو موضوع للحدوث والتجدد أي الفعل » (٦) ويري البحث أنّ ذكر الفعل وإظهاره في الكلام يخرجه عن الدعاء بالدرجة الأساس ويقصد به التوكيد حينذاك في حين أنّ إضمار الفعل وترك إظهاره والإتيان بالمصدر وحده يراد به الدعاء جاء في

__________________

(١) نصّ على سيبويه في باب : ( ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المتعمل إظهاره) ظ : الكتاب ٣١١ : ١ ـ ٣١٢.

(٢) ارتشاف الضرب / أبو حيان الأندلسي ٢٠٦ : ٢ شرح المفصل ١١٤ : ١.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤١.

(٤) سورة الملك : ٦٧ / ١١.

(٥) سورة محمد : ٤٧ / ٨.

(٦) شرح الكافية / الرضي الأستراباذي ١١٦ : ١.

٧١

شرح ابن يعيش « وبعضهم يظهر الفعل تأكيداً فيقول : سقاك الله سقياً ورعاك الله رعياً » (١) ومن المصادر التي خرجت للدعاء في القرآن العزيز : ( غفرانك ، سلاماً ويل بعداً تعساً سحقاً ) قال تعالى : ( ... غفرانك ربّنا وإليك المصير ) (٢) غفرانك مصدر نائب عن الدعاء في محل نصب بفعل مضمر من لفظة (٣) تقديره : اغفر غفرانك وهناك يترك تقدير الفعل ويقول : « غفرانك لا كفرانك أي نستغفرك ولا نكفرك » (٤) وهذه الصيغة ـ غفرانك ـ وحيدة الاستعمال في القرآن الكريم جاءت مضافة ألي الضمير ـ الكاف ـ الدال عليه تعالى ثم يعقبها نداؤه جلّ وعلا بقوله : ( ربّنا ) وفي ذلك تأكيد واعتراف بكماله تعالى هذه الصفة وطلب موجز لغفران كلي أو « طلب لغفران كامل » (٥) أما سلاماً كما في قوله عزّوجلّ : ( ... ويلقّون فيها تحيّة وسلاماً ... ) (٦) فهو دعاء بالسلامة والتسليم من كل شر وتقديره : سلّمهم اللّهمّ قوله تعالى : ( ... سلام على إل ياسين ) (٧) ولا ينقل إلاّ لفائدة لأنّ الأصل

__________________

(١) شرح المفصل ١١٤ : ١ ظ : معاني النحو ٥٩١ : ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥.

(٣) ظ : مجمع البيان ٣٨٧ : ١ الجامع لأحكام القرآن ٤٢٩ : ٣ ونسبه إلى الزجاج ارتشاف الضرب ٢١٠ : ٢.

(٤) الكشاف ٣٣١ : ١.

(٥) مفاتيح الغيب ١٤٧ : ٧.

(٦) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٥.

(٧) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٠.

٧٢

( سلّمكم الله سلاماً ) ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال فبقي المصدر منصوباً وكان النصب والفعل على الحدوث فلما قصدوا دوام ننزول « سلام الله » عليه واستمراه أزالوا النصب الدال على الحدوث فرفعوا « سلام » (١) أي حينما أرادوا ثبات السلام واستقراره نقلوا إلى الرفع أو « الاسمية » أما إذ نصبوه فقد اختار واللحدوث والتجدد هذا من جهة ومن جهة أخرى أنّهم جوّز وا الابتداء بالنكرة ـ ضمن شروط عدّة منها ـ إذا كان فيها معنى الدعاء والابتداء لابدّ فيه من الرفع جاء في إعراب القرآن في تعليقه على قوله جلّ وعلا : ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) (٢) سلام « رفع بالابتداء وحسن الابتداء بالنكرة لأن فيها معنى الدعاء » (٣) ولعل الذي جعل النحاة يجوزون الابتداء بالنكرة إذا كان فيها معنى الدعاء هو « أنّها ليست أخباراً في المعنى إنّما هي دعاء أو مساءلة فهي في معنى الفعل كما لو كانت منصوبة » (٤) ورفض ابن القيم ما أجمع عليه النحاة من جواز الابتداء بالنكرة إذ كان فيها معنى الدعاء وقال « وهذا كلام لا حقيقة تحته » (٥) والمانع لديه من الابتداء بها هو ما فيها « من الشياع الإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطب في ذهنه » (٦) وليس ذلك حجة ـ في رأي البحث ـ في منع الابتداء بالنكرة لأنّ الابتداؤ بها

__________________

(١) شرح الكافية ٩٦ : ١ ـ ٩٧.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ١٥.

(٣) إعراب القرآن / النحاس ٢٠٧ : ٢ ظ : البيان في غريب إعراب القرآن ٣٠٦ : ٢.

(٤) شرح المفصل ٨٧ : ١.

(٥) بدائع الفوائد ١٤٧ : ٢.

(٦) بدائع الفوائد ١٤٧ : ٢.

٧٣

أصلاً كالابتداء بالفعل كما جاء في نص المفصل سلفاً.

ومن المصادر التي نقلت إلى الرفع لفظ ( ويل ) قال تعالى : ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) (١) حيث أجمع العلماء على أنّ هذه اللفظة دعاء على الإنسان لا يقولها إلاّ الواقع في هلكة وبلاء عظيم (٢) فهي إذا « كلمة جامعة للشر كله » (٣) واتفق العلماء على معنى هذه اللفظة إلاّ أنهم اختلفوا في أصلها فقيل : إنّها من المصادر التي ليست لها أفعال (٤) بينما ذهب الفراء إلى أن أصل ( ويل ) ( وي ) « جي ء بلام الجر بعدها مفتوحة مع المضمر نحو : وي لك ووي له ثم خلط اللام ب وي حتي صارت لام الكلمة نحو : ويلاًلك لصير ورة الأولي لام الكمة ثم نقل إلى باب المبتدأ فقيل : ويل لك كما في سلام عليك » (٥) أي أنّ ما يقال عن لفظ (سلام) في نقله إلى الرفع يقال عن ( ويل ) قال تعالى : ( ويل يومئذ للمكذبين ) (٦) فأصل ويل : « مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه ( سلام عليكم ... ) (٧) ويجوز نصب ( ويل ) إلاّ أنها لم تأت منصوبة في القرآن

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٢.

(٢) ظ : الكتاب ٣٣١ : ١ التبيان / الطوسي ٤٨٨ : ٨ مجمع البيان ٥٢ : ٥ مفاتيح الغيب ١٣٠ : ٢٦.

(٣) تأويل مشكل القرآن / ابن قتيبة : ٥٦١.

(٤) شرح الكافية ٨٣ : ٢.

(٥) شرح الكافية ١١٨ : ١ ظ : إعراب القرآن / النحاس ٦٤٨ : ٣ : حيث يقول عن ويل « لم ينطق منه بفعل إلاّ شيئاً شاذّاً».

(٦) سورة المرسلات : ٧٧ / ١٥.

(٧) الكشاف ٦٧٨ : ٤.

٧٤

الكريم يقول الأخفش في قوله تعالى : ( فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ... ) (١) « يجوز النصب على إضمار فعل أي : الزمه اللّهمّ ويلاً » (٢).

وخلاصة القول في الغاية من نصب المصادر مرة ورفعها بالابتداء مرة أخرى هي أن من يعمد إلى الرفع فكأنه يبتدئ بشيء قد ثبت واستقرلديه ولا يقصد تأكيده وإثباته في كلامه وكل ذلك راجع على دلالة الرفع في الثبات ودلالة النصب إلى الحدوث والتجدّد (٣). ومن المصادر التي جاءت منصوبة بفعل مضمر غير مستعمل لغرض الدعاء قوله تعالى : ( ... وقيل بعداً للقوم الظّالميين ) (٤) جاء في الكتاب « وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل » (٥) فتقدير الفعل في (بعداً) ابعدوا بعداً وهو « بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم ـ وقد نزل بهم العذاب ـ دالّاً بذلك على الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم » (٦) واستخدام المصدر في السياق الدعائي في القرآن الكريم فيه من البلاغة ما ليس في استعمال لام الدعاء مع الفعل كقولنا : « ليبعدوا » لأن المصدر هنا جاء « طلباً للتأكيد مع الاختصار وهو

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٩.

(٢) إعراب القرآن / النحاس ١٩٠ : ١.

(٣) ظ : الكتاب ٣٣٠ : ١ شرح المفصل ١٢٢ : ١.

(٤) سورة هود : ١١ / ٤٤.

(٥) الكتاب ٣١٢ : ١.

(٦) مفاتيح الغيب ٩٩ : ٢٣.

٧٥

نزول ( بعداً ) منزلة ( ليبعدوا بعداً ) مع فائدة أخرى وهو استعمال اللام لعد الدال ( بعداً للقوم الظّالمين ) على معنى أن البعد حقّ لهم » (١) فضلاً عن ذلك فإن استخدام المصدر المجرّد عن الزمن أبلغ من استخدام الفعل نفسه وهو ما أشرنا إليه سابقاً لذلك قوله تعالى : ( بعداً ) « لو وجهه بالفعل كان مقيّداً بالزمان وهوم إذا كان موجّهاً بالمصدر كان مطلقاً من غير زمن فلهذا كان أبلغ من ذكر الفعل » (٢). ومن الألفاظ الأخرى التي جاءت منصوبة على المصدر بفعل مضمر قوله تعالى : ( ... فتعساًلهم ... ) (٣) وقوله عزّ من قائل : ( ... فسحقاًلهم ) (٤). والمصدران « تعساً وسحقاً » وحيدا الصيغة في الاستعمال القرآني. و ( تعساً ) نصب بتقدير فعل من لفظه : أتعسهم الله تعساً (٥) ويضع القرطبي في معنى « تعساً » عشرة أقوال كلها مصادر منصوبة واقعة موقع فعلها أفادت الدعاء (٦). أمّا قوله : ( فسحقاً ) فنصب بفعل تقديره : أسحقهم سحقاً أو أن ينصب بتقدير : « ألزمهم الله سحقاً » (٧). ومن الجدير بالذكر أنّ هناك مصدراً دالّاً على الدعاء إلاّ أنّ الخلاف يظهر في تقدير فعله الناصب له هو ( سبحان ) (٨) أشار له سيبويه

__________________

(١) مفتاح العلوم : ٦٥ الإيضاح ٤٧٣ : ٢.

(٢) الطراز / العلوي ٢٤٠ : ٣.

(٣) سورة محمد : ٤٧ / ٨.

(٤) سورة الملك : ٦٧ / ١١.

(٥) ظ : معاني القرآن / الفراء ٥٨ : ٣ البيان في غريب إعراب القرآن ٣٧٤ : ٢.

(٦) ظ : الجامع لأحكام القرآن : ٢٣٢ : ١٦.

(٧) البيان في غريب إعراب القرآن ٤٥١ : ٢.

(٨) ذهب الأستاذ المرحوم عباس حسن إلي « سبحان » اسم مصدر لم يشهر استعماله عن العرب ظ : النحو الوافي ٩٧ : ٢.

٧٦

في باب المصادر التي تنتصب بفعل متروك إظهاره تقديره : « أسبّح الله تسبيحاً » (١) أي إنّ الناصب له فعل مضارع في حين قدّر الخليل الفراهيدي فعلاً ماضياً يعمل فيه هو (سبحت) (٢) واختاره النحاس في أعرابه (٣) ، والقرطبي في جامعة وتقدير الناصب لـ (سبحان) من سبح أو أستبّح ـ بالتشديد ـ رفضه صاحب شرح المفصل بل ورفض أن يكون مشتقّاً منه كما هو متعارف لأن سبح « فعل ورد على سبحان بعد أن ذكر وعرف معناه فاشتقّوا منه فعلاً قالوا : سبّح زيد أي قال : سبحان الله » (٤) ولم يقتصر ابن يعيش على رفض أصل المصدر بل أعطي رأياً بد يلاً عنه حينما صرّح بأن سبحان « من المصادر التبي لا تستعل أفعالها كأنّه قال : سبّح سبحاناً ـ بتخفيف الباء ـ كقولك : كفر كفراناً وشكر شكراناً » (٥) وهناك من ذهب إلى أن (سبحان) مصدر نائب عن فعله كما في قوله تعالى : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ... ) (٦) « فتأويل الآية : سبّحوا الله جلّ ثناؤه » (٧). ومهما يكن فتقدير الناصب لـ ( سبحان ) فيه دلالة على الدعاء لأن التسبيح دعاء وهو ما تناولناه في الفصل الأول. ولقد لا حظنا كيف ناب المصدر عن فعل الدعاء وأفاد

__________________

(١) الكتاب ٣٢٢ : ١ الكشاف ٦٤٦ : ٢.

(٢) العين / الفراهيدي : مادة (سبح) ظ : التبيان في إعراب القرآن ٤٩ : ١.

(٣) إعراب القرآن ٢٢٩ : ٢.

(٤) شرح المفصل ١٢٠ : ١.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) سورة الروم : ٣٠ / ١٧.

(٧) الصاحبي في فقه اللغة : ٢٣٧ ، ظ : خزانة الأدب / البغدادي ٢٤١ : ٧ ـ ٢٤٢.

٧٧

أغراضاً بلاغية كاتأكيد والاختصار والمبالغة فضلاً عما المصدر من الإيحاء المطلق للحدث دون التقيّد بالزمن وبهذا قد ألقينا الضوء على تمثّل الأمر لأسلوب الدعاء وسنعرض للصيغة الثانية التي يتمثل فيها الدعاء الخارج عن النهي مجازاً.

اصورة الثانية : الدعاء الخارج عن النه مجازاً :

أسلوب النهي ـ كما هو معلوم ـ يقابل الأمر إلاّ أنّه دال منع الفعل ، على عكس أسلوب الأمر لأنّ « الأمر بالشيء يقتضي في المعنى النهي عن ضده كما أن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بتركه » (١). واشتراط الاستعلاء قيداً في صدور النهي يؤكّده البحث ويميل إليه وهو في الأصل مذهب أجلّة أهل الأصول والنحاة والبلاغيين (٢) من خلاله يولّد الدعاء ويخرج مجازاً عن النهي لذلك فمن غير المعقول أن يصدر النهي ـ مثلاً ـ من المخلوق لخالقه جلّ شأنه إلاّ على سبيل الخضوع والتذلّل وهذا دلالته مختلف عن النهي الصادر من الخالق عتعالى لعبده فكلا النهيين طلب إلاّ أن الفرق في موارد ومراتب صدورالنهي لا يمكن إهماله (٣) وعليه فرّق النحاة عند ذكر هم لأداة النهي ( لا ) بين

__________________

(١) الذريعة أصول الشريعة ٥٦ : ١.

(٢) ظ : الذريعة إلى أصول الشريعة ٣٥ : ١ الأمالي الشجرية ٢٤٣ : ١ مفتاح العلوم : ٥٤٥ الإيضاح ٢٤٤ : ١ الطراز ٢٨٤ : ٣ معجم المصطلحات البلاغية / أحمد مطلوب ٣٤٤ : ٣.

(٣) ذهب المالقي إلى أن صيغة النهي طلب يجمع النهي والدعاء وإنّ الفرق بينهما أوجده المتحذلقون من النحاة وهو في ذلك ينظر إلى المسألة بعين أهل الأصول

٧٨

مجيئها للنهي مرّة وللدعاء مرة أخرى وبغير ذلك من المعاني (١) ولاريب في أنّ الاختلاف في معاني ( لا ) الناهية ناتج عن دلالات الكلام أصلاً وللنهي صيغة واحدة وهي أداة ( لا ) الجازمة التي يطلب بها ترك الفعل أو النهي عن إيجاده (٢) ويسميها بعضهم ( لا ) الطلبية « يشمل النهي وغيره » (٣) ويعقبها دائماً الفعل المضارع الذي بدخول ( لا ) عليه تجزمه وتخلصه للاستقبال (٤). وجوّز المالقي دخول ( لا ) الناهية على الفعل الماضي فيكون عندها دالّاً على الاستقبال كما في قوله « لا غفر الله لزيد ولارحمه » (٥) ولا يري البحث لذلك شاهداً قرآنياً ولم ترد له صورة في القرآن الكريم وما جاء في الكتاب العزيز هو ( لا ) الدعائية الطلبية الناهية وفعل الدعاء المضارع في أربعة وعشرين موضعاً (٦)

__________________

وخصوصاً فيما يتعلّق بالمباحث اللفظية التي منها الأوامر والنواهي لذلك جعل اختصاص أهل الأصول بمعاني الكلام ويضيف « والنظر في المعاني لهم ـ أي للأصوليين ـ وحظ النحوي النظر في الألفاظ والتكلّم في المعاني لهم بالانجرار فينبغي أن يترك لهم يحقّقونه » ظ : رصف المباني : ١٦٩ كذلك ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(١) ظ : الأزهية في علم الحروف / الهروي : ١٥٨ ـ ١٥٩ رصف المباني : ٢٦٨ المقتضب ١٣٥ : ٢.

(٢) ظ : شرح الكافية ٢٥٢ : ٢.

(٣) البرهان ٣٥٥ : ٤ الجنى الداني : ٣٠٦.

(٤) ظ : معاني القرآن وإعرابه / الزجاج ٢٤٥ : ١ المرتجل / ابن الخشاب : ٢١٤ ـ ٢١٥ مغني اللبيب ٢٤٦ : ١.

(٥) رصف المعاني : ٢٦٩.

(٦) ذهب الأستاذ عضيمة إلى أنّ الدعاء على صيغة النهي جاء في ثلاثة عشر موضعاً ظ : دراسات لأسلوب القرآن الكريم ٥١٨ : ٢ وعد الطحان ستّة عشر

٧٩

وحمل ضمنها موضع واحد في أحد وجوه إعرابه على الدعاء وهو قوله تعالى : ( ... فلا يؤمنوا ... ) (١) فيمكن أن تكون (لا) الطلبية ـ خرجت للدعاء ـ والفعل المضارع بعد ها مجزوم بها (٢) جاء في مجاز القرآن (فلا يؤمنوا) جزم لأنّه دعاء عليهم أي « فلا يؤمنن » (٣)

واختارالجزم على الدعاء الطبري وعلّل اختياره ذلك بما سبقه من « دعاء وذلك قوله : ( ربّنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم ) فإلحاق قوله : ( فلا يؤمنوا ) إذ كان سياق ذلك بمعناه أشبه وأولي » (٤). وعدّ البحث النهي الصادر عن النبي موسى إلى العبد الصالح الخضر دعاء (٥) قال تعالى على لسان موسى : ( قال لا تؤاخذني

__________________

موضعاً جاء فيها الدعاء على صيغة النهي صيغ الأمر والنهي في القرآن الكريم : ٢٠٠ في حين جعلها أحمد الجبور : في ثلاثة وعشرين موضعاً : أساليب المجاز في القرآن الكريم : ٥٤٢ وماخرج عن الدعاء من صيغ النهي في الواقع أربعة وعشرون موضعاً ضمنها قوله : ( فلا يؤمنون ) [سورة يونس : ١٠ / ٨٨].

(١) سورة يونس : ١٠ / ٨٨.

(٢) ظ : معاني القرآن / الفراء ٤٧٧ : ١ اكشاف ٣٦٥ : ٢ التبيان في إعراب القرآن : ٦٥٨ البيان في غريب إعراب القرآن ٤٢٠ : ١.

(٣) مجاز القرآن / أبو عبيدة ٢٨١ : ١.

(٤) جامع البيان ١٦٠ : ١١.

(٥) لا يجوزأن نطلق على الأمر الصادر من الأذني إلى الأعلى (بين المخلوقيين) لفظ الدعاء فالفهم الخالص للدعاء يوجب الاعتقاد باختصاص الله جلّ وعلا به ولا يتوجهبالدعاء إلاّ إليه تبارك اسمه وإذا صحّ ما ذهب إليه البلاغيون من أن الأمر من الأدني إلى الأعلى يكون على سبيل الدعاء فيجب ههنا أن نقيده ب (دعاء الالتماس) لنخرجه عن الدعاء الخالص لله سبحانه أمّا حجتنا في ذلك فهي كون الأمر الصادر من الأذني إلى الأعلى يوصف بالدعاء هذا من جهة ومن

٨٠