ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

قوله : «إنّا نعلم يقيناً أنّ للصيغ الخاصّة أثراً خاصّاً ، ولو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر» (١) وهذا الأثر المجمع عليه إمّا أن يكون تأثيرها في صدق الاسم ، أو يكون تأثيرها في الصحّة وإفادة الملك ، أو يكون تأثيرها في اللزوم ، والأوّلان باطلان إذ لا إجماع ولا ضرورة على اعتبارها في صدق الاسم أو الصحّة والملك ، مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة الّتي عمدتها السيرة القطعيّة على كلّ من الصدق والملك بدونها بل بدون اللفظ مطلقاً ، فتعيّن أن يكون التأثير الخاصّ المجمع عليه تأثيرها في اللزوم ، وقضيّة ذلك أن لا لزوم في المعاطاة وإلّا لزم أن لا يكون للصيغ المخصوصة تأثير أصلاً وهذا خلاف الإجماع ، وهذا هو معنى ما في كلام الشيخ المتقدّم من أنّه لو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر.

وتوهّم : أنّ هذا الأثر يمكن أن يكون أحكام العقد على معنى انعقاده محكماً فبدونها لا يكون محكماً لا أنّه لا يكون لازماً ، توهّم سخيف لا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ العقد إذا انعقد لازماً فلا يتعقّل لعدم إحكامه معنى بل لم تتحقّق للإحكام وعدمه معنى سوى اللزوم وعدمه.

وثانيهما : الإجماع المنقول المصرّح به في كلام غير واحد جزماً أو ظنّاً المعتضد بالشهرة المحقّقة والمحكيّة ولو عند المتأخّرين.

أمّا الإجماع فمنه ما عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد من «أنّه يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع» (٢).

ومنه ما عن الشيخ في شرح القواعد «من الإجماع محصّلاً ومنقولاً على عدم كفاية المعاطاة في اللزوم» (٣).

ومنه ما يظهر أو يحتمل دعواه من عبارة المسالك لقوله في تحسين قول المفيد أو قول بعض معاصريه : «ما أحسنه وأمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه» (٤) بناءً على كون مراده من مخالفة هذين القولين للإجماع مخالفته في دعوى اللزوم بدون

__________________

(١) شرح القواعد ٢ : ١٧.

(٢) جامع المقاصد ٥ : ٣٠٩.

(٣) شرح القواعد ٢ : ١٥.

(٤) المسالك ٣ : ١٥٢.

٥٢١

الصيغة المخصوصة كما هو الظاهر لا مخالفتهما في دعوى البيعيّة أو الصحّة.

ومنه ما تقدّم من السيّد في الغنية بعد قوله : «فإنّ ذلك ليس ببيع وإنّما هو إباحة للتصرّف بناءً على أنّه نصّ في الإجماع على نفي اللزوم وإن كان ظاهراً في الإجماع على نفي الملك فيؤخذ بنصّه ويطرح ظاهره جمعاً بينه وبين السيرة الصريحة في إفادته الملك كما قيل.

ومنه ما في كلام بعض مشايخنا من دعوى ظهوره بقوله : «إنّ الظاهر فيما نحن فيه قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة ، قال : بل ادّعاه صريحاً بعض الأساطين ويعضده الشهرة المحقّقة ، وقال بُعيد ذلك أيضاً : والإجماع وإن لم يكن محقّقاً على وجه يوجب القطع إلّا أنّ المظنون قويّاً تحقّقه على عدم اللزوم مع عدم لفظ دالّ على إنشاء التمليك سواء لم يوجد لفظ أصلاً أم وجد ولكن لا لإنشاء التمليك بل ليكون قرينة على قصد التمليك من التقابض» (١).

وأمّا الشهرة فتحقّقها بين المتأخّرين واضح ولا يستراب فيه وحكاها غير واحد كما حكاها شيخنا في عبارته المتقدّمة ، وممّن حكاها المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم عند نقل الأقوال حيث قال : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم» (٢).

ولا تتوهّن الإجماعات المذكورة بمخالفة المفيد إمّا لعدم صراحة عبارته في دعوى اللزوم بدون الصيغة أو لشذوذه ومعلوميّة نسبه فلا يقدح مخالفته في الإجماع خصوصاً على طريقة المتأخّرين في تحصيل الإجماع من ابتنائه على الحدس.

ومن ذلك ظهر عدم قدح مخالفة من تبعه من متأخّري المحدّثين. وكذلك لا يقدح فيه ما في كلام العلّامة في التحرير من قوله : «الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة» (٣) مشعراً بوجود القول باللزوم وإن كان خلاف الأقوى إمّا لاحتمال كونه إشارة إلى خلاف العامّة أو إلى عبارة المفيد الغير الصريحة وقد عرفت حالها.

نعم قد يناقش في الإجماع بأنّ قول الأكثر من المجمعين وهم القائلون بالإباحة

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٥٦ ـ ٥٩.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٣) التحرير ١ : ١٦٤.

٥٢٢

بعدم اللزوم مبنيّ على نفي الملك بل نفي البيعيّة أيضاً فالسالبة في كلامهم بانتفاء الموضوع ، وهذا قادح في الإجماع لأنّه بسبب دخول قول الأكثر لا يكشف عن رأي المعصوم وأنّ معتقده في المعاطاة على تقدير الملك هو عدم اللزوم وكلامنا في هذا التقدير لا غير.

هذه المناقشة إن تمّت لوردت على التقرير الأوّل أيضاً ، ولكنّها واضح الدفع بأنّ الإجماعات المعتضدة بالشهرة المحقّقة والمحكيّة تكشف كشفاً ظنّيّاً عن أنّ المعاطاة الّتي بأيدي الناس وحالها غير خفيّة على المعصومين عليهم‌السلام غير لازمة عند المعصوم ، وأنّ هذا رأي المعصوم ومعتقده ، ومعنى عدم اللزوم أنّه يجوز لكلّ من المتعاطيين الرجوع فيما دفعه إلى صاحبه ، وهذا الجواز مستند إلى سلطنة كلّ منهما على صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه قهراً ، غير أنّ الشبهة الّتي منها نشأ الاختلاف في الملك وعدمه إنّما هي في أنّ هذه السلطنة المقتضية للجواز هل هي من مقتضى بقاء الملك السابق في المال لصاحبه الأصلي أو أنّها مجعولة من الشارع جعلها لكلّ منهما من حيث عدم إتيانهما بالصيغة المخصوصة عند المعاملة؟

وقول الأكثر بعدم اللزوم بناءً منهم على نفي الملك إنّما يقدح في استكشاف رأي المعصوم من الإجماع أن لو أردنا إثبات الجواز المستند إلى السلطنة المجعولة من الشارع هنا بالخصوص بالإجماع على معنى الاستناد في إثبات الجواز المقيّد بوصف كونه مقيّداً إلى الإجماع بأن يكون المستند في إثبات كلّ من المقيّد وقيده هو الإجماع ، وحينئذٍ يرد عليه أنّ الإجماع لدخول الأكثر في جملة المجمعين لا يكشف عن ذلك على معنى كون معتقد المعصوم استناد الجواز إلى خصوص السلطنة المجعولة وهذا ليس بمراد ، بل المراد إثبات الجواز المستند إلى سلطنته لهما لا بقيد كونها من مقتضى بقاء الملك ولا بقيد كونها مجعولة لهما هنا بالخصوص ، فأنّا في هذا المقام لسنا بصدد إثبات المقيّد بوصف كونه مقيّداً ولا إثبات قيده ، بل بصدد إثبات ذات المقيّد وهو أصل الجواز. ولا ريب أنّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة توجب الظنّ بأصل الجواز وتكشف عن كون معتقد المعصوم هو ذلك لا غير.

ثمّ إذا تكلّمنا في كونه من مقتضى أيّ السلطنتين نتمسّك لإثبات كونه من مقتضى

٥٢٣

السلطنة المجعولة بالأدلّة المتقدّمة المقامة على أنّ المعاطاة بيع مفيد للملك ، على أنّا نقول : إنّا قد فرغنا عن إثبات كونها بيعاً مفيداً للملك بالأدلّة المتقدّمة الّتي منها السيرة القطعيّة الكاشفة عن رأي المعصوم في ذلك ، وبذلك ينتفي احتمال وجود السلطنة من مقتضى بقاء الملك السابق المقتضية للجواز ، غاية الأمر أنّه يبقى الشكّ في أنّه هل جعل الشارع لكلّ منهما سلطنة على صاحبه باسترجاع ما نقله إليه وملكه له أو لا؟ ومنشأ هذا الشكّ هو الشكّ في اللزوم والجواز.

ولا ريب أنّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة محقّقة ومحكيّة توجب الظنّ بأصل الجواز وهو الظنّ باستناد إلى السلطنة المجعولة ، ومرجعه إلى الظنّ بأنّ الشارع جعل لهما سلطنة مقتضية لجواز الرجوع ، فنثبت مجموع المقيّد وقيده بمجموع الأدلّة المتقدّمة والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة ، فأصل الجواز نثبته بالإجماعات وقيده بالأدلّة المتقدّمة القاضية بانتفاء القيد ، فعلى هذا تنهض الإجماعات المعتضدة بالشهرة من حيث إفادتها الظنّ الاطمئناني مخرجة عن الأصل العملي ومخصّصة للأصل الاجتهادي المقتضيين للّزوم.

وبما بيّنّاه يندفع نحو المناقشة المذكورة لو اورد على التقرير الأوّل من الإجماع أيضاً. فالإجماع بكلا تقريريه ينهض دليلاً على نفي اللزوم في المعاطاة بجميع صورها المتقدّم إليها الإشارة ، وهي إحدى وعشرين من خمس وعشرين صورة ، وقضيّة ذلك عدم كفاية مطلق اللفظ الغير الجامع للشرائط المعتبرة في الصيغة فيما لو كان الدالّ على التراضي هو اللفظ في اللزوم ، فإنّ الإجماع بكلا تقريريه يدلّ على عدم كفاية ذلك أيضاً في اللزوم وإن كان الإجماع بالتقرير الأوّل أصرح في الدلالة على ذلك منه بالتقرير الثاني. خلافاً لبعض معاصري (١) الشهيد الثاني القائل بكفاية مطلق اللفظ في اللزوم ، ودليله على ما قيل ما دلّ على اعتبار اللفظ في اللزوم ، والظاهر أنّ المقصود بذلك ما تقدّم من قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» ويفسده بعد الإغماض عمّا بيّنّاه في منع دلالة ذلك على ما نحن فيه أنّه إن تمّ دليلاً لأفاد اعتبار اللفظ الخاصّ

__________________

(١) هو السيّد حسن بن السيّد جعفر على ما في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٠٥.

٥٢٤

في اللزوم وهو الّذي يعبّر عنه بالصيغة المخصوصة الّتي يعتبر فيها امور فلا جهة للتعدّي عنها بالاكتفاء باللفظ على إطلاقه ، فالتفكيك بين القسمين من الدالّ على التراضي أعني اللفظ والفعل المحض باللزوم في الأوّل وعدمه في الثاني أو الإباحة فيه من دون ملك تحكّم ، فإنّ مناط القسمين واحد وطريق الحكم فيهما متّحد.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ اللزوم في البيع بالصيغة والجواز في البيع بالمعاطاة ليسا عبارتين عن مجرّد الحكم التكليفي ـ أعني حرمة الرجوع في الأوّل وإباحته في الثاني ـ بل هما حكمان وضعيّان يتولّد منهما الحكم التكليفي ، فاللزوم عبارة عن أنّ لا سلطنة لأحد المتبايعين على الآخر باسترجاع ما ملكه له ويتولّد منه حرمة الرجوع ، والجواز عبارة عن أنّ لكلّ من المتعاطيين سلطنة على الآخر باسترجاع ما دفعه إليه ويتولّد منه إباحة الرجوع. أمّا الأوّل فلأنّه مقتضى أدلّة اللزوم في العقود اللازمة على ما قرّرناه في الرسالة المنفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود. وأمّا الثاني فلأنّه مقتضى دليل الجواز في المعاطاة على ما بيّنّاه هنا.

الثاني : أنّ الجواز في المعاطاة نظير الجواز في الهبة لا الجواز في مواضع الخيار من العقود ، وقد يعبّر عن الأوّل بالجواز الذاتي لثبوته مطلقاً ما دامت العين باقية ، وعن الثاني بالجواز العارضي لعروضه العقد في زمان خاصّ أو لحالة مخصوصة ، ومن حكمه أنّه يقتصر في الالتزام به على مورد الدليل المثبت له ، وفيما يقتصر على مورد الدليل أيضاً يقتصر على القدر المتيقّن من زمان ثبوته وهو زمان الفور. ولو شككنا في أنّ تلف إحدى العينين هل يكون مجوّزاً للفسخ نقول بالعدم لعدم الدليل ، بخلاف الجواز الذاتي فإنّه لا يقتصر فيه على زمان خاصّ ولا حالة مخصوصة ، ولو عرضت حالة مخصوصة شكّ في كونها ملزمة يبنى على العدم إلّا إذا ساعد عليه دليل.

لنا على ما بيّنّاه ظهور كلماتهم ظهوراً يمكن معه دعوى إجماعهم عليه ، فإنّها صراحة وظهوراً مطبقة على كون الجواز في المعاطاة مراعى ببقاء العين.

الثالث : أنّ الجواز هنا بالمعنى الّذي فسّرناه ـ أعني السلطنة على الرجوع ـ هل هو من لواحق الملك أعني السلطنة على رفع ملك العين المدفوعة كما في الهبة ، أو من

٥٢٥

عوارض سببه أعني السلطنة على رفع العقد على حدّ الإقالة والفسخ في مواردهما من العقود اللازمة؟ ويظهر الثمرة في أنّ جواز الرجوع على الأوّل منوط ببقاء العين فمع بقائها يعود إليه ملك العين بالرجوع ومع تلفها لا تأثير للرجوع في عود المثل والقيمة ، وعلى الثاني يؤثّر الرجوع بمعنى رفع العقد مع بقاء العين ومع عدمه ، فعلى الأوّل يعود إليه ملك العين وعلى الثاني يعود إليه المثل أو القيمة. وكذلك على الأوّل لا يعتبر في تأثير الرجوع صيغة كقول «فسخت أو أقلت» بل يكفي مجرّد الترادّ بخلاف الثاني ، والأظهر من كلماتهم هو الأوّل ولذا لا يعبّرون هنا بخيار الفسخ ولا يعتبرون صيغة ولا لفظاً.

وأمّا الدليل على ذلك فيمكن تقريره بوجوه :

منها : أنّ الحكم المخالف للأصل الثابت بالإجماع يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من معقد دليله ، وليس إلّا جواز الرجوع ما دامت العين باقية.

ومنها : أنّ الإجماع المثبت لهذا الحكم منعقد على الحكم المغيّى مع غايته فالمجمع عليه هو جواز الرجوع المغيّى بغاية بقاء العين ، وقضيّة ذلك سقوطه بعد التلف.

ومنها : ما سيأتي عند البحث في ملزمات المعاطاة من دليل كون التلف ملزماً من الإجماع عليه محصّلاً ومنقولاً.

الرابع : قد أشرنا سابقاً إلى أنّ اللفظ الغير الجامع للُامور المعتبرة في الصيغة غير كافٍ في لزوم المعاطاة ، وهل قصد اللزوم حين التقابض يوجبه أو لا؟ وعلى الثاني فهل شرط اللزوم أو شرط عدم الرجوع من الجانبين هل يوجبه أو لا؟ الوجه في الجميع هو عدم اللزوم ، لقضاء الإجماع بالتقرير الأوّل والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة بكون اللزوم من آثار الصيغة المخصوصة فلا يكفي غيرها لفظاً كان أو قصداً أو شرطاً في ضمن المعاطاة.

وقد يعلّل عدم كفاية الشرط بأنّ غاية ما يوجبه الشرط إنّما هو حكم تكليفي لا الحكم الوضعي وهو اللزوم ، فيحرم عليه الرجوع وإذا رجع أثم ، ولكن رجوعه يؤثّر في عود الملك إليه.

والأولى أن يعلّل بلزوم الدور فإنّ الشرط إنّما يلزم إذا اخذ في ضمن العقود اللازمة فلزوم الشرط المأخوذ في ضمن عقد المعاطاة موقوف على لزوم العقد ،

٥٢٦

ولو توقّف لزوم العقد على لزومه لزم الدور.

وتوهّم أنّ لزوم العقد لا يتوقّف على لزوم الشرط بل على وجوده ووجوده لا يتوقّف على لزومه فلا دور ، يدفعه أنّ وجود الشرط بمجرّده لو لا لزوم العمل به لا يثمر في لزوم العقد ، فلزوم العقد يتوقّف على لزوم الشرط لا محالة فلا محيص من الدور.

الخامس : جواز الرجوع في المعاطاة هل هو كالخيار في العقود اللازمة فيسقط بالإسقاط بعد العقد وبالصلح عليه وبالشرط في ضمن العقد اللازم أو هو كجواز الرجوع في الهبة فلا يسقط بشي‌ء من ذلك؟ وبالجملة فهل يسقط بإسقاطه بعدها كأن يقول أسقطت جواز الرجوع من الجانبين أو لا؟ وهل يسقط بالصلح عليه أو لا؟ وهل يسقط بالشرط في ضمن عقد خارج لازم أو لا؟

والوجه في الجميع هو العدم كما يظهر من كلماتهم خصوصاً كلماتهم في بيان ملزمات المعاطاة ، فإنّهم قصّروها على امور غير هذه الامور بل غير واحد صرّحوا بعدم سقوطه بالامور المذكورة ، فلا إشكال في أنّ بناءهم على عدم السقوط كما أنّ بناءهم أيضاً بمقتضى ظهور كلامهم بل صريح بعضهم أنّه لا يورّث بالموت كما يورّث الخيار في مواضع ثبوته.

والعمدة إنّما هو بيان دليل هذا الحكم ، فقد يعلّل بأنّ السقوط بالإسقاط أو بالصلح أو بالشرط في ضمن العقد اللازم من خصائص الحقوق ، وجواز الرجوع ليس منها بل هو حكم شرعي فلا يسقط بإسقاط ولا صلح ولا شرط.

وفيه : أنّه إنّما يستقيم على تقدير كون جواز الرجوع عبارة عن الحكم التكليفي الصرف ، وأمّا على ما فسّرناه من كونه عبارة عن سلطنة كلّ من المتعاطيين على الآخر باسترجاع ما دفعه إليه فلا ، لأنّ السلطنة المذكورة أيضاً من الحقوق بل الحقّ في جميع موارده عبارة عن سلطنة مخصوصة لإنسان على غيره.

فيشكل الحال حينئذٍ من ملاحظة ما ذكروه في الحقوق من أنّها تسقط بالإسقاط والصلح والشرط وأنّها تورّث بالموت ، ومن ملاحظة ظهور عباراتهم هنا ولا سيّما عند بيان الملزمات.

ويمكن الذبّ بأحد وجوه :

٥٢٧

الأوّل : أنّه كما أنّ الجواز في العقود اللازمة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا حيث ساعد عليه دليل ، فكذلك اللزوم في العقود الجائزة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا حيث ساعد عليه دليل ، والسقوط بالامور المذكورة الّذي مرجعه إلى اللزوم ممّا لا دليل عليه. ويضعّفه أنّ الدليل أعمّ من الخاصّ والعامّ وقاعدة أنّ الحقوق يسقط بالإسقاط وتقبل الصلح وتسقط بالشرط في ضمن العقد اللازم دليل عامّ.

الثاني : أنّ الحقوق على حسب اختلاف مفاد الأدلّة المثبتة لها على قسمين : أحدهما : حقّ يثبت بدليله على طريقة القضيّة المطلقة الغير المقيّدة بالدوام ، وثانيهما : حقّ يثبت بدليله على طريقة المشروطة العامّة ، وجواز الرجوع في المعاطاة من هذا القبيل لأنّ الدليل المثبت له إنّما أثبته ما دامت العين باقية ، فثبوته وسقوطه يدور على بقاء الوصف العنواني وزواله ، والمراد بالوصف العنواني هنا بقاء العين.

الثالث : منع كون كلّ سلطنة حقّاً فإنّ الحقّ وإن كان نوعاً من السلطنة ـ كحقّ الخيار وحقّ الشفعة وحقّ الرجوع في الطلاق ـ وليس كلّ سلطنة حقّاً كسلطنة الملّاك على أموالهم وأملاكهم ، وهذا من قبيل الحكم بناءً على أنّه أعمّ من التكليفي والوضعي ولذا لا يسقط السلطنة المذكورة بإسقاط ولا صلح ولا شرط في ضمن عقد ، كما أنّ ولاية أولياء الصغير لا تسقط بشي‌ء من ذلك ، وجواز الرجوع في المعاطاة وفي الهبة أيضاً من قبيل هذه السلطنة فهو سلطنة ليس بحقّ ليسقط بالامور المذكورة. والمائز أنّ كلّ سلطنة تكون من توابع المال فهي ليست من قبيل الحقّ ، وكلّ سلطنة تكون من خصائص الشخص فهو حقّ ، وهذا أوجه. وبالتأمّل في ذلك يظهر أنّه لا ينتقل بالموت إلى الورثة فإنّ الانتقال بالإرث من خصائص ملك الأعيان أو المنافع أو الحقوق ، وجواز الرجوع ليس ملكاً ولا حقّاً بل حكم أثبته الدليل على خلاف الأصل في العقود للمالك الأصلي ، وانتقاله إلى غيره يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه فالأصل عدمه. وتوهّم : بقاء الجواز بحكم الاستصحاب ، يبطله أنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا معنى له.

لا يقال : إنّ الموضوع على ما ذكرت سابقاً من أنّ جواز الرجوع من لواحق الملك لا من عوارض العقد باقٍ ، لأنّ الكلام على تقدير بقاء المالين إلى ما بعد الموت لأنّ

٥٢٨

الجواز بمعنى السلطنة نسبة شرعيّة بين ثلاث المتسلّط والمتسلّط عليه والمتسلّط فيه وهو المال ، لأنّه على ما عرفت عبارة عن سلطنة المالك الأصلي على صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه ، فله إضافة إلى كلّ من المالك الأصلي والمالك الثانوي والمال فيكون متقوّماً بالجميع فلكلّ موضوعيّة ، والمفروض انتفاء الأوّل بالموت فيكون استصحاب الجواز بالقياس إليه من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع المستصحب ، ولو سلّم عدم كونه منه نقول : بأنّ أصالة عدم الانتقال وارد عليه لسببيّة شكّه. ولو جنّ أحدهما فالظاهر وفاقاً لبعض مشايخنا (١) قيام وليّه في الرجوع مقامه لعموم أدلّة الولاية. ولا يرد هنا أصالة عدم الانتقال ، لعدم كون بناء تصرّفات الوليّ على انتقال الحكم عن المولّى عليه إليه ، بل على مباشرة الوليّ عن المولّى عليه في التصرّفات الراجعة إليه الملغاة في نظر الشارع كالنيابة في مواردها ، فلا ينتقل الحكم من المولّى عليه إلى الوليّ.

السادس : قد عرفت سابقاً أنّ للمعاطاة إحدى وعشرين صورة ، وظاهر عبارة الشيخ في شرح القواعد (٢) كون هذه الصور بأسرها من محلّ النزاع ولزم منه أن يجري فيها الأقوال المتقدّمة. وإطلاق ذلك عندنا غير سديد كما يظهر وجهه ببيان ما يعتبر في انعقادها بيعاً صحيحاً مفيداً للملك وما لا يعتبر. فهاهنا مسائل :

الاولى : أنّه يعتبر فيها قصد إنشاء التمليك والتملّك إذ بدونه لا تصير بيعاً ولو صدق الاسم عرفاً لا تقع صحيحة تترتّب عليها أثر الملك ، وهو أن يقصد الموجب بإيجابه الفعلي ـ وهو التقابض والتعاطي ـ أو القولي وهو اللفظ الغير الجامع لشرائط الصيغة المخصوصة أو هما معاً إنشاء تمليك عينه لصاحبه بعوض الثمن الّذي وقع عليه التراضي ، ويقصد صاحبه الّذي هو القابل بقبوله الفعلي أو القولي أو هما معاً إنشاء تملّك العين بعوض الثمن المذكور أو إنشاء تمليك ثمنه المذكور للموجب عوضاً عن عينه الّتي ملّكها له أو إنشاء تملّك العين وتمليك الثمن ، نظراً إلى أنّ ظاهر إطلاق أهل القول بكون المعاطاة بيعاً صحيحاً كفاية وقوع القبول بأحد هذه الوجوه ، ويساعد عليه

__________________

(١) المكاسب ٣ : ١٠٢.

(٢) شرح القواعد ٢ : ١٥.

٥٢٩

عموم قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وإطلاق قوله تعالى : «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ورجع اعتبار هذا الشرط في المعاطاة إلى أنّ من الشرائط المعتبرة في الصيغة المخصوصة ما هو معتبر فيها وهو قصد إنشاء التمليك والتملّك. فما قد يوجد في بعض عبائرهم في بيان ضابط المعاطاة الجامع لصورها الممتاز به عن البيع بالصيغة المخصوصة أنّ كلّما لم يشتمل على الصيغة المخصوصة سواء لم يشتمل على صيغة لفظيّة أصلاً أو اشتمل على صيغة مع اختلال شرائط الصيغة المخصوصة كلّها أو بعضها فهو معاطاة بالنسبة إلى اختلال جميع الشرائط ، ليس على إطلاقه.

وباشتراط الشرط المذكور في المعاطاة البيعيّة خرج صور منها ، وهي ما لو قصد المتعاطيان بالفعل أو القول أو هما معاً إنشاء إباحة التصرّفات أي الإذن فيها ، وما لو لم يقصدا شيئاً من إنشاء التمليك ولا الإباحة ، وما لو قصدا عدم التمليك وعدم الإباحة كما يتحقّق ذلك في مورد الإكراه ، والجامع بينهما وقوع المعاطاة لا على وجه التراضي.

ولا إشكال في فسادها فيهما خصوصاً ثانيتهما حتّى بالنسبة إلى إفادة الإباحة المقتضية لجواز التصرّف ، فلا يجوز لكلّ منهما التصرّف في المال المدفوع إليه لأصالة حرمة التصرّف في مال الغير من دون إذن مالكه ، ويجب على كلّ ردّ ما أخذه إلى مالكه ، ولو تلف في يده كان في ضمانه مثلاً أو قيمة.

وأمّا الصورة الاولى فلا ينبغي التأمّل في عدم انعقادها بيعاً لانتفاء قصد التمليك والتملّك ولا في فسادها من حيث إفادتها الملك ، وهل تقع صحيحة من حيث إفادة إباحة التصرّفات؟ الوجه نعم ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» كما يفيدها إحضار المالك الطعام للضيف وإعطاؤه طعاماً أو ماءً أو غيرهما من المأكول أو المشروب أو نحوهما لصاحبه أو رفيقه أو غيره ليأكله أو يشربه أو يستعمله للعموم المذكور ، غاية الأمر أنّ هذا ونظائره إباحة مجّانيّة وما نحن فيه إباحة معوّضة أو مشروطة بالعوض ، مع كون مقصودهما التعويض بين المالين إلّا أنّ جواز التصرّف لكلّ منهما مراعى في استمراره وعدم استمراره ببقاء الإذن والرضا في نفس المالكين ، فلو علم أحدهما أو كلاهما زوال الإذن والرضا عن ضمير المالك لم يجز له أو لهما التصرّف بعده ووجب ردّ ما بيده إلى مالكه واسترداد ماله ، ولو علما بقاء الإذن والرضا فلا إشكال. ولو شكّ

٥٣٠

أحدهما أو كلاهما في البقاء والارتفاع ففي التعويل على استصحاب الحالة السابقة إلى أن يحصل اليقين بالارتفاع وجه قويّ ، لا يعارضه أصالة حرمة التصرّف في مال الغير ، لأنّه ليس بغير إذن المالك بحكم الاستصحاب الّذي هو علم شرعي لإحراز إذن المالك. وهذا ليس من مسألة الإذن بشاهد الحال حتّى يعتبر فيه كونها مفيدة للقطع.

ثمّ إنّهما إن قصدا إباحة التصرّفات في الجملة وجب الاقتصار منهما على المتيقّن ممّا دخل منها في الإذن ، ولا يجوز التعدّي إلى غيره حتّى ما لو شكّ شمول الإذن له ، لأصالة عدم الإذن.

وإن قصدا إباحة كلّ تصرّف حتّى يكون إنشاء الإباحة المقصودة على هذا الوجه بمنزلة أن يقول كلّ منهما : «أبحت لك كلّ تصرّف» فلا يخلو إمّا أن يكون في قصدهما تعميم الإذن بالقياس إلى التصرّفات الغير المتوقّفة على الملك أو تعميمه بالقياس إلى مطلق التصرّفات حتّى المتوقّفة منها على الملك.

ففي الصورة الاولى يجب الاقتصار على التصرّفات المأذون فيها ، فلا يجوز التعدّي منها إلى غيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

وأمّا الصورة الثانية ففي الجارية ينبغي القطع بعدم حلّ الوطء وما يلحق به من سائر الاستمتاعات بمجرّد الإباحة المذكورة لانحصار مجوّزه في ملك اليمين والتحليل والنكاح اللذين لكلّ منهما صيغة خاصّة والمفروض عدم حصول شي‌ء منهما بمجرّد إنشاء الإباحة. وتوهّم : أنّها في خصوص هذا التصرّف بمنزلة التمليك أو صيغة التحليل أو صيغة النكاح ، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه.

وإن اريد به التنزيل الشرعي لفقد ما يدلّ عليه في الشرع وإذن المالك بمجرّدها لا تصلح مشرّعة لما يكون مشروعيّته عن سبب خاصّ لم يتحقّق بالفرض.

وفي نحو البيع والشراء والعتق والوقف والصدقة إن قصدا بإنشاء إباحة هذه التصرّفات الإذن فيها ليحصل الآثار المقصودة منها من ملك الثمن أو المثمن والتقرّب إلى الله سبحانه المترتّب على العمل المقرون بنيّة القربة للمبيح ، فالظاهر عدم الإشكال في الصحّة لأنّ الإباحة والإذن في التصرّف على هذا الوجه تكون توكيلاً من المالك في هذه المعاملات والمفروض قبولها النيابة.

٥٣١

وإن قصدا وقوع الآثار للمباح له ففيه إشكال بل الإشكال فيه قويّ ، وإن كان ربّما يتوهّم الجواز استناداً إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّه عامّ في جميع أنحاء التصرّفات ومنها هذا التصرّف أعني إذن المالك للغير في إجراء هذه العقود في ماله ليرجع الآثار المقصودة منها إلى ذلك الغير.

يدفعه : أنّه عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً ووضعاً ، ولذا لا يجوز للمالك جعل عنبه خمراً ولا يصحّ بيع امّ الولد ولا بيع المصحف من الكافر ، ولا بيع العبد المسلم من الكافر ، ولا بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً أو طبلاً لأجل العموم ، وفيما نحن فيه أيضاً يقال : إنّه لا يعقل انتقال ملك أحد العوضين من الثمن أو المبيع إلى غير مالك العوض الآخر ، ولا يعقل أيضاً أن يتقرّب الإنسان بمال الغير.

ومن ذلك يظهر منشأ الإشكال وحاصله الإشكال في أنّ ملك أحد العوضين في البيع بل مطلق عقود المعاوضة هل يتبع ملك العوض الآخر أو لا؟ وأنّ التقرّب في باب العتق والوقف والصدقة هل يتبع ملك العين أو لا؟

والظاهر بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو المنع فيهما :

أمّا في الأوّل : فلأصالة الفساد في المعاملات السليمة عمّا يوجب الخروج عنها ، والإجماع الظاهر بل المقطوع به من الأصحاب في أبواب العقود على أنّ البيع من عقود المعاوضة الّتي بمفهومها تقتضي لزوم عود الثمن إلى مالك المثمن وعود المثمن إلى مالك الثمن ، فالقاعدة مندرجة في مفهوم عقد المعاوضة فتكون من القضايا الّتي قياساتها معها على حدّ قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» مع كونها إجماعيّة. ويعضد ذلك الإجماع مع الأصل المذكور ما في كلام بعض مشايخنا «من أنّه صرّح المشهور بل قيل (١) لم يوجد خلاف في أنّه لو دفع إلى غيره مالاً وقال : اشتر به طعاماً لنفسك ، من غير قصد الإذن في اقتراض المال قبل الشراء أو اقتراض الطعام بعده أو استيفاء دَين له عليه لم يصحّ كما صرّح به في مواضع من القواعد (٢) وعلّله في بعضها بأنّه لا يعقل شراء شي‌ء لنفسه بمال الغير» (٣) وما ذكره أيضاً بقوله : «من المعلوم أنّ بيع الإنسان مال

__________________

(١) الجواهر ٢٣ : ١٧٤.

(٢) القواعد ٢ : ٨٧ و ١٢٧.

(٣) المكاسب ٣ : ٨٥.

٥٣٢

غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل والنقل الدالّ على لزوم دخول العوض في ملك مالك المعوّض» (١).

فما يتوهّم : من إمكان الخدشة في الأصل المذكور من أنّه يجب الخروج عنه بعمومات الصحّة جنساً ونوعاً وصنفاً كآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) وآية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٣) وآية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٤) ورواية «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٥).

واضح الدفع ، بمنع تناول عمومات الصحّة لما نحن فيه من بيع الإنسان مال غيره ليكون الثمن له وشرائه بمال الغير ليكون المثمن له ، أمّا آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فلعدم صدق العقد على نحو هذه المعاملة نظراً إلى أنّه عبارة عن الربط المعنوي بين المالين كما أشرنا إليه عند بيان صدق العقد على المعاطاة وذكرناه مشروحاً في رسالة مفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود ، ولا ريب أنّ الربط المعنوي لا يتأتّى بينهما فيما لو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن أو بالعكس فلا يصدق عليه العقد.

وأمّا آية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فلوضوح أنّ التجارة بمعنى الاكتساب وهو تحصيل المال لا تصدق على بيع مال إلّا على تقدير دخول الثمن في ملك صاحب المال وعوده إليه.

وأمّا آية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» فلأنّ البيع في معناه العرفي إن كان عبارة عن تمليك عين بمال على وجه التعويض بحيث يكون التعويض داخلاً في ماهيّته لا يصدق إلّا [على] تقدير عود الثمن إلى مالك المثمن وبالعكس ، فلو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن لم يصدق عليه عرفاً أنّه عوضه ، ولو فرض وقوع المثمن لغير مالك الثمن لم تصدق عليه أنّه معوّضه فلم يتحقّق تعويض فلم يصدق البيع. وإن كان عبارة عن مبادلة مال بمال فلا يصدق البدل والمبدل إلّا على تقدير عود كلّ من البدلين إلى مالك البدل الآخر.

ومن هنا يعلم الوجه في عدم تناول رواية «البيّعان بالخيار» لأنّ البيّع هو البائع وهو من البيع ، وقد عرفت أنّه غير صادق على ما لو وقع لغير مالك البيع.

وأمّا الثاني : فلاستحالة التقرّب بدون نيّة القربة الّتي مرجعها إلى قصد امتثال الأمر

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٨٧.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٢٩.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

(٥) الوسائل ١٨ : ٥ / ١ ، أبواب الخيار ، الكافي ٥ : ١٧ / ٥.

٥٣٣

واستحالة نيّة القربة ممّن لم يتوجّه إليه أمر ، والظاهر أنّ أوامر العتق والوقف والصدقة وإن كانت استحبابيّة إلّا أنّها متوجّهة إلى مالك العبد والعين والمال لا إلى غيره ، فيستحيل لغير المالك أن يتقرّب بإعتاق عبد غيره أو بوقف عين غيره أو بالتصدّق بمال غيره لاستحالة تحقّق نيّة القربة منه بدون أمر ، وهذا هو معنى ما تقدّم من عدم إمكان التقرّب بمال وإن أذن فيه المالك لأنّ إذن المالك ليست مشرّعة ومحدثة للأمر بإعتاق مملوكه أو وقف ملكه أو التصدّق بماله ، فتقرّر بطلان الإذن في التصرّفات الموقوفة على الملك المقصودة من إنشاء الإباحة على معنى عدم ترتّب الآثار المقصودة منها عليها وهو وقوع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة للمأذون له ، لقاعدة تبعيّة ملك العوض لملك المعوّض ، وعدم إمكان التقرّب بمال الغير سواء قصد المالك هذا الإذن في ضمن عموم التصرّفات كمحلّ البحث ، أو صرّح بها بخصوصها كأن يقول : بع مالي لنفسك أو اشتر بمالي لنفسك أو أعتق عبدي أو أوقف داري أو تصدّق بمالي لنفسك.

فظهر أنّ توهّم التمسّك لإثبات الصحّة للإذن في جميع ما ذكر بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» غير سديد ، لأنّه عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً ووضعاً ، ومرجعه بالنسبة إلى التصرّفات المذكورة إلى حكومة دليل عدم إمكان بيع الإنسان مال الغير لنفسه أو الشراء لنفسه بمال الغير وعدم إمكان التقرّب بمال الغير على هذا العموم ، كحكومة دليل حرمة اتّخاذ العنب خمراً ودليل عدم جواز بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً عليه.

ولا ينتقض ما ذكرنا بمسألة بيع الواهب أو إعتاقه العبد الموهوب من حيث وقوع البيع والعتق للواهب لا للموهوب له ، لكون البيع أو الإعتاق رجوعاً منه في الهبة ، فيكون كلّ منهما واقعاً في ملكه العائد إليه بالرجوع لا في ملك الغير.

نعم لو فرض حصول ملك ضمني للمباح له بإنشاء الإباحة المذكورة كان ما نحن فيه كبيع الواهب وإعتاقه في وقوع البيع والعتق والوقف والصدقة من المباح له في ملكه ، وهو يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يتضمّن قصد إنشاء الإباحة لقصد إنشاء التمليك أيضاً ، والمفروض في محلّ البحث ليس من هذا القبيل.

٥٣٤

وثانيهما : أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكيّة للمباح له بمجرّد الإباحة المقصودة ، فيكون الدليل المفروض كاشفاً عن حصول الملك له ليقع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة المأذون فيها في ملكه فيحصل الآثار له ، والمفروض فقد الدليل عليه.

ومنه يعلم ضعف احتمال دلالة الدليل على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع إلى المباح له وإن وقع أصل البيع للمبيح ، لفقد الدليل عليه أيضاً. ومثلهما في الضعف احتمال كون الإباحة المقصودة توكيلاً ضمنيّاً من المبيح للمباح له في بيع ماله له ثمّ نقل الثمن إلى نفسه بالهبة ، أو في نقله أوّلاً إلى نفسه ثمّ بيعه أو إعتاقه أو وقفه أو التصدّق به لنفسه ، فإنّ هذا التوكيل لا يتحقّق في نفسه بل يحتاج إلى قصد المالك والمفروض انتفاؤه.

ثمّ إنّ البيع الّذي أوقعه المباح له لنفسه إذا لم يقع له ـ وهو المراد من فساد الإباحة بالقياس إلى هذا التصرّف ـ ففي وقوعه للمبيح بيعاً لازماً بناءً على أنّ قصد البائع كونه لنفسه يلغو ، أو موقوفاً على إجازة المالك لأنّه لم يقصد التملّك بإنشائه الإباحة وجهان. وسيأتي تحقيق ذلك في مسألة الفضولي إذا باع البائع الفضولي لنفسه ومنه بيع الغاصب.

المسألة الثانية : هل يعتبر في المعاطاة وجريان أحكامها حصول القبض من الجانبين على معنى قبض العوضين بالإعطاء والأخذ من الجانبين ، أو يكفي حصوله من أحدهما بأن يقصد بالفعل أو القول الغير الجامع لشرائط الصيغة تمليك عين شخصيّته بثمن كلّي في الذمّة ، أو تمليك عين موصوفة في الذمّة بثمن شخصي؟ فقد يستشكل في ذلك التفاتاً إلى عدم صدق المعاطاة من المفاعلة ، خلافاً لجماعة منهم الشهيد في الدروس (١) فذهبوا إلى كفاية ذلك في لحوق الأحكام ، وتردّد ثاني الشهيدين في المسالك وإن كان استظهر في آخر كلامه ذلك قائلاً : «لو وقعت المعاملة بقبض أحد العوضين خاصّة ، كما لو دفع إليه سلعة بثمن وافقه عليه أو دفع إليه ثمناً عن عين موصوفة بصفات السلم فتلف العوض المقبوض ، ففي لحوق أحكام المعاطاة ولزوم الثمن المسمّى والمثمن الموصوف نظر : من عدم صدق اسمها لأنّها مفاعلة يتوقّف على

__________________

(١) الدروس ٣ : ١٩٣.

٥٣٥

العطاء من الجانبين ولم يحصل والاقتصار فيما خرج عن الأصل على موضع اليقين إن كان ، ومن صدق التراضي على المعاوضة وتلف العين المدّعى كونه كافياً في التقابض من الجانبين ، والظاهر أنّ الحكم واحد وقد ذكر أوّلهما شيخنا الشهيد رحمه‌الله في الدروس وألحقه بها» (١) انتهى.

وقد ظهر أنّ العمدة من منشأ الإشكال هو عدم تحقّق معنى المفاعلة بإعطاء أحد العوضين وأخذه ، والمعاطاة مفاعلة فلا تصدق على المعاملة المذكورة.

ويدفعه أوّلاً : منع عدم الصدق لما ذكرناه غير مرّة وفاقاً لجماعة من أنّ المعاطاة عندهم اصطلاح في كلّ معاوضة خالية عن الصيغة المخصوصة ، سواء خلت عن اللفظ مطلقاً أو لا ، والظاهر أنّ بناء هذا الاصطلاح على اعتبار تحقّق معنى المفاعلة ، فالمعاطاة بحسب هذا الاصطلاح صادقة على ما نحن فيه.

وثانياً : أنّه لو سلّم عدم صدقها ولو بالنظر إلى الاصطلاح ، ولكن نقول : إنّه غير قادح في لحوق أحكامها على ما نحن فيه ، فإنّها ليست عنواناً اخذ في أدلّة تلك الأحكام ليقدح عدم صدقها في شمول تلك الأدلّة بل المأخوذ فيها عنوان العقد والبيع والتجارة ، والمعاطاة غير مذكورة في الكتاب والسنّة وغيرهما. نعم إنّما اخذت في معقد إجماع الغنية ولكنّه غير مضرّ في لحوق الأحكام على ما نحن فيه ، لأنّ إجماع الغنية ليس من أدلّة القول المختار بل من أدلّة القول بالإباحة المتضمّنة لنفي البيعيّة والصحّة بمعنى إفادة الملكيّة.

فالعمدة النظر في صدق العناوين المأخوذة في الأدلّة من العقد والبيع والتجارة ، والظاهر صدق الجميع ، أمّا العقد فلتحقّق الربط المعنوي بقصد التمليك على أحد الوجهين المتقدّم ذكرهما في عنوان المسألة. وأمّا البيع فلصدق تمليك العين على وجه التعويض وإبدال مال بعوض ، نظراً إلى أنّ العين والمال والعوض أعمّ من الكلّي في الذمّة والشخص الخارجي. وأمّا التجارة فلأنّ هذا النحو من التمليك أيضاً نوع من التجارة بمعنى الاكتساب فيشمله الأدلّة بأجمعها حتّى السيرة ، لتداول ذلك أيضاً بين المسلمين.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٥١.

٥٣٦

بل قد يدّعى عدم اعتبار الإعطاء والأخذ يداً بيد في شي‌ء من الجانبين فضلاً عن المعاطاة والتعاطي ، بل يكفي مجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير إعطاء كما تعارف أخذ الماء من مكان السقّاء في غيبته ووضع الفلس في المحلّ المعدّ له ، وكذلك أخذ الباقة من دكّان البقلي في غيبته ووضع عوضها في كوزه ، ومنه دخول الحمّام ووضع الحقّ في الصندوق وما أشبه ذلك ، فإنّ الجميع متداول وكافٍ في لحوق أحكام المعاطاة ، ولكن يشترط في الجميع العلم برضا المالك أعني صاحب الدكّان والحمّامي إحرازاً للتراضي الّذي لا إشكال لأحد في اعتباره.

ولكن يشكل ذلك لو كان مراد القائل كفاية ما ذكر في انعقاد البيع وصحّته لأنّه لا بدّ في انعقاده من قصد التمليك وإنشائه ولم يتحقّق في الموارد المذكورة من المالك قطعاً. وتوهّم حصوله من آخذ الماء والبقل فهو بأخذه يملّكه لنفسه وبوضعه العوض يقبل التمليك فهو مملّك ومتملّك فيكون موجباً وقابلاً باعتبارين ، يدفعه أنّ تمليك مال الغير لنفسه ممّا لا معنى له إلّا في موضع الوكالة وهي غير متحقّقة لعدم تحقّق التوكيل من المالك. واحتمال كونه من البيع الفضولي بعيد ، لعدم لحوق إجازة المالك به المعتبر في صحّته. والاكتفاء فيها برضاه النفساني المعلوم بشاهد الحال يوجب كونه بيعاً عن المالك بطريق الوكالة لحصول ذلك الرضا قبل البيع ومقارنته إيّاه فإنّه إذن منه في تلك المعاملة معلومة بشاهد الحال القطعي فيكون كالوكالة ، ولكن في كونها إذناً في التمليك عنه لا في مجرّد الأخذ والتصرّف بشرط وضع عوضه إشكال.

وظنّي أنّ هذه المعاملة على الوجه الّذي في الموارد المذكورة ونظائرها أشبه شي‌ء بالإباحة المشروطة أو المعوّضة ، نظراً إلى الإذن في الأخذ والوضع المعلومة بشاهد الحال القطعي ، ونحوها معاملة الحمّام حسبما فرض فإنّ الدخول في الحمّام واستيفاء المنفعة بالغسل والاغتسال واستعمال الماء ثمّ وضع الفلوس المقرّر في الصندوق كلّها إباحة مالكيّة وإذن في التصرّفات المذكورة معلومة من شاهد حال الحمّامي ، بل لا يختصّ ذلك بغيبته بل المتعارف في حضوره في جميع الحمّامات في كلّ الأعصار والأمصار هو ذلك فإنّه ليس إلّا من قبيل الإباحة والإذن في الدخول واستيفاء المنفعة واستعمال الماء بشرط بذل العوض المقرّر ، للعلم الضروري من سيرة المستأجرين

٥٣٧

للحمّامات والداخلين فيها أنّ المستأجرين لا يقصدون عند دخول كلّ داخل إنشاء تمليك المنفعة بشرائطها له ، والداخلين أيضاً في قصدهم قبول تمليك المنفعة ولا تملّكها عند الدخول فلا يمكن كون ذلك من باب الإجارة لأنّها عقد والعقد لا بدّ فيه من إنشاء تمليك المنفعة وليس بحاصل جزماً ، فهو ليس إلّا لأنّ المستأجرين آذنون للناس إذناً عامّاً في الدخول واستيفاء المنفعة واستعمال الماء معلومة بشهادة أحوالهم بل كثيراً ما يكون الإذن صريحة.

وبهذا كلّه اندفعت الإشكالات المعروفة في خصوص عمل الناس في الحمّامات على تقدير كونه من باب الإجارة من عدم تعيين المنفعة ولا تعيين المدّة لتعيين المنفعة ولا تعيين الماء الّذي يستعمل ومن جهة إتلاف الماء الّذي هو من العين فإنّ هذه تقدح في الإجارة لا في الإباحة ، وهذا في كونه إباحة نظير الإباحة فيمن يستأجر داراً ويدخل فيها ضيفه ورفيقه وصديقه وغيره ، غاية الأمر أنّ ذلك إباحة مجّانيّة وما في الحمّامات إباحة مشروطة بدفع العوض المقرّر.

فالأولى أن يعبّر ـ بعد ما تقدّم من عدم اعتبار الإعطاء في شي‌ء من الجانبين ـ مكان «بل يكفي مجرّد الإيصال والوصول» بأنّه يكفي القول المجرّد عن الفعل الخالي عن شرائط الصيغة ، ومرجعه إلى أنّه لا يعتبر في المعاطاة كونها بالفعل المحض أو الملفّق منه ومن القول بل يكفي فيها مجرّد القول الخالي عن الشرائط ، كأن يقول أحدهما : هذا ملك لك بكذا أو منّ من هذه الصبرة ملك لك بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، ويقول الآخر : ما يخالف أو ما يضرّ أو لا ضير فيه أو لا بأس به ، قاصداً لإنشاء قبول التمليك ، أو يقول أحدهما : أبيعك هذا بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، ويقول الآخر : أشتري منك بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، أو يجريا الصيغة الفارسيّة مثل عبارة «فروختم وخريدم» وما أشبه ذلك. وقد يعبّر عن هذه المعاملة القوليّة الخالية عن شرائط بأنّهما يتقاولان على مبادلة مال بمال من غير إيصال وقبض في المجلس ، ومناط كفاية ما ذكر صدق البيع عرفاً فيشمله أدلّة الصحّة ، هذا على القول بالملك. وأمّا على القول بالإباحة فقد يستشكل في كفايته تعليلاً بعدم الدليل على كفاية نحو ذلك في الإباحة ، والقدر المتيقّن من دليله وهو السيرة وإجماع الغنية هو المعاطاة الحقيقيّة ، وهي

٥٣٨

الفعليّة المحضة أو الملفّقة.

المسألة الثالثة : هل يعتبر الشرائط المعتبرة في صحّة البيع ممّا يرجع إلى المتعاقدين وما يرجع إلى العوضين وإلى بيع الصرف وغيره في المعاطاة مطلقاً ، أو لا تعتبر مطلقاً ، أو تعتبر على القول بالملك ولا تعتبر على القول بالإباحة؟ وجوه يظهر اختيار أوّلها من إطلاق جماعة منهم غير واحد من مشايخنا ، ومنهم صاحب الحدائق حيث قال : «ينبغي أن يعلم أنّه لا بدّ في هذا البيع من جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع سوى الصيغة الّتي ادّعوها. ثمّ حكى فيما بعد ذلك شهرة الاعتبار على القول بالإباحة قائلاً : المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة صحّة المعاملة المذكورة إذا استكمل شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وأنّها تفيد إباحة تصرّف كلّ منهما فيما صار إليه من العوض» (١) انتهى.

وقوّاه شيخنا قدس‌سره (٢) في متاجره مصرّحاً بعدم الفرق بين القولين وعلّله على القول بالملك بكونها بيعاً ، وحاصله أنّ الأدلّة دلّت على اعتبار الشروط فتثبت لكلّ ما صدق عليه أنّه بيع ومنه المعاطاة. وعلى القول بالإباحة علّله تارةً بأنّها بيع عرفي وإن لم تفد إلّا الإباحة ، والأدلّة دلّت على اعتبارها في البيع العرفي لا خصوص البيع العقدي ، وتنزيلها على البيع العقدي تقييد لها بغير الغالب. واخرى بأنّ الإباحة لم تثبت إلّا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط فلا تشمل الفاقدة للشروط الاخر أيضاً. ولعلّ السرّ فيه على ما رامه أنّ العمدة من دليل القول بالإباحة السيرة وإجماع الغنية ، والقدر المتيقّن من معقدهما الجامعة للشروط دون الفاقدة لها. وعلى هذا فالشروط على القول بالملك شروط للصحّة بالقياس إلى إفادة الملك ، وعلى القول الآخر شروط لها بالنسبة إلى إفادة الإباحة.

والمخالف في المسألة على ما حكي هو الشهيد فنفى اعتبار جملة من الشروط قائلاً : «يجوز أن يكون الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين لأنّها ليست عقداً وكذا جهالة الأجل» (٣) وعنه في باب الصرف أيضاً أنّه لا يعتبر التقابض في معاطاة النقدين ،

__________________

(١) الحدائق ١٨ : ٣٥٠ ـ ٣٥٦.

(٢) المكاسب ٣ : ٧٠.

(٣) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٥١٠.

٥٣٩

وهذا منه قدس‌سره إمّا اختيار للوجه الثاني ، أو مصير إلى التفصيل وهو الوجه الثالث.

ويؤيّده أنّه من أهل القول بالإباحة (١) فعلى مختاره نفى الاشتراط. ويمكن أن يرجع كلامه الي تفصيل في تفصيل وهو التفصيل في الشروط على قوله بالإباحة لا مطلقاً.

والأقوى هو القول الأوّل لأنّ الأصل في المعاملات مطلقاً هو الفساد حتّى بالنسبة إلى إباحة التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل ، والقدر المتيقّن خروجه من المعاطاة هي الجامعة لشروط صحّة البيع ، وأمّا الفاقدة لها كلّها أو بعضها فلا دليل على خروجها فتكون باقية ، ويعضده الشهرة محقّقة على القول بالملك معتضدة بعدم ظهور [خلاف فيه] ومحكيّة على القول الآخر معتضدة بما تقدّم من الوجهين مع الاقتصار على القدر المتيقّن من معقد السيرة وإجماع الغنية ولم نقف للشهيد على وجه ظاهر ، فقضيّة الأصل المعتضد بما ذكر اشتراط معلوميّة الثمن والمثمن ومعلوميّة الأجل فيها واعتبار التقابض في معاطاة النقدين.

وهل يجري في المعاطاة الأحكام المختصّة بالبيع كحرمة بيع الأعيان النجسة وغيرها ممّا تقدّم وحرمة الربا والشفعة وخياري المجلس والحيوان ونحو ذلك ، أو لا؟ فنقول : أمّا حرمة بيع الأعيان النجسة وغيرها ممّا تقدّم في مباحث المكاسب فلا ينبغي التأمّل في جريانها في المعاطاة على القول بالملك المتزلزل لأنّها بيع ، بل هذه الأحكام جارية في مطلق عقود المعاوضة ، والمعاطاة مع قطع النظر عن كونها بيعاً معاوضة. ومن ذلك ظهر جريانها على القول بالإباحة لأنّها معاوضة عرفيّة بل قد يقال بكونها معاوضة شرعيّة نظراً إلى إمضاء الشارع ، بل هي على هذا القول فاسدة من أصلها ولا تفيد إباحة التصرّفات في الأعيان النجسة وآلات اللهو والقمار واتّخاذ العنب خمراً والخشب صنماً للحرمة ، جميع ذلك بالأصل ، وإذن المبيح لا يرفعها وإذا انتفت الإباحة في المعوّض انتفت في العوض أيضاً لأنّ الإباحة مشروطة والشرط غير حاصل فكذا المشروط.

وأمّا تحريم الربا فالظاهر جريانه فيها على القولين لقوله تعالى : «وَحَرَّمَ الرِّبا» (٢) فإنّه عامّ في كلّ ربا كما أنّ «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» عامّ في كلّ بيع فيندرج فيه المعاطاة الربويّة

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٠.

(٢) البقرة : ٢٧٥. «٢»

٥٤٠