الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

الدكتور محمّد محمود عبود زوين

الدعاء المعاني والصّيغ والأنواع

المؤلف:

الدكتور محمّد محمود عبود زوين


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-79-9
الصفحات: ١٣٩

١
٢

٣
٤

كلمة المركز

الحمد لله حمداً كثيراً يليق بجلاله ، وصلّي الله نبيّنا محمد وخير البرية آله .. وبعد.

قد يتوهّم البعض ـ نتيجة التأثّر بالحضارة المادية المعاصرة والأفكار الدخيلة الداعية في ظلّ تلك الحضارة إلي التجديد في فهم القضايا الإسلامية ولو بتأويل ثوابتها بهدف محاولة إبراز توافقها وانسجامها مع المفاهيم الحضارية التي فرضتها المدينة المعاصرة ـ أن مسألة الدعاء خاضعة للحالات النفسية التي يسيطر عليها الخوف من المستقبل ويصاحبها القلق والاضطراب نظير ما كان عليه الناس في عصور العجز المادي عن دفع الكثير من الآفات المختلفة من العوارض الطبيعية أو الأمراض الوبائية ممّا كان ذلك يشكّل البعد الأوسع في قلق الناس وتعلّقهم بالحالة الغيبية والإيمان المطلق بقدرتها علي حلّ تلك المعضلات ومنها حالة الدعاء والتوسّل بالله عزّوجّل بأنبيائه وأوصيائهم لصرف مثل تلك الأخطار المتوهّمة ومنها حالات المرض والفقر وغير ذلك مما يصيب الناس يومذاك ويعجزوا أمامها عن فعل شيء.

وأساس هذا التوهّم يقوم علي أمور عدّة لعلّ من أهمّها : حسن النية بدعوات التجديد مطلقاً! مع الانبهار والتأثّر الأعمي بالحضارة المادية والتقنية المعاصرة من دون إدراك لما أظهرته تلك الحضارة المادية الإلحادية من ردود فعل حادّة تجاه الانحراف الفكري والعقدي للكنيسة وتطبيق هذا علي المفاهيم الإسلامية هراء لا معني له أصلاً إلاّ الجهل أو التعصّب وعدم الموضوعية وإلاّ أين موقع الفكر الكنسي المنحرف من دين الإسلام المتكامل الذي أتقن الله سبحانه فيه كلّ شيء ووضع القوانين المحكمة والأسس المتينة لصنع الإنسان المؤمن القويّ كي يسهم مع غيره من المؤمنين في بناء المجتمع الصالح القائم علي أساس العدل والمساوات والقضاء علي كل مظاهر الانحراف والفساد الأخلاقي والدعاء لايلغي دور الداعي في بناء أسرته ومجتمعه بناءً إسلامياً فاضلاً وتوسّل المخلوق الفقير العاجز بالخالق القويّ القادر يسقط ما أوجبه الخالق عليه من الجدّ

٥

والاجتهاد والعمل الدؤوب للوصول إلي أهدافه وتحقيق طموحاتهو لايتيح له التواكل والانزواء والتعلّق المطلق بالغيب وإهمال كلّ سبب ولايقول بغير هذا مسلم قط إلاّ تافه أو سفيه.

نعم الدعاء له قيمة عظيمة بل هو أفضل العبادة لأنّه تجسيد للصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق ومنهج الدعاء وموضوعيته تكمن في استقراء القواعد الإيمانية التي ينطلق من خلالها الدعاء وأما الحكم من خلال المظاهر السلبية المنسوبة إليه قسراً نتيجة القياس الخاطئ بجملة الأطروحات الغريبة التي جاءت بها الكنيسة وأتباعها ممن خرجوا بالديانة المسيحية عن مرتكزاتها السليمة جرياً وراء نزواتهم وغرائزهم الحيوانية النهمة فهو من الإجحاف والظلم بمكان.

ونحن لاننكر أهمية هذا التحوّل الهائل في إدراك الكثير من الأمور التي كانت خافية قبل ظهور تلك الحضارة المادية والتقنيةالعالية حتّي تبدّد إثرها الكثير من المخاوف التي كانت سائدة قبل ذلك إلاّ أن هذا لايلزم ما ذكر من تأويل منحرف للدعاء سيما وأن العلم الحديث نفسه جاء ليؤكّد بقوّة أن هنالك قوّة قادرة مدبّرة مبدعة تتحكّم بكلّ مقدرات الكون والإنسان لايملك أمامها إلاّ الإقرار بعجزه وضعفه رغم ما بلغه من درجات عالية من الرقي والتحضّر.

وإذا انضاف إلي ذلك بأنّ الله عزّوجّل قد أمر عباده بدعائه وضمن لهم الاستجابة علمنا أن الدعاء طريق إلي القبول وبلوغ المأمول.

لقد وضعت الشريعة السمحاء آداباً معينة للدعاء وشروطاً تستكمل بها صورته كما بينت لنا أسفاراً نادرة من الأدعية لمختلف الشؤون وقد صدر عن مركز الرسالة كتاب (الدعاء حقيقة وآدابه وآثاره) للأستاذ علي موسي الكعبي غير أن بحث الدعاء هنا جاء علي منهج آخر تقيّد بحدود الكتاب العزيز فقط ليجلو لنا بدراسة قرآنية بكر عن معانيه ومعالمه وصيغه في القرآن الكريم.

والله الهادي إلي سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦

المقدّمة

الحمد لله الذي أعزّ عباده بدعائه وضمن لهم الكرامة بإجابته والصلاة علي خير خلقه من الأولين والآخرين أشرف الأنبياء والمرسلين نبيّنا محمد الصادق الأمين وعلي آله الغرّ الميامين الذين طابت أرومتهم وطهرت نفوسهم فدعواالله مخلصين له الدين .. وبعد.

فقد استظللت ـ علي فقر مني ـ بفيء الدعاء القرآني العجيب فأسرتني قوّة بيانه وسحرني جمال اسلوبه وأطربني معناه الرشيق فكان أصفي من كلّ نبع وأعذب من ماء الفرات من ظمئ من نهل منه ولااستلذّ من ارتوي بغيره وصاحبت آياته البينات بصادق الأحاسيس وخالص المشاعر فوجدتها خير ما يجسّد فطرة الإنسان في علاقته بالله تبارك وتعالي ورأيتها مهذّبة للطباع منظمة للسلوك مصقلة للنفوس من ربقة الشهوات وأسر الماديات داعية إلي سبيل الهداية مبشرة أهلها بالارتقاء في مدارج الكمال والقرب من مواطن الرضا ورحمة الجليل المتعال.

وقرأت بإمعان كتاب الرسالة الخاتمة والدين الكامل والنعمة التامّة والنور المبين وتزوّدت من أدعية المعبّرة عن مدلولات لغوية وبلاغية فريدة تتفاعل بقوّة مع واقع الناس علي أمل تقديمها في هذه الدراسة ضمن منهج علمي يعتمد علي ما يدركه من منطق القرآن الكريم في تحليلاته واستنتاجاته بعيداًعن المنهج القائم علي أساس مفهوم الدعاء في الإسلام وما

٧

يتّصل بذلك من الأحديث والآثار وأقوال العلماء كظاهرة بيانية لها طريقها في الخطاب القرآني وبنائه الفنّي المعجز ناظراً في ألفاظها وسياقها ونظمها المتناسق بعين أهل البيان من المفسّرين والنحويين والبلاغين.

وبناء علي ذلك التمست بعض مظاهر ودلالات الدعاء في ثلاث فصول :

اختصّ الأول بالكشف عن معاني الدعاء في القرآن الكريم.

وتناول الثاني صيغ الدعاء وصوره في القرآن الكريم.

وجاء الفصل الثالث ليكشف عن معالم الدعاء وأنواعه في القرآن الكريم.

وعلي الرغم من اكتمال البحث عن مظاهر الإعجاز البياني المختصّة لآيات الدعاء في القرآن الكريم من المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية بفصل رابع وكذلك الكتمال بحث المعاني النحوية والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية في أدعية القرآن المجيد في فصل خامس إلاّ أني آثرت تقديم الفصول الثلاثة الأولي في هذه الدراسة فحسب تلبية لرغبة الناشر وطموحنا في تطوير الفصلين المذكورين ونشرهمافي كتاب آخر.

وهنا لابدّ من أن أقرّ علي نفسي بالقصور والتقصير في محاولتي الوقوف علي ظاهرة الدعاء في كتاب الله جلّ جلاله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعذري في ذلك أن أرتشف هداه وأن أبصر بنوره فإن وفّقفت وأحسنت فهذا ما لا يسعني شكره إلاّ بنعمةٍ ترقي بي لشكره وحمده تعالي ، وإن كان غير ذلك فهذا ما لا يطاق حمله ولا الصبر عليه إلاّ بدعاءٍ مخلص مقرّ بالذنب مستغفر منه راجٍ الهداية لما فيه سلامة اليوم وفوز الغد إن شاءالله تعالي وهو حسبي ومجيبي وله الحمد أولاً وآخراً علي ما أنعم وأكرم.

٨

الفصل الأوّل

معاني الدعاء في القرآن الكريم

المبحث الأوّل

الدعاء في اللغة والاصطلاح

أوّلاً ـ الدعاء لغة :

اشتقاقه :

« دَعَا » لفظ عربي أصله «دَعَا ولأنّه من دعوت إلاّ أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت» (١) لذا « فالدال والعين والحرف المعتل أصل » (٢) ومصدر دَعَا الثلاثي دعوةً ودعاءً (٣) فتقول : دَعَا يدعو دعاءً كما تقول : دعا يدعو دعوةً « والمفعول مدعوّا ادعو دعاءً » (٤) وجمع اسم الفاعل منه « دعاة وداعون كقضاة وقاضون » (٥) ، والدّعوي : اسم لما تدّعيه والدعوة تصلح أن تكون في معني الدعاء لو قلت : اللهمّ أشركنا في صالح دعاء المسلمينو دعوي المسلمين

__________________

(١) الصحاح / الجوهري مادة ( دَعَوَ ).

(٢) مقاييس اللغة / ابن فارس ، باب العين والدال وما يثلثهما ( دَعَوَ ).

(٣) ظ : تهذيب اللغة / الأزهري : باب العين والدال ( دَعَوَ ).

(٤) جهرة اللغة / ابن دريد / مادة ( دَعَوَ ).

(٥) تاج العروس / الزبيدي : مادة ( دَعَوَ ).

٩

جاز وحكي ذلك سيبويه وأنشد :

« قالت ودعواهاكثير صخبه » (١) (٢).

ويطلق الدّعّاء كصيغة مبالغة « علي الشخص كثير الدعاء » (٣).

دلالة المادة :

وتلغب علي مادة دعا في أصولها واشتقاقها معني الطلب ودلالة فالدعاء في جوهره « طلب الطالب للفعل من غيره» (٤) وهذا ما حمل الزمخشري علي أن يجعل الدعاء بمعني النداء « فدعوت فلاناً وبفلانٍ : ناديته وصحت به » (٥) بوصف النداء أسلوباً من أساليب الطلب إلاّ أن في الدعاء معني النداء وأكثر من ذلك إذ إن النداء أحد معاني الدعاء ـ وأظن ـ أن ماجوز أن يكون الدعاء بمعني النداء هو تصدّر أغلب الدعاء بأداة النداء ظاهرة أو مقدّرة فضلاً عما يشترك به معني الدعاء والنداء في « أن تميل الشيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك » (٦) وهذا ما جعل النداء بمعني الدعاء والعكس صحيح.

استعمال مادة « دعا » :

نلتمس من استعمال العرب لهذا اللفظ ـ حقيقة ومجازاً ـ أصالة الكلمة وانتماءهاإلي فصيح كلامهم واستخدامها في أكثر نشاطهم اللغوي ومن ذلك قولهم الادّعاء : ويكون في الحرب بمعني الاعتزاء أي أن تقول : أنا ابن

__________________

(١) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).

(٢) لبشر بن النكث ، ظ : الكتاب٤ / ٤١.

(٣) تاج العروس : مادة (دعو).

(٤) المخصص / ابن سيده ٨٨ : ١٣.

(٥) أساس البلاغة / الزمخشري : ٢٧٢.

(٦) مقاييس اللغة : باب الدال والعينوما يثلثهما (دعو).

١٠

فلان (١) قال الشاعر (٢) :

ونجرّ في الهيجا الرماح وندّعي

وقولهم : تداعوا عليه تجمّعوا (٣) فكأنما طلب أحدهما من الآخر ذلك ودعابعضهم بعضاً والدعاء للإنسان يمكن أن يكون في بابين : له وعليه فدعا «له : طلب له الخير وعليه : طلب له الشر» (٤) وهذا ما سار عليه القدماء الذين صنّفعوا في الألفاظ واختيارها فجمعوا أدعية كثيرة مما أثر عن العرب في جاهليتهم وإسلامهم وأول ما نجد ذلك في كتاب «تهذيب الألفاظ» حيث وضع ابن السكيت (ت / ٢٤٤ه) باباً في الدعاء علي الإنسان بالشر وآخر في الدعاء له بالخير (٥) وسار علي نهجه من ألّف في هذا المجال حتي كادوا أن يستوعبوا ما قالته العرب في ذلك (٦) وفي العصر الإسلامي سمي الرسول الكريم بـ « داعي الله أي إلي توحيده وما يقرب منه ويطلق الداعي علي المؤذن لأنّه من الله » (٧).

وتفيض معاجم العربية باستعمال لفظ الدعاء مجازاً ومن ذلك قول العرب :

__________________

(١) البيت للحادرة الذبياني : وصدرة : ـ ونقي بأمن ما لنا أحسابنا ـ ظ : المفضليات : ٩.

(٢) القاموس المحيط / الفيروزآبادي : مادة (دعو)

(٣) معجم متن اللغة / أحمد رضا : مادة (دعو)

(٤) كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الأخلاق / أبو يوسف بن إسحاق السكيت : ٥٧٠ ـ ٥٨٠ وانظر كذلك كتابه : إصلاح المنطق : ٤٠٥.

(٥) ممن صنّفوا في هذا الباب : ظ : الهمذاني في الألفاظ الكتابية : ١٧٠ ـ ١٧١ ، ظ : قدامةبن جعفر (ت / ٣٣٧ه) في جواهر الألفاظ : ٣١٦ ، ٣٧٨ ، ٣٨٩ ، ٣٩١ ، ٤٢٥ ، ظ : ابن سيده في المخصص ٨٨ : ١٢.

(٦) تاج العروس : مادة (دعو).

(٧) لسان العرب : مادة (دعو).

١١

« لصريخ الخيل في الحرب الداعية » (١) فكأنها بصوتها تدعوهم وتستنصرهم وكذلك قولهم : « داعية اللبن : وهو ما يترك في الضرع ليدعو ما بعده » (٢). ومنه كذلك « تداعت الحيطان إذ سقط واحد وآخر بعده فكأن الأول دعا الثاني » (٣) وقالت العرب : « دعاه الله بما يكره : أنزله به » (٤) ويقال أيضاً : دعا فلاناً مكان كذا إذا قصد ذلك المكان كأن المكان دعاه وهذا من فصيح كلامهم (٥).

قال ذو الرمة (٦) :

دعت ميّة الأعداد واستبدلت بها

خناطيل آجال من العين خذّل

ومما تقدّم تبدو أصول الكلمة العربية ويتبيّن اشتقاق جذورها الأولي وتقلّبها في الاستعمال بين الحقيقة والمجاز.

الدعاء في الاصطلاح :

يصعب علي الباحث أن يضع تعريفاً جامعاً للدعاء لأننا إن فعلنا ذلك فسوف نصدر عن نظر ضيق وأساسٍ واهٍ في تحديد ظاهرة حيّة متجدّدة بتجدّد أحوال الإنسان تجاه خالقه في حاجاته ومشاعرة إلاّ أنّه يمكننا أن

__________________

(١) لسان العرب : مادة (دعو)

(٢) نهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو) ، ظ : النهاية في غريب الحديث والأثر : قوله لضرار بن الأزور : (دع داعي اللبن لا تجهده) أي ابق في الضرع قليلاً من اللبن ١٢٠ : ٢٠.

(٣) مقاييس اللغة : باب الدال والعين وماثلثهما (دعو).

(٤) أساس البلاغة : ٢٧٢ ، ظ : معجم العين والدال (دعو).

(٥) مقاييس اللغة : باب العين والدال وما يثلثهما (دعو).

(٦) ديوان ذي الرمة : ٥٨٧ ، ظ : اللسان ( خنظل ، عدد ) ، دعتها الأعداد : أي ارتحلت إلى حيث الأعداد ، وهي المياه التي لاتنقطع واحدها ( عد ) ، استبدلت بها : أي استبدلت الدار بمية تلك الوحوش.

١٢

نلتمس مفهوماً يشرف بنا علي حدود الدعاء.

ومن هذا السبيل عرف الدعاء بأنّه « الرغبة إلي الله تعالي فيما عنده من الخير والابتهال إليه بالسؤال » (١) فالرغبة بالسؤال بمعني التوجّه والطلب وهوكذلك « صلة روحية بين العبد وبارئه » (٢).

وصلة كهذه لا تحدها المسافة ولا يقيّدها زمن فهي حاضرة في كل وقت حاضرة في نفس الإنسان وبين جنبيه فأيّ صلة تكون أقرب لنا من حبل الوريد قال تعالي : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (٣).

ولكن النفس تأبي إلاّ أن تترجم هذه المشاعر فتكون «رجوات قلب وهمسات فؤاد ونبضات وجدان وترنيمات عابد» ٤).

وما دام الدعاء حالة إنسانية تجسّد واقعاً نفسيّاً بين العبد وخالقه تتعلّق بعواطف الإنسان وحاجاته فقد الختلف الدراسون ـ وهم كثر ـ في تصوره وتعريفه إلاّ أن تصوراتهم جرت في تيار واحد مثّلث استجابة الإنسان بفطرته لنداء ربّه فهو «شعور القلب بالحاجةإلي عناية الله تعالي فيما يطلب وصدق التوجّه فيما يرغب» (٥) ويعرّف بعضهم الدعاء بأنّه « ترنيمة المؤمن وغذاؤه الروحي الذي يربطه بالحياة في كل آن بل إن الدعاء هو فريضة المؤمن الممزوجة بكلّ ألوان

__________________

(١) تاج العروس : مادة (دعو) ظ : القاموس : مادة (دعو).

(٢) الأمثال في القرآن / محمود بن الشريف : ٩٥.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٦.

(٤) الدعاء في القرآن / محمود بن شريف : ٧.

(٥) تفسير المنار / محمد رشيد رضا١٤ : ٢.

١٣

الطاعات » (١) والدعاء ـ كماأري ـ توجّه الإنسان روحاً وجسداً إلي خالقه معبّراً أشرف مصاديق ذلك التوجّه في ألفاظ وتعابير تشرق في النفس ملبّية نداءً إلهيّاً ومجلية حاجة فطرية في الطمئنان والسكون إلي قوةٍ لا تقهر وأنس لايوحش ورعاية لاتنتهي.

فحقيقة الدعاء إذاً « هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة والارتباط بعالم لا مبدأ له ولانهاية ولا حد ولاغاية لسعة رحمته وقدرته وإحاطته بجميع ما سواه فوق ما نعقل من معني السعة والاحاطة والقدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الداعي جميع وسائل نجح طلباته » (٢).

ولهذا فالإنسان يكون داعياً في كل لحظاته في حركته وسكونه في يقظته وغفلته في كلامه وصمته في همساته وإشاراته وليس في ذلك غلوّ ولا مبالغة لأن الداعي إلي الدعاء أصلاً هو الافتقار والحاجة وافتقار الإنسان يغمره فطرةً وطبعاً ـ في كل أجزائه ـ إلي من يغلق عليه أبواب حاجته ويفيض عليه من فضل رحمته لذلك فإن « حقيقة الدعاء يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة » (٣) والفقر لرحمة تعالي وعليه فالفطرة أساس الدعاء وحيثما وجد الافتقار ـ مرآة الفطرة ـ كان الدعاء توجّهاً صادقا من الأدني إلي الأعلي وهو ما تعارف عليه من أنّه « طلب الفعل مع التسفّل والخضوع » (٤).

وصار واضحاً التوافق التام بين المعني اللغوي والاصطلاحي لمادة الدعاء من حيث دلالتها علي الطلب وما يميز هذا الطلب من بقية أقسامه المتعددة

__________________

(١) الدعاء والإجابة / فؤاد رضا : ٢٠.

(٢) مواهب الرحمن في تفسير القرآن / عبد الأعلي الموسوي ٧٠ : ٣.

(٣) الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي ٣٣ : ١.

(٤) كشاف الفنون / التهانوي ٥٠٤ : ٢.

١٤

كالالتماس وغيره.

ثانياً : وجوه معاني الدعاء في القرآن الكريم :

مما لا شك فيه أن ثراء اللغة العربية وغناها متعلق بكتاب الله العزيز فقد وثّق أصول الألفاظ العربية وأفاض في استعمال اشتقاقها وتطوير دلالتها لذلك نجد فرقاً واضحاً لبن دلالات الألفاظ في الجاهلية وبين استخدامها القرآني حيث «تجرّد كثير من الألفاظ من معانيها العامة القديمة وأصبحت تدل علي معانٍ خاصةتتصل بالعبادات والشعائر أو شؤون السياسة والإدارة والحرب أو مصطلحات العلوم والفنون» (١) ولذا يمكننا القول بكل ثقة واطمئنان أن سرّ بقاء العربية وخلودها يرجع إلي القرآن العزيم كتاب العربية الأكبر.

وفيما يتصل بمادة « دعا » واستعمالها القرآني فقد استوعب القرآن الكريم تصاريف اللفظ ودلالاته حيث جاء علي نحو مائة وتسعين مرّة ضمن اثنين وسبعين (٢) اشتقاقاً تنوّعت معانيها بتنوّع سياقها التي وردت فيه ولهذا فقد كانت معاني الدعاء موضع نظر المفسرين والمهتمين بالوجوه والنظائر وأول من يشار إليه في ذلك مقاتل بن سليمان البلخي ( ت / ١٥٠ هـ ) حيث جعل للدعاء وجوهاً ستّة (٣) سار علي أثره بعض من جاء بعده وخالفه آخرون في بعض معاني الدعاء ووجوهه إلاّ أنّهم نهلوا منه واعتمدوا عليه وهذا واضح من طريقة عرض المادة والستشهاد بالآيات القرآنية نفسها.

وأبرز وجوه معاني الدعاء التي وردت في القرآن الكريم ما يلي :

__________________

(١) فقه اللغة / د. علي عبد الواحد وافي : ١١٥.

(٢) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبد الباقي : مادة (دعو).

(٣) ظ : الأشباه والنظائر / مقاتل بن سليمان البلخي ٢٨٥ : ٢.

١٥

الوجه الأوّل ـ الدعاء بمعني العبادة :

وهذا أوّل معاني الدعاء وأوسعها استعمالاً في القرآن الكريم فقد جاء الدعاء بمنزلة العبادة كثيراً في الاستعمال القرآني قال تعالي : ( وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين ) (١).

وإذا علمنا أنّ العبادة مفهوم واسع يتّسع لعدّة طقوس وفعاليات تؤدّي بطرق مختلفه تكوّن بمجموعها العبادة علمنا أهمية الدعاء ومكانه بالنسبة للعبادة حيث يثمل جوهر العبادة وروحها ولهذا ساوي جلّ وعلا بين العبادة والدعاء وتواتر هذا المعني في أحاديث الرسول الكريم حيث قال : «الدعاء هو العبادة » (٢).

ومما جاء بهذا المعني قوله تعالي : ( قل ما يعبأ بكم ربّي لولا دعاوّكم ... ) (٣) « يقول : لولا عبادتك » (٤).

وقال تعالي : ( قل أندعوا من دون الله ... ) (٥) « يعني : أنعبد من دون الله » (٦)

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٢) سنن المصطفي / محمدبن يزيد ابن ماجة ٤٢٨ : ٢.

(٣) سورة الفرقان : ٧٧ / ٢٥.

(٤) الأشباه والنظائر٢٨٦ : ٢ ظ : الوجوه والنظائر / هارون بن موسي : ٣١٣.

التصاريف / يحيي بن سلام : ٣٢٦ ، نزهة الأعين النواظر / ابن الجوزي : ٢٩٣.

مجمع البحرين / فخرالدين الطريحي ١٣٩ : ١.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.

(٦) قاموس القرآن / الدامغاني : ١٧٣ ظ : بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢ الإتقان / السيوطي ١٣١ : ٢.

١٦

( مالا ينفعنا ولايضرّنا ) (١).

وقال تعالي : ( أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ) (٢) « أيّ أتعبدون ربًّا سوي الله » (٣) (٤).

ومن المفيد أن تذكر أن تقارب معني اللفظين بصورة كبيرة أدّي إلي اختلاف أقوال العلماء والمفسرين في حمل معني العبادة علي اللفظ أو معني الطلب والدعاء أو اعتبار جواز المعنيين في اللفظ نفسه.

الوجه الثاني ـ الدعاء بمعني القول :

والاستعمال القرآني للدعاء بمعني القول لم يخرج عن جنس ما استخدمه العرب بل ورد مطابقاً لما في كلامها قال الشاعر (٥).

يدعون عنتر والرماح كأنّها

أشطان بئر في لبان الأدهم

يقول ابن منظور في معني البيت : «معناه : يقولون : يا عنتر فدلّت يدعون عليها» (٦).

ومما جاء في القرآن العزيز بمعني القول : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا .. ) يعني : ماكان قولهم إذ جاءهم عذابنا ( إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين ) (٧). (٨)

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.

(٢) سورة الصافّات : ٣٧ / ١٢٥.

(٣) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو)

(٤) انظر الآيات التالية بنفس المعني : يونس : ١٠ / ١٠٦ ، الشعراء : ٢٦ / ٢١٣ ،

القصص : ٢٨ / ٨٨ الحج : ٢٢ / ١٣ ، فاطر : ٣٥ / ٦٧ العنكبوت : ٢٩ / ١٧ ،

الفرقان : ٢٥ / ٦٨ ، الحج : ٢٢ / ١٣ ، الكهف : ١٨ / ١٤.

(٥) ديوان عنترة : ١٨.

(٦) لسان العرب : مادة (دعو).

(٧) سورة الأعراف : ٧ / ٥.

(٨) الأشباه والنظائر ٢٨٥ : ٢ ، ظ : الوجوه والنظائر : ٣١٣ ، ظ : نزهة الأعين : ٢٩٣.

١٧

وجلي أن هذا من تفسير القرآن بالقرآن فقد ناسب قوله تعالي : ( دعواهم ) بـ ( قالوا ) فبيّن أن معني الدعوي هنا القول.

الوجه الثالث ـ الدعاء بمعني الاستعانة أو الاستغاثة :

ولتداخل معني الاستعانة والاستغاثة وتشابههما كان أهل اللغة وأصحاب الوجوه والنظائر في ذلك علي أقسام ثلاثة :

أ ـ قسم حمل لفظ ( دعا ) أو بعض مشتقاته علي معني الاستغاثة دون الإشارة إلي معني الاستعانة ويمثل هذا القسم : مقاتل بن سليمان في الأشباه والنظائر (١).

والراغب في مفرداته (٢) والدامغاني في قاموس القرآن (٣).

ب ـ القسم الثاني : علي عكس ما ذهب إليه الفريق الأوّل فقد حمل لفظ ( دعا ) أو بعض اشتقاقه علي معني الاستعانة ولم يشر إلي الاستغاثة مطلقاً وضم هذا القسم هارون بن موسي في الوجوه والنظائر (٤) ، ويحيي بن سلام في التصاريف (٥) وابن الجوزي في نزهة الأعين (٦) والسيوطي في الإتقان (٧).

جـ ـ أما القسم الثالث فقد جمع بين « معنيي الاستغاثة والاستعانة » كما هو عند الأزهري في تهذيب اللغة (٨) ، والفيروزآبادي في بصائر ذوي

__________________

(١) الأشباه والنظائر ٢٨٧ : ٢.

(٢) معجم مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : ١٧١.

(٣) قاموس القرآن : ١٧٤.

(٤) الوجوه والنظائر : ٣١٤.

(٥) التصاريف : ٣٢٦.

(٦) نزهة الأعين : ٢٩٤.

(٧) الإتقان ١٣١ : ٢.

(٨) نهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).

١٨

التمييز (١).

والغالب عندي ـ والله أعلم ـ أن المعينيين علي تقاربهما يمكن أن نلحظ في دلالة الاستغاثة سعة أكثر منه في الاستعانة وكلاهما طلب وبمحلان علي الدعاء أيضاً إلاّ أن الاستغاثة «طلب الواقع في بلية» (٢) قال تعالي : ( .. وإن يستغيثوا يغاثوا بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه بئس الشّراب وساءت مرتفقاً ) (٣) واكثر ما تجي الاستغاثة في طلب « النصرة » (٤) قال تعالي : ( ... فاستغاثه الّذي من شيعته علي الّذي من عدوّه ... ) (٥) وقال جلّ ذكره : ( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين ) (٦).

والاستجابة السريعة في هذه الآية ـ وفي الاستغاثة عموماً ـ إشارة إلي أن الاستغاثة انتشال من أمر عظيم فقد الطالب ـ المستغيث ـ فيه أمله بقدراته وعلّقها بمغيثه.

أما الاستعانة فالظاهر فيها ـ والله أعلم ـ الطلب والدعاء إلاّ أنّ حال الطالب يكون أقلّ شدّة من المستغيث فليس هناك بلاء واقع علي المستعين وإنّما يكون الطلب زيادة في إكمال الأمر المستعان عليه كما يظهر من قوله تعالي : ( قال ما مكّنّي فيه خير فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردماً ) (٧) ومما

__________________

(١) بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢.

(٢) لسان العرب : مادة (غوث).

(٣) سورة الكهف : ٢٩ / ١٨.

(٤) ظ : معجم مفردات القرآن / الراغب (ت / ٥٠٢ه) : ٣٧٩.

(٥) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٦) سورة الأنفال : ٨ / ٩.

(٧) سورة الكهف : ١٨ / ٩٥.

١٩

ورد في القرآن بهذه المعاني قوله تعالي : ( وإن كنتم في ريبٍ مّمّا نزّلنا علي عبدنا فاتوا بسورة مّن مّثله وادعوا شهداءكم مّن دون الله إن كنتم صادقين ) (١) قال مقاتل : « يعني استغيثوا بشهدائكم » (٢) في حين إن معني ( ادعو ) في الآية نفسها لدي هارون بن موسي « يعني استعينوا بشركائكم » (٣).

ويري الباحث أن لا مانع من حمل معني الاستعانة والاستغاثة علي مضمون الآية إن أجاز لنا سياق الآية ذلك أو حمل المعنيين معاً إذا أوّل كلّ منهما كما عند الأزهري في تهذيب اللغة (٤). (٥)

الوجه الرابع ـ الدعاء بمعني النداء :

قال الراغب : « الدعاء كالنداء إلاّ أن النداء قد يقال ب يا أو أيا ونحو ذلك من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لايكاد يقال إذا كان معه الاسم نحو : يافلان وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر (٦) ، قوله تعالي : ( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون ) (٧) وقوله تعالي : ( قل إنّما أنذركم بالوحي ولايسمع الصّمّ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣.

(٢) الأشباه والنظائر ٢٨٧ : ٢.

(٣) الوجوه والنظائر : ٣١٣ ، ظ : التصاريف : ٣٢٦.

(٤) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو) ظ : بصائر ذوي التمييز ٦٠١ : ٢.

(٥) ظ : هذا المعني في الآيات : سورة يونس : ١٠ / ٣٨ سورة هود : ١١ / ١٣ ، سورة غافر : ٤٠ / ٢٦.

(٦) معجم مفردات ألفاظ القرآن : ١٧١.

(٧) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

٢٠