ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

سواء جعلنا الربا عبارة عن البيع المشتمل على الزيادة أو عن الزيادة في البيع أو عن المعاوضة المشتملة على الزيادة ـ وهو الأقوى ـ أو عن الزيادة في المعاوضة ، والمعاطاة على القولين معاوضة ، وعلى القول بالملك بيع أيضاً.

وأمّا الخيارات فيمكن منع جريانها فيها مطلقاً لأنّها جائزة بالذات فلا معنى لثبوت الخيار ، ويمكن القول بجريانها مطلقاً لأنّها تؤول إلى اللزوم بالتلف وغيره من الملزمات ، ويظهر أثر الخيار بعد اللزوم وفي الإسقاط والصلح عليه ، ويمكن القول بالفرق بين ما يختصّ دليله بالبيع كخيار المجلس وخيار الحيوان فلا يجري لاختصاص دليله بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار فلا يعمّ المعاطاة لخروجها عن هذا الموضوع لكون وضعها على الجواز ، وما لا يختصّ دليله بالبيع كخيار الغبن وخيار العنب فيأتي فيها لعموم دليله وهو قاعدة الضرر ، وجوه واحتمالات ، غير أنّه لم نقف على قائل بالوجه الأوّل ، ولا على قائل صريح بالوجه الثاني ، وأمّا الثالث فقد جزم به الشهيد الثاني في المسالك (١) وهو الأقرب بل الحقّ الّذي لا محيص عنه. ولكن ما لا يختصّ بالبيع إنّما يثبت فيها بعد حصول الملزم لا قبله.

لنا على عدم ثبوت ما يختصّ بالبيع فيها حكومة دليل خياري الحيوان والمجلس على دليل لزوم البيع الّذي هو الأصل فيه المقتضي لترتّب اللزوم على العقد من حين وقوعه ، ببيان أنّ اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على العقد في بيع الحيوان بعد ثلاثة أيّام وفي بيع غيره بعد الافتراق ، ومعنى الحكومة هنا أنّ دليل هذين الخيارين وهو قوله : «ثلاثة أيّام للمشتري» وقوله : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» بمدلول اللفظي متعرّض لدليل اللزوم ببيان كمّيّة موضوعه وهي أنّ بيع الحيوان لزومه بعد الثلاثة ، وبيع غيره لزومه بعد الافتراق ، وهذا كما ترى لا يتمّ إلّا في البيوع الّتي بناؤها في الشريعة على اللزوم ، فهذه البيوع موضوع هذين الخيارين فلا يندرج فيها المعاطاة على القولين فلا يشملها دليل الخيارين جزماً.

ولنا على ثبوت ما لا يختصّ بالبيع كخياري الغبن والعيب بعد حصول الملزم

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٥١.

٥٤١

لا قبله أنّ قاعدة نفي الضرر حاكمة على دليل سبب اللزوم في البيع العقدي والمعاطاة على القولين ، ببيان أنّ اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على السبب المقتضي له عقداً كان أو غيره في غير محلّ الغبن والعيب لئلّا يلزم الضرر فلا لزوم في محلّيهما ، وهذا كما ترى لا يعمّ المعاطاة قبل حصول شي‌ء من ملزماتها إذ لا لزوم حينئذٍ ليلزم بسببه الضرر حتّى ينفيه القاعدة دفعاً للضرر من غير فرق بين القولين ، ويعمّها بعد حصول شي‌ء من الملزمات فيثبت كلّ من الخيارين لأنّه لولاه لزم الضرر بسبب اللزوم وهو منفيّ في شرع الإسلام.

لا يقال : إنّ قضيّة حكومة دليل هذين الخيارين أيضاً على دليل اللزوم كون موضوعه أيضاً البيوع الّتي بناؤها في الشريعة على اللزوم فلا يندرج فيه المعاطاة أيضاً لعين ما ذكرت في خيارى الحيوان والمجلس ، لأنّ موضوع قاعدة الضرر ليس هو البيع بل الحكم الضرري تكليفيّاً كان أو وضعيّاً لزوماً كان أو غيره ، استند اللزوم إلى العقد أو إلى غيره من ملزمات المعاطاة.

وتوضيحه : أنّ مدرك قاعدة نفي الضرر ما ورد في الأخبار من قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (١) ومفاده ـ على ما فهمه المحقّقون وحقّقناه في رسالة مفردة ـ أنّ الشارع تعالى لم يجعل في شرع الإسلام حكماً ضرريّاً أي حكماً مؤدّياً إلى ضرر مسلم ، بحيث يسند الضرر إليه تعالى حيث جعل الحكم المؤدّي إليه ، فكلّ حكم مؤدّ إلى الضرر فهو غير مجعول. ولا ريب أنّ من الحكم الضرري هو اللزوم في موارد الغبن والعيب لأنّه لو كان مجعولاً من الشارع في تلك الموارد لزم الضرر على المسلم المغبون والمعيب سلعته الّتي وقعت بيده بالبيع أو غيره فلا يكون مجعولاً بمقتضى القاعدة دفعاً للضرر. وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين كون اللزوم المؤدّي إليه من مقتضى عقد من العقود اللازمة أو من مقتضى أسباب اخر كملزمات المعاطاة ، كما لا يتفاوت فيه الحال بالنسبة إلى ملزمات المعاطاة بين القولين فيها.

وأمّا الشفعة فالظاهر جريانها فيها على القول بالملك لاختصاص أدلّتها بالبيع

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٧٠.

٥٤٢

فيعمّها على هذا القول ، خصوصاً ما هو صريح في العموم مثل قول الصادق عليه‌السلام في خبر هارون بن حمزة : «الشفعة في البيوع ...» (١) الخ. والمعاطاة على هذا القول أيضاً بيع بل هي الغالب من أفراده الخارجيّة.

لا يقال : إنّها على القول الآخر أيضاً بيع عرفي لأنّ أهل العرف يطلقون عليها اسم البيع وإن لم تفد إلّا الإباحة فيشملها العموم المذكور وغيره من أخبار الشفعة ، لأنّ هذه الدعوى غير مسلّمة بالنظر إلى عدم إمضاء الشارع الكاشف عن خطأ أهل العرف في اعتقادهم البيعيّة فيها ، فإنّ أهل العرف في المعاطاة الّتي بأيديهم يعتقدون كونها معاوضة بيعيّة مفيدة للملك. ومفاد دليل القول بالإباحة من السيرة وإجماع الغنية المصرّح بنفي البيعيّة إن تمّ ينحلّ إلى نفي وإثبات ، والأوّل عدم إمضاء الشارع معتقد أهل العرف فيها من حيث البيعيّة وإفادة الملكيّة ومرجعه إلى أنّ الشرع كشف عن خطأ اعتقاد أهل العرف فيها من الحيثيّة المذكورة ، والثاني إمضاؤه لمعتقدهم فيها من حيث كونها معاوضة وأثرها بعد نفي إفادة الملك ليس إلّا إفادة إباحة التصرّفات ، فهي على هذا القول بعد كشف الشرع ليست بيعاً حقيقة فكيف يعقل شمول الأدلّة المثبتة للشفعة في البيع لها.

المسألة الرابعة : في دخول المعاطاة وجريانها في سائر العقود اللازمة والجائزة مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل كعقد النكاح لقيام دليل خاصّ على أنّه يعتبر في صحّته الصيغة المخصوصة بشرائطها ، وعدمه مطلقاً ، أو في الجملة ، كلام الأصحاب فيه مضطرب حتّى قيل إنّ ما نحن فيه غير محرّر في كلامهم وعبارات المتعرّضين للمقام مختلفة ، فعن السيّد صاحب المصابيح «دعوى سيرة المسلمين في الأعصار والأمصار في جميع العقود على عدم الالتزام بالصيغ المخصوصة» (٢).

وعن شرح القواعد ما يقضي بدعوى الإجماع المحصّل والمنقول بل السيرة على دخولها في عقود المعاوضات ، ومن عبارته المتكفّلة لدعوى السيرة في الجميع قوله ردّاً للقول بالإباحة المدّعى عليه الشهرة والإجماع : «وهو مردود بالسيرة المستمرّة القاطعة

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٩٥ / ١ ، ب ٢ أبواب الشفعة ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

(٢) المصابيح : ٢٣.

٥٤٣

في إجراء حكم الأملاك على ما اخذ بالمعاطاة من إيقاع عقد البيع والإجارة والهبة والصلح والصدقة وجميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه ...» (١) إلى آخر ما ذكره ممّا لا يتعلّق بما نحن فيه.

ومن مشايخنا أيضاً من جزم بقيام السيرة على جريانها في كلّ باب وعنوان حتّى السبق والرماية والأوقاف كوقف المساجد والقناديل في الروضات المتبرّكة والحصر وبواري المساجد والمدارس ، حيث لم نر أحداً من المسلمين من لدن صاحب الشريعة إلى الآن أنّه التزم بإجراء صيغة خاصّة ، بل نراهم في جميع الأعصار والأمصار أنّهم يكتفون بمجرّد الأفعال مع القصد.

ونسب إلى المحقّق الثاني (٢) الجزم بجريانها في مثل الإجارة والهبة والقرض ، والاستشكال في الرهن ، ووجّه بما محصّله اعتبار الوثوق في مفهوم الرهن وهو غير حاصل مع الجواز إن قلنا بكون معاطاته جائزة كمعاطاة البيع ، ولو قلنا فيها باللزوم في الرهن فقط كان مخالفاً لما أطبقوا عليه من توقّف العقود اللازمة على اللفظ والمفروض عدم أوله إلى اللزوم بإتلاف أو تصرّف حتّى يقال بحصول الوثيقة في بعض الأحيان وبه الكفاية في انعقاد مفهومه الّذي قوامه بالوثوق.

وفي المسالك «ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة بأن يأمره بعمل معيّن ويعيّن له عوضاً فيستحقّ الاجرة بالعمل ، ولو كان إجارة فاسدة لم يستحقّ شيئاً مع علمه بالفساد بل لم يجز له العمل والتصرّف في ملك المستأجر مع إطباقهم على جواز ذلك واستحقاق الأجر إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة ، وذكر في مثال الهبة ما لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض إتلافه وتملّكه به ولو كانت هبة فاسدة لم تجز ، ولا بأس إلّا أنّ في مثال الهبة نظراً من حيث إنّ الهبة لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ يدلّ على التمليك بغير عوض كافٍ فيها كما ذكروه في بابه ، وجواز التصرّف في المثال المذكور موقوف على وجود لفظ يدلّ عليها فيكون كافياً في الإيجاب اللهمّ إلّا أن يعتبر القبول القولي مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتّجه ما قاله» (٣) انتهى.

__________________

(١) شرح القواعد ٢ : ٢٢.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٣) المسالك ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢.

٥٤٤

وتحقيق المقام على ما يساعد عليه النظر أنّ العقود الباقية إمّا لازمة ولو من أحد الجانبين ـ كالإجارة والصلح والمزارعة والمساقاة والقرض والرهن والوقف والصدقة والهبة لذي رحم والهبة المعوّضة والمقصود بها القربة إن غايرت الصدقة والنكاح ـ أو جائزة كالشركة والقراض والوديعة والعارية والوكالة والجعالة.

أمّا العقود اللازمة فالضابط في دخول المعاطاة فيها وقيامها مقام العقد اللفظي فيها وعدمه دخول خيار الشرط فيها ، فكلّ عقد دخله خيار الشرط دخله المعاطاة أيضاً ، وينعكس بأنّ كلّما لا يدخله خيار الشرط لا يدخله المعاطاة ، فإنّها في ذلك من جهة الإجماع على الدخول أو على عدمه أو الخلاف فيهما على أنواع :

الأوّل : ما لا يدخله خيار الشرط بالإجماع كالنكاح ، ولعلّ السرّ فيه أنّ النكاح عقد صحّته مربوطة بلزومه وشرط الخيار ينافي لزومه فينافي صحّته فيبطل ، والمعاطاة أيضاً لكون بنائها على الجواز تنافي اللزوم بل هي أشدّ منافاة من الخيار فتبطل.

الثاني : ما يدخله خيار الشرط بالإجماع كالإجارة والصلح المعاوضي والقرض والمزارعة والمساقاة للإجماع على صحّة شرط خيار الفسخ فيها لأحد الجانبين أو كليهما ، فإنّه يكشف عن عدم كون صحّة هذه العقود مربوطة للزومها فخيار الفسخ لا ينافي صحّتها وإن كان ينافي لزومها ، وهذه دخلها المعاطاة أيضاً وتقوم مقام العقد اللفظي فيها لعدم منافاتها الصحّة ، فتكون فائدة العقد اللفظي هو اللزوم المنتفي في معاطاتها. ويدلّ على دخولها فيها ما يدلّ على دخولها في البيع من السيرة القطعيّة القديمة في جميع الأعصار والأمصار في جميع العقود المذكورة ولا سيّما القرض وبعده الإجارة وبعدها الصلح على عدم الالتزام في إطلاق أساميها وإجراء أحكامها بالصيغ المخصوصة المعتبرة فيها فتكشف عن تقرير المعصومين في كلّ من الاسم والحكم.

الثالث : ما اختلف في دخول خيار الشرط وعدم دخوله فيه كالرهن والوقف والصلح الإبرائي والصدقة والهبة لذي رحم أو المعوّضة أو المقصود بها القربة ، فإنّ اللازم من دخول الخيار فيها على القول به في كلٍّ دخول المعاطاة أيضاً لكشف دخوله عن عدم كون الصحّة مربوطة باللزوم ، واللازم من عدم دخوله على القول به في كلّ عدم دخولها أيضاً لكشف عدم دخوله عن كون الصحّة مربوطة باللزوم. وأمّا التكلّم في

٥٤٥

دخول الخيار فيها كلاًّ أم بعضاً وعدمه هنا فليس من وظيفة المسألة بل له مقام آخر في أبواب الخيارات في مباحث خيار الشرط وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وإن كان الأقوى في الوقف والرهن عدم دخوله كما هو المشهور في الأوّل بل عن المسالك كونه محلّ وفاق وهو في البواقي محلّ تأمّل ، إلى أن يوفّقنا الله سبحانه على استقصاء النظر فيه في محلّه.

وأمّا العقود الجائزة ، فالمعاطاة الّتي تضاف إليها إن كانت قوليّة فلا ينبغي التكلّم في دخولها فيها بل هو ممّا لا محلّ له ، لأنّ كلّما يفرض بالقياس إليها من معاطاة قوليّة فهي داخلة في العقد اللفظي المعتبر فيها بناءً على أنّها لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ يدلّ على المعنى المقصود منها يكون كافياً في انعقاد العقد المبحوث عن معاطاته وصحّته فيندرج فيه ما يفرض من المعاطاة القوليّة ، بل هي على هذا التقدير من العقد اللفظي وتسميته معاطاة مسامحة ، فلا معنى للتكلّم في قيامها مقام العقد اللفظي إلّا على القول باشتراط العربيّة في كلّ العقود الجائزة أو بعضها ، وكانت المعاطاة القوليّة بغير اللفظ العربي ، ولكنّ التكلّم في قيامها أيضاً في غير محلّه لأنّه راجع إلى التكلّم في اشتراط العربيّة في عقدها اللفظي وهو ليس من وظيفة المقام بل بالقياس إلى كلّ عنوان موكول إلى بابه.

وإن كانت فعليّة فالتشكيك في قيامها ليس لمدخليّة اللفظ في العقد اللفظي في انعقاد العقد أو صحّته بل لكونه فاقداً لما هو مناط انعقاده عقداً صحيحاً ، وهو الدلالة على المعنى المقصود من الوديعة الاستنابة في حفظ المال ، فإذا دفعه المالك إلى غيره وقال : «أودعته عندك» أو «هذا وديعة عندك» كان دالّا على الاستنابة في الحفظ ، وأمّا لو دفعه إليه من غير لفظ لم يكن دفع الدافع دالّا على إنشاء هذا المعنى ولا أخذ الآخذ على قبوله ، لقيام احتمال كونه هبة أو عارية أو إباحة للتصرّف أو قراضاً فيكون مجملاً ، ولا يعقل في المجمل دلالة على المعنى المقصود منه بعينه ، وهذا ممّا لا يعقل قيامه مقام العقد اللفظي ، وإلّا فلو فرض الفعل بحيث يكون دالّا على المعنى المقصود ولو بمعونة قرينة مقام ونحوها فلا ينبغي التشكيك في قيامه مقام العقد اللفظي ، ولذا كان الفعل في مقام القبول بعد سبق الإيجاب القولي كافياً على الأقوى لأنّه بملاحظة سبق الإيجاب القولي ينصرف إلى كونه قبولاً لذلك الإيجاب ، ولكن يشترط فيه حيث يدلّ على المعنى المقصود كون دلالته قطعيّة ولا يكفي فيها الظنّ والظهور. وبذلك يفترق عن العقد اللفظي

٥٤٦

الّذي يكفي في دلالته الظهور لحجّيّة الظواهر ، واختصاص الحجّيّة بالألفاظ بل الدلالة على المعنى المقصود كما أنّها معتبرة في معاطاة العقود الجائزة إذا كانت فعليّة فكذلك معتبرة في العقود اللازمة أيضاً ، فالمعاطاة حيث تدخل العقود الجائزة تساوي العقد اللفظي في الفائدة لاشتراكهما في الجواز فإنّ العقد في ذاته جائز لفظيّاً كان أو معاطاة ، والعقد اللفظي لا تفيد فائدة اخرى زائدة على فائدة المعاطاة فيها. وبذلك يمتاز هذه المعاطاة عن معاطاة العقود اللازمة فإنّها تغاير العقد اللفظي المعتبر فيها في الجواز واللزوم.

وأمّا المناقشة في التسمية بالمعاطاة في أكثرها كما تقدّم نظيرها في معاطاة على ما نقله في المسالك (١) فيدفعها ، أنّه [إن] اريد عدم التسمية لغة لعدم تحقّق المفاعلة ولا صدور الفعل بين اثنين ففيه أنّ إطلاق المعاطاة في كلمة الأصحاب ليس باعتبار اللغة ، وإن اريد عدم التسمية بحسب عرف الفقهاء أو المتشرّعة ففيه منع واضح ، لما ذكرناه مراراً من أنّها عندهم عبارة عن كلّ معاملة عقديّة فاقدة للصيغة أو شرائطها ، وهذا المعنى يوجد في الجميع حتّى الإجارة والوكالة والمزارعة والمساقاة.

ثمّ إنّ قولنا بقيام المعاطاة مقام العقد اللفظي في العقود اللازمة والجائزة ينحلّ إلى قضيّتين ، إحداهما : أنّها في كلّ عنوان يصدق عليها اسم ذلك العنوان ، فهي في محلّ الإجارة إجارة ، وفي محلّ الصلح صلح ، وفي محلّ القرض قرض ، وفي محلّ المزارعة مزارعة ، وفي محلّ الوديعة وديعة وهكذا. واخراهما : أنّها تفيد فائدة هذا العنوان من تمليك منفعة أو عين أو الاستنابة في الحفظ أو التصرّف أو الإذن في الانتفاع مع بقاء العين ، أو الإذن في العمل بعوض أو الإذن في الاتّجار بحصّة من الربح ونحو ذلك. وقضيّة ذلك كلّه أن يكون معاطاة سائر العقود كمعاطاة البيع في وجوب اجتماع شرائط الصحّة فيها ، فوجب أن تكون في محلّ الإجارة جامعة لشرائط الإجارة ، وفي محلّ القرض جامعة لشرائط القرض ، وفي محلّ المزارعة أو المساقاة جامعة لشرائطهما ، وفي محلّ الوديعة أو العارية جامعة لشرائطهما ، وفي محلّ الوكالة والجعالة جامعة لشرائطهما ، وهكذا.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٧ ـ ١٥١.

٥٤٧

السابع (١) : في ملزمات معاطاة البيع فنقول : قد اتّفق الأصحاب ـ مع اختلافهم في أنّها هل تفيد الملك أو الإباحة وعلى الأوّل هل تفيد اللزوم أو الجواز ـ على أنّ لها ملزماً ، وهو لا يخلو عن امور ثلاث : التلف ، ونقل الملك بسبب شرعي ، وتغيير الوصف. والملزميّة في بعض هذه الثلاث محلّ وفاق ، وفي البعض الآخر محلّ خلاف حسبما تعرفه. ثمّ لكلّ من هذه الحالات أقسام أربع ، لأنّها إمّا تحصل في تمام كلّ من العينين ، أو في تمام إحدى العينين ، أو في بعض كلّ منهما ، أو في بعض إحداهما ، ومرتفع الثلاث في الأربع اثنى عشر. وتمام البحث في أحكام هذه الأقسام يقع في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : في تلف تمام كلّ من العينين ، ونعني بالتلف تبدّل وصف وجود الشي‌ء بالعدم سواء كان بآفة سماويّة أو بإتلاف من بيده أو متلف آخر فهل يكون ملزماً أو لا؟ وليعلم أنّ المراد باللزوم هنا سقوط الجواز الّذي كان ثابتاً قبل التلف وهو جواز الرجوع بالعين ، وقد يعبّر بجواز الترادّ والمعنى واحد ، والمراد بالجواز المحتمل في مقابله هو جواز الرجوع على من تلفت بيده العين بغرامة مثلاً في المثليّات وقيمة في القيميّات ، لا جواز الرجوع بالعين لاستحالته. فاللزوم بالمعنى المذكور بعد تلف العينين هو المعروف من مذهب الأصحاب الّذي صرّح به جماعة من الأساطين وقد ينفى عنه الخلاف ، كما عن شرح (٢) القواعد وقد يدّعى عليه الإجماع على الظاهر المصرّح به في بعض العبائر.

وقد يستدلّ عليه بأصالة اللزوم الّتي هي الأصل في العقود ، والمتيقّن ممّا خرج منه ما دامت العينان باقيتين فوجب الحكم باللزوم بعد تلفهما عملاً بأصالة اللزوم. ولا خفاء في ضعفه لأنّ الاستناد إلى الأصل المذكور إنّما يتمّ أن لو كان الجواز المبحوث عنه مستنداً إلى وجود مانع يكون رافعاً للّزوم بحيث لولاه لكان اللزوم ثابتاً لوجود مقتضيه ، كما في الخيارات الّتي تثبت في العقد اللازم من مقتضى دليل شرعي كما في خياري المجلس والحيوان ، أو من مقتضى حالة وجوديّة طارئة دلّ الدليل على كونها رافعة للّزوم كما في خياري الغبن والعيب ، وهذا هو الّذي تقتصر في مخالفة أصالة

__________________

(١) تقدّم «السادس» في ص ٥٢٩.

(٢) شرح القواعد ٢ : ٢٨.

٥٤٨

[اللزوم] والخروج عنها على القدر المتيقّن وفي غيره يحكم باللزوم عملاً بالأصل ، ولذا صار الخيار في هذه الخيارات فوريّة على الصحيح لأنّ القدر المعلوم خروجه من الأصل هو زمان الفور. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل الجواز لو قيل به مستند إلى فقد المقتضي فإنّه في المعاطاة على ما تقدّم إنّما ثبت بالإجماع محصّلاً ومنقولاً ومدرك الإجماع اشتراط اللزوم في العقود اللازمة بالصيغة المخصوصة الجامعة لشروطها المقرّرة والشرط في المعاطاة منتف.

ومن القواعد العقليّة الغير القابلة للتخصيص أنّه متى ما انتفى الشرط انتفى المشروط ، فالجواز مسبّب عن انتفاء شرط اللزوم ولا ريب أنّ انتفاء الصيغة في المعاطاة لا يتفاوت فيه الحال بين حالات العوضين من بقائهما أو تلفهما أو بقاء إحداهما وتلف الاخرى ، ضرورة أنّ تلف العوضين لا يعطيها وجود الصيغة فالمعاطاة بجميع حالات العوضين فيها مخرجة عن عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الّذي هو المقتضي للّزوم في العقود اللازمة وهو مدرك أصالة اللزوم ، وعلى هذا فلا مقتضي للّزوم في المعاطاة رأساً للزومها انتفاء شرط اللزوم ، فلا معنى للاستناد إلى أصالة اللزوم بعد تلف العوضين.

وتحقيق المقام أنّ اللزوم إن اريد به سقوط الجواز السابق على التلف فلا مجال لأحد إلى إنكار أنّ تلف العوضين يوجبه ، لأنّ الجواز السابق عليه عبارة عن جواز ترادّ العينين وتلفهما يوجب استحالة ترادّهما فيمتنع بقاء جوازه ، ولا نعني من سقوطه إلّا امتناع بقائه ، وبالتأمّل في ذلك يعلم عدم إمكان استصحابه لعدم بقاء موضوع المستصحب. وإن اريد به ما يقابل جواز الرجوع بالغرامة مثلاً أو قيمة أعني عدم جواز الرجوع بها فالحقّ هو اللزوم أيضاً للأصل ، فإنّ جواز الرجوع بالغرامة أمر إضافي بين المالك الأصلي ومن بيده التلف فهو من حيث إضافته إلى المالك الأصلي يرجع إلى استحقاقه الغرامة مثلاً أو قيمة ، ومن حيث إضافته إلى من بيده التلف يرجع إلى ضمانه الغرامة بالمثل أو القيمة وكلاهما خلاف الأصل ، فإنّ الأصل عدم استحقاق الأوّل وعدم ضمان الثاني ، مضافاً إلى أصالة البراءة عن وجوب ردّ المثل أو القيمة ، ولا دليل يوجب الخروج عن الأصل فيهما ، ولا فرق في جريان الأصل بين القول بالملك والقول بالإباحة.

وتوهّم : أنّ الدليل عليه قاعدة ضمان الإتلاف المستفادة من عموم قوله عليه‌السلام : «من

٥٤٩

أتلف مال الغير» وقاعدة ضمان اليد المستنبطة من عموم قوله عليه‌السلام : «على اليد ما أخذت».

يدفعه عدم جريان عموم الخبرين فيما نحن فيه لا على القول بالملك ولا على القول بالإباحة.

أمّا عدم جريان عموم الخبر الأوّل على القول بالملك فلأنّه عامّ في إتلاف مال الغير ، والتالف هنا لكونه ملكاً ليس بمال الغير ، وعلى القول بالإباحة فلأنّه يقتضي الضمان بإتلاف لم يكن عن تسليط المالك والمفروض أنّ المالك لإباحته جميع التصرّفات حتّى التصرّفات الإتلافيّة سلّطه على إتلافه.

وأمّا عدم جريان عموم الخبر الثاني على القول بالملك فلأنّه عامّ في اليد الغير المالكيّة وما نحن فيه يد مالكيّة ، وعلى القول بالإباحة فلأنّ اليد الغير المالكيّة الموجبة للضمان عبارة عن اليد العادية وهي فيما نحن فيه ليست بعادية ، لمكان إذن المالك في جميع التصرّفات حتّى الإتلافيّة منها ، مضافاً إلى أنّ ضمان المثل أو القيمة بعد التلف تابع لضمان العين قبل التلف وهو وجوب ردّها إلى مالكها والمفروض عدم وجوب ردّ العين على المدفوع إليه قبل تلفها فلا يجب عليه مثلها ولا قيمتها بعده.

فتبقى الاصول المذكورة سليمة عمّا يوجب الخروج عنها سواء كان التلف بإتلاف المدفوع إليه أو بآفة سماويّة أو بإتلاف أجنبيّ.

أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الأخيران فلأنّ الموجب للضمان إمّا الغصب فهو منتف ، وإمّا التسبيب بالتفريط أو التعدّي فهما أيضاً منتفيان ، أمّا انتفاء التفريط فلأنّه لم يجب عليه في المال المدفوع إليه ما يكون تركه تفريطاً ، وأمّا انتفاء التعدّي فلأنّه لم يحرم عليه فيه ما يكون فعله تعدّياً ، مع أنّه قد عرفت عدم كون يد المدفوع إليه يد ضمان لعدم وجوب ردّ العين قبل تلفها فلا يضمن الغرامة بالمثل أو القيمة بعد تلفها.

ولكن يشكل الحال في صورة إتلاف الأجنبيّ على القول بالإباحة ، بأنّ غاية ما يسلّم عدم ضمان المدفوع إليه المثل أو القيمة للمالك ، ولا مانع من أن يضمن أحدهما الأجنبيّ له بأن يستحقّ غرامة ماله مثلاً أو قيمة في ذمّة الأجنبيّ المتلف له وهو من مقتضى عموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن».

ويمكن الذبّ عنه بأنّ إتلاف الأجنبيّ إن كان ترخيصيّاً وهو أن يأذن له المدفوع

٥٥٠

إليه في إتلافه فهو مستند بالأخرة إلى تسليط المالك ، وإن كان عدوانيّاً كما لو غصبه ثمّ أتلفه فلا يقتضي الخبر ضمانه المثل أو القيمة للمالك لظهوره ولو بحكم الانصراف في إتلاف مال لم يصب المالك عوضه والمفروض أنّ المالك قد أصاب عوض ماله ، غاية الأمر كونه عوضاً جعليّاً فلا يستحقّ عوضاً آخر له في ذمّة الأجنبيّ الغاصب له عن المدفوع له. ولو سلّم عدم ظهور الخبر فيما ذكرنا فيمنع ظهوره أيضاً في خلافه فيبقى الشكّ في استحقاق المالك الأصلي بعوض ماله الحقيقي في ذمّة الغاصب المتلف له وعدمه والأصل عدم استحقاقه له.

لا يقال : إنّ هذا الأصل معارض بمثله في جانب المدفوع إليه لبطلان استحقاقهما معاً من جهة استحالة اجتماع المالكين على مال واحد ، واستحالة اجتماع استحقاقين في مال واحد كبطلان عدم استحقاقهما معاً ، لأنّ الغاصب المتلف للمال ضامن لمثله أو قيمته لا محالة ، وضمان المثل أو القيمة أمر إضافي يقتضي مضموناً له ، وهو إمّا المالك الأصلي أو المدفوع إليه من المتعاطيين ، وأصالة عدم استحقاق الأوّل معارضة بأصالة عدم استحقاق الثاني.

لأنّا نقول : إنّ استحقاق المالك لغرامة ماله في ذمّة الغاصب المتلف له إمّا أن يكون مع ضمانه لغرامة مال المدفوع إليه المفروض تلفه في يده أو مع عدم ضمانه لها ، ولا سبيل إلى الأوّل لما تقدّم من الاصول أعني أصالة عدم استحقاق المدفوع إليه لغرامة ماله على ذمّة الدافع وأصالة عدم ضمان الدافع لها وأصالة البراءة عن وجوب ردّ مثله أو قيمته ، ولا إلى الثاني لأنّ التعارض المتوهّم إنّما طرأ من جهة العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأصلين لتيقّن حدوث استحقاق للغرامة في ذمّة الغاصب المتلف مع اشتباه المستحقّ في بادئ النظر ، ولكن يتعيّن كونه حاصلاً للمدفوع إليه المغصوب عنه لا لصاحب المال الأصلي لأنّه أصاب عوضه الجعلي بالفرض فلو استحقّ عوضه الحقيقي لزم الجمع بين العوض والمعوّض ، مضافاً إلى ما يلزم بالقياس إلى المدفوع إليه من خروج ماله بلا عوض وهذا خلاف قاعدة «احترام مال المسلم» ، فإنّ قضيّة احترام المال أن لا يخرج من مالكه مجّاناً وبلا عوض ، ويؤيّده إطلاق كلام الأصحاب باللزوم وعدم جواز الرجوع على معنى عدم استحقاق المالك

٥٥١

الأصلي للغرامة بالمثل أو القيمة مع التلف الشامل لما كان التلف بإتلاف غاصب.

وما يقال عليه : من أنّ تلف العين إذا كان بجناية الغير فهو ليس بتلف حقيقي لانتقالها حينئذٍ إلى ذمّة الجاني ، ومع قرارها في الذمّة لِمَ لا يجوز الرجوع عليه بأخذ المثل أو القيمة. ففيه أنّه لا كلام في الانتقال إلى ذمّة الجاني ، وإنّما الكلام فيمن يستحقّ ما في ذمّته من المثل أو القيمة ، ونحن نقول بأنّ كونه المدفوع إليه لا المالك الأصلي أوفق بالأصل والقواعد حسبما بيّنّاه.

وقد يستدلّ على اللزوم بالسيرة فإنّها قائمة بعدم الرجوع بعد التلف مطلقاً. ونوقش بكونها مجملة إذ لا يدرى أنّ بناءهم في عدم الرجوع هل هو لزعمهم كونها بيعاً لازماً من أصلها أو بيعاً جائزاً فيلزم بالتلف أو معاملة مستقلّة لازمة من أصلها أو جائزة تلزم بالتلف أو إباحة لا تقبل الرجوع بعد التلف؟ فجهة البناء غير معلومة فتكون كالإجماع التقييدي في عدم صلاحيته للاستناد إليه.

ويزيّفها أنّ السيرة على فرض قيامها بعدم الرجوع تكشف كشفاً قطعيّاً عن تقرير المعصوم الكاشف عن كون معتقده أنّه لا رجوع في المعاطاة بعد التلف وهذا كافٍ في ثبوت اللزوم بعده ، غاية الأمر بقاء التشكيك في الجهة الباعثة عليه وهو لا يضرّ بالقطع بأصل اللزوم بعد التلف. نعم يخدشها أنّ غاية ما يسلّم قيام السيرة بعدم الرجوع بعد التلف ، وهو غير اللزوم بمعنى عدم جواز الرجوع وهذا هو محلّ الكلام ، والسيرة ساكتة عنه ، فدليل اللزوم منحصر في الأصل حسبما قرّرناه.

ولو تلف البعض من كلّ من العينين فيحتمل فيه القول باللزوم مطلقاً ، والقول بجواز الرجوع بعين البعض الباقي وعوض البعض التالف ، والقول بالجواز في البعض الباقي واللزوم في البعض التالف وجوه ، قد يقال بأنّ خيرها أخيرها للاستصحاب مراداً به استصحاب الجواز السابق على التلف بالنسبة إلى الباقي وأصالة عدم استحقاق الغرامة بالمثل والقيمة بالنسبة إلى التالف ، مضافاً إلى أصالة عدم ضمانها.

لا يقال : إنّ الحكم السابق على التلف إنّما جواز ترادّ العينين وهو بتلف البعض من كلّ منهما غير ممكن فيسقط جوازه أيضاً ، لأنّ المسلّم من عدم الإمكان إنّما هو ترادّ التالف من كلّ منهما وأمّا ترادّ الباقي منهما فممكن جزماً فنحكم ببقاء جوازه ولو بحكم

٥٥٢

الاستصحاب.

نعم يمكن الخدشة في الاستصحاب بعدم بقاء الموضوع لأنّ موضوع المستصحب هو مجموع العينين وهو غير باق والباقي الّذي هو البعض من المجموع غيره ، وضابطه وجوب كون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضية المتيقّنة بلا اختلاف بينهما إلّا في اليقين والشكّ وتعدّد زمانيهما باعتبار السبق واللحوق ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان السابق جواز الرجوع بمجموع العينين والقضيّة المشكوكة في الزمان اللاحق جواز الرجوع بالبعض من المجموع ، ولا ريب في تعدّد موضوعي القضيّتين ، وهذا آية عدم بقاء الموضوع.

ويمكن دفعها بأنّ الموضوع ليس مفهوم مجموع العينين بل مصداقه ، ولا ريب أنّ مصداق المجموع ينحلّ إلى أجزائه فيتبعه جواز الترادّ فيضاف إلى كلّ من أجزاء المجموع الّتي منها البعض الباقي منهما جواز الترادّ ، فجواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي من كلّ منهما ليس من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع المستصحب ، إلّا أنّ تتميم ذلك مبنيّ على ثبوت جواز ترادّ البعض من كلّ من العينين لكلّ من المتعاطيين حال وجود العينين بتمامهما ، وهذا غير واضح لعدم وضوح الدليل عليه.

نعم ربّما يدخل في الوهم التمسّك له بالفحوى بتقريب أنّه إذا جاز لهما ترادّ العينين بتمامهما يجوز لهما ترادّ البعض من كلّ منهما بطريق أولى ، ولكن يزيّفه منع الأولويّة ، وسند المنع لزوم تبعّض الصفقة الموجب للضرر ، وعليه فيشكل التعلّق بالاستصحاب لإثبات بقاء جواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي منهما. فالوجه والمختار حينئذٍ أوّل الوجوه المتقدّمة.

المسألة الثانية : فيما لو تلفت إحدى العينين بتمامها والمصرّح به في كلام جماعة من أساطين الطائفة من غير خلاف يظهر على القول بالملك لزوم المعاطاة من الجانبين وعلّله المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم في مفتتح الباب «بأنّ الترادّ يجوز ما دام ممكناً ومع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم» (١).

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

٥٥٣

والأولى أن يقرّر الدليل بأنّ رجوع صاحب العين التالفة بعينها غير ممكن فيسقط الجواز في حقّه ويلزم منه سقوطه في حقّ صاحب العين الموجودة أيضاً ، لأنّه لو جاز له الرجوع بعينها الموجودة ، فإمّا أن يرجع بدون ضمانه المثل أو القيمة لصاحب العين التالفة ، أو يرجع مع ضمانه إيّاهما له ، ولا سبيل إلى شي‌ء منهما.

أمّا الأوّل فللزوم الجمع بين العوض والمعوّض ، وهو باطل بالإجماع.

وأمّا الثاني فلأصالة عدم الضمان وأصالة البراءة وأصالة عدم استحقاق صاحب العين التالفة لمثل عينه التالفة وقيمتها.

وتوهّم : تعلّق الضمان من عموم «من أتلف مال الغير» أو من عموم «على اليد» فاسد ، لأنّه إنّما أتلف مال نفسه لا مال الغير فلا يعقل كونه موجباً للضمان ، ويده يد مالكيّة فلا يعقل كونها موجبة للضمان.

وقد يستدلّ أيضاً بأنّ قضيّة المعاوضة ارتباط كلّ من العوضين بالآخر وقضيّة هذا الارتباط مشاركتهما في الأحكام ، وحينئذٍ فلو جاز لصاحب العين الموجودة الرجوع بعينها جاز لصاحب العين التالفة أيضاً الرجوع بعينها ولو لم يجز الرجوع للثاني لم يجز للأوّل أيضاً ، فيتعارضان والترجيح للثاني لأنّ مرجع التعارض المذكور إلى تعارض المقتضي والمانع ، ومن المحقّق تقدّم المانع وذلك لأنّ وجود العين الموجودة يقتضي جواز الرجوع للجانبين وتلف العين التالفة يقتضي عدم جواز الرجوع من الجانبين فيكون الأوّل مقتضياً والثاني مانعاً ، ويقدّم المانع على المقتضي لأنّ تأثير المقتضي يتوقّف على فقد المانع وتأثير المانع لا يتوقّف على فقد المقتضي بل من خواصّ أنّه يجامع المانع فلا يقتضي ، وهذا هو معنى تقديم المانع على المقتضي.

ويشكل بأنّ كون وجود العين الموجودة مقتضياً للجواز من الجانبين وتلف العين التالفة مانعاً من الجواز من الجانبين ليس لذاتهما بل باعتبار الملازمة بين العوضين في الحكم ، وهو أن يقال : بأنّ جواز الرجوع بالعين الموجودة يلازم جواز الرجوع بالعين التالفة وعدم جواز الرجوع بالعين التالفة يلازم عدم جواز الرجوع بالعين الموجودة. ونحن نطالب المستدلّ بدليل هذه الملازمة ولم نقف على دليل لها ، إلّا أن يكون إجماعاً ، وليس ببعيد. هذا كلّه على القول بالملك.

٥٥٤

وأمّا على القول بالإباحة فنقل شيخنا (١) قدس‌سره عن بعض مشايخه (٢) وفاقاً لبعض معاصريه (٣) تبعاً للمسالك (٤) أنّه قد استوجه عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه.

وردّه بأنّها معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته. والأولى أن يقال :بأنّ رجوع مالك العين الموجودة بعينه عملاً بأصالة بقاء سلطنته إمّا أن يكون بدون ضمانه للمثل أو القيمة لصاحب العين التالفة ، أو يكون مع ضمانه ، والأوّل باطل لئلّا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، والثاني أيضاً باطل للُاصول المتقدّمة. ولكن يرد على هذه الاصول أنّ أصالة بقاء سلطنة المالك على ماله الموجود واردة عليها لسببيّة شكّها كما يظهر بالتأمّل. بل قد يقال : بأنّ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي وهو المثل أو القيمة. وفيه نظر لما يظهر وجهه بما بيّناه في المسألة السابقة ، والعمدة ما تقدّم من ورود أصالة بقاء السلطنة ، فما استوجه وجيه.

وفي حكم تلف إحدى العينين سقوط أحد العوضين عن ذمّة أحد المتعاطيين فيما لو كان في ذمّته ، ويندرج فيه صورتان :

إحداهما : ما لو وقعت المعاطاة على عين شخصيّة مع كلّي في الذمّة ثمناً أو مثمناً ، كما لو باع رطلاً من الحنطة الموجودة برطل من تمر في الذمّة ثمّ دفع المشتري شخصاً مطابقاً له إلى البائع وفاءً عنه مع التراضي فإنّه يوجب سقوط الكلّي الّذي هو أحد العوضين عن ذمّته فإنّه في حكم التلف ، وعلى القول بالملك يوجب اللزوم فليس له الرجوع بالشخص المدفوع إلى البائع وفاءً ولا للبائع ردّه ، والرجوع بعينه المدفوعة إلى المشتري لعدم الدليل على الجواز بهذا المعنى ، فإنّ الجواز اللاحق بالمعاطاة إنّما ثبت بدليله لمورد المعاطاة وهو نفس العوضين ، والمفروض كون أحدهما كلّيّاً في الذمّة وقد سقط ، والشخص الموجود إنّما حصل في يد البائع مثلاً وفاءً عمّا في الذمّة وهو معاملة

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٩٧.

(٢) هو السيّد المجاهد في المناهل : ٢٦٩.

(٣) هو الفاضل النراقي في المستند ١٤ : ٢٥٠.

(٤) المسالك ٤ : ١٤٩.

٥٥٥

اخرى خارجة عن المعاطاة يقال «المعاملة الوفائيّة». وبالجملة الّذي ملكه البائع بالمعاطاة إنّما هو الكلّي في ذمّة المشتري وقد سقط بدفع شخصه المطابق ، وهذا الشخص الموجود قد ملكه بالمعاملة الوفائيّة لا بالمعاطاة.

ودعوى أنّ المعاملة الوفائيّة الواقعة عقيب المعاطاة يتبعها في الجواز واللزوم ، وإذا فرض كونها قبل دفع الشخص وفاء عمّا في الذمّة جائزة كانت المعاملة الوفائيّة الواقعة بعدها أيضاً جائزة. يدفعها : أنّ التبعيّة تحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، والأصل عدم سلطنة المشتري على استرجاعه فقد لزمت المعاطاة من طرفه ويلزم منه لزومها من طرف البائع أيضاً.

وفيه تأمّل ، لأنّ غاية ما هنالك انتفاء الجواز في جانب المشتري بالنسبة إلى الشخص المدفوع وفاءً ، وهذا لا ينافي بقاء الجواز في جانب البائع بالنسبة إلى عينه الموجودة ولو بحكم الأصل ، فيلزم كون المعاطاة كالهبة جائزة من جانبه لازمة من جانب المشتري. هذا كلّه على القول بالملك.

وأمّا على القول بالإباحة ففي اللزوم والجواز بعد سقوط الكلّي عن الذمّة بدفع الشخص المطابق وفاءً وجهان : من سقوط مورد المعاطاة عن الذمّة والقدر المتيقّن من الجواز الثابت بدليله هو ما دام العوضان بأنفسهما باقيين ، ومن أنّ الإباحة بالقياس إلى الكلّي في الذمّة لا تظهر أثرها إلّا في شخصه المدفوع وفاءً لعدم إمكان جميع أنواع التصرّفات فيما في الذمّة فكان المتعاطيان تبانيا وتواطئا على إباحة الشخص في مقابلة الشخص ، ومرجعه إلى أنّ المعاطاة كأنّها وقعت على الشخصين ، وهذا أجود في ظاهر النظر. ولك إجراء الكلام بحذافيره فيما لو كان المثمن كلّيّاً في الذمّة وما لو كان المثمن والثمن كلّيّين فحصل دفع الشخص وفاءً من الجانبين ، إلّا أنّه ينبغي القطع باللزوم من الجانبين في الأخير على القول بالملك لا على القول بالإباحة لجريان المتقدّم فيه أيضاً من عدم ظهور أثر الإباحة إلّا في الشخصين ، لامتناع أنواع التصرّفات في الكلّيين.

وثانيتهما : ما لو كان أحد العوضين دَيناً في ذمّة أحد المتعاطيين سابقاً على المعاطاة فتعاطيا على الدين عوضاً وعين شخصية معوّضاً ، فقال بعض مشايخنا : «إنّه على القول بالملك يملكه من في ذمّته فيسقط عنه ، والظاهر أنّه في حكم التلف لأنّ الساقط

٥٥٦

لا يعود ، ويحتمل العود وهو ضعيف. والظاهر أنّ الحكم كذلك على القول بالإباحة» (١).

أقول : أمّا أنّه يملك الدين في ذمّته فالمراد منه أنّه يملكه آناً ما ، ووجهه أنّه من مقتضى المعاوضة. وأمّا سقوطه لأنّ الإنسان لا يملك شيئاً في ذمّته لنفسه. وأمّا ضعف احتمال العود فلأنّ السقوط بمنزلة الانعدام وعود المعدوم محال ، أو لأنّ الأصل عدم العود وإن فرضنا إمكانه بالذات. وأمّا كون الحكم على القول بالإباحة كذلك فمنظور فيه ، لأصالة بقاء سلطنة المالك وهو المديون على ماله الموجود في يد الدائن ، وأصالة بقاء ملكه فيه ، فإذا رجع ضمن للدائن بمثل دَينه الساقط بالمعاطاة لئلّا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، لا بنفسه حتّى يلزم إعادة المعدوم المستحيل. نعم لو قيل بحدوث الملك للدائن في المال بسقوط دَينه عن ذمّة المديون اتّجه اللزوم وعدم جواز الرجوع للمديون بالمال ، إلّا أنّه ممّا لا دليل عليه ، والأصل يقتضي عدمه ، ويعضده أصالة بقاء السلطنة للمديون وبقاء ملكه فليتدبّر.

ولو تلف بعض إحدى العينين ففي اللزوم من الجانبين مطلقاً ، أو الجواز مطلقاً فيرجع أحدهما بتمام العين الاخرى والآخر بعين الباقي وبدل التالف مثلاً أو قيمة ، أو اللزوم بالنسبة إلى البعض التالف ومقابله من العين الاخرى ، والجواز بالنسبة إلى البعض الباقي ومقابله من العين الاخرى؟ وجوه : جزم بأوّلها المحقّق الثاني ، واحتمل الأخيرين ثاني الشهيدين في المسالك.

أمّا الأوّل فإنّه بعد ما حكم باللزوم مع تلف إحدى العينين قال : «ويكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع الترادّ في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة وللضرر ، لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الاخرى» (٢).

وأورد عليه في المسالك في كلّ من وجهيه بقوله : «وفيه نظر فإنّ تبعّض الصفقة لا يوجب بطلان أصل المعاوضة ، بل غايته جواز فسخ الآخر فرجع إلى المثل أو القيمة كما في نظائره ، وأمّا الضرر الحاصل من التبعيض المنافي لمقصودهما من جعل إحداهما في مقابلة الاخرى فمستند إلى تقصيرهما في التحفّظ بإيجاب البيع كما

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨. «٢»

٥٥٧

لو تبايعا بيعاً فاسداً ، ويحتمل حينئذٍ أن يلزم من العين الاخرى في مقابلة التالف ويبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه» (١) انتهى.

أقول : في كلّ من الإيرادين نظر :

أمّا الأوّل : فلأنّ ما ذكره في تبعّض الصفقة غفلة عن حقيقة مراد المحقّق ، فإنّ تبعّض الصفقة في كلام الأصحاب يطلق على معنيين :

أحدهما : تبعّضها بالقياس إلى تأثير العقد بأن يؤثّر في بعض المورد دون البعض الآخر ، كما في بيع الملك والغصب منضمّين ، وبيع ما يملك وما لا يملك كشاة وكلب ، وبيع ما يقدر على تسليمه وما لا يقدر عليه كما لو باع متاعه مع الطير في الهواء وما أشبه ذلك ، فإنّ العقد يؤثّر في المملوك وفيما يملك وفيما يقدر على تسليمه لا في الضميمة ، وهذا هو الّذي لا يوجب بطلان العقد عندهم بل غايته ثبوت الخيار للمشتري.

وثانيهما : تبعّضها بالقياس إلى الأثر الحاصل من العقد بعد حصوله في تمام المورد بإبطاله في بعضه وإبقائه في البعض ، كما لو أراد من له خيار الحيوان أو خيار الغبن أو خيار العيب فسخ العقد في بعض المبيع دون البعض الآخر ، وهذا هو الّذي صرّحوا بعدم جوازه من جهة الإجماع ، بل لا بدّ إمّا من أن يفسخه في الكلّ أو يلتزم به في الكلّ ، والّذي يلزم فيما نحن فيه حسبما تمسّك به المحقّق هو من هذا القبيل ، لأنّ صاحب العين الاخرى يرجع ببعضها المقابل للباقي دون البعض المقابل منها التالف ، وهذا إبطال لأثر العقد في البعض وإبقاء له في البعض الآخر ، وهذا غير جائز ، بل لا بدّ من إبطاله في الكلّ أو إبقائه في الكلّ.

وأمّا الثاني : فلمنع التقصير في التحفّظ بإيجاب البيع ، بعد ما كان أصل البيع الغير العقدي وهو المعاطاة مشروعاً مرخّصاً فيه من الشارع تسهيلاً لأمر المعاملة على الناس برفع كلفة رعاية الصيغة ومشقّة إحراز شروطها عنهم ، فلو جاز له الرجوع ببعض العين الاخرى دون بعض كان الضرر اللازم من التبعيض مستنداً إلى جعل الشارع وهو منفيّ في شرع الإسلام. فتمسّك المحقّق بكلّ من تبعّض الصفقة والضرر في محلّه ، إلّا

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

٥٥٨

أنّه يرد عليه أنّ غاية ما يلزم من بطلان تبعّض الصفقة ونفي الضرر إنّما هو انتفاء الوجه الأخير من الوجوه الثلاث المتقدّمة لا تعيّن الوجه الأوّل ، لقيام احتمال الوجه الثاني كما أشار إليه الشهيد رحمه‌الله بقوله «بل غايته جواز فسخ الآخر فيرجع إلى المثل أو القيمة» اللهمّ إلّا أن يعتذر بأنّ هذا الاحتمال منفيّ بأصالة عدم استحقاق المثل أو القيمة. وعلى هذا فأوجه الوجوه هو الوجه الأوّل وفاقاً للمحقّق المتقدّم ، هذا كلّه على القول بالملك. وأمّا على القول بالإباحة فيجري هنا كلّما تقدّم في ذيل المسألة الاولى في حكم تلف بعض من كلّ من العينين على القول المذكور ، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

المسألة الثالثة : في نقل ملك كلّ من العينين إلى غير من هي بيده نقلاً لازماً ، كالبيع العقدي أو الصلح أو الهبة المعوّضة كذلك ، أو جعله مهراً في عقد النكاح ونحو ذلك فالمصرّح به في كلام جماعة منهم الشهيد في المسالك كونه كالتلف في إفادة اللزوم وقد ينفى عنه الخلاف ، وعلّلوه بامتناع الترادّ ، ووجه الامتناع أنّ الملك الحاصل للغير مانع شرعي عن استرجاعه فالامتناع شرعي ، وهو الفارق بينه وبين التلف لكون الامتناع فيه عقليّاً ، ولا فرق فيه بين القول بالملك في المعاطاة والقول بالإباحة لكون المانع المذكور مشترك اللزوم بين القولين ، إذ لا كلام عند القائلين بالإباحة في كون التصرّف الناقل مفيداً للملك في العين لمن انتقلت إليه سواء قيل باشتراط تأثيره بسبق الملك للمتصرّف وأنّه يحصل آناً ما حين التصرّف ، أو قيل بعدم اشتراطه به بل يكفي فيه مجرّد إباحة التصرّفات الناقلة.

لا يقال : الامتناع يسلّم في ترادّ العينين لا في ترادّ البدلين ، لأنّا نقول : إنّ البدل إمّا جعلي وهو المأخوذ عوضاً عن العين المنتقلة إلى الغير الموجود في يدي المتعاطيين ، أو واقعي وهو المثل أو القيمة ، وأيّاً ما كان فجواز الترادّ في البدلين ممّا لا معنى له.

أمّا بالنسبة إلى البدل الجعلي فتارةً لفقد المقتضي للجواز ، واخرى لوجود المانع منه. أمّا الأوّل : فلأنّ المقتضي لجواز المعاطاة إنّما اقتضاه في مورديها العوض والمعوّض ، والبدل الجعلي ليس من موردها فلا مقتضى لجواز ترادّ البدلين ، والأصل عدمه. وأمّا الثاني : فلأنّ الناقل المفيد للّزوم كما أفاده في العينين كذلك أفاده في بدليهما ، فالملك اللازم المفروض فيهما مانع من ترادّهما ، وفيه تأمّل.

٥٥٩

وأمّا بالنسبة إلى البدل الواقعي ، فأوّلاً : لأنّ يد المتعاطيين في العينين لم تكن يد ضمان كما تقدّم بيانه في تضاعيف المسألتين السابقتين ، من غير فرق بين القولين بالملك والإباحة. وأمّا ثانياً : فللأُصول المتقدّمة من أصالة عدم استحقاق كلّ من المتعاطيين لمثل عينه المنتقلة إلى الغير ولقيمته ، وأصالة عدم ضمان كلّ منهما لمثل ما نقله إلى غيره أو لقيمته ، وأصالة براءة ذمّة كلّ منهما عن وجوب ردّ المثل أو القيمة. ولو عادت العينان إلى المتعاطيين فإن كان العود لناقل آخر ـ من بيع أو صلح أو ارتداد أو ميراث أو نحو ذلك ـ فلا ينبغي التأمّل في عدم عود جواز الترادّ لعدم كون الملك المتجدّد من أثر المعاطاة ، وإن كان لتفاسخ أو تقايل ففي عود جواز الترادّ وعدمه وجهان ، من أصالة عدمه ، ومن ارتفاع المانع.

والتحقيق أنّه على القول بالملك لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يعود ، فإنّ السلطنة على الاسترجاع قد سقطت بالنقل ، وسقوطها عبارة عن انعدامها والمعدوم لا يعود ، فلو كان بعد عود العين سلطنة على استرجاعها أيضاً لكانت سلطنة جديدة ، والأصل عدم تجدّد سلطنة اخرى.

وأمّا على القول بالإباحة ففي عود الجواز وعدمه وجهان ، مبنيّان على النظر في أنّ العين تعود إلى ملك الناقل أو إلى ملك المالك الأوّل. ومن ذلك ربّما يتّجه التفصيل بين القول بتوقّف التصرّف الناقل على سبق الملك للناقل ولو آناً ما حين التصرّف فلا معنى لعود جواز الترادّ لعدم بقاء موضوعه ، والقول بعدم توقّفه على سبق ملك للناقل فيعود العين إلى ملك المالك الأوّل فيتسلّط المالك على استرجاعه لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم».

ولكن قد يقال : بعدم عود الجواز مطلقاً ، لأنّ العين تعود بالفسخ والإقالة إلى الناقل. ولعلّ وجهه أنّ ملك المالك الأوّل قد زال بتخلّل التصرّف الناقل في العين ، والفسخ والإقالة توجب زوال ملك المالك الثاني لا عود ملك الأوّل ، فإنّ الزائل معدوم والمعدوم لا يعود ، فلو كان ملك بعد عود العين كان ملكاً متجدّداً وهو مردّد بين تجدّده للناقل أو تجدّده للمالك الأوّل. وكما يمكن أن يقال : بأنّ الأصل عدم تجدّد الملك للناقل فكذلك الأصل عدم تجدّده للمالك الأوّل ، فالأصلان يتساقطان ، بل لا أصل في الحقيقة يكون

٥٦٠