ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

على الهلاك أو إهدائه إلى سلطان ونحوه ، بل لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر الموجب لانتقال الحكم إلى القيمة ، ومن هنا ما قيل : «من أنّ كلّ موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر لا عبرة بتقدير وجوده عند عدمه» (١).

الرابع : قد تقدّم أنّ المثل في صورة وجوده وتمكّن الضامن من أدائه فللمالك مطالبة الضامن به في أيّ مكان ظفر عليه ولو في بلد آخر غير بلد الضمان الّذي هو بلد التلف ، حتّى أنّه لو توقّف ردّه على شرائه وجب الشراء ولو بأزيد من ثمن المثل ، وكذلك كان له المطالبة بالقيمة في صورة إعوازه بل تعذّره في أيّ مكان يكون ولو غير بلد الضمان والتلف ، إلّا أنّ هذا الحكم على تقدير مساواة قيمتي بلد التلف وبلد المطالبة ممّا لا إشكال فيه. نعم يشكل الأمر فيما لو كان أحدهما مخالفاً للآخر في القيمة فهل يتعيّن قيمة بلد التلف ، أو قيمة بلد المطالبة ، أو أعلى القيمتين؟ وجوه. أشار إليها بعض مشايخنا من غير ترجيح ، ويمكن ترجيح الأخير تحصيلاً للمبرئ اليقيني حسبما بيّنّاه في الفرع الثالث.

ثمّ إنّه حكى شيخنا قدس‌سره عن مبسوط الشيخ تفصيلاً لا يكاد ينطبق على ما نحن فيه قال ـ عقيب ذكر الوجوه ـ : «وفصّل الشيخ في المبسوط (٢) في باب الغصب بأنّه إن لم يكن في نقله مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل سواء كانت القيمتان مختلفتين أم لا ، وإن كان في نقله مئونة فإن كانت القيمتان متساويتين كان له المطالبة أيضاً ، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك ، وإلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو يصبر حتّى يوفّيه بذلك البلد» (٣) انتهى.

وفيه لأنّ ظاهر كلام الشيخ أنّه ذكر ذلك التفصيل لصورة وجود العين المغصوبة وبقائها في بلد الغصب والمالك ظفر على الغاصب في بلد آخر سواء كانت مثليّة أو قيميّة بدليل ضمان الحيلولة الّذي ذكره في آخر كلامه وغيره من القرائن الاخر الّتي يجدها المتأمّل في كلامه ، فإنّه قال : «إذا غصب منه مالاً مثلاً بمصر فلقيه بمكّة فطالبه به لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يكون لنقله مئونة ، أو لا مئونة لنقله ، فإن لم يكن لنقله

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٣٧.

(٢) المبسوط ٣ : ٧٦.

(٣) المكاسب ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٦٦١

مئونة كالأثمان فله مطالبته به سواء كان الصرف في البلدين مختلفاً أو متّفقاً لأنّه لا مئونة في نقله في العادة ، والذهب لا يقوّم بغيره والفضّة لا تقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. وإن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين : إمّا أن يكون له مثل ، أو لا مثل له ، فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان نظرت ، فإن كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل لأنّه لا ضرر عليه في ذلك ، وإن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء ، فللمغصوب منه إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر ، وإمّا أن يدع حتّى يستوفي منه ذلك بمصر لأنّ في النقل مئونة والقيمة مختلفة فليس له أن يطالبه بالفضل ، فإن صبر فلا كلام ، وان أخذ القيمة ملكها المغصوب منه ، ولم يملك الغاصب ما غصب ، لأنّ أخذ القيمة لأجل الحيلولة لا بدلاً عن المغصوب كما لو غصب عبد فأبق فأخذنا منه قيمته فإنّ القيمة تملك منه ، ولم يملك الغاصب العبد ، فإن عاد إلى مصر والشي‌ء قائم بحاله انتقض ملكه عن القيمة الّتي أخذها وعاد إلى عين ماله كما قلناه في العبد الآبق» (١) انتهى.

ومراده من النقل الّذي قسّمه إلى ما لا مئونة له وما له مئونة ، هو نقل الشي‌ء المغصوب من بلد الغصب إلى بلد المطالبة ، فإن لم يكن له مئونة وجب على الغاصب المطلوب منه المال المغصوب بعينه نقله من بلد الغصب إلى بلد المطالبة ، إذ المفروض أنّه لا ضرر عليه في نقله من جهة عدم مئونة فيه ، فلا يتوهّم الانتقال إلى المثل لعدم تلف العين ولا ضرر في نقلها ولا إلى القيمة ، لأنّ قيمة المسكوك من الذهب والفضّة لا يكون إلّا مثله وقد لغى اعتباره حينئذٍ ، فليتدبّر.

الخامس : هل يعدّ خروج المثل في المثلي عن الماليّة بسقوطه عن القيمة من إعوازه وتعذّره الموجب لانتقال الضمان منه إلى القيمة ، كالماء على شاطئ البحر إذا غصبه وأتلفه في مفازة له فيها قيمة ، والجمد في الشتاء إذا غصبه وأتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى الأوّل ، بل هو المتعيّن كما جزم به بعض مشايخنا ، وقال : «بل حكي (٢) عن بعض نسبته إلى الأصحاب وغيرهم» قال : «والمصرّح به في محكيّ التذكرة (٣)

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٧٦.

(٢) حكاه في مفتاح الكرامة ٦ : ٢٥٢ عن جامع المقاصد ٦ : ٢٥٨.

(٣) التذكرة ٢ : ٣٨٤.

٦٦٢

والإيضاح (١) والدروس (٢) قيمة المثل في تلك المفازة وفي الصيف ، ويحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل فيه عن المالية» (٣).

السادس : لو أخذ المالك قيمة المثل بعد إعوازه أو تعذّره ثمّ تمكّن الضامن منه ،فالظاهر عدم عود المثل إلى الضمان لسقوطه عن الذمّة بدفع قيمته فعوده يحتاج إلى دليل والأصل عدمه ، وفاقاً لكلّ من تعرّض للمسألة كالعلّامة (٤) وغيره (٥) هذا على المختار من اعتبار قيمة يوم الدفع ، وكذلك على قول من يزعم انقلاب المثلي قيميّاً بتعذّر مثله بل بطريق أولى ، وأمّا على قول من يزعم أنّ تعذّر المثل بمنزلة تلفه فيصير المثل بذلك قيميّاً فقد يحتمل وجوب المثل عند وجوده والتمكّن من ردّه ، لأنّ القيمة حينئذٍ بدل الحيلولة عن المثل ، وسيأتي أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة ، وفيه إشكال.

المسألة الثامنة : في القيمي المقبوض بالعقد الفاسد الّذي تقدّم أنّ ضمانه عند تلفه بالقيمة وحكي (٦) عليه الاتّفاق ، ويدلّ عليه الأخبار المتكثّرة المتفرّقة في كثير من القيميّات الّتي منها صحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل ، ومنها رواية تقويم العبد ، ومنها رواية السفرة ، وغير ذلك من الأخبار الكثيرة.

وينبغي أن يعلم أنّه قد تقدّم في تعريف المثلي أنّ الأولى في تعريفه أن يقال : «إنّه ما وجد له ما يماثله ويشابهه من جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، وقد ظهر من تضاعيف المسألة السابعة أنّ المثلي قد يتعذّر مثله ولا يوجد له المثل بالمعنى المذكور ، وحينئذٍ صحّ أن يقال في ضابط المثلي : «إنّه ما يغلب فيه وجود ما يماثله ويشابهه في جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات» فلا ينافيه ما يتّفق نادراً من إعواز المثل وعدم وجوده.

وعلى هذا فالقيمي بمقتضى المقابلة هو «ما يغلب فيه عدم وجود ما يماثله ويشابهه في جميع الجهات حتّى الصفات» فلا ينافيه ما يتّفق نادراً من وجود المثل له

__________________

(١) الإيضاح ٢ : ١٧٧.

(٢) الدروس ٣ : ١١٣.

(٣) المكاسب ٣ : ٢٣٨.

(٤) القواعد ٢ : ٢٢٨.

(٥) كما في الدروس ٣ : ١١٣ ، المسالك ٢ : ٢٥٩ ، جامع المقاصد ٦ : ٢٥٥.

(٦) لم نعثر على حكاية الاتّفاق ، نعم استظهر السيّد المجاهد عدم الخلاف بين الأصحاب المناهل : ٢٩٨.

٦٦٣

بالمعنى المذكور ، خصوصاً في الكرباسات وغيرها ممّا يتّخذ منها الأثواب ، خصوصاً ما كان المغصوب من الكرباس ذراع من ثوب ومثله من ذلك الثوب باقٍ موجود ، فالمدار في كلّ من المثلي والقيمي على غلبة وجود المماثل وعدم وجوده ، وقد عرفت حكم المورد النادر من المثلي من انتقال الحكم فيه من المثل إلى القيمة.

وأمّا المورد النادر من القيمي ففي انتقال الحكم فيه من القيمة إلى المثل إشكال : من عدم الدليل عليه ، والأصل يقتضي عدمه.

ويخدشه أنّ الأصل المذكور إنّما يتّجه لو كان المضمون به من أوّل الأمر في القيمي الّذي وجد له مثل هو القيمة ثمّ ادّعي انتقال الضمان من القيمة إلى المثل ، وليس كذلك ، لمكان الشكّ في شمول دليل كون ضمان القيمي بالقيمة لمثل هذا الفرض لكمال ندرته. والعمدة من دليله الإجماع المنقول والقدر المتيقّن من معقده ما لا يوجد له مثل ، والأخبار متفرّقة كلّ منها مخصوص بمورد خاصّ ، فليس فيها عموم أو إطلاق يتمسّك بهما على عموم الحكم لما وجد له نادراً مثل ، فلا مجرى للأصل المذكور. ولمّا كانت المسألة من دوران المكلّف به بين المتباينين فلا يجري فيه أصل الاشتغال أيضاً ، وأصل البراءة أيضاً أولى بعدم الجريان لعدم كون الشكّ ابتداءً في التكليف ولا أنّه يؤول إليه.

نعم يمكن إجراء الأصل المتقدّم في اشتباه المثلي والقيمي هنا ، ويؤيّده آية «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى» (١) ونفي الضرر (٢) لما قيل من أنّ خصوصيّات الحقائق قد تقصد إلّا أن يحقّق إجماع على خلافه ، ويؤيّده إطلاق الفتاوي في الضمان بالقيمة المتناول لصورة تيسّر المثل. وبالجملة فالمسألة قويّة الإشكال.

وكيف كان فقد اختلفوا في تعيين القيمة المضمون بها في القيميّات على أقوال ، فعن الشيخين (٣) وأتباعهما (٤) اعتبار قيمة يوم التلف ، وعن الشهيدين في الدروس (٥) والروضة (٦) نسبته إلى الأكثر.

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / ٥ ، ب ١٢ أبواب إحياء الموات ، الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨.

(٣) المبسوط ٣ : ٧٢ ، الخلاف ٣ : ٤٠٣ المسألة ١٤ ، المقنعة : ٦٠٧.

(٤) المهذّب : ١ : ٤٤٣ ، الوسيلة : ٢٧٦ ، السرائر ٢ : ٣٢٥.

(٥) الدروس ٣ : ١١٣.

(٦) الروضة ٧ : ٤١.

٦٦٤

وعن جماعة منهم العلّامة في التحرير الاستدلال عليه «بأنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف إذ الواجب قبله ردّ العين» (١).

واورد عليه «بأنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا» (٢).

ويندفع : بأنّ القيمة المنتقل إليها ليست أمراً موهوماً واعتباريّاً صرفاً ، بل هو أمر مقدّر مع العين التالفة يعرفه أهل المعاملة ، فالمراد بها قيمتها المقدّرة حين التلف الّتي يعرفها أهل المعاملة ولا تكون إلّا قيمة يوم التلف. وقد يقرّر الدفع بأنّ ضمان العين معناه كونها في عهدته حتّى يردّها ، وإذا تلفت وجب تداركها ببدلها ، والمراد بالبدل ما يعادلها ويساويها في الماليّة حال التلف ولا يكون إلّا قيمة يوم التلف ، وعلى هذا فالأصل في كلّ قيمي أن يكون ضمانه عند تلفه بقيمة يوم التلف إلّا ما خرج منه بالدليل ، فلا ينافيه كون ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب في قول ، أو أعلى قيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف لأنّه مخرج من الأصل بالدليل. نعم إن تمّ ما عن الحلّي من دعوى «الاتّفاق على كون المبيع بالبيع الفاسد بمنزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم» (٣) كان كالمغصوب مخرجاً عن الأصل ، للحوقه به في الحكم على القولين فيه. وعلى هذا فالأقوال في تعيين قيمة المبيع بالبيع الفاسد ثلاثة ، أحدها ما عرفت ، والآخران كالقولين في المغصوب ، ولمّا كان مدرك الحكم في المغصوب صحيحة أبي ولّاد جرى الحكم المستفاد منها في المبيع أيضاً ، إمّا لاتّفاق الحلّي إن تمّ لأنّه اتّفاق على عدم الفصل بينه وبين المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم ، أو لما قيل من أنّ الصحيحة تكشف عن أنّ الضمان في القيميّات التالفة بقيمة يوم القبض سواء كان قبضاً عدوانيّاً كالغصب أو لا كما في المبيع بالبيع الفاسد.

وينبغي ذكر الصحيحة بتمام فقراتها ، وهي ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي ولّاد قال : «اكتريت بغلاً إلى قصر بني هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت

__________________

(١) التحرير ٢ : ١٣٩.

(٢) المناهل : ٢٩٨.

(٣) السرائر ٢ : ٣٢٦.

٦٦٥

إلى نحو النيل فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتّبعته وظفرت به وفرغت ممّا بيني وبينه ، ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً ، فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما صنعت وارضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة ، وأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل ، فقال لي : ما صنعت بالبغلة؟ قلت : رجعته سليماً ، قال : نعم ، بعد خمسة عشر يوماً ، قال : فما تريد من الرجل؟ قال : اريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً ، فقال : إنّي ما أرى لك حقّاً ، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة فخالف فركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن فيه البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء ، قال : فخرجنا من عنده وأخذ صاحب البغل ليسترجع ، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتحبس الأرض بركاتها ، فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فما ترى أنت جعلت فداك؟ قال : أرى له عليك مثل كري البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل وذاهباً من النيل إلى بغداد ومثل كري البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه ، قال : قلت : جعلت فداك ، فقد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنّك غاصب ، قال : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل عقرٌ أو كسر أو دَبَرٌ؟ قال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو فيلزمك وإن ردّ عليك اليمين فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك ...» (١). الخبر.

ودلالته على اعتبار قيمة يوم الغصب في موضعين :

أحدهما : قوله «نعم قيمة بغل يوم خالفته» فإنّ يوم المخالفة هو يوم الغصب وهو اليوم الّذي توجّه فيه إلى نحول النيل. ولا يرد على تنوين «بغل» أنّه يفيد الاكتفاء بقيمة أيّ بغل ولو كان أدون من مورد السؤال ، إذ الظاهر أنّ التنوين للعوض عوضاً عن

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ١١٩ / ١ ، ب ١٧ أبواب الإجارة ، التهذيب ٧ : ٢١٥ / ٩٤٣.

٦٦٦

المضاف إليه وهو الضمير العائد إلى المالك ، كضمير «خالفته» لا للتنكير ، والتقدير قيمة بغله يوم خالفته.

وثانيهما : قوله «ويشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا» بناءً على أنّ حين الاكتراء هو يوم المخالفة ، إذ الظاهر باعتبار قرينة المقام خروجه من الكوفة إلى القنطرة يوم الاكتراء ، وليس بين الكوفة والقنطرة الّتي هي محلّ المخالفة إلّا مسافة قليلة ، فالاكتراء والمخالفة وقعا في يوم واحد.

والمراد بقيمة ما بين الصحّة والعيب تفاوت ما بين قيمتي الصحيح والمعيب الّذي يقال له الأرش.

و «يوم تردّه» ظرف لقوله «عليك» ويحتمل كونه قيداً للعيب فإنّه كثيراً يزداد يوماً فيوماً فيزداد نقصان قيمته معيباً في يوم الردّ بذلك يزداد التفاوت بين القيمتين.

قوله «فمن يعرف ذلك» يعني به كون التفاوت بين القيمتين مجهولاً جهالة مؤدّية إلى الاختلاف بين المالك والغاصب ، مثل أن يدّعي الغاصب كونه عشرة والمالك كونه ثلاثين ، فبيّن الإمام عليه‌السلام له ميزان القضاء بينهما ، وهو الأمر الدائر بين حلف المالك على ما ادّعاه من القيمة أو ردّه اليمين إلى الغاصب فيحلف على ما ادّعاه وبين إقامة المالك البيّنة.

وربّما يشكل التوفيق بينهما بحيث يطابق كلّ منهما موازين القضاء ، وذلك لأنّه لو كان حلف المالك باعتبار قاعدة تقديم قول المالك مع يمينه نظراً إلى أنّه أعرف بقيمة بغله يوم اكترى فهذا وإن طابقت القاعدة إلّا أنّه لا يلائمه قوله «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون ...» الخ لأنّ إقامة البيّنة في مسألة تقديم قول المالك مع يمينه من وظيفة صاحبه لا من وظيفة المالك. ولو كان جعل إقامة البيّنة من وظيفته باعتبار كون مسألة اختلافهما من مسألة الدعوى والإنكار لكون المالك يدّعي قيمة زائدة والغاصب ينكر الزيادة ، وبضابطة «البيّنة على المدّعي» كان إقامة البيّنة من وظيفته فذلك وإن طابقت القاعدة غير أنّه لا يلائمها تقديم حلفه أوّلاً ثمّ ردّه إن شاء إلى الغاصب ، لأنّ اليمين في الدعوى والإنكار من وظيفة المنكر ، وإن ردّها على المدّعي فحينئذٍ يحلف المدّعي لا أنّه يحلف أوّلاً أو يردّه إلى المنكر.

ويمكن الذبّ بجعل كلمة «أو» في قوله «أو يأتي بشهود» لنحو من التنويع

٦٦٧

لا التخيير ولا الترديد الملازم للشكّ ، والمراد بالتنويع جعل واقعة اختلاف المالك والغاصب في مورد السؤال على قسمين :

أحدهما : كون الاختلاف بينهما في دعوى نقصان قيمة صحيح البغل يوم تعيّبه باعتبار تنزّل القيمة السوقيّة بأن يدّعي الغاصب النقصان وأنّ قيمته حين التعيّب ثلاثون فصار بالعيب عشرين وتفاوت ما بينهما عشرة ، وأنكره المالك بدعوى بقائه على قيمته يوم الاكتراء وهو خمسون وتفاوت ما بينهما ثلاثون ، مع اتّفاقهما على كون قيمته يوم الاكتراء خمسين ، ولا ريب في أنّ اليمين حينئذٍ وظيفة المالك لأنّه المنكر فإمّا أن يحلف أو يردّ اليمين إلى الغاصب المدّعي لنقصان القيمة.

وثانيهما : أن يكون اختلافهما في قيمة الصحيح من يوم الاكتراء مع اتّفاقهما على عدم نقصان القيمة حين التعيّب ، بأن يدّعي المالك كون قيمته خمسين والغاصب كونها ثلاثين منكراً للزيادة ثمّ صيرورتها بالعيب عشرين وما بينهما على قول المالك ثلاثين وعلى قول المنكر عشرة ، فيكون جعل البيّنة وظيفة له على القاعدة ، فكأنّه عليه‌السلام بالعطف المتوسّط بين المعطوف والمعطوف عليه قال : إن كان واقعة اختلافهما على الوجه الأوّل يحلف المالك لأنّه المنكر للنقصان أو يردّ اليمين إلى الغاصب ، وإن كان على الوجه الثاني يقيم المالك البيّنة لأنّه مدّعي الزيادة والغاصب ينكرها ، وإنّما أمره بإقامة البيّنة ولم يأمر الغاصب بها في الصورة الاولى لعجزه عنها لندرة اتّفاق من يطّلع على نقصان القيمة الّذي ادّعاه في ظرف مدّة خمسة عشر يوماً والبغل بيده في تلك المدّة ، وتمكّن المالك عن إقامتها على ما ادّعاه من قيمة يوم الاكتراء لكثرة المطّلعين عليها من أهل البلد كما لا يخفى. وكيف كان فالرواية واضحة الدلالة على اعتبار قيمة يوم الضمان الّذي هو في المغصوب يوم الغصب وفي المبيع يوم القبض.

ولعلّه المراد من يوم البيع في المحكيّ عن المفيد (١) والقاضي (٢) والحلبي (٣) من اعتبار قيمة يوم البيع نظراً إلى غلبة وقوع القبض في وقت البيع.

ولمّا كان مورد الرواية هو المغصوب فالتعدّي منه إلى البيع يحتاج إلى وسط ، وهو

__________________

(١) المقنعة : ٥٩٣.

(٢) نقله عنه في المختلف ٥ : ٢٤٤.

(٣) الكافي في الفقه : ٣٥٣.

٦٦٨

إمّا الاتّفاق المتقدّم عن الحلّي ، أو دعوى كشف الصحيحة عن معنى التدارك والغرامة في المضمونات وكون العبرة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال.

والأوّل يخدشه الموهونيّة بمصير الأكثر إلى اعتبار يوم التلف كما عرفت ، فإمّا أنّ أصل الاتّفاق المدّعى لا أصل له ، أو أنّ المنزلة المأخوذة في معقده يراد بها المشاركة في بعض الأحكام غير هذا الحكم.

والثاني أيضاً مخدوش بمنع الكشف المذكور إن اريد به كونه كذلك بمقتضى الدلالة العرفيّة ، إذ ليس في الصحيحة لفظ عامّ ولا مطلق يعمّ ما عدا المغصوب أيضاً ، وبدونها يرجع دعوى الكشف إلى كونها رجماً بالغيب.

فالقول باعتبار يوم القبض في المبيع لمخالفته الأصل وخلوّه عن دليل مخرج ضعيف ، وأضعف منه القول باعتبار أعلى القيم من حين الغصب في المغصوب إلى التلف كما عن ثاني الشهيدين (١) والعجب استشهاده لذلك بالصحيحة مع عدم شهادة فيها صراحة ولا ظهوراً. وربّما استدلّ (٢) له بأنّ العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة الّتي منها زمان ارتفاع قيمته. وهذا أضعف من أصل القول ، إذ لو اريد من كون العين مضمونة في جميع الأزمنة كونها مضمونة بقيمتها فهو خلاف ضمان العين لأنّ المراد به كون العين في عهدة الغاصب ما دامت موجودة فيجب تأديتها مع وجودها وإلّا وجب تداركها بالقيمة ، وهذا هو مفاد خبر «على اليد ما أخذت» وإن اريد كونها مضمونة بنفسها وحينئذٍ فإن اريد من اعتبار قيمة يوم الارتفاع ما لو اتّفق تلف العين في ذلك اليوم فهو حقّ لا سترة عليه ، إلّا أنّه ليس إلّا اعتبار القيمة يوم التلف لأنّها قد تكون أعلى القيم إذا اتّفق التلف يوم ارتفاع القيمة.

وإن اريد اعتبارها ولو اتّفق التلف في غير يوم الارتفاع فهو أوّل المسألة ولا دليل عليه ، والتقرير المذكور في الدليل لا ينهض بإثباته.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٢٠٩ ، الروضة ٧ : ٤٣.

(٢) استدلّ بذلك الفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٧٠ ، وابن فهد في المهذّب البارع ٤ : ٢٥٤ والشهيد في المسالك ٢ : ٢٠٩.

٦٦٩

وقد يوجّه الاستدلال المدّعى فيه كون العين مضمونة في جميع الأزمنة بأنّ العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان وصار ماليّتها مقوّمة بتلك القيمة ، فكما أنّه إذا تلفت حينئذٍ يجب تداركها بتلك القيمة ، فكذا إذا حيل بينها وبين المالك حتّى تلفت ، إذ لا فرق مع عدم التمكّن منها بين أن تتلف أو تبقى. نعم لو ردّت تدارك تلك الماليّة بنفس العين ، وارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباري لا يضمن بنفسه ، لعدم كونه مالاً وإنّما هو مقوّم لماليّة المال وبه تمايز الأموال قلّة وكثرة.

وفيه : أنّ المعتبر في ضمان الحيلولة عدم تمكّن الغاصب من ردّ العين مع وجودها لا عدم تمكّن المالك من التصرّف ، على أنّه لو كان بناء الضمان بالقيمة على الحيلولة وجب ضمان قيمة يوم الغصب لحصول الحيلولة من حينه ، فتأمّل.

وأضعف من الاستدلال المذكور على هذا القول الاستدلال بأصالة الاشتغال لاشتغال ذمّته بحقّ المالك ولا يحصل البراءة منه إلّا بالأعلى ، كما عن السرائر (١) وغيره (٢). ووجه الضعف أنّ المقام ممّا يجري فيه أصل البراءة لرجوع الشكّ إلى التكليف بالزائد ، ومعه لا حكم لأصالة الاشتغال.

فروع :

الأوّل : لو زادت قيمة العين بعد تلفها في بعض أزمنة ما بعد التلف فلا عبرة بها على الأقوال ، خصوصاً لو كان ذلك بعد دفع القيمة المضمونة ، كقيمة يوم التلف على المختار ، وقيمة يوم الغصب أو أعلى القيم على القولين الآخرين لسقوطها عن الذمّة بالدفع ، أو توجّه الخطاب بالقيمة المضمونة إن كان حصول الزيادة قبل الدفع ، فالخطاب بالقيمة الزائدة تحتاج إلى دليل وهو مفقود فالأصل عدمه ، وعن الشرائع (٣) هنا التردّد ، ووجهه غير واضح ، وما يوجّه (٤) له من «أنّه لعلّه من جهة احتمال كون القيمي مضموناً بمثله ودفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل» ولا خفاء في ضعفه ، إذ لو اريد بضمان القيمي بمثله ما قد يتّفق في بعض الفروض النادرة من وجود مثل للعين التالفة ، ففيه أنّ الضمان

__________________

(١) السرائر ٢ : ٤٨١.

(٢) كما في الرياض ١٤ : ٣١ ، المناهل : ٢٩٩.

(٣) الشرائع ٣ : ٢٤٠.

(٤) قاله الشهيد في الروضة ٧ : ٤٠.

٦٧٠

بالمثل حينئذٍ حسن ، ولكن بناء المسألة في هذا الفرع ليس على هذا الفرض النادر ، ومع هذا فالترديد لا معنى له لتعيّن المثل حينئذٍ نظراً إلى الأصل الّذي قدّمناه سابقاً ، ولو اريد كونه كذلك مطلقاً فهو خلاف ما تقدّم من الأدلّة على كون ضمان القيمي بقيمته.

الثاني : أنّ الخلاف المتقدّم بحسب الأقوال الثلاثة إنّما هو فيما لو كان اختلاف القيم بحسب الأزمنة ، وأمّا إذا كان بحسب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة وفي مكان التلف بعشرين وفي مكان المطالبة بثلاثين ، فالظاهر كما قيل (١) اعتبار قيمة مكان التلف كزمانه لأنّ ماليّة الشي‌ء تختلف بحسب الأماكن ، ودفع القيمة تدارك لماليّته فتعتبر بحسب قيمة مكان التلف ، كما يعلم ذلك بملاحظة المعاملة بالبيع والشراء وغيرهما ، فلو طالب البائع قيمة بلد آخر في ثمن عينه في البيع كان مستنكراً عند أهل العرف.

الثالث : أنّ ما تقدّم من الخلاف والأقوال الثلاث إنّما هو فيما إذا ارتفعت القيمة السوقيّة المختلفة بسبب تفاوت رغبات الناس ، وأمّا إذا كان حاصلاً من زيادة في العين فقيل (٢) : إنّ الظاهر عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم ، وهو الوجه ، لا لأنّ قيم العين التالفة مختلفة بل لأنّ زيادة القيمة في بعض أزمنة الضمان لأجل الزيادة العينيّة الحاصلة فيها الّتي هي بمنزلة الجزء لها بل جزء في الحقيقة ، والعين تضمن بجميع أجزائها ، فإذا تلفت الزيادة تضمن بقيمتها ، كما أنّه إذا تلفت العين تضمن بقيمتها ، ومجموع القيمتين هو قيمة المجموع. ومن هنا يعلم أنّ التعبير عنه بأعلى القيم مسامحة.

وفي كون العبرة في قيمة الزيادة بقيمة يوم تلفها ، أو بقيمة يوم ضمانها ، أو بأعلى القيم من يوم ضمانها إلى يوم التلف ، وجوه ، يمكن بناؤها على الخلاف المتقدّم في تلف نفس العين ، فعلى المختار ثمّة يتّجه اعتبار يوم التلف هنا أيضاً.

الرابع : في حكم تلف العين في القيمي بل المثلي أيضاً من حيث ضمانها بالقيمة أو المثل تعذّر الوصول إليها وإن لم تهلك ـ كما إذا سرق أو غرق أو ضاع أو أبق أو أخذه متسلّط غصباً بحيث لا يتمكّن من استنقاذه عنه من سلطان ونحوه ـ للأدلّة المقرّرة في أبواب الأمانات المضمونة وغيرها الدالّة على الضمان بهذه الأشياء. وهل يعتبر في

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٥٦.

(٢) كما في المسالك ٢ : ٢٠٩ ، والروضة ٧ : ٤٤.

٦٧١

التعذّر الموجب للضمان بالقيمة أو المثل حصول اليأس من الوصول إليها ، أو يكفي عدم رجاء وجدانها وإن احتمل الوجدان ، أو يكفي مطلق التعذّر ولو مع العلم بوجدانها في مدّة يتضرّر المالك من انتظارها والصبر إليها طويلة كانت المدّة أو قصيرة؟ وجوه ، وقيل : ظاهر أدلّة ما ذكر من الامور الموجبة للضمان هو أحد الأوّلين ، ولكن ظاهر إطلاق الفتاوى هو الأخير ، كما يظهر من إطلاقهم «بأنّ اللوح المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب انتقل ضمانه إلى القيمة حتّى تبلغ الساحل» (١).

ويؤيّده أنّ فيه جمعاً بين الحقّين حقّ الضامن نظراً إلى فرض رجوع الصحّة إلى ملك الضامن عند التمكّن من العين ، وحقّ المالك نظراً إلى أنّ تسلّط الناس على أموالهم الّذي فرض كونه في عهدة الضامن يقتضي جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذّر نفسه ، نظير ما تقدّم في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثلي. نعم يعتبر في زمان التعذّر كونه مدّة معتدّاً بها يتضرّر المالك بالصبر إلى زوال العذر في نظر العرف ، فلا عبرة بالزمان القليل الّذي لا يوجب الصبر فيه ضرراً في نظر العرف. ثمّ إنّ معنى كون تعذّر الوصول إلى العين في حكم تلفها كونه مثله في أصل الضمان بالقيمة لا في جميع الأحكام ، ويتفرّع عليه أمران :

أحدهما : أنّ ثبوت القيمة مع التعذّر ليس كثبوته مع التلف في كون دفعها حقّاً للضامن ، بحيث إذا دفعها وجب على المالك قبولها وليس له الامتناع من قبولها ، بل هو حقّ للمالك فله الامتناع والصبر إلى زوال العذر ، عملاً بقاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، وحكي عن الشيخ في المبسوط (٢) التصريح به.

وثانيهما : أنّ المال المبذول مع التلف يملكه مالك العين ، وفي التعذّر يحتمل عدم الملك بل غايته الإباحة المطلقة على معنى جواز جميع التصرّفات له من غير أن يدخل في ملكه إلّا أن يتلف العين كما في المعاطاة على القول بالإباحة ما دامت العين باقية وعن الفاضل القمّي (٣) في مسائل شتاته الجزم بهذا الاحتمال ، خلافاً لمن ذهب إلى

__________________

(١) صرّح بذلك العلّامة في القواعد ١ : ٢٠٧ ، والتذكرة ٢ : ٣٩٦.

(٢) المبسوط ٣ : ٨٧.

(٣) جامع الشتات ١ : ١٠٦.

٦٧٢

دخوله في ملكه بلا خلاف ، كما عن المبسوط (١) والخلاف (٢) والغنية (٣) والسرائر (٤) وقيل (٥) : «إنّ ظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».

ولعلّ الوجه فيه أنّ التدارك لا يتحقّق إلّا بذلك ، وعلّل أيضاً بأنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن ولازم ذلك إقامة مقابله من ماله مقامه ليصدق ذهابه من كيسه.

وفيهما نظر ، ولذا استشكل المحقّق والشهيد الثانيان في الملك على ما حكي عنهما فقال أوّلهما : «إنّ هنا إشكالاً ، فإنّه كيف يجب القيمة ويملكها الآخذ ويبقى العين على ملكه ، وجعلها في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» (٦) وقال ثانيهما : «إنّ هذا لا يخلو عن إشكال من حيث العوض والمعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح ، ولو قيل بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلاً وتوقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس من العين وإن جاز له التصرّف كان وجهاً في المسألة» (٧) انتهى.

ولعلّه مبنى إشكال الأوّل أيضاً على لزوم الجمع بين العوض والمعوّض. وإن كان قد يذبّ عن ذلك بأنّ دفع القيمة هاهنا ليس معاوضة ليلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له. وفيه نظر فإن كان إجماعاً فلا منازعة ، وإلّا فالقول بعدم الملك لا يخلو عن قوّة ، للأصل ، ويعضده ظاهر مفهوم بدل الحيلولة فإنّ معنى الحيلولة أنّ الغاصب حال بين العين والمالك ومنعه من التصرّفات فيه والانتفاعات به ، وأخذ القيمة ليتدارك بها ذلك وينتفع بها المالك بدل انتفاعاته بعينه. وهذا كما ترى لا يقتضي أزيد من إباحة التصرّفات وجواز عموم الانتفاعات ، ودخولها في ملكه يحتاج إلى دليل.

الخامس : ربما يتوسّط بين تلف العين وتعذّر الوصول إليها امور : منها : ما منع المالك شرعاً بفعل الغير من الانتفاع بعينه مطلقاً كالحيوان المقصود به ظهره من الخيل والبغال والحمير إذا وطأه إنسان ، فإنّ الواطئ إذا كان غير المالك يغرم

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٩٥.

(٢) الخلاف ٣ : ٤١٢ المسألة ٢٦.

(٣) الغنية : ٢٨٢.

(٤) السرائر ٢ : ٤٨٦.

(٥) المكاسب ٣ : ٢٥٩.

(٦) جامع المقاصد ٦ : ٢٦١.

(٧) المسالك ٢ : ٢١٠.

٦٧٣

قيمته للمالك ويملكها قولاً واحد ، ويجب إخراج الموطوء إلى بلد آخر لا يعرف فيه ويباع في ذلك البلد. وفي عود ثمنه إلى المالك أيضاً ، أو إلى الغارم ، أو لا إليهما بل يتصدّق به؟ أقوال مقرّرة في بابي الأطعمة والحدود ، فتحقيق المسألة موكول إلى محلّه ، وإن كان الأوّل أضعفها ، وأقوى الأخيرين أوّلهما ، وهو أوسط الأقوال.

وقد يوجّه بعدم بعد انكشاف انتقال العين إلى الغارم من حكم الشارع بوجوب غرامة قيمته للمالك.

ومنها : ما قامت من العين بسبب فعل الغير معظم الانتفاعات بها الّتي بها قوام ماليّتها ، واللازم من ذلك خروجها عن الماليّة كالماء المغصوب المستعمل في الوضوء قبل العلم بالغصبيّة إذا علم بها بعد الفراغ ، أو بعد الغسل وقبل المسح مع بقاء الرطوبة والأجزاء المائيّة في الأعضاء المغسولة ، فإنّه يضمن قيمته للمالك عوضاً عن المنافع الفائتة فيملكها المالك ، وفي بقاء العين المتفرّقة في الأعضاء على ملكه وخروجها عن ملكه قولان ، ويظهر الفائدة في جواز المسح بعد العلم بالغصبيّة بالبلّة الباقية وإن لم يأذن فيه المالك ، وعدم جوازه إلّا بإذنه.

والتحقيق أنّ المناقشة في بقائها على ملكه مع التغريم بقيمة الجميع بلزوم الجمع بين العوض والمعوّض عنه ، ضعيفة بما عرفت من كون القيمة بدل المنافع الفائتة ، كما أنّ توهّم الملازمة بين زوال الماليّة وزوال الملكيّة ، ضعيف بمنع الملازمة. فأصالة البقاء تساعد على القول بالبقاء ، إلّا أن يتحقّق من العرف كون المفروض بمنزلة التلف ـ على معنى كون تفرّق أجزاء الماء في أعضاء المتوضّئ مع تساقط جملة كثيرة منها على الأرض بحيث يتعذّر جمعها والانتفاع بها ممّا يعدّ تلفاً في نظر العرف وهو مخرج لها عن الملكيّة ـ وليس ببعيد ، إلّا أنّ الأحوط رعاية إذن المالك للمسح بالبلّة الباقية.

ومنها : الخيوط المغصوبة الّتي خاط بها الغاصب ثوبه ، وقد تكلّم الأصحاب في حكمها في مسألتين :

إحداهما : ما لو طلب المالك نزعها وإخراجها عن الثوب ، فهل يجب النزع مطلقاً كما عن القواعد قائلاً : «ولو طلب المالك نزعها وان أفضى إلى التلف وجب ، ثمّ يضمن

٦٧٤

الغاصب النقص ، ولو لم يبق لها قيمة غرم جميع القيمة» (١) أو لا يجب كذلك كما عن مجمع البرهان من اختيار عدم وجوب النزع حتّى أنّه قال : «يمكن أن لا يجوز ويتعيّن القيمة لكونه بمنزلة التلف ، وحينئذٍ يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخاط ، إذ لا غصب فيه يجب ردّه كما قيل بجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الّذي حصل العلم به بعد إكمال الغسل وقبل المسح» (٢) أو يفصّل بين ما لو لم تخرج الخيوط بالإخراج عن القيمة فيجب النزع وما لو خرجت عن القيمة فلا يجب؟ احتمالات ، لا يبعد المصير إلى أخيرها.

بل عن المسالك «أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب بعد خروجه عن القيمة بالإخراج ، فتعيّن القيمة فقط» (٣).

وهذا الظهور وإن كان لا يساعد عليه ظاهر عبارة القواعد إلّا أنّه لو تمّ لقضى بأنّ الخلاف في قولين ، وأنّ محلّه ما لو لم يخرج الخيط بإخراجه عن القيمة وإن نقصت قيمته.

وكيف كان فالوجه مع عدم خروجه عن القيمة هو وجوب الإخراج لو طلبه المالك ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» و «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» وإطلاق القول بكونه بمنزلة التلف كما عرفته عن مجمع البرهان غير مسموع ، ولعلّه منزّل على الصورة الاخرى ، وهي ما لو خرج بالإخراج عن القيمة. وحينئذٍ ففي جواز الصلاة في الثوب المخاط به وجهان : من خروجه عن ملك المالك كما عليه مبنى كلام المجمع ، وعدمه كما عن المسالك التصريح به ، وهو الأظهر لمنع صدق التلف عرفاً والعين موجودة في الثوب ، غاية الأمر تعذّر انتفاع المالك بها والحال هذه ، ولأجل ذا يغرم له الغاصب قيمته من باب ضمان الحيلولة والأصل بقاء ملكه ، فلا يجوز حينئذٍ إلّا بإذن المالك. وهذا هو المسألة الثانية المتقدّم إليها الإشارة في قولنا ، وقد تكلّم الأصحاب في حكمها في مسألتين.

ومنها : ما لو خرج العين بفعل الغير عن الماليّة مع بقاء حقّ الأولويّة للمالك كالخلّ المغصوب إذا صار في يد الغاصب خمراً فإنّه يغرم للمالك قيمته. وفي وجوب ردّ العين

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٣٥.

(٢) مجمع البرهان ١٠ : ٥٢١.

(٣) المسالك ٢ : ٢٠٧.

٦٧٥

مع القيمة كلام ، وعن القواعد (١) الاستشكال فيه ، قيل : «ولعلّه من استصحاب وجوب ردّها ، ومن عدم بقاء موضوع المستصحب بناءً على أنّه الملك إذ لم يجب إلّا ردّه وهو غير باقٍ. ويخدشه أنّ الموضوع في نظر العرف هو هذا الشخص والمفروض بقاؤه ، فعلى القول بأنّ بقاء الموضوع في الاستصحاب موكول إلى نظر العرف يتّجه الاستصحاب ، ولذا لو عاد خلّاً ردّ إلى المالك بلا خلاف يظهر» (٢). فالمتّجه وجوب ردّ العين مع القيمة ، وحينئذٍ فلو عاد بعد الردّ خلاًّ لا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، لأنّ الخلّ الثاني مال جديد أعطاه الله سبحانه المالك لا أنّه المال الأوّل ، فتأمّل.

__________________

(١) القواعد ٢ : ٢٣٣.

(٢) المكاسب ٣ : ٢٦٥.

٦٧٦

المقصد الثاني

في شروط المتعاقدين مالكين كانا أو وكيلين أو وليّين أو مختلفين ، وقد ذكروا لهما شروطاً ثلاث : البلوغ ، والعقل ، والاختيار في مقابل الإكراه ، فهاهنا مباحث :

المبحث الأوّل

في البلوغ ، وهو أن يبلغ الطفل حدّاً يتكوّن معه الماء الدافق في بدنه ، ويعلم في الذكر باستكماله خمسة عشر سنة وبالاحتلام وبنبات الشعر ، وفي الانثى باستكمال تسعة سنين ونبات الشعر والحيض والحمل ، فإنّ كلّاً ممّا ذكر علامة تكشف عن سبق البلوغ.

والمشهور أنّه شرط في صحّة العقد فعقد الصبيّ باطل بل قولاً واحداً في غير المميّز ، وقد يدّعى ضرورة سائر الملل والأديان ، وكذلك في غير المميّز الغير البالغ عشراً ، وكذلك المميّز البالغ عشراً على المشهور شهرة عظيمة بل بلا خلاف.

عدا ما عزي إلى الشيخ (١) من القدماء وإلى المحقّق الأردبيلي (٢) وبعض من تبعه من متأخّري (٣) المتأخّرين من القول بصحّة عقده مع الوصفين.

وفي النسبة إلى الشيخ كلام لأنّه على ما حكي صرّح في الخلاف (٤) والمبسوط (٥) بعدم صحّة بيع الصبيّ وشرائه أذن له الوليّ أو لم يأذن. نعم قال في ثانيهما : «وروي أنّه إذا بلغ عشر سنين وكان رشيداً كان جائز التصرّف» وظاهره أنّه لم يعمل بها ، فانحصر

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٦٣.

(٢) مجمع البرهان ٨ : ١٥٢.

(٣) كما في الرياض ٨ : ٢١٦ ، المفاتيح ٣ : ٤٦.

(٤) الخلاف ٣ : ١٧٨ المسألة ٢٩٤.

(٥) المبسوط ٢ : ١٦٢.

٦٧٧

الخلاف في الأردبيلي فصحّ (١) مع مخالفته دعوى الإجماع على عدم الصحّة كما عن الغنية (٢) صريحاً ، وعن الفاضل المقداد في كنز العرفان (٣) ظاهراً ، حيث نسب عدم صحّة عقد الصبيّ إلى أصحابنا ، وممّن صرّح بالإجماع العلّامة في التذكرة قائلاً على [ما حكي] «أنّ الصغير محجور عليه بالنصّ والإجماع سواء كان مميّزاً أولا في جميع التصرّفات ، إلّا ما استثني كعبادته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيّته وإيصاله الهديّة وإذنه في الدخول على خلاف في ذلك» (٤) انتهى.

ومستند البطلان ـ بعد الأصل وهو أصالة عدم ترتّب الأثر والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة – الروايات وهي قسمان :

أحدهما : الرواية النبويّة المرويّة بطرق العامّة والخاصّة المعمول بها عند الفريقين «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ» (٥) وذكرها الصدوق في الخصال (٦) والأصحاب في كتب الاستدلال.

ووجه الاستدلال : أنّ قوله : «رفع القلم» كناية عن سلب جميع الأحكام الّتي تكتب بالقلم حتّى الأحكام الوضعيّة الّتي منها صحّة عقوده وإيقاعاته ، ومعناه أنّ الصبيّ لا يكتب عليه الأحكام تكليفيّة كانت أو وضعيّة ، وقضيّة ذلك أن لا يصحّ عقده أيضاً.

وفيه نظر : إذ لو اريد به أنّ الأحكام لا تكتب عليه في اللوح المحفوظ ، فحمل رفع القلم عليه مع بعده في نفسه لا يلائمه عطف النائم عليه وكونه أحد الثلاثة بل يأباه ، لضرورة أنّ الأحكام المكتوبة في اللوح المحفوظ بأسرها ثابتة في حقّه ، غير أنّه ما دام نائماً لا يتوجّه إليه الخطاب لقبح خطاب الغافل.

ولو اريد به أنّها لا تكتب عليه في صحائف الأعمال الّتي يباشر الكتابة فيها الملكان ـ الرقيب والعتيد ـ ففيه أنّ صحائف الأعمال ليست محلّاً لكتابة الأحكام بل كتابتها ليست من شغل الملكين ، بل شغلهما ثبت الأعمال من الحسنات والسيّئات.

وعلى هذا فمعنى رفع قلم الكتابة عن الصبيّ أنّه لا يكتب عليه من الأعمال الأفعال

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر : فصحّح.

(٢) الغنية : ٢١٠.

(٣) كنز العرفان ٢ : ١٠٢.

(٤) التذكرة ٢ : ٧٣.

(٥) عوالي اللآلي ١ : ٢٠٩ / ٤٨.

(٦) الخصال ١ : ٩٣.

٦٧٨

والتروك الّتي هي في حقّ غيره من المكلّفين سيّئات وكذلك الصبيّ بعد بلوغه ، وحاصله أنّه لا يكتب عليه إثم في أعماله ، وهو كناية عن نفي المؤاخذة والعقوبة وغيرهما من آثار الإثم والمعصية ، وهو يستلزم نفي أصل التكليف الإلزامي والخطاب التكليفي ، على معنى أنّ الصبيّ ما لم يحتلم لم يتوجّه إليه خطاب تكليفي ولم يجعل عليه تكليف إلزامي ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّه أيضاً الّتي منها صحّة عقده وإيقاعه ، ولذا يضمن بإتلافه مال الغير ، غاية الأمر أنّه لا يخاطب بردّ ما ضمنه حتّى يبلغ ، أو أنّه يخاطب به وليّه ، وكذلك المجنون والنائم.

وثانيهما : الروايات الخاصّة الإماميّة ، والعمدة منها وأظهرها دلالة روايتان :

إحداهما : رواية حمزة حمران قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام قلت له : متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة وتقام عليه ويؤخذ بها؟ قال : إذا خرج عنه اليتم وأدرك ، قال : فلذلك حدّ يعرف به ، فقال : إذا احتلم أو بلغ خمس عشر سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك اقيمت عليه الحدود التامّة واخذ به واخذت له ، قلت : فالجارية متى يجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ بها وتؤخذ لها؟ قال : إنّ الجارية ليست مثل الغلام أنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع واقيمت لها الحدود التامّة واخذ لها وبها ، قال : والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشر سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك» (١).

واخراهما : رواية ابن سنان «متى يجوز أمر اليتيم؟ قال : حتّى يبلغ أشدّه ، قال : ما أشدّه؟ قال : احتلامه» (٢). وفي معناهما روايات اخر.

وفي الرواية الاولى موضعان من الدلالة على عدم جواز أمر الصبيّ في الشراء والبيع على معنى عدم نفوذهما وعدم ترتّب الأثر عليهما بالنسبة إلى الجارية وإلى الغلام ، إلّا أنّه بالنسبة إلى الجارية بالمفهوم وبالنسبة إلى الغلام بالمنطوق.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٦٠ / ١ ، ب ١٤ أبواب عقد البيع ، الكافي ٧ : ١٩٧ / ١.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤١٢ / ٥ ، ب ٢ كتاب الحجر ، الخصال : ٤٩٥ / ٣.

٦٧٩

وفي الرواية الثانية وجهان من الدلالة ، فتارةً باعتبار تقرير المعصوم حيث إنّ سؤال الراوي بـ «متى» يكشف عن أنّه كان معتقداً بأنّ في اليتيم زمانين : أحدهما ما لا يجوز فيه أمره ، والآخر ما يجوز فيه أمر [ه] فسأل عن تميّز الثاني عن الأوّل ، وكان في تعرّض الإمام عليه‌السلام في الجواب لبيان الزمان الّذي جاز فيه أمره تقرير للسائل على معتقده. واخرى باعتبار قول المعصوم حيث قال : «حتّى يبلغ أشدّه» فإنّه بالمفهوم يدلّ على أنّه ما لم يبلغ أشدّه لم يجز أمره. وجواز الأمر عبارة عن مضيّ فعله وشغله ، على معنى نفوذ تصرّفاته وترتّب الآثار عليه. وشموله لعقوده وإيقاعاته إنّما هو بترك الاستفصال كما هو واضح. فدلالة الروايتين على المطلب حسبما بيّنّاه واضحة. ولو كان في سنديهما ضعف وقصور فينجبر بالعمل والشهرة العظيمة ، فلا ينبغي التكلّم في سنديهما.

نعم ربّما يناقش فيهما باعتبار الدلالة ، ويقال : بأنّ جواز الأمر في هذه الروايات ظاهر في استقلاله في التصرّف لأنّ الجواز مرادف للمضيّ فلا ينافي عدمه ثبوت الوقوف على الإجازة ، كما يقال بيع الفضولي غير ماضٍ بل موقوف ، ويشهد له الاستثناء في بعض تلك الأخبار بقوله : «إلّا أن يكون سفيهاً» فلا دلالة لها على سلب عبارته ، وأنّه إذا ساوم وليّه متاعاً وعيّن له قيمته وأمر الصبيّ بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر كان باطلاً ، وكذا لو أوقع إيجاب النكاح أو قبوله لغيره بإذن وليّه (١) انتهى.

وفيه : منع الظهور المذكور ، وتعليله بمرادفة الجواز للمضيّ عليل ، ودلالة نفيه بقول مطلق على سلب عبارته واضحة ، لأنّه ظاهر في الجواز المطلق الغير المتوقّف على إجازة الغير ، كما أنّ المضيّ ظاهر في المضيّ المطلق الغير المتوقّف على إمضاء الغير فلا يصرف عنه إلى الجواز المعلّق المتوقّف على إجازة الغير إلّا لقرينة ، كما في مثال البيع الفضولي فإنّ حمل غير ماضٍ على المعلّق من المضيّ إنّما هو لقرينة بل موقوف ، ولولاه لم يكن له ظهور في المعلّق منه المتوقّف على الإمضاء ، فقضيّة إطلاق نفي جواز أمره في روايات الباب سلب عبارته وعدم ترتّب أثر عليها ، حتّى فيما ساوم وليّه المتاع وعيّن قيمته وأمره بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر ، وكذلك في إيقاعه إيجاب

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٦٨٠