ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» (١) و «الطاهر» ومنه قوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (٢) و «الخالي عن الأذى في النفس والبدن» كما في زمان طيّب أي خالٍ عمّا يؤذي النفس والبدن من حرّ وبرد ونحوهما ، لأنّها مجازات لا يصار إليها إلّا بقرينة وهي منتفية ، أو أنّها بأسرها لوازم للمعنى الحقيقي كما يظهر بأدنى تأمّل. ويقابل الطيّبات بالمعنى المذكور ، وهي ما تستكرهه النفوس وتتنفّر عنها الطباع ، ولا ريب أنّ الأبوال سيّما أبوال الفرس والبغل والحمار منها فيعمّها التحريم.

واستدلّ على المختار أيضاً بوجوه اخر غير مستقيمة :

منها : ما أشار إليه في الرياض «من احتمال الخباثة فيها الموجب للتنزّه عنها ولو من باب المقدّمة» (٣) وملخّصه أنّ هذه الأبوال يحتمل خباثتها والاحتمال يوجب الاجتناب عنها ولو بحكم المقدّمة.

وهذا في غاية الضعف لأنّ الاكتفاء في إيجاب التنزّه في الشبهة التحريميّة بمجرّد الاحتمال من اصول الأخباريّة ، فيدفعه ما تحقّق في الاصول وفاقاً لأصحابنا المجتهدين من عدم الفرق في البناء على أصل البراءة بينها وبين الشبهة الوجوبيّة ، فاحتمال الخباثة لا يوجب الاجتناب جزماً.

وأمّا الاستناد في ذلك إلى قاعدة المقدّمة فلم نتحقّق هنا معناه ، لأنّ مقدّميّة الاجتناب عمّا يحتمل الخباثة بدون ذي المقدّمة ممّا لا يتعقّل فكيف له الوجوب المقدّمي؟ وهو فرع على وجوب ذي المقدّمة.

ولو وجّه بأنّ الخبائث الواقعيّة يجب الاجتناب عنها وهو لا يتمّ إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل الخباثة ، فيردّه أنّ الخبائث الواقعيّة إن اريد بها الأشياء الخبيثة في الواقع الّتي لم نعلم خباثتها فوجوب الاجتناب عنها أوّل المسألة ، بل هي من جزئيّات محلّ البحث لأنّ ما يحتمل الخباثة أعمّ ممّا هو خبيث في الواقع ولكن لم يعلم خباثته وما هو غير خبيث في الواقع ، فالاستدلال بوجوب الاجتناب عنها على وجوب الاجتناب عمّا يحتمل الخباثة مصادرة ، بل المقدّمة على هذا التقدير عين ذي المقدّمة.

وإن اريد بها الخبائث الّتي علم خباثتها فالاجتناب لامتيازها عن محتملات

__________________

(١) البقرة : ١٧٢.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) الرياض ١٣ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

٨١

الخباثة ليس متوقّفاً على الاجتناب عنها ، فالمقدّميّة فيه منتفية جزماً.

ولو قيل : إنّ الاشتغال اليقيني في الاجتناب عن معلومات الخباثة يستدعي اليقين بالبراءة ولا يتمّ ذلك إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل الخباثة فيكون ذلك مقدّمة علميّة لا وجوديّة ، لردّه ضرورة عدم توقّف اليقين المذكور على هذا الاجتناب أيضاً لمكان الامتياز فيما بينهما ، فلا يبقى بالنسبة إلى ما يحتمل الخباثة إلّا احتمال الحرمة وهو شكّ في التكليف الّذي لا يجري فيه أصل الشغل.

وبالتأمّل في بعض ما ذكر يندفع أيضاً ما في ذيل كلامه في توجيه المقدّميّة من «أنّ التكليف باجتنابه ليس مشروطاً بالعلم بخباثته بل هو مطلق ومن شأنه توقّف الامتثال فيه بالتنزّه عن محتملاته» (١) فإنّ التكليف بالاجتناب وإن لم يكن مشروطاً بالعلم بالخباثة إلّا أنّ العلم طريق إلى إحراز الموضوع وحيث لا علم بالخباثة تفصيلاً ولا إجمالاً فالموضوع غير محرز فلا يبقى إلّا احتمال وجوب الاجتناب والأصل براءة الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على الارتكاب.

وفرض القاعدة في صورة اشتباه ما علم خباثته في الواقع بما يحتمل خباثته خروج عن محلّ البحث ، إذ ليس مبنى الكلام على ذلك ، والمقام ليس من قبيل ما احتمل كونه سمّاً لأنّ احتمال الضرر الدنيوي ـ وهو الهلاك ـ واجب الدفع ولا يتمّ إلّا بالاجتناب عن المحتمل ، واحتمال الضرر الاخروي وهو العقاب مرتفع بالأصل.

ومنها : الأولويّة المستفادة من الأدلّة الدالّة على حرمة الفرث والمثانة هي مجمع البول بناءً على بعدهما بالإضافة إلى البول عن القطع بالخباثة ، فتحريمهما مع ذلك يستلزم تحريم البول القريب من القطع بالاستخباث بالإضافة إليهما بطريق أولى ذكره في الرياض (٢) أيضاً.

وهذا أيضاً كسابقه في الضعف ، لأنّ تحريم الفرث ـ وهو السرجين في الكرش الّذي يقال له بالفارسيّة : «شكنبه» ـ والمثانة ليس لأجل الخباثة بل لنصوص خاصّة دلّت عليه فيهما في جملة محرّمات الذبيحة ، وليس في النصوص دلالة ولا إشعار على كونه من جهة الخباثة ، ومن الجائز كونه لمفسدة في ذاتهما ليست موجودة في الأبوال. فالأولويّة ممنوعة ، وبدونها يكون التعدّي قياساً ، مع تطرّق المنع في الفرث إلى بعده من

__________________

(١) الرياض ١٣ : ٤٦٤.

(٢) الرياض ١٣ : ٤٦٣.

٨٢

الخباثة ، بل هو أقرب إليها بالإضافة إلى البول.

ومنها : ما روي بطرق عديدة من «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكره الكليتين لقربهما من البول» (١) فنفس البول حينئذٍ أولى بالكراهة والمنع ، والكليتان على ما عن الأزهري «لحمتان حمراوان لازقتان بعظم الصلب من عند الخاصرتين» (٢).

وفيه أيضاً : منع الحكم أعني التحريم في الأصل ، فإنّ الكراهة هنا يراد بها الكراهة المصطلحة ، لما ورد في عدّة من الروايات من «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يأكل الكليتين ولا يحرّمهما لغيره» (٣) فالعمدة من دليل المسألة آية تحريم الخبائث ، وغيرها من الوجوه مدخول جدّاً.

حجّة القول بالجواز : أصالة الإباحة في الأشياء. والإجماع الّذي ادّعاه السيّد في الانتصار (٤). وقوله عزّ من قائل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» (٥) وقوله أيضاً : «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» (٦) فإنّ عموم الحصر في الآيتين يدلّ على عدم تحريم الأبوال. مضافاً إلى خصوص عدّة روايات :

منها : ما رواه الحميري في قرب الإسناد بسنده عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا بأس ببول ما اكل لحمه» (٧).

ومنها : موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كلّما اكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» (٨).

ومنها : موثّقته أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟قال : إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك أبوال الإبل والغنم» (٩).

__________________

(١) الوسائل ٢٤ ؛ ١٧٦ / ١٣ ، ب ٣١ الأطعمة المحرّمة ، علل الشرائع : ٥٦٢ / ١.

(٢) تهذيب اللغة ٤ : ٣١٨٠.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٧٧ / ١٨ ، ب ٣١ الأطعمة المحرّمة ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤١ / ١٣١.

(٤) الانتصار : ٤٢٤.

(٥) الأنعام : ١٤٥.

(٦) البقرة : ١٧٣.

(٧) الوسائل ٢٥ : ١١٤ / ٢ ، ب ٥٩ الأطعمة المباحة ، قرب الإسناد : ٧٢.

(٨) الوسائل ٣ : ٤٠٩ / ١٢ ، ب ٩ أبواب النجاسات ، التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٨١.

(٩) الوسائل ٢ : ١١٣ / ١ ، ب ٥٩ الأطعمة المباحة ، التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

٨٣

ومنها : موثّقة سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب؟ قال : نعم لا بأس به» (١).

والجواب عن الأصل : أنّه يخرج عنه بدليل المنع.

وعن الإجماع المنقول بكونه موهوناً بعدم كون ناقله وهو السيّد رحمه‌الله جازماً فيه حيث ذكره في الانتصار احتمالاً متردّداً فيه ، وهذه عبارته «ممّا يظنّ قبل التأمّل انفراد الإماميّة به القول بتحليل أبوال الإبل وما يؤكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره ، ثمّ ذكر خلاف العامّة هنا وأقوالهم. ثمّ قال : والّذي يدلّ على صحّة مذهبنا إليه بعد الإجماع المتردّد أنّ الأصل فيما يؤكل أو يشرب في العقل الإباحة ...» (٢) إلى آخر كلامه ، مضافاً إلى شهرة القول بالتحريم وذهاب جماعة من معتبري الطائفة وأساطينهم ، بل في مصابيح السيّد «أنّ المشهور بين الأصحاب هو التحريم» (٣) ولم يذهب إلى إباحة الأبوال قبل السيّد فيما أعلم سوى ابن الجنيد.

وعن الآيتين أنّ الحصر المستفاد منهما ليس على ظاهره ، وعموم النفي غير مراد منهما خصوصاً الآية الاولى لمكان تقييد نفي وجدان المحرّم ممّا عدا الثلاثة المذكورة فيها بما اوحي إليها ، ولو سلّم فيجب تخصيصهما بآية تحريم الخبائث ، كما أنّهما تخصّصان بأدلّة سائر محرّمات الشرع ممّا لا يحصى كثرة.

وعن الأخبار بأنّ الظاهر من نفي البأس في الخبرين الأوّلين إنّما هو نفي النجاسة ، ولذا تداول من الأصحاب في كتاب الطهارة ذكرهما في عداد الأخبار الدالّة على طهارة أبوال وأرواث ما اكل لحمه ، والاستدلال بهما على الطهارة ، ولعلّ السرّ فيه أنّه لمّا كان المعهود في أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه هو النجاسة فيوجب ذلك بقرينة المقابلة انصراف إطلاق نفي البأس في أبوال ما اكل لحمه إلى نفي النجاسة الملازم للطهارة ، ويؤيّده أنّ إضافة «لا بأس» إلى الأعيان فيه إشعار ما بنفي النجاسة أيضاً.

وتوهّم : أنّه بضابطة النكرة المنفيّة عامّ فينفي جميع جهات المنع الّتي منها النجاسة ، وقضيّة ذلك إباحة شرب الأبوال الطاهرة بل مطلق الانتفاع بها.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١١٥ / ٧ ، ب ٥٩ الأطعمة المباحة ، التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٢) الانتصار : ٤٢٤.

(٣) مصابيح الأحكام : ٢١.

٨٤

يدفعه : بعد تسليم العموم أنّ تخصيص آية تحريم الخبائث ليس بأولى من تخصيص الخبرين ، بل هذا أولى لكون عموم الآية وضعيّاً وهذا عقليّ ، لأنّ نفي الماهيّة كما هو قضيّة لا النافية للجنس يستلزم نفي أفرادها ، والعموم الوضعي أقوى ، ومرجعه إلى تقديم الأظهر على الظاهر فيخصّص نفي البأس بنفي النجاسة.

وأنّ مفهوم الشرط في الخبر الثالث يقتضي حرمة الشرب في غير مقام الحاجة إليه للتداوي ، فقصارى ما ثبت بالخبر هو الجواز في مقام الحاجة للتداوي. ولا يهمّنا تخصيص الجواز بصورة الضرورة الّتي ملاكها انحصار العلاج فيه حتّى يدفع بأنّ الحاجة أعمّ من الضرورة ، لأنّها تصدق مع عدم الانحصار بخلاف الضرورة ، لأنّا نلتزم الجواز في مطلق الحاجة المقيّدة بالتداوي في خصوص الأبوال الثلاثة بول الإبل والبقر والغنم لأنّها مورد الرخصة المستفادة من الخبرين لا غير فيخرج ما عداها وفي الثلاثة صورتا عدم الحاجة أصلاً والحاجة لغير التداوي.

وبما ذكر ظهر الجواب عن الخبر الرابع ، فإنّ غاية ما يستفاد منه إنّما هو الجواز للاستشفاء ، لمكان قول السائل : «ينعت له من الوجع» فيبقى ما عدا ذلك تحت عموم آية تحريم الخبائث. فصار المحصّل أنّ الانتفاع بالأبوال الطاهرة في الأكل والشرب حرام مطلقاً إلّا للاستشفاء والتداوي في خصوص أبوال الإبل والبقر والغنم.

وهل يستثنى منه بول الإبل ليثبت به القول بالفرق ـ على ما تقدّم حكايته ـ أو لا؟ ويستفاد من كلام الشهيد في المسالك أنّ فيه أقوالاً ثلاث : المنع مطلقاً ، والحلّ مطلقاً ، وجواز الاستشفاء لا غير ، والثالث هو الأصحّ على ما بيّنّاه عملاً بالخبرين ، مضافاً إلى ما نقله في المسالك مرسلاً من «أنّ النبيّ أمر أقواماً اعتلّوا بالمدينة أن يشربوا أبوال الإبل فشفوا» (١).

وأمّا القول بالحلّ فيه مطلقاً فلم نقف له على مستند إلّا خبر الجعفري قال : «سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام يقول : أبوال الإبل خير من ألبانها ، ويجعل الله الشفاء في ألبانها» (٢).

ويرد عليه الطعن في السند لوجود بكر بن صالح فيه وقد ضعّفه العلّامة في

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢١.

(٢) الوسائل ٢٥ : ١١٤ / ٣ ، ب ٥٩ الأطعمة المباحة ، التهذيب ٩ : ١٠٠ / ٤٣٧.

٨٥

الخلاصة والنجاشي (١) وفي الأوّل «إنّه كثير التفرّد بالغرائب» (٢).

هذا مضافاً إلى اشتمال متنه على أمارة الوضع ، فإنّ قوله : «ويجعل الله الشفاء في ألبانها» بعد قوله : «أبوال الإبل خير من ألبانها» يشبه بكونه اعتراضاً من الإمام عليه‌السلام على الله سبحانه ، حيث إنّه جعل الشفاء في ألبان الإبل ، مع أنّ مقتضى خيريّة أبوالها أن يجعل الشفاء فيها ، فهذا الكلام بهذا الاعتبار لا يشبه بكلام أهل بيت العصمة والطهارة.

مع أنّه يقتضي أنّه لم يجعل في أبوالها شفاء ، وهذا كذب وهو جهة اخرى في اختلال متن الرواية ، مع عدم وضوح دلالتها على الجواز ، إذ لا يدرى أنّه أراد أيّ شي‌ء من الخيريّة ، ولعلّه أراد أنّه من حيث الاستشفاء خير ، بناءً على كون المراد من جعل الشفاء في الألبان الجعل التكليفي وهو الترخيص في الاستشفاء ، وحينئذٍ ينقلب الدلالة ويصير دليلاً على المنع في الأبوال مطلقاً حتّى الاستشفاء فليتدبّر.

المسألة الثالثة : جواز التكسّب بالأبوال الطاهرة وعدمه ، وفيه ـ بعد البناء على حرمة الانتفاع بها في الأكل والشرب اختياراً ـ قولان ، والأصحّ الأقوى القول بالمنع عملاً بروايتي تحف العقول ورواية دعائم الإسلام وخبر النبويّ ، فإنّها تدلّ على أنّ ضابط المنع من البيع والشرى تحريم الشي‌ء اختياراً ، لظهور قوله عليه‌السلام : «ممّا هو منهيّ من جهة أكله أو شربه» في كون أكله اختياراً أو شربه كذلك منهيّاً عنه ، وكذلك قوله : «ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» أي محرّماً ومنهيّاً عنه أكله وشربه اختياراً ، وكذلك قوله : «إنّ الله [إذا] حرّم شيئاً حرّم ثمنه» أي إذا حرّم أكله أو شربه اختياراً أو جميع منافعه الاختياريّة أو منافعه المقصودة المنوطة بالاختيار.

كما أنّ المستفاد من الأدلّة خصوصاً رواية دعائم الإسلام أنّ ضابطة حلّ بيع الشي‌ء حلّ منافعه المقصودة أو منفعته الغالبة المقصودة ـ كما تقدّم بيان ذلك في ذيل بحث المسكرات الجامدة ـ فتحليل أكل الشي‌ء أو شربه للضرورة أو عند الحاجة للتداوي في المرض لا يسوّغ بيعه مطلقاً ، ولا في الجهة المحلّلة الّتي هي من حلّ

__________________

(١) رجال النجاشي ١ : ١٠٩.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٢٧.

٨٦

الانتفاع لا من حلّ المنفعة.

وقد ثبت في المسألة السابقة تحريم شرب الأبوال اختياراً للاستخباث فيحرم بيعها مطلقاً ، وتحليل شربها عند الضرورة أو الحاجة للتداوي لا يسوّغ بيعها مطلقاً ، ولا ينتقض ذلك بالأرواث الطاهرة بتقريب أنّ أكلها اختياراً محرّم وجاز بيعها بلا خلاف يظهر ـ كما تقدّم ـ لأنّ أكل الأرواث اختياراً وإن كان محرّماً إلّا أنّه ليس منفعة مقصودة منها ، وسائر منافعها المقصودة من الإيقاد وطبخ المطعومات وغيرهما كلّها محلّلة فيجوز بيعها وشراؤها في تلك المنافع.

ومن هنا يعلم عدم الانتقاض بالطين الّذي مع كون أكله محرّماً جاز بيعه وشراؤها ، لأنّ أكل الطين منفعة غير مقصودة منه وقد حرّمت وسائر منافعه المقصودة الغير المحصورة كلّها محلّلة فيحلّ بيعه وشراؤه في تلك المنافع.

ولا ينتقض أيضاً بالأدوية والعقاقير الّتي جاز تناولها أكلاً أو شرباً أو غيرهما في المرض للتداوي ، وجاز بيعها وشراؤها أيضاً أيضاً بلا خلاف ، مع أنّه حرّم تناولها في غير المرض لمنع كلّيّة تحريم تناولها في غير المرض فإنّها أقسام :

منها : ما يكون نافعاً في المرض وينتفع بها في الصحّة أيضاً أكلاً وشرباً وغيرهما ، لكونها منافع محلّلة.

ومنها : ما يكون نافعاً في المرض ولا ينتفع بها أكلاً وشرباً في الصحّة ، لعدم لذّة في أكلها وشربها ولا فائدة معتدّ بها ، ولكن لا يحرم ذلك لعدم دليل على التحريم ، والأصل هو الحلّ.

ومنها : ما يكون نافعاً في المرض ومضرّاً في الصحّة كبعض السمومات وبعض المسهلات ، وهذا هو الّذي يحرم تناولها في غير المرض للإضرار بحيث لولاه لم يكن محرّماً للأصل ، ونحو هذا التحريم لا يوجب تحريم البيع مطلقاً حتّى في تناولها في المرض للتداوي ، مع كون ذلك منفعة مقصودة محلّلة لأنّها إنّما خلقت واتّخذت لأجل هذه المنفعة لا غير ، وهذه في الحقيقة في موضوع المريض منفعة غالبة مقصودة للعقلاء وهي محلّلة ، فيحلّ بيعها وشراؤها في هذه المنفعة جزماً.

٨٧

المبحث السادس

في المنيّ والكافر والخنزير والكلب

ويتكلّم هنا في مقامات أربع :

المقام الأوّل : في التكسّب بالمنيّ بالبيع والشراء ونحوه ، فنقول : إنّ للمنيّ حالات ثلاث :

الاولى : ما دام كونه في أصلاب الفحول.

الثانية : إذا انتقل من الصلب ووقع في الرحم.

الثالثة : إذا خرج من الصلب ووقع في خارج.

وينبغي القطع بتحريم بيعه في الحالة الأخيرة ، لعموم قوله عليه‌السلام : «أو شي‌ء من وجوه النجس» إلى قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» مضافاً إلى أنّه ليس له منفعة محلّلة أصلاً فيحرم بيعه للنبويّ ، ويمكن كونه من المعاملة السفهيّة فيحرم ولا يصحّ.

وأمّا الحالة الاولى : فحرمة بيعه في تلك الحالة للنجاسة أيضاً مبنيّة على نجاسة ما في الباطن ما دام في الباطن وعدمه ، فعلى الأوّل يتناوله عموم قوله : «أو شي‌ء من وجوه النجس» وعلى الثاني كما هو الحقّ فيمنع بيعه أيضاً ، ولكن للجهالة وعدم القدرة على التسليم الّذي مرجعه إلى المعاملة السفهيّة وهي قبيحة ، وقد نسب إلى الغنية (١) تعليل بطلان ما في أصلاب الفحول بالجهالة وعدم القدرة على التسليم.

وأمّا الحالة الثانية : فعدم الجواز فيها أيضاً للنجاسة مبنيّ على نجاسة ما يستقرّ في الرحم ، وعن بعضهم منع ذلك لأنّه دخل من الباطن إلى الباطن ، وعليه فيمكن أن يكون

__________________

(١) الغنية : ٢١٢.

٨٨

وجه عدم الجواز الجهالة إمّا جهالة مقدار المبيع أو جهالة وجوده في الرحم ، بملاحظة أنّها قد تلقح وقد لا تلقح. والأولى تعليله بعدم القدرة على التسليم إذا كان المشتري غير مالك الدابّة ، وإلّا فالوجه أنّه إمّا مالك لما استقرّ في الرحم أو سيصير مالكاً للولد بقاعدة التبعيّة للُامّ الثابتة بالشرع في الحيوان الغير الآدمي. وعن العلّامة (١) أنّه ذكر من المحرّمات بيع عسيب الفحل وهو ماؤه قبل الاستقرار في الرحم ، كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار. وفي تفسير الملاقيح بما ذكر نظر ، ولعلّ الوجه في تفسير العسيب بماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم ليعمّ الحكم كلتا الحالتين الاولى والأخيرة.

المقام الثاني : في التكسّب ببيع وغيره في الكافر الأصلي أو الارتدادي الحربي أو الذمّي المملوك لمسلم أو كافر حربي أو ذمّي ، وهو جائز بلا خلاف بل بإجماع المسلمين كما في جواهر الكلام (٢) ولا يبعد دعوى الضرورة فيه في الجملة ، والنصوص (٣) الناطقة به مع ذلك مستفيضة ، فهو حينئذٍ مع كونه من الأعيان النجسة مخرج عن القاعدة ، والنجاسة هاهنا غير مانعة من التكسّب وإن كانت ذاتيّة. وهل هذا خروج موضوعي أو أنّه خارج عن الحكم بالدليل من باب التخصيص؟ فقد يستشمّ الأوّل من جملة من العبارات لبنائهم جواز بيع الكافر وصحّته على قبوله الطهر بالإسلام ، وبناء بعضهم جواز بيع المرتدّ الفطري على قبول توبته.

وعن مفتاح الكرامة المبالغة في منع ذلك بقوله : «أمّا المرتدّ عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدّاً ، لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير» (٤) ومبنى هذا البناء على كون موضوع القاعدة الأعيان النجسة الغير القابلة للتطهير من غير استحالة ، فيكون المملوك الكافر لقبوله التطهير بالإسلام خارجاً عن هذا العنوان.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه لا دليل على تقييد العنوان بما ذكر.

وثانياً : أنّه لو سلّم فإنّما يعتبر فيما لا ينتفع به منفعة معتدّاً بها إلّا مع الطهارة ، على

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ٦٧.

(٢) الجواهر ٢٢ : ٢٣.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٢٢ / ١ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٨٧ / ١١٥١.

(٤) مفتاح الكرامة ١٢ : ٣٩.

٨٩

معنى توقّف الانتفاع على الطهارة ، فلإحراز هذا الشرط يعتبر في محلّ المنع من البيع عدم قابليّة التطهير من غير استحالة احترازاً عمّا له قابليّة التطهير ، والظاهر أنّ الانتفاع في محلّ البحث بالاستخدام وغيره لا يتوقّف على الطهارة ، وعلى هذا فالمتّجه كون خروجه عن القاعدة بالدليل من باب التخصيص.

ويتفرّع على ذلك حينئذٍ عدم الفرق في جواز بيع المرتدّ بين كون ارتداده عن ملّة أو عن فطرة ، فالقول بالجواز في الثاني قويّ وإن قلنا بعدم قبول توبته ، لأنّه مملوك ومال وقابل للانتفاع بالاستخدام الغير المشروط بالطهارة فيتناوله العمومات أجناساً وأنواعاً وأصنافاً ، كيف وأنّ الأقوى عندنا قبول توبته في زوال النجاسة لتبدّل موضوعها وهو الكافر بموضوع الطهارة وهو المسلم.

نعم ربّما يستشكل في جواز بيعه من جهة اخرى جارية على القولين في قبول توبته وعدمه ، وهي وجوب إتلافه باعتبار تعيّن قتله وكونه في معرض التلف. ويندفع بأنّ هذا لا يصلح مانعاً عن بيعه ، حيث لا دليل على المانعيّة بعد ما فرض عدم زوال الملك والماليّة وصلاحية الانتفاع بالاستخدام بسبب الارتداد.

وتوهّم سفهيّة المعاملة مع كونه في معرض التلف ، يدفعه أنّه ربّما لا يقتل أبداً والمشتري عالم به ، مع أنّه قد يكون غرضه من الاشتراء ممّن لا يمكّن من قتله تعريضه للقتل إقامة لحدود الله عزوجل ، كما أنّه قد يشتري المملوك المسلم مثلاً لغرض العتق وغيره.

المقام الثالث : في الخنزير وحرمة التكسّب به وبأجزائه لنجاستها حتّى ما لا تحلّها الحياة منها على الأصحّ ، خلافاً للمرتضى كما تقدّم (١) وكذلك عدم جريان ملك المسلم عليه وعلى أجزائه مطلقاً ابتداءً واستدامة كما تقدّم (٢) لعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ ذلك منهيّ عن ملكه» وخصوص الأخبار (٣) الواردة في نكاح النصراني والنصرانيّة على مهر الخمر والخنازير مع إسلام الزوجة قبل قبض المهر الآمرة بأنّها يأخذ القيمة عند مستحلّيهما ، وكذلك حرمة الانتفاع به وبما عدا الشعر من أجزائه مطلقاً حتّى جلده في الاستقاء

__________________

(١) الناصريّات : ١٠٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٥.

(٣) الوسائل ٢١ : ٢٤٣ / ٢ ، ب ٣ أبواب المهور ، التهذيب ٧ : ٣٥٦ / ١٤٤٨.

٩٠

على ما تقدّم (١) في جلد الميتة ، وقد عرفت أنّ قول الصدوق في المقنع (٢) لجوازه شاذّ ضعيف محجوج عليه بعموم المنع نصّاً وفتوى ، لاندراجه في إطلاق معقد إجماع الشيخ في المبسوط (٣) على حرمة بيع الخنزير وإجارته واقتنائه والانتفاع به.

وأمّا شعره فاختلف الأصحاب في جواز استعماله والانتفاع به وعدمه ، إلّا أنّه قد يجعل الخلاف في أقوال ثلاث : الجواز مطلقاً ، والمنع كذلك ، والتفصيل بين ذي الدسم فالمنع وغيره فالجواز ، ولكنّ التتبّع لا يساعد عليه ، بل الظاهر كون الخلاف في الجواز مطلقاً من غير استثناء عزي إلى جماعة منهم العلّامة في المختلف (٤) والمنع إلّا فيما لا دسم فيه إن اضطرّ إليه فاستعمله وغسل يده ، فلا يجوز استعمال ما فيه دسم اختياراً واضطراراً ولا ما لا دسم فيه اختياراً ، وقد جعله في المسالك (٥) مشهوراً ، ووصفه في الرياض بالشهرة العظيمة.

وبالجملة الّذي يظهر من عبارة الشرائع (٦) والنافع (٧) والمسالك (٨) والرياض وغيرها (٩) كون الخلاف في قولين : الجواز مطلقاً ، والجواز فيما لا دسم فيه بشرط الاضطرار والمنع في غيره ، ولذا ذكر في الرياض «أنّ القول بالمنع في صورة الدسم خاصّة والجواز في غيرها مطلقاً ولو اختياراً لم يوجد به قائل أصلاً» (١٠).

ومن مشايخنا من ناقش في تقييد الجواز فيما لا دسم فيه بالاضطرار بعد التعبير عنه بالضرورة ، بأنّه «إن اريد بها ما يسوّغ معها تناول المحرّم فهو مع خلوّ النصوص قطعاً عنها ينبغي عدم الفرق معها بين ذي الدسم وغيره ولا بين شعر الخنزير وغيره ، وإن اريد بها مطلق الحاجة فهي إنّما توافق القول بالجواز مطلقاً ، ضرورة عدم صلاحية ذلك عنواناً للحرمة لعدم انضباطه» (١١).

ويمكن دفعها : بإثبات الواسطة وهو أن يراد بالاضطرار توقّف تماميّة شغل الصانع

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٦.

(٢) المقنع : ١٨.

(٣) المبسوط ٢ : ١٦٦.

(٤) المختلف ٨ : ٣٢٣.

(٥) المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٦) الشرائع ٣ : ٢٢٧. (٧) النافع : ٢٥٤.

(٨) المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٩) كما في المهذّب ٢ : ٤٤٣ ، القواعد ٢ : ١٥٩ ، الدروس ٣ : ١٥ ، الروضة ٧ : ٣٤٠.

(١٠) الرياض ١٣ : ٤٦٨.

(١١) الجواهر ٣٦ : ٤٠١.

٩١

كالخرّاز وهو خيّاط الخفّ إذا توقّف خرزه على أن يخيط بشعر الخنزير ، وبالجملة توقّف تماميّة خرز الخفّ على شعره وهذا أخصّ من الحاجة وأعمّ من الضرورة المسوّغة لتناول المحرّم مطلقاً ، ودليل التقييد به من النصوص قول الراوي في بعض الأخبار الآتية قلت له : «إنّي رجل خرّاز لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به» (١) فإنّ معنى قوله : «لا يستقيم عملنا إلّا به» أنّه لا يتمّ عملنا إلّا به ، ولذا قال في المسالك بعد ذكر الخبر المشار إليه : وبهذا تمسّك القائل بالجواز مع الضرورة إذا زال دسمه بما ذكر ، وقرينة الضرورة قوله : «لا يستقيم عملنا إلّا به».

وكيف كان فالأخبار الواردة في الباب : خبر الحسن بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت : «شعر الخنزير يجعل حبلاً يستقي به من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ؟ فقال : لا بأس به» (٢).

وخبر سليمان الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شعر الخنزير يخرز به؟ قال : لا بأس به ، ولكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي» (٣).

وخبر بُرد الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال : خذ منه فاغسله بالماء حتّى يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ، ثمّ اجعله في فخّارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به ، وإن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به ، واغسل يدك إذا مسسته عند كلّ صلاة ، قلت : ووضوء ، قال : لا ، اغسل يدك كما تمسّ الكلب» (٤).

وخبر بُرد أيضاً قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّى وفي يده منه شي‌ء؟ فقال : لا ينبغي أن يصلّي وفي يده منه شي‌ء ، فقال : خذوه فاغسلوه ، فما كان له دسم فلا تعملوا به ، وما لم يكن له دسم فاعملوا به واغسلوا أيديكم منه» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٢٨ / ٣ ، ب ٥٨ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ٢٢٠ / ١٠٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٧١ / ٣ ، ب ١٤ الماء المطلق ، الكافي ٦ : ٢٥٨ / ٣.

(٣) الوسائل ٢٤ : ٢٣٨ / ٣ ، ب ٦٥ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٥٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٢٨ / ٢ ، ب ٥٨ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٨٢ / ١١٣٠.

(٥) الوسائل ٢٤ : ٢٣٧ / ٢ ، ب ٦٥ ما يكتسب به ، التهذيب ٩ : ٨٥ / ٣٥٦.

٩٢

وخبر برد الإسكاف أيضاً قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي رجل خرّاز ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به؟ قال : خذ منه وبره فاجعلها في فخّارة ، ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمها ، ثمّ اعمل به» (١).

ولعلّ مستند القول بالجواز مطلقاً الخبران أو ثانيهما ، مضافاً في نفي اعتبار تقييده بحال الضرورة إلى ما عدا الأخير ، كما أشار إليه في المسالك.

ويشكل بأنّ التفصيل المستفاد من الثلاثة بين ذي الدسم وغيره قاطع لإطلاق ثاني الخبرين بضابطة حمل المطلق على المقيّد ، إلّا أن تتحمّل في دفعه بمنع كون النهي عن العمل بذي الدسم للتحريم ، بل هو إرشادي للتحفّظ والتوقّي عن النجاسة المانعة من الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة ـ كما صنعه بعض مشايخنا (٢) ـ فلا تنافي حينئذٍ بين المطلق والمقيّد.

وكيف كان يرد على التمسّك بالخبر الأوّل ـ مع قصور سنده في الجملة بالحسن بن زرارة لعدم توثيق فيه ـ منع الدلالة فإنّها لا تتمّ إلّا على تقدير كون عنوان السؤال المشتبه حكمه للسائل الاستقاء بالحبل المتّخذ من شعر الخنزير من البئر لشبهة في جواز استعمال شعر الخنزير كما هو موضوع الكلام ومحلّ البحث ، وهذا غير واضح ، بل الظاهر كون عنوان السؤال الاستقاء من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ منها بالحبل المتّخذ من الشعر النجس لشبهة في فساد الماء المانع من شربه والتوضّي به بملاقاة النجس وعدمه. والقرينة عليه وصف البئر بكونها يشرب منها أو يتوضّأ منها ، فإنّ عنوان السؤال لو كان هو الاستقاء بشعر الخنزير واستعماله من حيث إنّه يجوز أو لا يجوز لم يكن في ذكر الوصف فائدة أصلاً ، وإطلاق الجواب ينصرف إلى عنوان السؤال ، فقوله عليه‌السلام : «لا بأس به» لا ينساق منه إلّا نفي فساد ماء البئر بملاقاة هذه النجاسة.

وتوهّم : أنّ الخبر إن لم يدلّ على حكم استعمال شعر الخنزير بالنطق لدلّ عليه بالتقرير ، لأنّه لو لا جوازه لوجب على الإمام عليه‌السلام الردع منه ، وعدمه يكشف عن الجواز.

__________________

(١) الوسائل ٣٤ : ٢٣٧ / ١ ، ب ٦٥ ما يكتسب به ، التهذيب ٩ : ٨٤ / ٣٥٥.

(٢) الجواهر ٣٦ : ٤٠١.

٩٣

يدفعه : منع كشف عدم الردع هنا عن الجواز ، لأنّ الراوي لم يقل في سؤاله إنّا نفعل هذا الفعل ، بل حكى عمل الحبل والاستقاء به بصيغة المجهول ، ويحتمل كون العاملين هم المخالفين أو أهل الكفر من النصارى المستحلّين لاستعمال شعر الخنزير ، وهذا الاحتمال مانع عن الكشف جزماً ، فالإنصاف أنّ خبر حسن بن زرارة لا دلالة له بوجه على جواز استعمال شعر الخنزير.

وأمّا الروايات الاخر فهي وإن كانت مندرجة في نوع الضعاف لجهالة الإسكافيّين ، غير أنّه ينجبر بالشهرة العظيمة وعمل المعظم بل الإجماع على العمل ، نظراً إلى أنّها مستند المطلقين بالجواز والمفصّلين فيه ، والاختلاف إنّما نشأ عن الدلالة باعتبار الاختلاف في النظر.

ويمكن تشييد نظر المجوّزين وتقوية قولهم بمنع اشتراط جواز استعمال هذا الشعر بالشرطين :

وسنده في الأوّل ظهور سياق الروايات المفصّلة في كون النهي إرشاداً للسائل إلى طريق التحفّظ عن النجاسة المانعة من الصلاة لسهولة تطهير اليد وغسلها عن النجاسة فيما لا دسم فيه ، ويصعب ذلك في ذي الدسم لتوقّفه على إزالة الدسومة الحاصلة في اليد وهي متعسّرة كما تقدّم ، ويعضده الاعتبار بتقريب أنّ الدسومة وانتفاءها لا مدخليّة لهما في استعمال شعر الخنزير ، من حيث إنّه نجس العين ليختلف بسببهما الجواز وعدمه ، بل إنّما يكون لهما مدخليّة في الصلاة من حيث توقّف طهارة اليد بالغسل المشترط بها الصلاة على زوال الدسومة وانتفائها رأساً.

وسنده في الثاني أنّ فرض الاضطرار المفهوم من قوله : «ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير» إنّما وقع في السؤال ، والاعتبار في إطلاق الحكم وتقييده بما يستفاد من الجواب وهو خالٍ عن القيد ، وفرض الاضطرار في السؤال لا يقضي بتقييد الجواب.

ويندفع ذلك بأنّ هذا إنّما يستقيم لو قصد من الاشتراط ما يرجع إلى تقييد الجواب وليس بمراد هنا ، بل فرض الاضطرار حيثيّة أخذها السائل في عنوان السؤال ، فكأنّه قال : أنا رجل خرّاز أعمل الخرز ، وهذا العمل صفته أنّه لا يستقيم إلّا بشعر الخنزير ،

٩٤

وهذا يقضي بكون هذه الحيثيّة مأخوذة في أسئلة الروايات الثلاث الاخر لمكان قوله : «ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير» أي لا يستقيم عملنا طائفة الخرّازين ، ومن المعلوم أنّ الجواب ينزّل على عنوان السؤال ، فالجواز المستفاد من قوله : «فاعمل به» إنّما ورد على العنوان المقيّد ، ولا يعقل فيه حينئذٍ إطلاق يتناول صور عدم الاضطرار.

كما يندفع الأوّل : أنّ قضيّة إرشاديّة النهي كون الجواب بالنسبة إلى ذي الدسم ساكتاً غير دالّ على المنع من استعماله ولا على الرخصة فيه ، فلا بدّ لاستعلام حكمه من الرجوع إلى مرجع آخر ، وهو إمّا الأصل الأوّلي الّذي يعبّر عنه بأصالة الإباحة ، أو الأصل الثانوي وهو قاعدة المنع المستفادة من عموم قوله عليه‌السلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» وإطلاق معقد إجماع الشيخ في المبسوط (١) والأوّل باطل إذ لا مجرى للأصل العملي مع وجود الأصل الاجتهادي ، فتعيّن الرجوع إلى قاعدة المنع ، ومقتضاها حرمة استعمال شعر الخنزير مطلقاً إلّا ما ثبت جواز بالدليل ، والقدر الثابت جوازه بالروايات المذكور هو استعمال غير ذي الدسم حيثما حصل الاضطرار إليه ، فانقدح أنّ المتّجه في المسألة هو القول المشهور لأنّه المنصور ، والله العالم بحقائق أحكامه.

المقام الرابع : في الكلب ، ومقتضى الأصل بمعنى القاعدة المتقدّمة في الأعيان تحريم التكسّب به لأنّه نجس العين مسلوب المنفعة في أكثر أفراده ، فيحرم التكسّب به لعموم «شي‌ء من وجوه النجس» و «أنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» مضافاً إلى عموم النبويّ الآخر ـ الّذي وصفه السيّد في المصابيح (٢) بالمتّفق عليه بين الفريقين ـ «أنّه نهى عن ثمن الكلب» (٣) وإلى المستفيض من الأخبار الخاصّة المصرّحة بأنّ «ثمن الكلب سحت» أو «من السحت» (٤).

واولى الكلاب وأحقّها بذلك الحكم كلب الهراش المعبّر عنه بالكلب العقور من العقر بمعنى الجرح لأنّه يعقر كالسبع مثل الأسد والفهد والنمر ، والمراد به ما عدا

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٦٦.

(٢) مصابيح الأحكام : ١٠.

(٣) الوسائل ١٧ : ١١٩ / ٤ ، ب ١٤ ما يكتسب به.

(٤) الوسائل ١٧ : ١١٨ / ٢ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ / ١٠١٧.

٩٥

الكلاب الأربع المشهورة ـ أعني كلب الصيد ، وكلب الماشية ، وكلب الزرع ، وكلب الحائط ـ ووجه الأولويّة أنّه أظهر أفراد موضوع القاعدة وأخصّها ، أو لعدم الخلاف بين أصحابنا في تحريمه فيه ، وعليه أكثر العامّة كما صرّح بهما في المصابيح (١) بل صرّح فيما بعد ذلك بإجماع أصحابنا عليه ، وحكاه أيضاً عن جماعة كالشيخ (٢) والعلّامة (٣) والشهيدين (٤) وغيرهم (٥) أو لخصوص ما في غير واحد من النصوص من قوله عليه‌السلام : «ثمن الكلب الّذي لا يصيد أو لا يصطاد سحت» (٦) وفي بعضها «لا يحلّ ثمنه» (٧) فإنّ المراد بالموصوف إمّا الهراش أو أنّه مندرج فيه أيضاً.

وهل استثني من الحكم شي‌ء أم لا؟ الكلام فيه يقع في موضعين.

الموضع الأوّل : في استثناء كلب الصيد ، وهو الكلب المعلّم الّذي يصيد ، فنقول : إنّ المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة قريبة من الإجماع أنّ التكسّب بكلب الصيد جائز ، بل عن جماعة من أساطين الطائفة نقل الإجماع عليه كالشيخ في الخلاف (٨) وابن زهرة في الغنية (٩) والعلّامة في المنتهى ١٠ والتذكرة (١١) وفخر المحقّقين في الإيضاح (١٢) والشهيدين في الدروس (١٣) والمسالك (١٤) والمحقّق الثاني في شرح القواعد (١٥).

وعن الشيخين في المقنعة (١٦) والنهاية (١٧) تخصيص الجواز بالسلوقي ، منسوب إلى السلوق وهو قرية في اليمن وأكثر كلابها معلّمة.

وعن ظاهر كلام ابن الجنيد استثناء الأسود البهيم منه وهو الأسود الخالص لا يخالط لونه لون آخر ، يعني أنّ التكسّب بكلب الصيد جائز إلّا الأسود البهيم منه ، لأنّ

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ١٢.

(٢) الخلاف ٣ : ١٨٢.

(٣) ٣ و ١٠ المنتهى ٢ : ١٠٠٩.

(٤) الدروس ٣ : ١٦٨ ، المسالك ١ : ١٦٧.

(٥) كما في السرائر ٢ : ٢٢٠ ، الوسيلة : ٢٤٨ ، المهذّب ٢ : ٣٤٧.

(٦) الوسائل ١٧ : ١١٩ / ٣ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ / ١٠١٧.

(٧) الوسائل ١٧ : ١١٩ / ٥ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ / ١٠١٦.

(٨) الخلاف ٣ : ١٨١.

(٩) الغنية : ٢١٣. (١١) التذكرة ١ : ٤٦٤.

(١٢) الإيضاح ١ : ٤٠٢. (١٣) الدروس ٣ : ١٦٨.

(١٤) المسالك ١ : ١٦٧. (١٥) جامع المقاصد ٤ : ١٤.

(١٦) المقنعة : ٥٨٩. (١٧) النهاية : ٣٦٤.

٩٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتله (١).

وعن العلّامة في النهاية (٢) التوقّف في جواز بيع كلب الصيد.

وعن ابن أبي عقيل العمّاني (٣) في ظاهر كلامه المنع منه مطلقاً.

وهذه الأقوال كلّها شاذّة ضعيفة ، والمشهور هو المنصور ، للمستفيض من الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة ، ومفهوم الصفة في النصوص المتقدّم إليها الإشارة إن لم نقل بحجّيّته وإلّا فهو حجّة مستقلّة. مضافاً إلى النصوص المستفيضة المصرّحة بالجواز فيه بعبارات مختلفة ، وفيها الصحيح وغيره من المعتبرة ، ففي خبرين منها عن ثمن الكلب الّذي لا يصيد ، فقال : «سحت ، وأمّا الصيود فلا بأس» (٤) وفي ثالث عن ثمن كلب الصيد قال : «لا بأس بثمنه ، والآخر لا يحلّ ثمنه» (٥) وفي رابع صحيح عن الكلب الصيود يباع قال : «نعم ، ويؤكل ثمنه» (٦) وفي خامس مرويّ عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنّه قال : لا بأس بثمن كلب الصيد» (٧).

وليس للعمّاني المانع عن بيعه على ما حكي إلّا عموم النهي عن ثمن الكلب ، وأنّه حيوان نجس العين فلا يجوز بيعه ، وأنّ النبيّ أمر بقتل الكلاب.

والأوّل : مدفوع بتعيّن الخروج عن العموم بالمستفيض من منقول الإجماع والنصوص الخاصّة ، والثاني مدفوع بمنع كلّيّة الكبرى بعد مساعدة الأدلّة على الجواز في خصوص محلّ البحث ، كما أنّ الثالث أيضاً مدفوع تارةً بالتزام نسخ الأمر بقتل الكلاب في خصوص المقام ، واخرى بالتزام تخصيصه بما عدا محلّ البحث تحكيماً للخاصّ على العامّ.

ومنشأ توقّف العلّامة في النهاية على ما حكي أنّ جواز اقتناء كلب الصيد وهبته والوصيّة به وتقدير الشارع له دية وهي أربعون درهماً يقتضي جواز بيعه ، وعموم النهي

__________________

(١) غوالي اللآلي ١ : ٣٦ / ٢١ ، المستدرك ٨ : ٢٩٤ / ٢ ، ب ٣٦ أحكام الدواب في السفر.

(٢) نهاية الإحكام ٢ : ٤٦٢.

(٣) نقل عنه في مفتاح الكرامة ٤ : ٢٨. «٣»

(٤) الوسائل ١٧ : ١١٨ / ١ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٧ / ٥.

(٥) الوسائل ١٧ : ١١٩ / ٥ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ / ١٠١٦.

(٦) التهذيب ٩ : ٨٠ / ٣٤٣.

(٧) دعائم الإسلام ٢ : ١٩ / ٢٨.

٩٧

عن ثمن الكلب يقتضي المنع من ذلك.

وقد ظهر الجواب عن العموم ، بل الوجوه الثلاث المذكورة للجواز تنهض لتخصيص العموم فلا تعارض حتّى يلزم منه الإلجاء إلى الوقف.

وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل الأسود البهيم على تقدير ثبوته على ما تقدّم في تعليل ابن الجنيد لمختاره محتمل للنسخ ، وإلّا يتعيّن إطراحه لعدم مقاومته عمومات كلب الصيد ومطلقاته لشذوذ العامل به ، وإعراض المعظم عنه فيخرج عن صلاحية المقاومة فضلاً عن التقديم.

وليس للشيخين إلّا تبادر السلوقي من إطلاقات كلب الصيد لانصرافها إليه ، وهو محلّ منع خصوصاً مع مقابلة الصيود أو كلب الصيد للّذي لا يصيد ، فإنّ الوصف الوارد في الأخبار يفيد أنّ مقابله ما يصيد لا ما يكون سلوقيّاً بالخصوص.

وتوهّم : كون الوصف وارداً مورد الغالب ، يدفعه منع غلبة السلوقي ، ولو سلّم الغلبة ففي كون مجرّد غلبة الوجود من دون غلبة الإطلاق موجبة للانصراف كلام ، ولعلّ أقربه المنع.

وكون فتوى الشيخ في النهاية (١) يجري مجرى الرواية المرسلة لأنّه يفتي فيها بمتون الروايات ، يدفعه : أنّ هذه الرواية ـ مع احتمالها لإرادة مطلق الصيود من السلوقي تغليباً ، وضعفها بالإرسال ـ ضعيفة بالشذوذ وإعراض المعظم عنها ، فلا يعبأ بها قبالاً للمعتبرة العامّة في مطلق الصيود والإجماعات المنقولة المستفيضة الّتي منها إجماع الخلاف فيتوهّن به فتواه في النهاية.

الموضع الثاني : في كلب الماشية والزرع والحائط ،وعبارات الأصحاب في هذه الكلاب مضطربة جدّاً وكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف ، والمحصّل منها أنّهم مختلفون في المنع عن بيعها وجوازه على قولين كما في الرياض (٢) أو أقوال أربع.

ثالثها : الجواز في كلب الماشية والزرع دون كلب الحائط ، وهو قول سلّار (٣)

__________________

(١) النهاية : ٣٦٤.

(٢) الرياض ٨ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) المراسم : ١٧٠.

٩٨

وظاهر ابن الجنيد (١) وأحد قولي الشيخ (٢) وابن البرّاج (٣).

ورابعها : جواز بيع كلب الماشية والحائط دون كلب الزرع ، ونسب القول به إلى سلّار (٤) وصاحب الوسائل (٥) كما في المصابيح (٦) جاعلاً للقول بالمنع أشهر وناسباً للقول بالجواز إلى جماعة (٧) وخالفه شيخنا في الجواهر (٨) فجعل الأشهر بل المشهور القول بالجواز بضروب من التأويل في عباراتهم وإرجاع بعضها إلى بعض.

وظاهر أنّ القول بالمنع مطلقاً لا يحتاج إلى حجّة اخرى سوى القاعدة المتقدّمة فالمانع لا يطالب بالدليل وإنّما يطالب به المجوّز مطلقاً أو في اثنين ، لكون القول به تخصيصاً في القاعدة بدعوى استثناء الثلاثة أو الاثنين منها ولا بدّ له من دليل.

ومن هنا ينقدح أنّ الاحتجاج لهذا القول بالأصل تارةً وبعمومات البيع كـ «أحلّ الله البيع» ونحوه خرج منهما كلب الهراش وبقى غيره اخرى ـ كما أشار إليهما السيّدان السندان في الرياض (٩) والمصابيح (١٠) ـ غير جيّد ، لأنّ الأصل مع القاعدة المقتضية للخلاف لا مجرى أو لا حكم له والعمومات مخصّص بتلك القاعدة فيقال : إنّه خرج منها الكلاب الثلاث أيضاً.

نعم الّذي يمكن أن يحتجّ به للقول بالجواز مطلقاً أمران :

أحدهما : الإجماع المنقول الّذي ربّما استظهر من عبارة الشيخ في إجارة الخلاف والعلّامة في التذكرة والشهيد في الحواشي ، فعن الأوّل «أنّ أحداً لم يفرّق بين بيع هذه الكلاب وإجارتها بعد ملاحظة الاتّفاق على جواز إجارتها» (١١) وعن الثاني «يجوز بيع هذه الكلاب عندنا» (١٢) وعن الثالث «أنّ أحداً لم يفرّق بين الكلاب الأربعة» (١٣).

ويزيّفه ـ مع عدم صراحة شي‌ء ممّا ذكر في دعوى الإجماع على جواز بيع

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٥ : ١٢.

(٢) المبسوط ٢ : ١٦٦.

(٣) المهذّب ٢ : ٣٤٨. (٤) المراسم : ١٧٠.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٢٠. (٦) مصابيح الأحكام : ٨.

(٧) كما في الوسيلة : ٢٤٨ ، السرائر ٢ : ٢٢٠ ، القواعد ١ : ١٢٠ ، الإيضاح ١ : ٤٠٢ ، الدروس ٣ : ١٦٨.

(٨) الجواهر ٢٢ : ١٣٧ ـ ١٤٥.

(٩) الرياض ٨ : ١٣٦. (١٠) مصابيح الأحكام : ١١.

(١١) المبسوط ٣ : ٣٥٠ ، الخلاف ٣ : ٥١١.

(١٢) التذكرة ٢ : ٢٥٩. (١٣) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٩٤.

٩٩

الكلاب الثلاثة ـ أنّه معارض بظاهر عبارة الشيخ في مكاسب الخلاف (١) وكذلك عبارة الغنية (٢) من دعوى الإجماع على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد ، مضافاً إلى أنّه موهون باشتهار القول بالمنع بين القدماء والمتأخّرين إن لم نقل بكونه أشهر ، فلا يمكن التعويل عليه مع اشتهار ذلك القول كما هو واضح.

وثانيهما : أنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع هذه الكلاب لكنّ المقدّم ثابت بالنصّ والإجماع فكذا التالي ، وبيان الملازمة أنّ المقتضي للجواز في كلب الصيد وهو الملك وجواز الاقتناء ووجود المنفعة المحلّلة وجواز الإجارة وجواز الوصيّة وجواز الهبة وتقدير الشارع للدية موجود في هذه الكلاب أيضاً ، فإنّها مملوكة ويجوز اقتناؤها ولها منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء وهي الحفظ والحراسة ويجوز إجارتها والوصيّة بها وهبتها وقدّر لها دية وهي عشرون درهماً على ما ورد به النصّ.

ويزيّفه أنّ الحكم كما اعترف به المستدلّ إنّما ثبت في الأصل بالنصّ والإجماع لا بالأحكام المذكورة ، والمفروض أنّه فيهما غير معلّل بتلك الأحكام ليندرج المقام في العلّة المنصوصة المسوّغة للتعدّي من كلب الصيد إلى الكلاب الثلاثة فيرجع إثبات العلّة إلى إعمال شي‌ء من طرق الاستنباط والاستدلال معه يرجع إلى القياس المستنبط العلّة وهو باطل عندنا بالضرورة ، مضافاً إلى عدم اطّراد جواز البيع مع الأحكام ، ومرجعه إلى تخلّف الحكم عن العلّة كما في امّ الولد والوقف والحرّ ، فإنّ الاولى ملك ويجوز اقتناؤه وله منفعة محلّلة ويجوز إجارتها مع عدم جواز بيعها ، والوقف يجوز إجارته ولا يجوز بيعه ، والحرّ يجوز إجارته ولا يجوز بيعه ، مع أنّ تقدير الدية من الشارع ربّما استظهر منه عدم جواز البيع لأنّه يكشف عن عدم كون الكلاب مالاً يقابل بالمال ويعاوض بالأثمان ، وإلّا فقضيّة ماليّة المال أن يضمن بالقيمة إذا كان قيميّاً فوجب كون ديتها القيمة كائنة ما كانت.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت من عدم الاطّراد وإثبات التخلّف إنّما يقدح في الدليل إذا اريد الملازمة العقليّة فإنّ اللازم العقلي يستحيل تخلّفه عن ملزومه وليس بلازم ،

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٨٣.

(٢) الغنية : ٢١٣.

١٠٠