الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

الدكتور محمّد محمود عبود زوين

الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

المؤلف:

الدكتور محمّد محمود عبود زوين


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-79-9
الصفحات: ١٣٩

المبحث الثاني

أنواع الدعاء في القرآن الكريم

من أجمل ما يألفه المتتبّع لآيات الدعاء في القرآن الكريم أمران : وهما كثرة آيات الدعاء وانتشارها على صعيد النص القرآني من جهة وتعدّد المستويات وتنوّعها من جهة أخرى فإنك تجدفي الكتاب العزيز أدعية للأنبياء مرّة وللمؤمنين ثانية وللملائكة ثالثة .. إلخ وقد تتفرّق أدعية كلّ مستوي على سورٍ عدّةٍ وسيكشف البحث من خلال استقصاء الأدعية وتفريقها على مستوياتها ميزاتٍ خاصةٍ ودلالاتٍ لطيفة ينطق عنها سياقها وسنبدأ بعرض أدعية الأنبياء أولاً.

أولاً ـ أدعية الأنبياء :

أكثر الدعاء الوارد في القرآن الكريم جاء على لسان الأنبياء وما يلحظ هنا تفاوت نسبة أدعية كلّ واحد منهم عن الآخر فضلاً عن خصوصية دعائه فنقل عن إبراهيم وموسي ونوح ونبيّنا عليى وعليهم أفضل الصلاة والسلام نصوص دعائية فاقت غيرهم من الأنبياء أمثال زكريا وسليمان ويوسف وأيوب ... إلخ وسنبدأ بأدعية نبينا الكريم محمد بن عبد الله.

دعاء الرسول محمد :

أوّل ما نلحظ في دعائه مجيء أدعيته كلّها مسبوقة بلفظ الأمر (قل) حيث لم يخل منها دعاء على الإطلاق وفي ذلك دلالة على نبوته وتعظيم

١٠١

لأمره ورسالته قال تالى : ( وقلربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي لدنك سلطاناً نصيراً ) (١) ودعاؤه هذا جاء عقب ذكر قراءة القرآن والتهجّد به.

وفي دعاء الرسول تجد شكواه من أذى قومه وبعدهم عن الإسلام صريحةً واضحةً كما في قوله تعالى : ( وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً ) (٢) ففي إظهار ( يا ) النداء إشارة لمعاناته حيث إنّ المعهود والمتعارف عليه حذف أداة النداء مع لفظ ( ربّ ) في أغلب آيات الدعاء إلاّ في مواضع قصد بها أغراض معينة.

وعلى الرغم مما لقيه من عنت قومه وضلالهم فإنّه ما دعا عليهم دعاءً صريحاً أبداً بل كان في دعائه يطلب إنصافه منهم وتفويض أمرهم إليه تعالى قال عزّوجلّ : ( قل اللّهم فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب والشّهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) (٣).

فقدّم في دعائه ثناءه عليه تعالى وبيان عظيم قدرته ثم أعقبها دعاءه بأسلوب الخبر ( أنت تحكم بين عبادك ... ) بمعنى أحكم بينهم والله أعلم يقول الطبرسي في تعليقه على الآية : « لما قدّم سبحانه ذكر الأدلّة فلم ينظروا فيها والمواعظ فلم يتعظوا بها أمر نبيّه أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه فقال : ( قل ) يا محمد ادع بهذا الدعاء ( اللّهمّ فاطر السّموات ... ) أي فاحكم بيني وبين قومي بالحق وفي هذا إشارة للمؤمنين بالظفر والنصر لأنّه سبحانه

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٠.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٠.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٦.

١٠٢

إنّما أمره به للإجابة محالة » (١).

وفي السياق عينه جاء قوله تعالى في ختام سورة الأنبياء : ( قال ربّ احكم بالحقّ وربّنا الرّحمن المستعان على ما تصفون ) (٢) حيث نملح في هذه الآية دعاءً خفياً على الذين استهتروا بأذاه وأسرفوا في ظلمهم له وللأنبياء عموماً فجاء بلفظ (بالحق) إشعاراً بالدعاء عليهم وإقصائهم ورحمته تعالى والتعجيل بما يستحقّونه من العذاب (٣) لأنّه سبحانه لا يحكم إلاّ بالحقّ والعدل وإنّما ذكر ذلك زيادةً في تأكيد دعائه عليهم بالهلاك. وقد تنبّه ابن أبي الأصبع المصري إلى ستّة عشر ضرباً من البديع في هذه الآية على إيجازها (٤).

ولابدّ من الإشارة إلى وجه المناسبة في دعائه بين معاناته من جانب والتذكير بما مرّ من معاناة الأنبياء في نفس السورة من جانبٍ آخر فختمت سورة الأنبياء بدعائه وهو خاتم الأنبياء. ومن جملة أدعيته دعاءه في الثناء على الله وتنزيهه وبيان قدرته وسلطانه وتصريفه لشؤون خلقه في إيتائهم الملك ونزعه منهم وفي إعراز وإذلال من يشاء من خلقه كما في قوله تعالى : ( قل اللّهمّ مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك عى كلّ شيء قدير ) (٥) وفي هذا الدعاء العظيم تعليم للثناء عليه تعالى بأفخم الثناء وأسماه. ومن أدعيته

__________________

(١) مجمع البيان ١٦٢ : ٥ ظ : مفاتيح الغيب ٢٨٦ : ٢٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١٢.

(٣) ظ : تحرير التحبير : ٢٩٣ بديع القرآن : ٢٠٨.

(٤) ظ : تحرير التحبير : ٢٩٣.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.

١٠٣

كذلك دعاء الحمد في قوله تعالى : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الّذين اصطفى آلله خير أمّا يشركون ) (١) فاجتمع في دعائه في هذه الآية دعاء الحمد مع دعائه وتحيته للأنبياء قبله بالسلام عليهم فبعد أن قصّ سبحانه في سورة النمل قصّة سليمان وأعقبها بالحديث عنصالحو لوط أمر نبيه بحمده والسلام على عباده الصالحين من الأنبياء السابقين وفي ذلك « تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمّن بالذكرين والتبرّك بهما » (٢) فضلاً عمّا فيه من التهديد للمكذّبين به بأن مصيرهم نظير الأقوام المكذّبة السابقة من جهة في حين أن في الحمد والسلام راحد واطمئناناً لمن آمن به وصدّقهبأن عاقبتهم النصر والفوز كما سالف الأمم المؤمنة بأنبيائها رسلها ـ والله أعلم ـ.

دعاء آدم :

على كثرة ما وردت قصة آدم في القرآن الكريم إلاّ أنّ دعاءه لم يذكر إلاّ في موضع واحد فقد جاء ذكر آدم وقصّته في سورة البقرة (٣) وسورة ص (٤) وسورة الحجر (٥) وسورة الأعراف التي صرّح فيها بدعائه وزوّجه حواء في قوله تعالى : ( قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ) (٦) ولعلّ ذلك يرجع إلى طبيعة التعبير الفني الذي ينهجه القرآن

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٥٩.

(٢) الكشاف ٣٧٥ : ٣.

(٣) ظ : الآيات : ٣٠ ـ ٣٩.

(٤) ظ : الآيات : ٧١ ـ ٧٦.

(٥) ظ : الآيات : ٢٦ ـ ٣٠.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ٢٣.

١٠٤

طريقاً عرض قصصه حيث ترى مسير الأحداث في القصّة يتناسب تناسباً كليّاً مع السياق العالم الذي ترد فيه فمرّة تلحظ الإجمال في عرض جانب من القصّة وقد تلمح في موضع آخر أن ما أجمل هناك فصّل هنا وهكذا يمضي الأسلوب القرآني في عرض قصص الأنبياء ففي كلّ موضع جديد تبصر مشهداً جديداً أو جانباً آخر ما سبقت الإشارة إليه حتّي تكتمل لآلئ القصّة فينتظم عقدها وتسلسلها بشكل عجيب وساحر. عليه فقد ناسب ذكر دعاء آدم في الأعراف ما جاء « قبل القصّة من ندم المعاقبين من بني آدم » (١) الذي أبان عنه قوله تعالى : ( وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون * فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين ) (٢).

إلاّ أنّ التوافق بين سياق قصّة آدم وما قبله لا يمنع أن يوجد فرق بينهما فقد عبّر آدم عن ظلمه لنفسه بالفعل في حين أن ما جاء على لسان بينه من الظلم بالسم والتفاوت بين التعبيرين دال على الختلاف التعامل معهما يقول الدكتور فاضل السامرائي « انظر كيف كانت العقوبة على قدر الظلم فقد قال آدم : ( ظلمنا ) بالصيغة الفعلية الدالّة على الحدوث والطروء للدلالة على أنّها زلّة طارئة وليست معصية إصرار وقال أبناؤه : ( إنّا كنّا ظالمين ) بالصيغة الإسمية الدالّة على الثبات على الظلم والإصرار فتاب على الأوّلين وأهلك الآخرين » (٣) ونلحظ كذلك في دعاء آدم وزوجه التعلّق العظيم بغفران الله تعالى وثقتهما المطلقة برحمته من جانب وخشيتهما ووجلهما من جانب

__________________

(١) التعبير القرآني / السامرائي : ٢٥٨.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤ و ٥.

(٣) التعبير القرآني : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

١٠٥

آخر لذا فقد أظهرا اعترافهما بالظلم لأنفسهما ووضعا أمرهما في موضع الراجي والخائف في آنٍ واحد وهذا ما يوحي إليه سياق الشرط في الدعاء حيث أكّدا جملة جواب الشرط ( باللّام ونون التوكيد الثقيلة ) زيادة في تأكيد حالهما المتأرجح بين الرجاء والخوف يرجون المغفرة والرحمةو يخافون الخسران وعاقبتهو من اللطيف أن قدّمت المغفرة على الرحمة وفي هذا دلالة دقيقةً تكشف عن أنّ الرحمة لا تنال إلاّ بالمغفرة فلا وجه للرحمة مع الإصرار على المعصية أو بقائها وهذا التعبير بتقديم طلب المغفرة على الرحمة متعارف عليه أغلب سياقات الدعاء في القرآن كما في قوله تعالى على لسان المؤمنين : ( واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) (١) والله أعلم.

دعاء نوح :

المتتبّع لدعاء نبي الله نوح يجده متناثراً على ستّ سور بدأت بسورة هود وانتهت بسورة نوح التي اختصت وتفرّدت يعرض قصّة نوح دون سواه.

وفي كل موضع ترد فيه قصّة نوح تجد الدعاء يلازم قصّته ويتناسب معسياقعرض السورة فترى في موضع التفصيل بياناً لدعاء أطول وما يكون من شأن إجابته وما يعقبها من دعاء آخر كما في قوله تعالى : ( ونادي نوح ربّه فقال ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين * قال ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.

١٠٦

وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) (١). (٢)

أمّا في مواضع أخرى تجد دعاءه قصيراً سريعاً يوافق طريقة عرض الآيات في السورة وأسلوبها كما في سورة القمر قال تعالى : ( فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر ) (٣) أو قد لا ينصّ على دعائه أصلاً وتكتفي الآية بالإشارة إليه كما في قوله تعالى : ( ونوحاً إذ نادي من قبل فاستجبنا له فنجّيناه وأهله من الكرب العظيم ) (٤) وما في ذلك من تفنّن في التعبير وتجديد لخواطر النفس التي تحس في كلّ مكان من القرآن تناسقاً موضوعيّاً عجيباً يطابق واقع السورة من جهة وحال القصة المعروضة في فقراتها المختلفة على مستوى القرآن كلّه من جهة ثانية.

وأهم ما يلحظ في أدعية نوح دعاؤه على قومه فقد وردت جميعها مبينة لحاله معهم ومعاناة منهم فسترى أنّ معظمها دعاء عليهم وتعريضاً بكفرهم وجحودهم ولعلّ في سورة نوح أوضح مثال على ذلك فإنّك أوّل ما تلمس من هذه السورة شكوى نوح من قومه ودعاءه عليهم وهو في ذلك يجاري أغلب ما نقل عنه من الدعاء في القرآن الكريم قال تعالى : ( وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً ) (٥).

ولا ريب في أنّ نوحاً قدّم قبل دعائه عليهم كلّ ما يبررها

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٥ ـ ٤٧.

(٢) ظ : في السياق عينه. المؤمنون : ٢٣ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) سورة القمر : ٥٤ / ١٠.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٦

(٥) سورة نوح : ٧١ / ٢٦ و ٢٧.

١٠٧

ويستوجبها من كثرة أذاهم ومكر أساليبهم في مجابهة دعوته وعلى كلّ حال فكما كان داعياً على كفّار قومه كان للمؤمنين منهم نصيب في دعائه كما في قوله تعالى : ( ربّ اغفرلي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مومناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظّالمين إلاّ تباراً ) (١). ففي هذه الآية التي ختمت بها سورة نوح يظهر مع الدعاء للمؤمنين الذين التّبعوه حرصه على أن يدعو على هؤلاء بالهلاك الذي يستأصلهم من الأرض. ومما ينبغي قوله هنا إن الدعاء على الكافرين من قوم نوح قد حكي عن الله تعالى كما في قصّة نوح في سورة هود قال تعالى : ( ... وقيل بعداً للقوم الظّالمين ) (٢) لئلّا يذهب الظنّ أنّ الهلاك قد شمل غير المذنبين فحكي الإبعاد عن رجمته مختصّاً بالظالمين منهم وهو ما يسمّي بالاحتراس من أن ينصرف الذهن إلى خلاف ما هو مقصود والله أعلم.

دعاء إبراهيم :

أوّل ما يطالعنا من دعاء إبراهيم دعاؤه في سورة البقرة في سياق الحديث عن بناء البيت الحرام وقد انطوى الدعاء على طلب الأمن والأمان للبيت الحرام وأهله والثبات على الإسلام لذريته كما في قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثّمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ... ) (٣) وجاء السياق نفسه في سورة إبراهيم قال تعالى : ( وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبنيّ أن نعبد

__________________

(١) سورة نوح : ٧١ / ٢٨.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

١٠٨

الأصنام ) (١). ونلحظ في تكرار الدعاء في سورة إبراهيم تفاوتاً في التعبير حيث جاء لفظ البلد على التكبيرة مرّة وعلى التعريف ثانية وما في ذلك من تجديد للسياق فضلاً عن المعنى العام فقد يكون ـ والله أعلم ـ إن الدعاء في سورة إبراهيم جاء بعد إن جعل المكان المطلوب بلداً آمناً فخصّ حينها بالتعريف فضلاً عن ذلك فإن « النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة ومثله في التنزيل ( فيها مصباح المصباح في الزّجاجة كأنّها كوكب ... ) (٢) » (٣) أو أن التعريف والتنكير بالدعاء جاء « بعد ما صار المكان بلداً فقوله (اجعل هذا بلداً آمناً) تقديره : اجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك : كان اليوم يوماً حارّاً وهذا إنّما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة : لأنّ التنكير يدلّّ على المبالغة » (٤).

ومما يثير الانتباه منمجمل أدعية إبراهيم كثرة ذكره لوالديه وذريته قال تعالى : ( ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيّتي ربّنا وتقبّل دعاء * ربّنا اغفرلي ولوالديّ وللمومنين يوم يقوم الحساب ) (٥). (٦)

ولعلّ سبب الدعاء لذريّته هو أنّها « أحقّ بالشفعة والنصيحة قال تعالى : ( قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ... ) (٧) ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.

(٣) ظ : مجمع البيان ٢٢٧ : ٤.

(٤) مفاتيح الغيب ٦١ : ٤.

(٥) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٠ و ٤١.

(٦) ظ : في السياق نفسه : البقرة : ٢ / ١٢٤ ، ١٢٨ إبراهيم : ١٤ / ٣٧ الشعراء : ٢٦ / ٨٨ الصافات : ٣٧ / ١٠٠.

(٧) سورة التحريم : ٦٦ / ٦.

١٠٩

غيرهم وشايعو الخير » (١) في حين أنّ الدعاء للوالدين وتخصيصهما بطلب المغفرة والرحمة واجب يحتمه الشرع ويقره العرف وتعزّزه مشاعر الوقاء للوالدين لما بذلاه في سبيل تنشئة ولدهما وهذا ما أمر الله تعالى به نبيّة الكريم بدعائه لوالديه بقوله : ( واخفض لهما جناح الذّلّ من الرّحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربّياتي صغيراً ) (٢).

ومن بين ما نلحظه في بعض جعاء إبراهيم تقديمه لدعاء الثناء قبل دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( الّذي خلقني فهو يشفين * والّذي يميتني ثمّ يحيين ) (٣). (٤) فقد أثنى على الله تعالى وعظّمه بأن ذكر خلقه ونعمه فعقّب على ذلك بسؤاله وطلبه بقوله : ( ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصّالحين * واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين ) (٥) إلى آخر دعوته حيث تجد في تقديم الثناء على السؤال أدباً رائعاً ومنهجاً لطيفاً في تعليم كيفية دعائه تعالى وما ينبغي للداعي أن يتحلّى به عند مخاطبته جلّ وعلا فضلاً عمّا فيه من حسن الانتقال والتخلّص من حال لحال فإبراهيم قد تقرّب « إلى الله تعالى بدعواتأهل الإخلاص وابتهل إليه ابتهال أل الأمانة لأنّ الطالب من مولاه إذاقدم قبل سؤاله والتضرّع إليه ذكره بالصفات الحسنى والاعتراف بنعمه كان ذلك أسرع للإجابة وأنجح للمطلوب ولهذا فإن كل من أراد حاجةً

__________________

(١) الكشاف ٨٨ : ١ مفاتيح الغيب ٦٨ : ٤ كذلك ١٣٩ : ١٩.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٤.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٧٨ ـ ٨١.

(٤) ظ : كذلك : قوله تعالى في سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤ ـ ٥.

(٥) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٣ و ٨٤.

١١٠

إلى الله تعالى فإنّه يستحبّ تقديم الثناء على الله بما هو أهله وذكر صفاته وحمده وشكره ثمّ يسأل حاجته بعد ذلك فإنّ ذلك يكون أقرب للإجابة وأسنى لإنجاح الرغبة وإنجازها » (١) وقد جمع إبراهيم إلى جانب أدب دعائه أدب مخاطبته الله تعالى كما في نسبة الشفاء إليه عزّوجلّ دون المرض وهو بذلك قد « أسند أفعال الخير كلّها لله وأسند فعل الشرّ لنفسه » (٢) تضرّعاً إليه وخضوعاً له جلّ وعلا.

ومما يمكن رصده من دعاء إبراهيم دعوته لخاتم الأنبياء وسيدهم محمد كما جاء على لسانه قوله تعالى : ( ربّنا وابعثفيهم رسولاً منهم يثلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيزالحكيم ) (٣) كما نلحظ أن إبراهيم ما دعا على قومه أبداً ولم يرد لذلك شاهد دعائي على الإطلاق والله أعلم.

دعاء موسي :

جسدت أدعية موسى مواق متعدّدة من أحواله بيّنت خلالها اتّصاله الوثيق بالله تعالى ودعاءه في مختلف أوضاعه في سرّائه وضرّائه مظهراً حاجته وفقره مرّة وتضرّعه وخضوعه مرّة أخرى.

وكما جاءت أدعية الأنبياء موزّعة بحسب ما يقتضيه المقام ويتطلّبه السياق فقد تعدّدت مواع أدعية موسى تبعاً لاستكمال حلقات قصّته على اختلافها إجمالاً وتفصلاً لأنّ « السياق هو الذي يحدّد القدر الذي يعرض

__________________

(١) الطراز ٣٣٧ : ٢ ظ : المثل السائر ٥٥ : ٣ مفاتيح الغيب ١٤٧ : ٢٤.

(٢) تحرير التحبير ٤١٧ : ٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

١١١

منها في كلّ موطن كما يحدّد طريقة العرض والأداء بما يحقّق التناسق والجمال الفنّي » (١).

ويمكننا ترتبيب دعاء موسى بدءاً من سورة القصص حيث نجد فيها التفصيل لقصّة موسى قبل نبوءته وما جاء على لسانه من دعاء في نلك الفترة التي ضمّت مواضع ثلاثه لأدعيته أولها كان بعد قتله القبطي قال تعالى : ( قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي فغفر له إنّه هو الغفور الرّحيم ) (٢) ومن اللطيف هنا أن هذه الآية جمعت الندم والاستغفار والغفران معاً وإنّها جمعت الدعاء والإجابة في موضع واحد.

وجاء دعاؤه ثانية أثناء خروجه من المدينة خائفاً من تشاورأهلها على قتله وتوجّهه إلى مدين قال تعالى : ( فخرج منها خائفًا يترقّب قال ربّ نجّني ممنالقوم الظّالمين * ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السّبيل ) (٣).

ويأتي الموضع الثالث من دعائه في الفترة نفسها بعد أن سقى لا بنتي شعيب موضّحاً تعلّقه بالله تعالى وفقره لكلّ خير ينزله قال تعالى : ( فسقى لهما ثمّ تولّى إلى الظّلّ فقال ربّ إنّي لما أنزلت إلّى من خير فقير ) (٤).

وبعد إرسال موسى ترى في دعائه توقّع تكذيبه من قومه وخوفه منهم لذا فقد دعا بأن يمكنه من القيام بدعوته على أتمّ وجه وأنجحه. قال تعالى : ( قال ربّ اشرح لي صدري * ويسّرلي أمري * واحلل عقدةً من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري *

__________________

(١) سيكو لوجية القصّة في القرآن / التهامي فقرة : ١٣٩.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٦.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٢١ و ٢٢.

(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٢٤.

١١٢

وأشركه في أمري ) (١).

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا تكرار ذكرهارون في أغلب دعائه وما في ذلك من الدلالات على تعظيم منزلة أخيه وإظهار مكانته الوافية في نفس موسى ودعوته إلى الله فهو أخوه وأمينه قال تعالى : ( قال ربّ إنّي قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون * وأخي هارون هو أفصح منّي لسانًا فأرسله معي ردءًا يصدّقني إنّي أخاف أن يكذبون ) (٢). (٣)

ومن جملة أدعية موسى نلحظ طلبه الدائم في إرسال أخيه معه تصديقاً لدعوته وقوّة لحجّته فمنزلته للموسى بمثابة نفس موسى قال تعالى : ( قال ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرق وبيننا وبين القوم الفاسقين ) فقد وازن موسى بينه وبين أخيه هارون في إخلاصهما لله وبذلهما كلّ شيء في سبيله ونصرته.

ومن بين أدعية موسى دعاؤه على قوم فرعون لما لقيه منهم من الإصرار على الكفر وتسخير كلّ ما أنعم الله عليهم في الصدّ عن سبيله حيث دعا عليهم دعاء الشاكي منهم اليائس من إيمانهم وهدايتهم قال تعالى : ( وقال موسى ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً ي الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يومنوا حتّى يروا العذاب الأليم ) (٥).

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٣٣ و ٣٤.

(٣) ظ : في السياق عينه الآيات التالية : الأعراف : ١٥١ / ٧ الشعراء : ٢٦ / ١٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٢٥.

(٥) سورة يونس : ١٠ / ٨٨.

١١٣

فإنّك تلحظ في تكرار تضرعه بلفظ ( ربّنا ) شعوراً بمدى معاناته منهم وحرصاً على تأكيد إهلاكهم لأنّهم قابلوا آيات الله وتحذيره ووعظه لهم بزيادة الكفر والضلال فعظهم و « اشتدّ غضبه عليهم وأفرط في مقته وكراهيته لحالهم فدعا الله عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره » (١).

وممّا يعطي لسياق الدعاء قوّة مجيئه مكرّراً بلفظ ( اطمس ) و ( اشدد ) فضلاً عمّا في طلب الإيمان لهم بعد أن يروا العذاب. ليكن ذلك عذاباً آخر لهم وحسرة في قلوبهم على ترك الإيمان وهجر الحقّ والله أعلم.

دعاء زكريا :

ارتكز دعاء زكريا في مواضعه الثلاثه التي ورد فيها على طلب الذريّة الطيّبة ولم يخرج دعاؤه لغير ذلك على الإطلاق. قال تعالى : ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لي لدنك ذرّيّةً إنّك سميع الدّعاء ) (٢).

ومن اللطيف أن تعددّ طرائق التعبير من موضع لآخر في سؤاله الخلف الصالح ففي الآية السابقة جاء الدعاء مباشراً من دون أن يبيّن وهن عظامه وثورة الشيب في رأسه كما أوضع ذلك في سورة مريم قال تعالى : ( ذكر رحمة ربّك عبده زكريّا * إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً * قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرّاس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً * وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك وليّاً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضيّاً ) (٣).

__________________

(١) الكشاف ٣٦٥ : ٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٨.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٢ ـ ٦.

١١٤

والفرق بين التعبيرين ـ والله أعلم ـ راجع إلى سياق ورود الدعاء في كلا الموضعين فالدعاء في آل عمران جاء مسبوقاً بما هو معجز من أمر رزق مريم فكان ذلك موحياً لزكريا أن منقدر على إنزال الطعام والرزق في غير وقته قادر يهب الذرية ولو بعد حينها ثقة منه بالله وسروراً بما رآه من نعمه كرمه ورعايته جلّ وعلا.

جاء في مفاتيح الغيب : « إنّ زكريا لما رأى خرق العادة في حقّ مريم طمع في حقّ نفسه فدعا » (١) قال تعالى : ( ... كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّي لك هذا قالت هومن عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ * هنالك دعا زكريّا ربّه ... ) (٢).

أمّا في الموضع الثانيمن دعائه فقد افتتحت به سورة مريم فكان مناسباً مع بدء السورة التذكير برحمة ربّه وبيان حاله وما كان من أمره في بداية السورة.

ونلحظ ثمة فروقاً بين سياقيالدعاء ين ـ في آل عمران ومريم ـ منها أنّه ختم دعاءه في آل عمران بقوله : ( إنّك سميع الدّعاء ) بمعنى « قابل الدعاء ومجيب له » (٣) في حين جاء في ختام دعائه في سورة مريم ( ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً ) أي : « لم أشق يا رب بدعائك لأنك لم تخيّب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك بل كنت تجيب وتقضي » (٤) وكلا الختامين يدلّان على إجابة الدعاء وقدأجيب في آل عمران على لسان الملائكة وهوقوله تعالى : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب أنّ الله يبشّرك

__________________

(١) مفاتيح الغيب ١٩٥ : ٢١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧ ـ ٣٨.

(٣) مجمع البيان ٧٢ : ٢ ظ : التبيان ٤٥ : ٢.

(٤) جامع البيان ٤٦ : ١٦.

١١٥

بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله ... ) (١).

في حين أنّ إجابة النداء في سورة مريم لم يرد فيها للملائكة ذكر بل إنّها كانت ـ كما ذهب إلى ذلك الرازي ـ من لدن الله تعالى (٢) كما في قوله : ( يا ذكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى ... ) (٣).

ومن أوجه الاختلاف بين الدعاء ين ما ذكر فيها من سؤال زكريا عن كيفيّة أن يكون له ولد وارث م ما أوضع من حاله قل سبحانه : ( قال ربّ أنّي يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقراً وقال كذلك الله يفعل ما يشاء ) (٤).

وأعاد المعنى نفسه في سورة مريم وغيّر في السياق كما في قوله : ( قال ربّ أنّى يكون لي غلام وكانتامرأتي عاقر وقد بلغت من الكبرعتيّاً ) (٥).

فقدّم في آل عمران : « كبر نفسه ثم عقر المرأة » (٦) وأخّر ذلك في سورة مريم فضلاً عمّا في الآية نفسها من التقديم في قوله : ( وقد بلغني الكبر ) بينما في سورة مريم قال : ( قد بلغت من الكبر عتيّاً ) وهذا التجديد في السياق من جمال التعبير وجدّته فقد جعل « الكبر بمنزلة الطالب فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتي الكبر بمرور السنين عليه » (٧) إلاّ أنّه أخّر هذا المعنى في سورة مريم لأنّه أكثر إيضاحاً ودلالة على حاله وذلك بأن بلغ بنفسه إلى أعلى

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٩.

(٢) ظ : مفاتيح الغيب ١٩٥ : ٢١.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٧.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٤٠.

(٥) سورة مريم : ١٩ / ٨.

(٦) مفاتيح الغيب ١٩٥ : ٢١.

(٧) مجمع البيان ٧٤ : ٢.

١١٦

درجات الكبر ( عتيّاً ) وهو « حال اليبس والجفاف » (١) والله أعلم.

والناظر بالآيات وسياقها في السورتين يتبيّن الكثير من التفاوت بالتعبير والدلالات ومما يجدر ذكره أن دعاء زكريا في سورة مريم قد تضمّن من الآداب الدعائية ما يوجب أن تكون منهجاً وسبيلاً لكلّ داع وأوّل ما يشار إليه هنا صفة الدعاء التي امتدحها القرآن الكريم بقوله : ( إذ نادى ربّه نداء خفيّاً ) (٢).

ففي صفة الخفاء دلالة على قرب المدعو من الداعي ورعايته له فضلاً عن أن الإخفاء في الدعاء حالة حثّ القرآن عليها ورغّب فيها قال تعالى : ( ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً ... ) (٣).

ولا ريب في أن الاخفاء في الدعاء « أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص » (٤) لله تعالى من الإجهار والتصويت به « لأنّ رفع الصوت مشعر بالقوّة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الانكسار والتبرّي عن حول النفس وقوّتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه » (٥) وفي خفاء الدعاء كذلك إشارة إلى عظيم « التضرّع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبّه ومقصوده » (٦).

ومن اللّافت للنظر في الآية أنّها جمعت بين النداء والخفاء في صفة

__________________

(١) التبيان ١٠٩ : ٧.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٥٥.

(٤) الكشاف ٣ : ٣.

(٥) مفاتيح الغيب ١٩٤ : ٢١.

(٦) بدائع الفوائد ٦ : ٣.

١١٧

الدعاء والعلوم أنّ النداء لا يكون إلاّ برفع الصوت والإجهار به فكيف يكون الدعاء نداءً من جهة وخفيّاً من جهة ثانية في آنٍ واحد؟ وتعليل ذلك ـ والله أعلم ـ أنّه أراد بالخفاء الإشارة إلى أنّ الله تعالى قريبمن عباده يسمع دعاءهم ويعلم هواجسهم فلا يغيب عنه شيء من أحوالهم أما النداء ففيه دلالة على استبعاد زكريا لنفسه ـ إفراطاً في الانقطاع إليه والتواضع والخضوع له تعالى ـ من مراتب القرب والزلفى وقصوره عن الوصول إلى منازل المناجين بمعنى أن في الخفاء دلالة للطيف إحاطته بعباده وقربه منهم وفي النداء إشارة على بعدهم وقصورهم عن مناجاته هذا من جانب ومن جانب ما قدر عليه من رفع الصوت إلاّ أن الصوت كان ضعيفاً نهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى قصده وخفيّاً نظراً إلى الواقع » (١).

وفضلاً عن التحلّي بأدب الخطاب والدعاء الذي أتى به زكريا فقد بالغ في بيان ضعفه بأن خصّ العظم بالوهن وفي ذلك أرقى المعاني على عجزه ذهاب قدرته لأنّ العظم « عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته ولأنّه أشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن » (٢).

والموضع الثالث الذي جاء فيه دعاؤه في سورة الأنبياء ضمن ما قصّ القرآن من أدعيتهم ومناجاتهم وهو قوله تعالى : ( وزكريّا إذ نادى ربّه ربّ

__________________

(١) مفاتيح الغيب ١٨٠ : ٢١.

(٢) الكشاف من أدعيتهم ٤ : ٣ ظ : التبيان ٤ : ٧ ظ : مجمع البيان ١١ : ٤.

١١٨

لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ) (١).

يتّضح لنا من خلال ما سلف أنّ أهمّ ما شغل دعاء زكريا هو طلب الولد الصالح وقد أجاب الله تعالى دعاءه بعدما رأي إخلاصه وتضرّعه وخضوعه في دعائه والله أعلم.

دعا ء هود ولوط (٢) :

من بين الأنبياء الذين حكى الكتاب العزيز دعاءهم على أقوامهمنبي الله هود ولوط.

أمّا هوج فلم يرد له إلاّ موضع واحد في دعائه على قومه وطلبه نصرته تعالى بعد أن كذّبه قومه وجاهروا في كفرهم فتوجّه بدعائه قائلاً : ( قال ربّ انصرني بما كذّبون ) (٣) فأجابه الله وأهلكم كما ورد ذلك عقب دعائه مباشرة قال تعالى : ( قال عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين * فأخذتهم الصّيحة بالحقّ فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظّالمين ) (٤).

وأمّا دعاء لوط على قومه فقد جاء في موضعين منه قوله تعالى : ( ربّ نجّني وأهلى ممّا يعملون ) (٥) لأنّه لم يدع عليهم إلاّ بعد أن استوثق من إصرار قومه على العمل السيئ فلم يبق منه إلاّ الدعاء عليهم كما في قوله تعالى : ( قال ربّ انصرني على القوم المفسدين ) (٦) فإنّك تلحظفي نعته لقومه

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٩.

(٢) سورة الأنبياء فقرة رقم (٧) ، (٨).

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٦ ، ٣٩.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٠ و ٤١.

(٥) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٦٩.

(٦) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٣٠.

١١٩

بالفساد مسوغاً للدعاء عليهم وإهلاكهم بعد أن عجز عن نصحهم وإنذراهم فجاء الدعاء عليهم عاقبة لأعمالهم وخاتمة لفسادهم والله أعلم.

دعاء سليمان :

اقتصر ذكر دعاء سليمان في القرآن الكريم على سورتين الأولى : في سورة النمل حيث طلبب من الله تعالى إلهامه الشكر على نعمته التي أنعمها عليه وعلى والديه من أمر نبوتهما قال تعالى : ( ... وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين ) (١).

ففي الآية دلالة على شكر نعمة وطلب التوفيق للمزيد من العمل الصالح.

وفي سورة ص نجد الموضع الثاني لدعاء سليمان وهو قوله تعالى : ( قال ربّ اغفرلي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنّك أنت الوهّاب ) (٢).

حيث دعا الله عزّوجلّ أن يجعل له « معجزة تختصّ به كما أن موسى يختصّ بالعصا واليد البيضاء واختصّ صالح بالناقة ومحمد بالمعراج والقرآن » (٣) فضلاً عمّا في الآية من الإشارة إلى طلب المغفرة قبل كلّ شيء لأنّها « سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا لأنّ سليمان طلب المغفرة أوّلاً ثمّ توسّل به إلى طلب المملكة » (٤) والله أعلم.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٩.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٣٥.

(٣) مجمع البيان ١١٦ : ٥.

(٤) مفاتيح الغيب ٢٠٩ : ٢٦.

١٢٠