ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

فصل

ومن شروط المتعاقدين أن يكونا مالكين ، أو ممّن يقوم مقام المالك ، كالوكيل أو الوصيّ أو الوليّ الإجباري كالأب والجدّ ، أو الوليّ الشرعي كالحاكم وأمينه. وقد يعبّر بكون العاقد مالكاً أو من يقوم مقامه ، ولا ضير فيه بناءً على إرادة المعنى الجنسي الشامل للواحد والاثنين.

وفي الشرائع عبّر بـ «أن يكون البائع مالكاً أو ممّن له أن يبيع عن المالك ، كالأب والجدّ والوكيل والوصيّ والحاكم وأمينه ، فلو باع ملك غيره وقف على إجازة المالك أو وليّه على الأظهر» (١).

ولعلّ إفراد البائع بالذكر مع جريان الفضولي في سائر العقود لمراعاة التعرّض للعقد الفضولي في كتاب البيع ، ولا يخلو عن مسامحة وإن كان قد يوجّه بحمله على إرادة المثال الغير المنافي لعموم الحكم سائر العقود.

وفي تعبيره بالبائع مسامحة اخرى نظراً إلى جريان الفضولي في المشتري أيضاً ، كما لو اشترى سلعة بمال الغير ثمناً أو بعوض في ذمّة الغير.

وقد يوجّه ذلك بحمل «البائع» على إرادة ما يعمّ المشتري لشيوع إطلاقه عليه في كلامهم ، ومن ذلك ما في قولهم : «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» لإجماعهم على جريان ذلك الحكم في سلعة المشتري وعدم اختصاصه بسلعة البائع ، فيحمل البائع على إرادة ما يعمّ المشتري كما يحمل المبيع على ما يعمّ السلعتين. وبالجملة

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٤.

٧٤١

اشتراط المالكيّة في المشتري أيضاً متّفق عليه بينهم كاشتراطها في البائع ، وينهض ذلك قرينة على إرادة المعنى العامّ.

وهاهنا مسامحة اخرى في لفظ «المالك» نظراً إلى أنّ العقد قد يجري على ما في الذمّة وهو كلّي بل قد يجري فيما لا وجود له في الخارج حال العقد كما في بيع السلم فيما لا يمكن وجود المبيع إلّا في وقت انصرام الأجل ، والملك وصف وجودي لا يلحق إلّا بالموجود الخارج ولا وجود لما في الذمّة ولا لما ذكر من المثال. ولو وجّه الأوّل بأنّ الجزئي المطابق للكلّي في الذمّة له وجود فإطلاق المالك حينئذٍ امّا باعتبار أنّه يملك المبيع نفسه فيما إذا كان عيناً شخصيّة أو أنّه يملك جزئيّة المطابقة له فيما إذا كان المبيع كلّيّاً في الذمّة ، فهو لا يتمشّى في الثاني ، فالمسامحة بالنسبة إليه على حاله ، ومبنى المسامحة على التوسّع في الاستعمال بإرادة ما يعمّ المالك الحقيقي والمالك المجازي وهو من يملك فيما بعد ، فإنّ الإطلاق عليه باعتبار ما يؤول إليه ، فيجوز دخوله في الإرادة من باب الاستعمال في عموم المجاز.

ثمّ المالك بالمعنى الحقيقي عبارة عن مالك التصرّف ، وملك التصرّف عبارة عن سلطنة مخصوصة تقتضي جواز التصرّف في المال أيّ تصرّف أصالة لو لا المانع. واحترزنا بقولنا «أصالة» عن الوكيل والوصيّ والوليّ ، فإنّ جواز تصرّفهم ليس أصالة بل تبعاً لإذن المالك أو الولاية عليه. وبقولنا «لو لا المانع» عمّن لا يجوز له التصرّف في ماله لمانع من تعلّق حقّ للغير به كحقّ الرهانة في العين المرهونة وحقّ الديّان في المفلس أو صباء أو جنون أو سفه وما أشبه ذلك ، فإنّ عدم جواز التصرّف في هذه الموارد وغيرها لوجود المانع فلا ينافي السلطنة المقتضية له ، لأنّ المقتضي قد يجامع وجود المانع.

والمراد بـ «المالك» هاهنا هو المالك للتصرّف أصالة أو تبعاً بإذن أو ولاية لو لا المانع ، بقرينة أنّهم احترزوا باشتراط المالكيّة عن الفضولي ، وهو من لم يكن أحد هؤلاء ، ولذا عرّفه الشهيد على ما حكي «بالكامل الغير المالك للتصرّف ولو كان غاصباً» (١) وفي معناه ما عن بعض العامّة من تعريفه «بأنّه العاقد بلا إذن من يحتاج إلى إذنه» (٢) واحترز

__________________

(١) غاية المراد : ١٧٧.

(٢) المكاسب ٣ : ٣٤٦.

٧٤٢

بقوله : «بلا إذن» عن الوكيل أو الوصيّ إذا عقد في مال الموكّل أو الموصي ، وبقوله : «من يحتاج إلى إذنه» عن المالك ووليّه ـ كالأب والجدّ والحاكم وأمينه ـ لأنّ الأوّل لا يحتاج في عقده إلى إذن أحد ، والثاني لا يحتاج إلى إذن المالك.

ثمّ إنّ ظاهرهم الاتّفاق على اشتراط المالكيّة بالمعنى الأعمّ ـ وحينئذٍ ربّما يشكل الحال في عقد الفضولي على القول بصحّته مع الإجازة ، فإنّ مقتضى شرطيّة المالكيّة بالمعنى الأعمّ وقوعه باطلاً من أصله كما عليه جماعة (١) فما معنى صحّته مع الإجازة؟ ويمكن الذبّ بأنّهم اتّفقوا على الاشتراط واختلفوا في المشروط به وأنّه هل هو تأثير العقد أو استقرار أثره؟ فمنهم من قال : بأنّ المالكيّة بالمعنى المذكور شرط لتأثير العقد ، ولزمه القول ببطلان عقد الفضولي من أصله. ومنهم من قال : بأنّها شرط لاستقرار أثره ، ولزمه القول بصحّة عقد الفضولي ووقوف استقرار أثره على لحوق الرضا أو الإجازة.

ويشكل بأنّ المستفاد من كلماتهم صراحة وظهوراً في الاستدلال على صحّة عقد الفضولي أو بطلانه كون مناط الصحّة هو رضا المالك أو إذنه ، ورجوع اختلافهم إلى أنّ المعتبر هو الرضا أو الإذن السابق المقارن للعقد خاصّة أو مطلق الرضا والإذن ولو لاحقاً ، وقضيّة ذلك أن يكون شرط استقرار الأثر على القول بالصحّة هو لحوق الرضا أو الإذن الّتي يقال لها الإجازة ـ لا المالكيّة بالمعنى المذكور.

اللهمّ إلّا أن يقال : بأنّ المالكيّة بهذا المعنى شرط لشرط التأثير لا أنّها في نفسه شرط له ، على معنى أنّ شرط الصحّة والتأثير هو الرضا أو الإذن مطلقاً أو بشرط السبق والمقارنة ، ولكن يعتبر فيهما كونهما من المالك بالمعنى الأعمّ. وبعبارة اخرى أنّ العلماء بذكر شرط المالكيّة قصدوا إلى بيان أنّ شرط صحّة العقد وتأثيره هو رضا المالك للتصرّف مطلقاً ولو لاحقاً أو رضاه السابق المقارن لا مطلقاً. هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بين كلماتهم في بيان شرط المالكيّة وإناطتهم لصحّة العقد برضا المالك ، ثمّ اختلافهم في أنّه مطلق الرضا ولو لاحقاً أو الرضا المقارن بالخصوص ، وتفريعهم صحّة عقد الفضولي مع لحوق الإجازة عليها.

__________________

(١) كما في الإيضاح ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧ ، والحدائق ١٨ : ٣٧٨ ـ ٣٩١ ، ومجمع البرهان ٨ : ١٥٨.

٧٤٣

وعن المختلف (١) أنّه جعل ما عدا الملكيّة من الشرائط المتقدّمة شروطاً للصحّة ، والملك أو ما يقوم مقامه شرطاً للزوم. وهذا لا يستقيم على القول ببطلان الفضولي بل وعلى القول بالصحّة مع التوقّف على الإجازة على القول بكون الإجازة ناقلة ، بل على القول بكونها كاشفة أيضاً كما هو واضح.

وكيف كان ففي صحّة بيع الفضولي مع الإجازة قولان ، أحدهما : الصحّة ، وهو قول الأكثر كما في المسالك (٢) وعن المفاتيح (٣) وأشهر القولين كما عن الروضة (٤) وإيضاح النافع (٥) والأشهر بين المتأخّرين بل مطلقاً كما في الرياض (٦) وهو المشهور كما عن مجمع البرهان (٧) والكفاية (٨) والحدائق (٩) بل زاد في الأخير «كاد يكون إجماعاً» وعن التذكرة ما ظاهره دعوى الإجماع حيث قال : «إنّه جائز عندنا لكن يكون موقوفاً على الإجازة» (١٠) وقيل (١١) يظهر دعوى الإجماع أيضاً من جامع المقاصد (١٢) في باب الوكالة.

والقول الآخر : عدم الصحّة ، وهو على ما حكي لجماعة ، فمن القدماء الخلاف (١٣) والغنية (١٤) ومن المتأخّرين فخر الدين في الإيضاح (١٥) وظاهر الأردبيلي في مجمع البرهان (١٦) والسيّد الداماد في صيغ العقود (١٧) وصاحبا الكفاية (١٨) والحدائق (١٩) ونسب أيضاً إلى ظاهر الوسائل (٢٠).

وينبغي تحرير المسألة بأنّ البائع الفضولي قد يبيع للمالك ، وقد يبيع لنفسه ، وعلى الأوّل فقد لا يسبقه منع من المالك ، وقد يسبقه المنع ، فهنا مسائل :

المسألة الاولى : أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه ، والمشهور فيه الصحّة

__________________

(١) المختلف ٥ : ٥٣.

(٢) المسالك ٣ : ١٩٢. (٣) المفاتيح ٣ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) الروضة ٣ : ٢٢٩. (٥) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٩١.

(٦) الرياض ٨ : ٢٢٢. (٧) مجمع البرهان ٨ : ١٥٧.

(٨) الكفاية : ٤٤٩. (٩) الحدائق ١٨ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(١٠) التذكرة ١٠ : ٢١٥. (١١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٩١.

(١٢) جامع المقاصد ٨ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤. (١٣) الخلاف ٣ : ١٦٨ ، المسألة ٢٥٧.

(١٤) الغنية : ٢٠٧. (١٥) الإيضاح ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧.

(١٦) مجمع البرهان ٨ : ١٥٨. (١٧) نقله عنه في الحدائق ٨ : ٣٧٧.

(١٨) الكفاية : ٨٩. (١٩) الحدائق ١٨ : ٣٧٨ ـ ٣٩١.

(٢٠) الوسائل ١٢ : ٣٤٨ ، ب ١ عقد البيع.

٧٤٤

واستدلّ بوجوه :

منها : أنّه عقد صدر من أهله في محلّه فيكون صحيحاً ، أمّا أنّه عقد فلصدق الاسم عليه عرفاً وخلوّه عن مقارنة إذن المالك لا يوجب سلب اسم العقد ولا البيع عنه ، وأمّا أنّه صدر من أهله فلفرض صدوره من الكامل بالعقل والبلوغ والاختيار ، وأمّا أنّه وقع في محلّه فلفرض تحقّق العوضين مع اجتماعهما لشرائط الصحّة ، وليس إلّا عدم مباشرة المالك والأصل عدم كونها شرطاً ، أو عدم مقارنة إذن المالك والأصل أيضاً عدم الشرطيّة. واورد عليهما بمعارضة أصالة عدم ترتّب الأثر.

ويدفعه أوّلاً : أنّ أصالة عدم الشرطيّة واردة على أصالة عدم ترتّب الأثر ، لسببيّة شكّه.

وثانياً : انقطاع أصالة الفساد بعموم «حِلّ البيع» و «وجوب الوفاء بالعقود» و «تجارة عن تراض» وغير ذلك.

ومن هنا يندفع أيضاً ما عن غاية المراد (١) من المناقشة في الدليل بكونه من باب المصادرات ، وكأنّه لم يلتفت إلى أنّ مستند دعوى الصحّة في عبارة الدليل هو العمومات.

نعم ربّما يورد على الاستدلال بالعمومات بعدم شمولها للأفراد النادرة خصوصاً إذا كانت في غاية الندرة ، والبيع الفضولي فرد نادر.

واجيب تارة بمنع الصغرى ـ أعني الندرة ـ فإنّ الأحبّاء والأصدقاء والرفقاء والوكلاء والأولياء والعبيد وغيرهم يتصرّفون في أموال غيرهم ويعقدون عليها بالبيع والشراء وغيرهما فضولاً ثمّ يستأذنون ويستجيزون ، فهو طريق معهود مألوف استقرّت السيرة به فكيف يرمى بالندرة كما عن الشيخ الغروي في شرحه للقواعد (٢). واخرى بمنع الكبرى فإنّ الأصحاب لا يزالون في جميع الأعصار والأمصار يستدلّون بتلك العمومات على الأفراد النادرة الّتي منها بيع السّلَم ونحوه كما يظهر للمتتبّع في أبواب العقود ، فيكون ذلك إجماعاً منهم كاشفاً عن إرادة عموم الحكم بحيث يشمل الأفراد الشائعة والنادرة معاً كما عن سيّد الرياض (٣).

والأولى في الجواب بعد تسليم الندرة أن يقال : إنّ شبهة عدم الانصراف في الأدلّة

__________________

(١) غاية المراد : ١٧٨.

(٢) شرح القواعد ٢ : ٧٣.

(٣) الرياض ٨ : ٢٢٢.

٧٤٥

إلى الأفراد النادرة وإن كانت في مثل «أحلّ البيع» ممّا كان أشبه بالمطلقات لا بعد فيها ، ولكنّها في مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ممّا كان من قبيل العمومات خلاف التحقيق ، لأنّ عموم العامّ وضعي لا يتفاوت الحال فيه بين الأفراد ، فيشمل المتعارفة الشائعة والنادرة بل الأندرة أيضاً.

ومنها : فحوى ما دلّ على صحّة الفضولي في النكاح من النصّ المستفيض والإجماع كما نقله علم الهدى (١) في الحرّ والعبد ، والحلّي (٢) في الحرّ ، والشيخ في الخلاف (٣) في العبد ، وصحّته فيه مع احتياطهم لكونه في الفروج يستلزم صحّته في البيع ونحوه بطريق أولى. تمسّك به جماعة منهم غاية (٤) المراد والرياض بل في الثاني «أنّه لولاه أشكل الحكم من جهة الإجماعين الآتيين» على المنع (٥).

وقد يورد عليه بما محصّله : أنّه إن اريد بالفحوى ما ينطبق على مفهوم الموافقة ، ففيه أنّه يعتبر في مفهوم الموافقة كون أولويّة المسكوت عنه من المنطوق به عرفيّة ، على معنى كونها منساقة من الخطاب في متفاهم العرف ، كأولويّة ضرب الوالدين بالتحريم من التأفيف المنساقة من آية «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» (٦) وهي فيما نحن فيه ليست عرفيّة بالمعنى المذكور. وإن اريد به ما ينطبق على القياس بطريق أولى ، ففيه أنّه يعتبر فيه كون الأولويّة قطعيّة بأن يكون علّة الحكم في الأصل معلومة مع وجودها في الفرع وكونها فيه أشدّ وآكد ، وهي فيما نحن فيه ليست بهذه المثابة لعدم معلوميّة علّة الحكم في النكاح ، مع احتمال كون الحكمة فيه شدّة الاستحياء في النساء ، فإنّه ربّما يمنعهنّ من التوكيل في التزويج فسوّغ الشارع فيه الفضولي وأوقفه على الإجازة لأنّ أمر الإجازة أسهل وأهون ، إذ ليس استحياؤهنّ فيها كالاستحياء في التوكيل.

ويمكن دفعه بأنّ هنا شقّاً ثالثاً ، وهو كون المراد بالفحوى هنا الأولويّة الظنّيّة المندرجة في الظنّ المطلق على القول بحجّيّة الظنون المطلقة ، ولا ريب في حصول الظنّ الاطمئناني من جهتها بمشاركة البيع وغيره النكاح في صحّة الفضولي مع الإجازة.

__________________

(١) الناصريّات : ٣٣٠.

(٢) السرائر ٢ : ٥٦٢.

(٣) الخلاف ٤ : ٢٦٦ ، المسألة ١٨.

(٤) غاية المراد : ١٧٨.

(٥) الرياض ٨ : ٢٢٣.

(٦) الإسراء : ٢٤.

٧٤٦

نعم وقد يورد عليها بالنصّ الوارد في الردّ على العامّة الفارقين بين تزويج الوكيل المعزول مع جهله بالعزل وبين بيعه ، بالحكم بالصحّة في الثاني لأنّ المال له عوض ، والبطلان في الأوّل لأنّ البضع ليس له عوض ، فقال الإمام ردّاً عليهم وتنبيهاً على اشتباههم في وجه الفرق : «سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده ، فإنّ النكاح أولى وأجدر أن يحتاط فيه ، لأنّه الفرج ومنه يكون الولد ...» (١) الخبر.

وحاصله كون النكاح من جهة الاحتياط المتأكّد فيه أولى بالصحّة من البيع ، وقضيّة ذلك أنّه إذا ثبت الفضولي في البيع فهو يستلزم ثبوته في النكاح أيضاً بطريق أولى ، لا أنّ ثبوته في النكاح يستلزم ثبوته في البيع بطريق أولى كما عليه مبنى الاستدلال المتقدّم.

وفيه : منع دلالة ذلك على كون الأولويّة في العكس ، لعدم كون مستند العامّة في الحكم بصحّة البيع دون النكاح هو أولويّة البيع بالصحّة من النكاح ، ولا الاحتياط ، بل عدم المبيع من البائع بلا عوض على تقدير البطلان لأنّ له عوضاً ، بخلاف النكاح فإنّه على تقدير البطلان يستلزم خروج البضع من الزوجة بلا عوض لأنّ البضع لا عوض له ، فليس مقصود الإمام في الردّ عليهم دعوى الأولويّة بين البيع والنكاح وجعل النكاح أولى بالصحّة من البيع لأنّ الاحتياط فيه أشدّ من الاحتياط ، بل مقصوده الردّ عليهم ببيان مشاركة النكاح للبيع في وجود المقتضي للصحّة في زعمهم وعلى طريقتهم في الاعتماد على الاستحسانات الذوقيّة والمصالح المرسلة ، فحاصل مراده عليه‌السلام بيان أنّ البيع كما يوجد فيه المقتضي للصحّة في زعمهم ، وهو كون المال له عوض ، فكذلك النكاح أيضاً فيه المقتضي للصحّة ، وهو كون إبقائه أحوط من إبطاله وأنّه أقرب إلى الاحتياط ، ومرجعه إلى إعمال الأولويّة بين إبقاء النكاح وإبطاله لا بين النكاح والبيع ، فإنّ إبطال النكاح يستلزم التفريق بين الزوجين فتتزوّج المرأة فعلى تقدير صحّة العقد في نفس الأمر يلزم الزنا بذات البعل ويحصل منه الولد ، بخلاف إبقائه فإنّه على تقدير بطلان العقد في نفس الأمر يستلزم الزنا بالمرأة الخالية من المانع ، وهو أهون من الزنا

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١٦٣ / ٢ ، ب ٢ أبواب الوكالة ، التهذيب ٦ : ٣١٤ / ٥٠٦.

٧٤٧

بذات البعل وأقرب بالاحتياط ، فيكون إبقاء النكاح أولى وأجدر من إبطاله عند دوران الأمر ، فليتدبّر.

ومنها : الخبر العامّي المعروف الوارد في قصّة عروة البارقي حيث دفع إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ديناراً وقال : «اشتر لنا به شاة للُاضحيّة ، فاشترى به شاتين ، ثمّ باع إحداهما في الطريق بدينار ، فأتى النبيّ بالشاة والدينار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بارك الله لك في صفقة يمينك» (١) فإنّ بيعه لإحدى الشاتين لعدم كونه مأذوناً فيه وقع فضولاً ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بارك الله ...» الخ إمضاء له ، فلو لم يصحّ الفضولي مع الإجازة لم يكن لإمضاء النبيّ معنى. بل قد يقال : بأنّ اشتراءه الشاتين بدينار أيضاً وقع فضولاً ، لأنّ المأمور به هو اشتراء شاة بدينار لا اشتراء شاتين فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بارك الله ...» الخ إجازة لهما. ولو وجّه اشتراؤه الشاتين بحيث خرج عن كونه فضوليّاً بجعله مأذوناً فيه بالفحوى لأنّ من أذن باشتراء شاة بدينار راضٍ باشتراء شاتين بدينار بطريق أولى ، لكفى كون بيعه لإحدى الشاتين فضوليّاً.

واورد على الاستدلال بالرواية بوجوه ، فتارةً : بعدم دلالتها على أنّ عروة اشترى الشاتين للنبيّ لجواز كونه إنّما اشتراهما لنفسه بدينار أعطاه النبيّ أي وهبه وملّكه لمّا رأى من حاله أنّه لا شي‌ء له ليشتري به الشاة للُاضحيّة وهو يحبّ الاضحية ولم يكن عنده شي‌ء ، غاية ما هنالك حمل الإعطاء على إرادة الهبة لا مجرّد المناولة ، وهو شائع في الاستعمالات يقال : عطيّة فلان وعطايا سلطان وما أشبه. وإتيانه إلى النبيّ بالدينار ليردّه عليه شكراً لنعمته من جهة حصول غرضه وهو تملّكه شاة للُاضحيّة ، ولعلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقبله بل ردّه إليه خصوصاً على احتمال كون الدينار من الوجوه الّتي يستحقّها عروة فملكه بمجرّد دفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن قصد بإعطائه المناولة.

واخرى : بأنّ الرواية تتضمّن الغبن الفاحش إمّا لبائع الشاتين أو لمشتري إحداهما على سبيل منع الخلوّ ، لأنّ ثمن مثل الشاتين إمّا يكون أزيد من دينار كدينارين مثلاً فيلزم الغبن للبائع ، وإن كان دنيا فيلزم الغبن للمشتري. ومن المستبعد أن يرضى النبيّ

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٤٥ ، ب ١٨ أبواب عقد البيع وشروطه ، عولي اللآلي ٣ : ٢٠٥ / ٣٦.

٧٤٨

مع كمال رأفته وشفقته على امّته بذلك الغبن ، فلا بدّ من إطراح الرواية أو تأويلها بما يوجب خروج موردها عن عنوان الفضولي ، أو بما لا يوجب ثبوت المدّعى.

وثالثة : بأنّها مشتملة على ما لا يقول به أهل القول بصحّة الفضولي من جهات عديدة ، وهو أنّهم لا يجوّزون التصرّف قبل لحوق الإجازة ويحرّمونه كتصرّف عروة في الدينار بالإقباض وفي الشاتين بالقبض ، وفي إحداهما بالبيع والإقباض من المشتري وقبض ديناره ، وكيف يقرّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على فعل هذه المحرّمات ولا يذمّه بل يمدحه ويدعو له ، فلا بدّ وأن [لا] يكون معاملته اشتراء وبيعاً من باب الفضولي.

ورابعة : بأنّ مورد الرواية من باب حكايات الأحوال الّتي إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال ، ومن المحتمل كون وكالة عروة مطلقة عامّة لجميع التصرّفات ، ولا سيّما على ما قيل فيه من كونه من وكلائه ، ولا ينافيه إذنه في هذا التصرّف الخاصّ المستفاد من الأمر باشتراء الخاصّ ، لجواز كونه من الإذن الخاصّ بعد الإذن العامّ ، فلا يمكن بها على حكم الفضولي.

وخامسة : باحتمال كون معاملة عروة في مورد الرواية معاطاتية إباحيّة لا تمليكيّة مندرجة في العقد الفضولي ، وقد أرضى مالك الشاتين ومالك الدينار بأن يأتي بهما إلى النبيّ ويقصّ عليه القصّة فإن رضي بما صنعه كانت المعاملة ممضاة وإلّا أرجع إليهما ما أخذ منهما ، فتخرج عن محلّ الاستدلال لعدم كونها من العقد الصادر من الفضولي.

وفي الجميع ما لا يخفى ، أمّا إجمالاً فلأنّ الاحتمالات البعيد المخالفة للظاهر لا يلتفت إليها ، ولا تمنع الاستدلال بالظواهر ، وإلّا انسدّ باب التمسّك بألفاظ الكتاب والسنّة ، إذ ما من ظاهر إلّا وفي مقابله احتمال بعيد أو احتمالات بعيدة. وأمّا تفصيلاً فلوضوح ضعف كلّ من الوجوه المذكورة :

أمّا الأوّل : فلظهور إطلاق الإعطاء في المناولة فلا يصرف إلى التمليك والهبة إلّا لقرينة ، ولا قرينة في الرواية بل القرينة قائمة بخلاف ذلك ، فإنّ إتيان عروة للشاة والدينار معاً إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقوى شاهد في العرف بكون الاشتراء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا لنفسه ، وردّ الدينار عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع فرض كونه ملكاً له ممّا لا مقتضي له خصوصاً مع احتياجه واستحقاقه ، وقصد إظهار شكر نعمته لا يقتضي ذلك لحصوله بحكاية الواقعة وإظهار امتنانه.

٧٤٩

وأمّا الثاني : فلأنّ حمل معاملة عروة على المعاملة المحاباتيّة أولى من حملها على معاملة المغابنة ، مع منع تحقّق غبن لبائع الشاتين ولا لمشتري شاة واحدة ، فإنّ مجاري العادات أنّ كل متاع حال وفوره يتنزّل قيمته وحال قلّته وعزّته تترفّع قيمته ، وكثيراً ما يختلف الحال بالوفور والعزّة في زمان قليل ، ولا سيّما مورد الرواية وهو أغنام الاضحية خصوصاً في يوم الأضحى الّتي تتوفّر في أوّل النهار ثمّ تتعزّز بعده بساعة أو أقلّ أو أكثر ، فمن الجائز وقوع الاشتراء حال وفورها وطروء العزّة فيما بينه وبين مسيره إلى النبيّ ووقوع بيع الشاة في هذه الحالة.

وأمّا الثالث : فلمنع وقوع بعض التصرّفات المذكورة كدفع الدينار إلى البائع ، ومنع كون وقوع البعض الآخر كقبض الشاتين على الوجه المحرّم لكونه مأذوناً فيه من البائع ، وكذلك أخذه الدينار من المشتري مع احتمال كون عروة جاهلاً قاصراً بحكم المسألة ، خصوصاً على تقدير وقوع الواقعة في أوائل الإسلام فلا حرمة حتّى توجب استحقاقه الذمّ والتوبيخ.

وأمّا الرابع : فلاندفاع احتمال الإذن العامّ أو الوكالة المطلقة بالأصل فإنّ الإذن الخاصّ معلوم الحصول ، وحصول الإذن العامّ قبله أو بعده غير معلوم ، والأصل عدمه ، فيكون المورد من المعاملة الفضوليّة. ولا يرد على الأصل كونه من الاصول المثبتة لأنّ كونها من العقد التوكيلي أو العقد المأذون يحتاج إلى حصول الوكالة المطلقة أو الإذن العامّ ، وكونها من العقد الفضولي لا يحتاج إلى أمر حادث بل يكفي فيه عدم حصول الوكالة المطلقة والإذن العامّ قبل هذا الإذن الخاصّ ، والأصل يحرزه. وبالجملة : الفضوليّة أمر عدمي هو عبارة عن عدم الإذن في التصرّف ، وهو مفهوم عين المستصحب لا أنّه يغايره.

وأمّا الخامس : فلأنّ احتمال المعاطاة الإباحيّة في معاملتي عروة لا يزاحم أصالة الحقيقة في لفظي الاشتراء والبيع ولا قرينة على التجوّز فيهما ، مضافاً إلى أنّه من المستبعد في الغاية أن يأمره النبيّ باشتراء الشاة للُاضحيّة الّتي لا تقع إلّا في ملك وهو يأخذ الشاتين بالمعاطاة الإباحيّة ثمّ يدعو له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «بارك الله لك في صفقة يمينك».

نعم : هاهنا كلام آخر أورده شيخنا قدس‌سره بقوله : «لا يخفى أنّ الاستدلال يتوقّف على

٧٥٠

دخول المعاملة المقرونة برضا المالك في بيع الفضولي ، توضيح ذلك : أنّ الظاهر علم عروة برضا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يفعل ، وقد أقبض المبيع وقبض الثمن ، ولا ريب أنّ الإقباض والقبض في بيع الفضولي حرام لكونه تصرّفاً في مال الغير فلا بدّ إمّا من التزام أنّ عروة فعل الحرام في القبض والإقباض وهو مناف لتقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمّا من القول بأنّ البيع الّذي يعلم بتعقّبه للإجازة يجوز التصرّف فيه قبل الإجازة بناءً على كون الإجازة كاشفة وسيجي‌ء ضعفه ، فيدور الأمر بين ثالث وهو جعل هذا الفرد من البيع وهو المقرون برضا المالك خارجاً عن الفضولي كما قلناه ، ورابع وهو علم عروة برضا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقباض ماله للمشتري حتّى يستأذن ، وعلم المشتري بكون البيع فضوليّاً حتّى يكون دفعه للمثمن بيد البائع على وجه الأمانة ، وإلّا فالفضولي ليس مالكاً ولا وكيلاً فلا يستحقّ قبض المال ، فلو كان المشتري عالماً فله أن يستأمنه على المثمن حتّى ينكشف الحال ، بخلاف ما لو كان جاهلاً.

ولكنّ الظاهر هو أوّل الوجهين كما لا يخفى ، خصوصاً بملاحظة أنّ الظاهر وقوع تلك المعاملة على جهة المعاطاة ، وقد تقدّم أنّ المناط فيها مجرّد المراضاة ووصول كلّ من العوضين إلى صاحب الآخر ، وحصوله عنده بإقباض المالك أو غيره ولو كان صبيّاً أو حيواناً ، فإذا حصل التقابض بين فضوليّين أو فضولي وغيره مقروناً برضا المالكين ثمّ وصل كلّ من العوضين إلى صاحب الآخر وعلم برضا صاحبه كفى في صحّة التصرّف ، وليس هذا من معاملة الفضولي لأنّ الفضولي صار آلة في الإيصال والعبرة برضا المالك المقرون به» (١) انتهى.

وهذا بناءً على الظهور الّذي ادّعاه قدس‌سره في أوّل التوضيح ـ ولعلّه استظهره من تقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المستحيل كونه على المحرّم ـ في كمال المتانة إن قلنا بكفاية مقارنة رضا المالك في خروج البيع عن الفضولي وعدم افتقاره إلى إذنه الصريح ، وسيأتي الكلام في تحقيق هذا المقام إن شاء الله.

ومنها : خبر الوليدة المرويّ في الكتب الأربعة بسند صحيح على الصحيح في غير

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٣.

٧٥١

الفقيه وموثّق في الفقيه بمحمّد بن الحسن ، وسنده على ما في الكافي والتهذيب والاستبصار عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمّد ابن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب فاستولدها الذي اشتراها فولدت منه غلاماً ، ثمّ جاءها سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الآخر ، فقال : وليدتي باعها ابني بغير إذني ، فقال عليه‌السلام : الحكم أن يأخذ وليدته وابنها فناشده الّذي اشتراها ، فقال عليه‌السلام له : خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفذ لك البيع ، فلمّا أخذه فقال له أبوه : أرسل ابني ، فقال : والله لا ارسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني ، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه ...» (١) الحديث.

ودلالته على كون بيع الوليدة فضوليّاً لمكان قوله : «باعها ابني بغير إذني» وعلى صحّة الفضولي بعد الإجازة لمكان قوله عليه‌السلام : «الحكم أن يأخذ وليدته وابنها» وقوله عليه‌السلام : «خذ ابنه حتّى ينفذ لك البيع» وقوله : «أجاز بيع ابنه» واضحة لا ينبغي الاسترابة.

نعم ربّما يستشكل في الرواية من جهة اشتمالها على مخالفة قواعد عديدة :

فتارةً : باعتبار ظهورها في تأثير الإجازة بعد الردّ ، بتقريب ظهور مخاصمة سيّد الوليدة في الردّ ، وأظهر منه حكم الإمام عليه‌السلام بأنّ الحكم أن يأخذ وليدته فإنّه لو لا سبق الردّ كان البيع متزلزلاً فلم يكن للحكم بأخذ الوليدة منجّزاً من غير تقييد له باختيار الردّ معنى ، وكذلك أخذ السيّد لها من دون ردّ غير سديد ، وممّا أجمع أهل القول بصحّة الفضولي عدم تأثير الإجازة بعد الردّ.

واخرى : باعتبار اشتمالها على الحكم بأخذ ابن الوليدة ، مع ظهور كونه حرّاً من جهة كونه ولد الشبهة ، فإنّ ولد الحرّ من أمة الغير إنّما يكون رقّاً إذا كان من زنا لا من شبهة ، والمشتري إنّما استولد الوليدة باعتقاد صحّة البيع ودخولها في ملكه ، فكيف يحكم الإمام بأخذ الحرّ.

وثالثة : باعتبار أمره عليه‌السلام بأخذ المشتري ابن سيّد الوليدة وهو حرّ قطعاً. ودعوى : أنّه إنّما أخذ للغرامة ، ممّا لم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد كونه للغرامة عن ولد المشتري فهو

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٢٠٣ / ١ ، ب ٨٨ أبواب نكاح العبيد والإماء ، التهذيب ٧ : ٤٨٨ / ١٩٦٠.

٧٥٢

ممّا لا معنى له إذ الحرّ كما هو المفروض لا غرامة له ولو سلّم رقّيّته فهو رقّ لسيّد الوليدة ومع هذا فالحرّ كيف يصير غرامة له ، ولو اريد كونه لغرامة الثمن الّذي أخذ ابن السيّد من المشتري فهو أيضاً لا يقتضي أخذ الحرّ وحبسه بل يقتضي مطالبته واسترداد الثمن منه ومع الامتناع إجبار الحاكم إيّاه على الردّ ، مضافاً إلى أنّه لا يلائم قوله عليه‌السلام : «حتّى ينفذ لك البيع» فإنّه لو كان لغرامة الثمن وجب أن يقول : «حتّى يردّ إليك الثمن».

هذا : ولكنّ الإنصاف ومجانبة الاعتساف يساعد على عدم استعمال الرواية على مخالفة شي‌ء من القواعد :

أمّا من الجهة الاولى : فلمنع ظهور الرواية في سبق الردّ ، واستظهاره من المخاصمة ، يدفعه أنّه إن اريد به كون المخاصمة في نفسها ردّاً ، ففيه أنّ الردّ كما ستعرفه لا يحصل إلّا بصيغة «رددت البيع أو فسخته أو أبطلته أو نحو ذلك» كما صرّح به الشهيد أيضاً في الدروس (١) حتّى أنّه لو قال لم اجزه أو لا اجيزه أو لا أرضى به لم يقع الردّ. وإن اريد به أنّها كاشفة عن سبق الردّ ، ففيه المنع أيضاً فإنّ غاية ما يكشف عنه إنّما هو عدم رضاه بالبيع ، وهو لا ينافي الصحّة بعد لحوق الإجازة ، حتّى انّه لو سبقه منع المالك أيضاً لم يؤثّر في البطلان مع الإجازة اللاحقة كما ستعرفه ، ولعلّ سيّد الوليدة مع عدم رضاه بما وقع من بيع ابنه كان متردّداً حين المخاصمة وأخذ الوليدة بين ردّ البيع وإجازته.

وأمّا الجهة الثانية : فلأنّ الحكم بأخذ الوليدة من جهة أنّ كونه عند المشتري قبل إجازة البيع كان بغير حقّ بل كان قبضها وإمساكها والتصرّف فيها واستيلادها كلّها محرّمة فكان من حقّ المالك أن يأخذها حتّى يتبيّن الحال فيما بعد من حصول الردّ أو لحوق الإجازة ، ومن هنا يعلم الوجه في حكمه عليه‌السلام بأخذ ابنها لقيام احتمال علم المشتري بكون البيع فضوليّاً ، ومن ثمّ صار جميع تصرّفاته حتّى استيلاده محرّمة فكان الولد حاصلاً عن زنا فكان رقّاً ، فأخذه مع الوليدة إنّما هو لكونه نماء ملكه فكان من حقّ المالك أن يأخذه مع الوليدة حتّى يتبيّن حال البيع.

وأمّا الجهة الثالثة : فلأنّ المشتري لمّا ناشده لأن يجعل له مخلصاً يتوصّل به إلى

__________________

(١) الدروس ٣ : ٢٣٣.

٧٥٣

إجازة سيّد الوليدة وابنه بيع ولده حتّى يرجع إليه الابن مع امّه ، وأمره عليه‌السلام بأخذ ابن السيّد لأجل أنّه التزم للمشتري أن يأتي له بإجازة أبيه ، وكان طريق التوصّل إلى ذلك الحقّ منحصراً فيه ، ويكفي في الحمل عليه الاحتمال. فالرواية سليمة عن مخالفة القواعد ، ولذا يقال : إنّها تدلّ على صحّة الفضولي بعد الإجازة مع كون الإجازة كاشفة.

ومنها : عدّة أخبار مخصوصة واردة في موارد متفرّقة.

كخبر مسمع أبي سيّار المرويّ في التهذيب والفقيه بسنديهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه وحلف لي عليه ، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الّذي كنت استودعته إيّاه فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ ، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح منه وأوقفت المال الّذي كنت استودعته وأتيت حتّى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وأحلّه ، إنّ هذا رجل تائب والله يحبّ التوّابين» (١) ودلالتها على صحّة المعاملة الفضوليّة بل مع كون الفضولي غاصباً وعدم وقوعها فاسدة من أصلها واضحة ، وإن كانت ساكتة عن اعتبار لحوق الإجازة نفياً وإثباتاً ، مع إمكان كون أخذ نصف الربح وإعطاء النصف الآخر له الّذي أمر به الإمام عليه‌السلام إجازة فعليّة.

وعن الفقه الرضوي ما يوافقه أيضاً.

وموثّقة خبر جميل الّذي ذكره المشايخ الثلاث وهو على ما في التهذيب محمّد بن الحسن الصفّار عن معاوية بن حكيم عن محمّد بن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة ، فذهب فاشترى به غير الّذي أمره ، قال : هو ضامن والربح بينهما على ما شرط» (٢).

وهذا أيضاً كسابقه في وضوح الدلالة على صحّة الفضولي وعدم وقوعه من أصله فاسداً ، وهذا هو المقصود بالاستدلال ، وسكوته عن الدلالة على اعتبار لحوق الإجازة غير قادح ، مع احتمال كون جعله الربح بينهما تنبيهاً على الأمر بالإجازة ، غاية الأمر

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٨٩ / ١ ، ب ١٠ كتاب الوديعة ، التهذيب ٧ : ١٨٠ / ٧٩٣.

(٢) الوسائل ١٩ : ١٨ / ٩ ، ب ١ من كتاب المضاربة ، التهذيب ٧ : ١٩٣ / ٨٥٣.

٧٥٤

كون أخذه الربح على ما شرط إجازة فعليّة ولعلّها كافية على ما سيأتي. والأولى أن يقال : إنّ لحوق الرضا النفساني كافٍ في الإجازة ، وهو حاصل بشهادة مجاري العادات بأنّ المالك إذا رأى ترتّب الربح على المعاملة الفضوليّة وهو المقصود في باب المضاربة يرضى بها.

وما رواه في الكافي في نوادر باب الزكاة عن عليّ بن محمّد عمّن حدّثه عن معلّى ابن عبيد عن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن اؤدّيها؟ قال : اعزلها ، فإن اتّجرت بها فأنت ضامن لها ولها الربح ، وإن تَوِيَتْ في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك ، وإن لم تعزلها واتّجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها» (١).

ودلالتها على الصحّة مع السكوت عن اعتبار لحوق الإجازة كسابقيها. واحتمل الشيخ في شرح القواعد على ما حكي أنّ مثل ذلك لا يحتاج إلى الإجازة ، لأنّ التصرّف إذا وقع على طبق المصلحة الواقعيّة لا إجازة فيه فلا ينافي الصحّة عدم لحوق الإجازة من المالك ، على أنّه لا مالك للزكاة قبل التأدية إلى المستحقّ. وردّ بأنّ الإجازة على تقدير وقوع المصلحة حاصلة من الإمام ، لأنّه وليّ الأمر بل يجب عليه الإجازة حينئذٍ لعموم ولايته على المستحقّين ، ومن مقتضى ولايته أن يراعي المصلحة ولا يهمل فيها.

ورواية ابن أشيم في العبد المأذون الّذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة ويعتقها ويحجّه عن أبيه فاشترى أباه وأعتقه ثمّ تنازع مولى المأذون ومولى الأب وورثة الدافع وادّعى كلّ منهم أنّه اشتراه بماله فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «يردّ المملوك رقّاً لمولاه وأيّ الفريقين أقاموا البيّنة بعد ذلك على أنّه اشتراه بماله كان رقّاً له ...» (٢) الخبر. فإنّ اشتراءه أباه وعتقه وقعا فضولاً لعدم كونهما المأمور به ، وقوله : «يردّ المملوك رقّاً لمولاه» إبطال للعتق لبطلان الفضولي في الإيقاعات ، وقوله : «وأيّ الفريقين» إلى قوله : «كان رقّاً» تصحيح للاشتراء لأنّه لو لا صحّته كان المملوك رقّاً لمولاه الأوّل ، ولا يردّ هنا عدم

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٣٠٧ / ٣ ، ب ٥٢ وجوب إخراج الزكاة ، الكافي ٤ : ٦٠ / ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٢٨٠ / ١ ، ب ٢٥ بيع الحيوان ، التهذيب ٧ : ٢٣٤ / ١٠٢٣.

٧٥٥

الدلالة على اعتبار الإجازة لأنّ مطالبة المبيع كما يكشف عنها التنازع إجازة للبيع.

وصحيحة الحلبي «عن الرجل يشتري ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه ، ثمّ ردّه على صاحبه ، فأبى أن يقبله إلّا بوضيعة ، قال : لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد» (١).

بناءً على أنّ المراد من أخذه بوضيعة جهلاً بالمسألة أخذه على وجه الإقالة المشروط فيها الوضيعة فإنّها لفساد الشرط تقع فاسدة ، ولزمه بقاء الثوب في ملك المشتري أو أخذه اقتراحاً بوضيعة من دون رعاية إقالة مخرجة عن الملك ولا بيع أو صلح ناقل له ثانياً إلى ملك صاحبه الأوّل ولزمه بقاؤه أيضاً في ملك المشتري ، وعلى أحد الوجهين ينزّل قوله عليه‌السلام : «لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة» الدالّ على الحرمة لا على أخذه بيعاً أو صلحاً بوضيعة الملحق له ببيع المواضعة الّذي لا إشكال في جوازه وصحّته نصّاً وإجماعاً ، فعلى أحد الوجهين المذكورين كان بيعه بعد الأخذ فضوليّاً ، والحكم بردّ ما زاد على ثمنه على صاحبه الأوّل أي المشتري مبنيّ على صحّة بيع الفضولي.

والأخبار الواردة في صحّة نكاح العبد بدون إذن مولاه إذا أجازه المعلّلة «بأنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده» (٢) بناءً على أنّ المراد بالتعليل بيان أنّ المانع من صحّة النكاح ليس معصية الله لئلّا يرجى زواله ، لأنّ معصية الله إذا وقعت يستحيل تعقّبها برضاه تعالى بما وقع إذ لا معصية لله تعالى ، بل المانع هو عصيان السيّد وهو ممّا يرجى زواله بطروء الرضا بما وقع وتعقّبه بالإجازة ، فإنّ السيّد من صفته أنّه لا يرضى بالنكاح حين وقوعه ثمّ يرضى به فيما بعد. ولكنّ الاستدلال بها على حكم الفضولي لا يتمّ إلّا باندراج نكاح العبد في الفضولي ، ووجه اندراجه أنّ نكاح العبد بدون إذن مولاه يتضمّن جهتين :

إحداهما : كونه تصرّفاً من العبد في نفسه الّذي هو ملك السيّد ، وهو بهذا الاعتبار خارج عن عنوان الفضولي ، كما نبّهنا عليه في مسألة تصرّفات المملوك وإن شاركه في اعتبار إجازة السيّد في الصحّة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٧١ / ١ ، ب ١٧ أحكام العقود ، التهذيب ٧ : ٥٦ / ٢٤١.

(٢) الوسائل ٢١ : ١١٤ / ١ و ٢ ، ب ٢٤ نكاح العبيد والإماء ، التهذيب ٧ : ٣٥١ / ١٤٣٢.

٧٥٦

واخراهما : وقوعه على مال من السيّد مهراً وهو بهذا الاعتبار مندرج في الفضولي ، والأخبار المشار إليها تدلّ على الصحّة من الجهتين فيندرج فيها المطلق.

والأخبار (١) الواردة في اتّجار غير الوليّ في مال اليتيم بدون إذن الوليّ المصرّحة بأنّ الربح لليتيم ، بناءً على حملها على صورة إجازة الوليّ كما صنعه جماعة (٢) تبعاً للشهيد (٣) وإلّا فعلى العمل بإطلاقها كما عليه جماعة (٤) أيضاً فهي خارجة عن معاملة الفضولي ، أو أنّها فضوليّة غير محتاجة إلى الإجازة لوقوعها على طبق المصلحة الواقعيّة كما تقدّم عن الشيخ في شرح القواعد ، وقد يحتمل كونها منها أيضاً من حيث أنّ الحكم بالمضيّ إجازة إلهيّة لاحقة للمعاملة وهو الوليّ الحقيقي.

واحتجّ أهل القول ببطلان الفضولي بعد الأصل المقرّر من وجوه ـ كأصالة عدم جعل الشارع هذا العقد مؤثّراً ، وأصالة بقاء ما كان على ما كان من ملك الأعيان والمنافع ، وأصالة عدم النقل والانتقال ، وأصالة عدم ترتّب سائر الأحكام ـ بالأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٥) فإنّ عقد الفضولي ليس من التجارة عن تراضٍ لعدم مقارنته لرضا المالك فيكون التصرّف في المال المأخوذ بسببه من أكل المال بالباطل فيحرم ، ولا ينافيه تفسير الباطل على ما ورد في الروايات بـ «القمار والربى والبخس بالميزان والظلم» بناءً على ظهوره في المثال لا الحصر. ولو جعل كناية عن الجهات الباطلة كما عن المفسّرين فلا إشكال أصلاً ، إلّا أنّ الظاهر بناؤه على قراءة «تجارةً» بالنصب خبراً عن «تكون» كما عن أهل الكوفة واسمها حينئذٍ الضمير العائد إمّا إلى التجارة ليكون التقدير «إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض» أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٨٧ / ٢ و ٧ و ٨ ، ب ٢ من تجب عليه الزكاة ، التهذيب ٤ : ٢٧ / ٦٥ والوسائل ١٧ : ٢٥٧ / ٢ و ٣ ، ب ٧٥ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٥٧.

(٢) كما في جامع المقاصد ٣ : ٥ ، والمسالك ١ : ٣٥٧ ، والمدارك ٥ : ٢٠ والحدائق ١٢ : ٢٦.

(٣) الدروس : ٢٢٩.

(٤) النهاية : ١٧٥ ، والشرائع ١ : ١٤٠ ، والقواعد ١ : ٥١ ، والرياض ٥ : ٣٨.

(٥) النساء : ٢٩.

٧٥٧

الأموال أموال تجارة عن تراضٍ» بحذف المضاف ـ كما احتملهما في المجمع ـ أو إلى الباطل ، فلا بدّ من اعتبار تأنيث في معناه رعاية للمطابقة. وأمّا على قراءة الرفع كما عن أكثر القرّاء فلا حاجة إلى هذا الاعتبار لكون «تكون» حينئذٍ من كان التامّة بمعنى «تثبت» وتأنيثه باعتبار تأنيث فاعله ولا ضمير فيه حينئذٍ يعود إلى الباطل ليبعث على اعتبار ضمير في معناه فلا يتمّ الحمل المذكور.

وكيف كان فالجواب عن الاستدلال أنّ الآية باعتبار الاستثناء والمستثنى منه تدلّ على حكمين :

أحدهما : منع أكل المال بالباطل وإن حمل على الجهات الباطلة ، والآخر : الترخيص في أكل المال بالتجارة عن تراضٍ.

ودلالتها على حرمة التصرّف في المال المأخوذ بسبب عقد الفضولي المستلزمة لبطلانه موقوف على إثبات مقدّمتين ، إحداهما : خروجه عن المستثنى وهو التجارة عن تراضٍ ، واخراهما : دخوله في المستثنى منه وهو الباطل ، وإن حمل على الجهات الباطلة.

ويتطرّق المنع أوّلاً إلى المقدّمة الاولى ، فإنّ عقد الفضولي الملحوق به الإجازة المتأخّرة ممّا يصدق عليه التجارة عن تراضٍ. ودعوى : ظهور «تجارة عن تراضٍ» باعتبار كلمة المجاوزة في مقارنة الرضا ، يدفعها منع كون التراضي في الآية من الرضا النفساني ، لما حكاه الطبرسي في المجمع «أنّ مذهب الإماميّة والشافعي وجمع من العامّة أنّ معنى التراضي بالتجارة إمضاء البيع بالتفرّق أو التخاير بعد العقد» (١) وهو إسقاط الخيار من الطرفين ، وأيّاً ما كان فهو على هذا التفسير متأخّر عن العقد ويندرج فيه إجازة المالك في الفضولي ، فالتفسير المذكور ممّا يصرف الكلمة المذكورة عن ظهورها في اعتبار المقارنة. ولو سلّم الظهور بعدم ثبوت الحكاية فغاية ما تفيده كلمة المجاوزة كون «التجارة عن تراضٍ» على معنى مقارنتها رضا المالك لا كون العقد عن تراضٍ ، وليس يلزم في كلّ عقد أن يكون تجارة فإنّ التجارة هو اكتساب المال ولا اكتساب في أكثر العقود ، وعقد الفضولي قبل لحوق إجازة المالك عقد لا أنّه تجارة ،

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٧.

٧٥٨

وإنّما يعتريه التجارة بمعنى الاكتساب على القول بالصحّة عند الإجازة ، فالتجارة الطارئة له عند الإجازة اكتساب نشأ عن التراضي بمعنى الرضا النفساني ، فهو حين الإجازة تجارة عن تراضٍ فيندرج بهذا الاعتبار في المستثنى. ولكن لا يذهب عليك أنّ هذا الاعتبار لا يتمّ إلّا على القول بالنقل في الإجازة ، كما هو واضح.

وثانياً : على تقدير تسليم المقدّمة الاولى مطلقاً أو على القول بالكشف في الإجازة يتطرّق المنع إلى المقدّمة الثانية ، فإنّ الآية باعتبار المستثنى منه دلّت على حرمة أكل المال في موضوع محرز من غير جهة الآية ، وهو كون المال مأخوذاً بسبب الباطل أو بالجهات الباطلة ، فلا يندرج فيه المأخوذ بالعقد الفضولي إلّا بعد إثبات بطلان ذلك العقد من أصله بدليل آخر خارج عن الآية ، والآية بنفسها لا تنهض دليلاً على البطلان ولا على كونه من الباطل أو من الجهات الباطلة ، لأنّها مسوقة لإعطاء الحكم لا لإحراز الموضوع ، فالآية لا تتناول المال المأخوذ بالعقد الفضولي لا بنفي ولا بإثبات ، فيبقى الأدلّة المتقدّمة على الصحّة سليمة عن معارضة الآية.

لا يقال : إنّ الآية تدلّ على حصر المبيح لأكل المال في التجارة عن تراضٍ ، فمفهوم الحصر تدلّ على أنّ غير التجارة عن تراضٍ أو التجارة لا عن تراضٍ غير مبيح لآكل مال الغير وإن لحقها الرضا ، ومن التجارة لا عن تراضٍ هو عقد الفضولي لأنّ المفروض عدم دخوله في المستثنى.

لأنّا نقول : إنّ دلالتها على الحصر ممنوعة لانقطاع الاستثناء كما هو ظاهر اللفظ والمحكيّ صريحاً عن جماعة (١) من المفسّرين ، ضرورة عدم كون التجارة عن تراضٍ فرداً من الباطل خارجاً عن حكمه ، وإن جعل كناية عن الجهات الباطلة من غير فرق ظاهراً بين القراءتين بالنصب وبالرفع في تجارة كما هو واضح.

وأمّا ما يقال : لتصحيح اتّصال الاستثناء من أنّه متّصل مقصود به التنبيه على خروج التجارة عن تراضٍ عن وصف البطلان بعد إخراجه ، فقضيّة الآية تنحلّ إلى كلامين استثناءين ، فكأنّه قيل «لا تأكلوا أموالكم بشي‌ء من الجهات إلّا أن تكون الجهة

__________________

(١) كما في التبيان ٣ : ١٧٨ ، ومجمع البيان ٢ : ٣٦ ، والكشّاف ١ : ٥٠٢.

٧٥٩

تجارة عن تراضٍ» لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، وإنّما اوتي في الآية بتلك العبارة رعاية لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي وهو حرمة الأكل والوضعي وهو بطلان ما عدا التجارة عن تراضٍ بأخصر عباراته ، فكان كدعوى الشي‌ء ببيّنة وبرهان. ونظير ذلك في كلام البلغاء كثير ، ومنه ما يقال في العرف : «أهن الفسّاق أو لا تكرمهم إلّا عالم البلد» ويراد به التنبيه على خروج عالم البلد عن وصف لئلّا يشمله الأمر بالإهانة أو النهي عن الإكرام ، فكأنّه قيل : لا تكرم أحداً إلّا عالم البلد ، لأنّ كلّ أحد فاسق إلّا عالم البلد.

ففيه ـ مع أنّ هذا الاعتبار لا يتمشّى على قراءة الرفع لعدم رابط في «تكون» يربطه إلى ما قبله ـ أنّه تأويل مبنيّ على الاستخدام في ضمير الاسم على قراءة النصب بإرادة الجهة بعد تعريتها عن وصف البطلان ، وهو مجاز لا داعي إليه في المقام ولا قرينة عليه في الكلام.

فإن قلت : إنّ القرينة عليه كون الوصف علّة للحكم فلا يكون جزءاً من موضوعه بل الموضوع حينئذٍ هو الموصوف لا المجموع منه ومن الوصف ، ويلزم منه كون مرجع الضمير هو الجهة المعرّاة عن الوصف.

قلت : دعوى علّيّة الوصف ممّا لا شاهد عليه. وتوهّم : أنّها من مقتضى تعليق الحكم على المشتقّ. يدفعه : أنّه على ما حقّق غير دالّ عليها ، بل غايته الإشعار وهو دون الدلالة فلا يعبأ به ، فوجب الأخذ بما هو ظاهر الكلمة وهو موضوعيّة مجموع الذات المتّصفة ووصفها.

فإن قلت : إنّ هنا قرينة اخرى وهي نصب «تجارة» وهو يقتضي اسماً لـ «تكون» عائداً إلى الباطل بمعنى الذات المتّصفة بالبطلان ، أو إلى الجهات الباطلة ، فإمّا أن يعود حينئذٍ إلى الذات أو الجهات المتّصفة بالوصف ، أو إلى الذات أو الجهات المعرّاة عن الوصف ، الثاني باطل لضرورة انتفاء الوصف في التجارة عن تراضٍ ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

قلت : نصب «تجارةً» ليس بصريح ولا ظاهر في عود ضمير الاسم إلى الباطل ، لقيام احتمال عوده إلى التجارة أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراضٍ ، أو إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة عن تراضٍ» فحذف المضاف

٧٦٠