ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

ما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلّدتك ديني ، فقال : فلا تذوقي منه قطرة ، لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك إلى هاهنا ، وأومأ بيده إلى حنجرته ـ يقولها ثلاثةً ـ أفهمت؟ فقالت : نعم ...» (١) الخ.

وخبر عليّ بن أسباط عن أبيه قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له رجل : إنّ بي أرواح البواسير وليس يوافقني إلّا شرب النبيذ. قال : فقال : ما لك ولما حرّم الله ورسوله؟ ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ عليك بهذا المريس الّذي تمرسه بالليل ، وتشربه بالغداة ، وتمرسه بالغداة وتشربه بالعشيّ ، فقال : هذا ينفخ البطن ، فقال : أدلّك على ما هو أنفع من هذا؟ عليك بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء ، قال : فقلنا له : فقليله وكثيره حرام؟ قال : قليله وكثيره حرام» (٢).

وخبر ابن أبي يعفور قال : «كان إذا أصابته هذه الأوجاع فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبيذ فتسكن عنه فدخل على أبي عبد الله عليه‌السلام ... إلى أن قال : فأخبره بوجعه وشربه النبيذ فقال له : يا ابن أبي يعفور لا تشربه فإنّه حرام ، إنّما هذا شيطان موكّل بك فلو قد يئس منك ذهب ، فلمّا رجع إلى الكوفة هاج به وجع أشدّ ممّا كان فأقبل أهله عليه فقال : لا والله لا أذوقنّ منه قطرة ، فيئسوا منه واشتدّ به الوجع أيّاماً ثمّ أذهب الله عنه فما عاد إليه حتّى مات» (٣).

وخبر سيف بن عميرة عن شيخ من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كنّا عنده فسأله شيخ فقال : إنّ بي وجعاً وأنا أشرب له النبيذ ووصفه له الشيخ ، فقال له : ما يمنعك من الماء الّذي جعل الله منه كلّ شي‌ء حيّ؟ قال : لا يوافقني ، قال : فما يمنعك من العسل؟ قال الله : «فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ» قال : لا أجده ، قال : فما يمنعك من اللبن الّذي نبت منه لحمك واشتدّ عظمك؟ قال لا يوافقني؟ قال : أبو عبد الله عليه‌السلام : تريد أن آمرك بشرب الخمر ، لا والله لا آمرك» (٤).

__________________

(١) البحار ٢٥ : ٣٤٤ / ٢ ، ب ٢٠ الأنبذة والمسكرات ، الكافي ٦ : ٤١٣ / ١.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٤ / ٣ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٤١٣ / ٣.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٤٧ / ١١ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، رجال الكشّي : ٢٤٧ / ٤٥٩.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٣٤٨ / ١٦ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، تفسير العيّاشي ٢ : ٢٦٤ / ٤٥.

٤١

وخبر إسماعيل بن محمّد قال : «قال جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدواء الخبيث أن يتداوى به» (١).

وخبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون قال : «والمضطرّ لا يشرب الخمر لأنّها تقتله» (٢).

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المضطرّ لا يشرب الخمر فإنّها لا تزيده إلّا شرّاً ، ولأنّه إن شربها قتلته فلا يشرب منها قطرة» (٣).

وخبر قائد بن طلحة «أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ يجعل في الدواء؟ قال : لا ينبغي لأحد أن يستشفى بالحرام» (٤).

والسرّ فيما صنعه المعظم من الأخذ بمؤدّى هذه الأخبار دون قاعدة الاضطرار لا يخلو عن أحد الوجوه :

الأوّل : أنّ أدلّة القاعدة وإن كانت حاكمة على أدلّة تحريم المحرّمات وغيرها إلّا أنّها لا تحكم على الأخبار المانعة من التداوي بالخمر ومطلق المسكر ، بل هذه الأخبار تنهض مخصّصة لها مخرجة للاضطرار إلى التداوي من القاعدة لكونها أخصّ مورداً وأقلّ أفراداً ، فإنّ أدلّة القاعدة عامّة في مطلق المحرّمات وهذه الأخبار خاصّة في الخمر أو مطلق المسكر ، فيرجّح الأخبار على أدلّة القاعدة وتخصّص تلك الأدلّة بها وإن كانت بين أكثرها وتلك الأدلّة عموماً من وجه ، مع كون جملة منها لاختصاصها صراحة وظهوراً بصورة الاضطرار أخصّ منها مطلقاً ، فيكون مفادها بعد إرجاع التخصيص إليها أنّ كلّ مضطرّ ابيح له تناول المحرّمات بقدر ما يدفع الضرورة إلّا من اضطرّ إلى التداوي بالمسكر خمراً كان أو غيرها فإنّه لا يحلّ له التداوي به مطلقاً.

وعلى هذا فالجعل المنفيّ في قوله عليه‌السلام : «إنّ الله لم يجعل في شي‌ء ممّا حرّمه دواء ولا شفاء» يراد به الجعل التكليفي لا الجعل التكويني ، ومعناه أنّه لم يأذن في التداوي

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٤٦ / ٩ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، طبّ الأئمّة : ٦٢.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٧ / ١٢ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، عيون الأخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٩ / ١.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٤٧ / ١٣ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، علل الشرائع : ٤٧٨ / ١.

(٤) الوسائل ٢٥ : ٣٤٥ / ٥ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٤١٤ / ٨.

٤٢

ولا الاستشفاء به ، ويؤيّده إطلاق قوله تعالى : «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» (١) بناءً على أن يكون المراد من منافع الخمر ما يعمّ منفعة التداوي من البرء والشفاء ، فقوله : «إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» يعني به أنّ التداوي بالخمر مع حصول النفع به إثم وهو لشدّة عقوباته الاخرويّة أو لعظم مفاسده الدنيويّة أكبر من النفع الحاصل به.

الثاني : أن تكون الأخبار المذكورة مسوقة لبيان أنّ الفائدة المطلوبة من التداوي لا تحصل به أبداً ، وما يرى في بعض الأحيان من مصادفة التداوي به لحصول البرء والشفاء فإنّما هو لضرب من المقارنة الاتّفاقيّة من غير مدخليّة وتأثير له فيه ، فيكون فعله اثماً صرفاً خالياً عن الفائدة المطلوبة ، وربّما يشير إليه قوله عليه‌السلام في قصّة امّ خالد : «فإنّما تندمين ...» الخ ، وفي نسبة القتل في عدّة من الأخبار إلى الخمر أيضاً إشارة إلى ذلك. وعلى هذا فيكون الجعل المنفيّ فيما تقدّم عبارة عن الجعل التكويني على معنى خلوّه عن الدواء والشفاء بالمرّة.

الثالث : أن تكون الأخبار مسوقة لبيان عدم حصول الاضطرار للمسلم إلى التداوي به قطّ ، لعدم انحصار طريق العلاج فيه بل له طريق آخر ولو نحو التوسّل بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء ، كما يشير إليه خبر عليّ بن أسباط أو التربة الحسينيّة عليه‌السلام كما يظهر من أخبار الاستشفاء بها ، أو زوال المرض بنفسه بتفضّل من الله فيمن تحرّز عن التداوي به خالصاً لوجهه ، ففيما تخيّل الإنسان اضطراره إليه بمظنّة انحصار الطريق فيه فهو وهم من الشيطان ، فإذا يئس ذهب فحصل البرء تفضّلاً من الله ، كما يشير إليه خبر ابن أبي يعفور. وفي خبر سيف بن عميرة أيضاً إشارة إلى عدم اتّفاق الاضطرار بعدم اتّفاق الانحصار قطعاً ، فيكون الجعل المنفيّ في التعليل المتقدّم الجعل التكليفي أيضاً. والوجوه الثلاث وإن كانت مشتركة في منع التداوي وتحريمه إلّا أنّ الأوجه منها الوجه الأخير ، فالقول بجواز التداوي وإن كان قويّاً ولكنّ الأقوى هو المنع مطلقاً.

لا يقال : قضيّة ذلك عدم جواز الاكتحال به أيضاً فكيف يذهب الأكثر إلى الجواز وقد رجّحته أيضاً ، لأنّا نعالجه بتخصيص القاعدة المستنبطة من أخبار الباب في منع

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

٤٣

التداوي بالخمر بل مطلق المسكر بما كان التداوي بطريق الشرب أو الأكل ، ويؤيّده أنّ في الأكل والشرب مفاسد ليست في غيرهما من التصرّفات والانتفاعات فيكون الاكتحال مخرجاً عنها بدليل جوازه المتقدّم.

وفي جواز التداوي بالطلي وعدمه وجهان : من ملاحظة تخصيص قاعدة المنع بالشرب والأكل ، ومن أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص هو الاكتحال وبقى غيره ومنه الطلي ، وهذا أوجه إن لم يتوجّه إليه أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص من قاعدة الاضطرار هو التداوي بالمسكر بطريق الشرب أو الأكل وبقى غيره ومنه الاكتحال والطلي. ويؤيّده أنّ العمدة من دليل جواز الاكتحال كما تقدّم هو قاعدة الاضطرار ، فالأقوى هو الجواز فيهما عند الضرورة الّتي ملاكها العلم أو الظنّ الغالب بانحصار العلاج.

فانقدح من تضاعيف كلماتنا من أوّل المبحث إلى هنا حرمة الانتفاع بالخمر بجميع وجوه الانتفاعات إلّا في أربعة مواضع :

الأوّل : شربها عند الضرورة للعطش.

الثاني : الاكتحال بها للضرورة.

الثالث : الطلي بها للتداوي عند الضرورة.

الرابع : اتّخاذها وإمساكها للتخليل.

السادسة : الخمر لا يملكها المسلم مطلقاً بلا خلاف بين الأصحاب وظهور الإجماع ، وعن الشيخ في الخلاف (١) الإجماع عليه ، ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية تحف العقول : «منهيّ عن ملكه» على معنى ترتيب آثار الملك عليها ولا يكون ذلك إلّا لانتفاء الملكيّة ، مضافاً إلى الروايات (٢) الواردة في عقد النصراني والنصرانيّة على الخمر والخنازير إذا أسلما قبل الأداء الدالّة على أنّه لا يؤدّي المهر من الخمر بل من غيرها ، وفي بعضها الدلالة على أنّها تقوّم عند مستحلّيها ويؤدّي القيمة ، وإذا كان الإسلام رافعاً للملكيّة

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٨٥.

(٢) الوسائل ٢١ : ٢٤٣ / ٢ ، ب ٣ أبواب المهور ، التهذيب ٧ : ٣٥٦ / ١٤٤٨.

٤٤

فلئن يكون دافعاً لها طريق الأولويّة لأنّ الدفع أهون من الرفع. نعم يملكها الذمّي بلا خلاف فتوى ونصّاً كما هو مقتضى الأخبار المشار إليها مفهوماً بل منطوقاً ، ولذا يضمنها الغاصب عيناً إذا كان ذمّياً أو قيمة إذا كان مسلماً.

وفي تملّك المسلم لها إذا اتّخذها وأمسكها للتخليل قول نسب إلى جماعة (١).

ويظهر من المسالك في كتاب الغصب في مسألة ضمان الخمر إذا كان المغصوب منه مسلماً وقد اتّخذها للتخليل قائلاً : «ويضمنها الغاصب فإن كان المغصوب منه مسلماً وجب ردّها عليه مع بقاء عينها ، ولو تخلّلت ردّها خلّاً لأنّها مملوكة على هذا الوجه فلا يزول ملكيتها بانتقالها إلى الصفة المحلّلة بل يتأكّد» (٢) إلى آخر ما ذكره.

وفيه : أنّه ينافي إطلاق الإجماع المنقول وإطلاق قوله : «منهيّ عن ملكه» مضافاً إلى الاعتبار من أولويّة الدفع من الرفع ، فإنّ العصير ملك للمسلم وإذا انقلب خمراً يزول ملكه فالخمريّة رافعة لملك المسلم ، فلئن يكون دافعة طريق الأولويّة. نعم له حقّ اختصاص ما دام في يده للتخليل فيحرم مزاحمته فيها وأخذها منه قهراً أو إراقتها. وقول الجماعة بملكه لها ممّا لا دليل عليه ولا دلالة للأخبار الدالّة على جواز أخذها للتخليل عليه.

__________________

(١) كما في السرائر ٢ : ٢٨١ ، والتحرير ١ : ١٦٠.

(٢) المسالك ٢ : ٢٥٦.

٤٥

المبحث الثاني

فيما يتعلّق بالأنبذة والفقاع موضوعاً وحكماً

فالأنبذة جمع النبيذ وهو بحسب الأصل الشراب المعمول من التمر بالخصوص وغلّب على باقي المسكرات المعمولة من الارز والذرّة وغيرهما وإن اختصّ كلّ واحد أيضاً باسم ، وضابطه كلّ مسكر مائع بالأصالة كما في المسالك (١) وجمعه في كلام الفقهاء لاختلاف أنواعه لا لتعدّد أفراد نوع واحد ، لأنّ المقصود به تعميم الحكم بالقياس إلى الأنواع المختلفة لا بالقياس إلى أفراد النوع ، لأنّه بعد ما ثبت الحكم للنوع يسري إلى أفراده ولا حاجة له إلى التعميم. وما ذكرناه من الاختصاص هو المصرّح به في كلام أئمّة اللغة وكلمة الفقهاء وهو المستفاد من أخبار أهل العصمة عليهم‌السلام.

والفقّاع بحسب الأصل وفي زمان صدور الحكم على ما يستفاد من الأخبار هو الشراب المتّخذ من الشعير خاصّة ، وإطلاقه على المتّخذ من الزبيب أو الذرّة أو القمح أو الشعير والقمح كما قيل مجاز أو محدث حدث بعد أزمنة صدور الحكم.

وتحريمه ـ على التحقيق المتقدّم في باب النجاسات من كتاب الطهارة ـ من حيث تحريم الخمر أعني الإسكار وإن كان سكره خفيّاً ، ولعلّه إلى ذلك يشير تصغير خميرة في قوله عليه‌السلام : «الفقّاع خميرة يستصغرها الناس» (٢) وقد حقّقنا في الباب المذكور أنّه مع سائر الأنبذة من الأعيان النجسة فيشمل الجميع عموم قوله عليه‌السلام : «أو شي‌ء من وجوه النجس» في رواية تحف العقول.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١١٩.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ / ١ ، ب ٢٨ الأشربة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٩.

٤٦

فعموم قوله عليه‌السلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» يقتضي حرمة البيع والشراء بل مطلق التكسّب في الجميع ، بل قضيّة هذا العموم حرمة جميع الانتفاعات ، إلّا ما يضطرّ إليه الإنسان فيحلّ الانتفاع عند الضرورة ، إلّا ما يضطرّ إليه شرباً أو أكلاً للتداوي فإنّه حرام مطلقاً.

والدليل على الاستثناء الأوّل قاعدة الاضطرار ، والدليل على الاستثناء الثاني عموم المنع المستفاد من الأخبار المانعة من التداوي ، ويكفي فيه عموم التعليل الوارد فيها بقوله عليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل لم يجعل في شي‌ء ممّا حرّم دواءً ولا شفاءً» (١) مضافاً إلى أنّ مورد أكثرها هو النبيذ ، ولو جعلناه بحسب الاسم عامّاً تثبت عموم المنع مع ما في بعضها النهي عن التداوي بالخبيث وهو بعموم مفهومه يعمّ الجميع مع إمكان دعوى الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وأمّا المسكرات الجامدة بالأصالة كالحشيشة الّتي منها ورق القنب على ما قيل وغيرها فهي وإن لم تكن من سنخ الأعيان النجسة إلّا أنّها لمشاركتها المسكرات المائعة في صفة الإسكار وتحريمها لأجله ربّما تذكر في المقام استتباعاً.

ففي المسالك بعد ما ذكر أنّ ضابط التحريم في الأنبذة كلّ مسكر مائع بالأصالة قال : «وكذا الجامدات إن لم يفرض لها نفع آخر وقصد من بيعها المنفعة المحلّلة» (٢).

ويستفاد من كلامه أنّ ما كان له من الجامدات منفعة محلّلة وقصد من بيعه المنفعة المحلّلة جاز التكسّب به ، بتقريب أنّ قوله : «وقصد بيعها ...» الخ لا يجوز كونه عطفاً على الشرط في القضيّة المنطوقيّة وإلّا لتهافت المعطوف والمعطوف عليه ، بل هو عطف على الشرط في القضيّة المفهوميّة وهو جواز بيعها إن كان لها منفعة محلّلة قصداً إلى إخراجه من الإطلاق إلى تقييده بالقصد المذكور. فيفيد أنّ الجواز مشروط بأمرين أحدهما : أن يكون فيه منفعة ، وثانيهما : أن يقصد ببيعه المنفعة المحلّلة ، فما لا منفعة فيه أو لم يقصد ببيعه تلك المنفعة حرم بيعه ، فالأقسام ثلاثة يجوز البيع في واحد منها دون غيره.

وفي الرياض بعد ما أشار إلى القول بهذا التفصيل تنظّر فيه بقوله : «فيه نظر لعموم

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٤٦ / ٧ ، ب ٢٠ الأشربة المحرّمة ، طبّ الأئمّة : ٣٢.

(٢) المسالك ٣ : ١١٩.

٤٧

أدلّة المنع» (١) وكان نظره في دعوى العموم إلى عموم قوله في رواية تحف العقول : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته» مضافاً إلى عموم الملازمة المستفادة من النبويّ المتقدّم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه في الدلالة على التكسّب بما حرّمه الله تعالى يتناول المسكرات الجامدة أيضاً لأنّها أشياء حرّمها الله تعالى.

وقد يحتمل كونه عموم التشبيه في نحو قوله عليه‌السلام في الأخبار المستفيضة : «إنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها بل لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» (٢) بناءً على أنّه يقتضي المشاركة في جميع الأحكام الّتي منها حرمة التكسّب.

ونوقش بأنّ التحقيق أنّه يقتضي المشاركة في الأحكام الظاهرة ، والظاهر من أحكام الخمر حرمة شربها. فالتمسّك بالعموم من جهة التشبيه غير جميل ، إلّا أن يدّعى كون حرمة التكسّب في الخمر من أحكامها الظاهرة. وفيه تأمّل ، فإنّ أقصى ما يسلّم فيها كون التكسّب بها من منافعها الغالبة ، وهو لا يقتضي كون حرمته من الأحكام الظاهرة.

وكيف كان فقضيّة نظر السيّد رحمه‌الله استناداً إلى العموم عدم الفرق في منع التكسّب بالجامدات بين صورها الثلاث ، فهو حرام وإن قصد به الجهة المحلّلة ، وهو مستظهر لأنّ التفصيل بالجواز من حيث الجهة المحلّلة وعدمه من حيث الجهة المحرّمة تخصيص في أدلّة المنع المفروض عمومها لمحلّ البحث فيحتاج إلى دليل. وعلى المفصّل إقامة الدليل عليه ، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه :

الأوّل : التعليل الواقع في رواية تحف العقول بقوله عليه‌السلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه ...» الخ فإنّه يفيد أنّ العلّة في تحريم بيع الأشياء المذكورة قبل ذلك تحريم منافعها ، فيفيد دوران تحريم البيع مع تحريم المنافع وجوداً وعدماً وبمقتضى حجّية العلّة المنصوصة يتعدّى من الأشياء المذكورة في

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٣٠.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ / ١ ، ب ١٩ الأشربة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ١١٢ / ٤٨٦.

٤٨

الرواية إلى غيرها ممّا وجد فيه العلّة فيعمّ تحريم البيع ودورانه مع العلّة المذكورة للمسكرات الجامدة أيضاً.

لا يقال : ظاهر العطف بواو الجمع كون العلّة تحريم جميع المنافع فلا تعمّ ما كان بعض منافعه محلّلاً كما هو محلّ البحث ، لأنّ الدوران في الوجود والعدم يفيد انتفاء تحريم البيع عند انتفاء تحريم جميع المنافع ، وهذا بضابطة رفع الإيجاب الكلّي يصدق مع عدم تحريم شي‌ء من المنافع ومع عدم تحريم بعض المنافع ، غاية الأمر أنّه يثبت تحريم البيع بالنسبة إلى الثاني في المنفعة المحرّمة بدليل آخر ، ويكفي فيه عموم قوله : «فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه» الخ فإنّه يعطي كفاية تحريم بعض المنافع في تحريم البيع ، والقدر المتيقّن من ذلك تحريم البيع في المنفعة المحرّمة إن لم ندّع الظهور فيه بحسب العرف ، فيبقى جواز البيع في المنفعة المحلّلة وصحّته مستفاداً من عمومات الصحّة مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٢) ونحو ذلك.

الثاني : قوله عليه‌السلام في رواية دعائم الإسلام : «إنّ الحلال من البيوع كلّما كان حلالاً من المأكول والمشروب وغير ذلك ممّا هو قوام للناس ويباح لهم الانتفاع ، وما كان حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» (٣) وهذا يدلّ على إناطة حلّ البيع وتحريمه بحلّ المنفعة وتحريمها أكلاً في المأكول ، وشرباً في المشروب ، ولبساً في الملبوس ، وسائر وجوه الانتفاع في غيرها ، وينساق منه أنّ البيع في المنفعة المحلّلة حلال ، وفي المنفعة المحرّمة حرام ، ويجري هذا التفصيل فيما اشتمل على المنفعتين. ولو سلّم عدم جريانه فيه فلا ينساق من قوله : «وما كان حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه» أزيد من تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة ، فيبقى حلّيّة بيعه في المنفعة المحلّلة مستفادة من العمومات.

الثالث : قوله : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه بملاحظة ما قرّرناه من الوجوه لإثبات الملازمة بين فساد البيع وتحريمه في معنى قوله : «إذا حرّم شيئاً حرّم بيعه»

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ١٨٨.

(٣) دعائم الإسلام ٢ : ١٩.

٤٩

فيدلّ بظاهره على تحريم بيع الشي‌ء فيما حرّم الله من منافعه سواء كان جميع المنافع أو منافعه المقصودة ، فيبقى حلّيّة بيع ما اشتمل على المنفعة المحلّلة مستفادة من العمومات.

الرابع : صحيحة عمر بن اذينة قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال : إنّما باعه حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه» (١) فإنّ قوله : «إنّما باعه حلالاً» بمنزلة العلّة لقوله : «فلا بأس ببيعه» فيفيد تعليل عدم البأس ببيعه حال حلّيّة أكله أو شربه ، وهو أيضاً يفيد دوران حلّيّة البيع وجوداً وعدماً مع حلّيّة المنفعة أكلاً وشرباً.

فنتيجة الوجوه المذكورة فيما اشتمل على المنفعتين تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة ، وحلّ بيعه في المنفعة المحلّلة ، وهذا التفصيل حينئذٍ قاعدة اخرى مستفادة من الأدلّة تنهض لتخصيص عموم أدلّة المنع حسبما تمسّك به السيّد (٢).

فإن قلت : هذا التفصيل إن صحّ لجرى في الخمر وغيرها من المسكرات المائعة أيضاً ، لاشتمالها بملاحظة ما سبق من جواز الانتفاع بها في المواضع الأربع المتقدّمة على منفعتين محرّمة ـ وهي شربها اختياراً ـ ومحلّلة ، كما في المواضع الأربع فوجب أن يحلّ بيعها في هذه المواضع ، فما معنى إطلاق المنع من بيعها حتّى في المواضع الأربع حتّى في صورة اتّخاذ الخمر للتخليل كما تقدّم.

قلت : فرق بين حلّ الانتفاع بالشي‌ء وحلّ منفعة الشي‌ء ، والمسوّغ للبيع هو الثاني ، والموجود في المواضع الأربع هو الأوّل ، والفرق بينهما أنّ المنفعة عبارة عن الفائدة المقصودة من الشي‌ء بنوعه ، بأن يكون ذلك الشي‌ء بنوعه معدّاً لاستفادة هذه الفائدة ، وهي غير الفائدة المطلقة المترتّبة على الشي‌ء في بعض الأحيان من دون أن يكون بنوعه معدّاً لاستفادة تلك الفائدة ، وضابط الفرق بينهما أنّ المنفعة من قبيل لوازم الماهيّة ، ومطلق الفائدة من قبيل عوارض الشخص ، وعلى ما بيّنّاه ينطبق جميع تعبيرات الفقهاء ، فتارةً بالمنفعة الغالبة والمنفعة النادرة ، واخرى بالمنفعة المقصودة

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / ٥ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٣١ / ٨.

(٢) مصابيح الأحكام : ١٣.

٥٠

للعقلاء والمنفعة الغير المقصودة لهم ، وسيأتي زيادة بيان لهذا المقام.

ولا ريب أنّ الخمر بنوعها معدّة لشربها اختياراً طلباً للإسكار ، لا لشربها عند الضرورة لرفع العطش ، ولا للاكتحال بها عند الضرورة ، ولا للطلي بها عند الضرورة للتداوي ، ولا لاتّخاذها للتخليل ، فليس لها في المواضع الأربع منفعة محلّلة بالمعنى المذكور حتّى تكون مسوّغة لبيعها ، ولو سلّم إطلاق المنفعة على مطلق الفائدة المحلّلة فهي منفعة نادرة ، والمسوّغ للبيع هي المنفعة الغالبة مع كونها محلّلة لا غير ، مع أنّه لا عبرة بما أحلّت في مقام الاضطرار بل المعتبر حلّ المنفعة حال الاختيار.

ثمّ إنّه بعد البناء فيما اشتمل على المنفعتين المحرّمة والمحلّلة ، فهل قصد المنفعة المحلّلة عند البيع شرط لجوازه أو أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع؟ ويظهر فائدة الفرق بين الاعتبارين فيما لو بيع لا بقصد إحدى المنفعتين فإنّه على الأوّل حرام لانتفاء شرط الحلّ ، وعلى الثاني حلال لانتفاء المانع ، والأظهر هو الثاني لظهور إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة عمر بن اذينة : «لا بأس ببيعه» تعليلاً بأنّه «باعه حلالاً في الأبان الّذي يحلّ شربه أو أكله».

مضافاً إلى ما ظهر من تقرير الاستدلال بالوجوه الأربعة لاستفادة التفصيل المذكور من أنّ أدلّة المنع من بيع المسكرات أو مطلق المحرّمات لا تدلّ على أزيد من تحريم البيع في المنافع المحرّمة ، ويبقى حلّ البيع في المنافع المحلّلة مستفادة من عمومات صحّة البيع وحلّه ، فإنّ المستفاد منها جواز البيع وصحّته بقول مطلق ، خرج منها ما قصد ببيعه المنفعة المحرّمة ، وبقى غيره ومنه ما لم يقصد ببيعه إحدى المنفعتين.

وبقى الكلام في أنّ المسكرات الجامدة هل هي مشتملة على المنفعة المحلّلة وأنّها أيّ شي‌ء؟ وتحقيق ذلك ليس من وظيفة الفقه ، واستعلامه موكول إلى العرف ونظر أهل الخبرة.

٥١

المبحث الثالث

فيما يتعلّق بالميتة موضوعاً وحكماً

ففي القاموس «مات يموت ويمات ويميت فهو ميّت ، وميّت ضدّ حيي ... إلى أن قال : وهي مَيّتة ومَيْتَةٌ وَمَيت والميتة ما لم تلحقه الزكاة» (١) انتهى.

وقضيّة صدر كلامه كون الميّتة مؤنّثة الميّت لمعنى عامّ ، لأنّ ضدّ الحيّ يعمّ الميّت الإنساني وغيره ممّا ذهبت عنه الحياة بإزهاق الروح أو بالذكاة ذبحاً أو نحراً أو رمياً ، وقضيّة ذيله كونها لمعنى خاصّ.

ومن ثمّ ربّما يتوهّم منه كونها بحسب العرف القديم مقولاً بالاشتراك بين العامّ والخاصّ ، وهو بعيد. وليس بذلك البعيد أن لو قلنا بأنّ هذه المادّة بجميع تصاريفها كانت في أصل اللغة للمعنى العامّ ، إلّا أنّ المشدّد من تصاريفها غلّب في العرف على الميّت الإنساني ، والمخفّف منها خصوصاً مع التاء غلّب على ما تلحقه الزكاة من سائر أنواع الحيوان ، ويشهد له التبادر وصحّة السلب خصوصاً سلب الميّتة عن المذكّى ، وعلى هذا فالتاء في هذه اللفظة للنقل لا غير ، ولا يبعد كون هذا النقل بحسب الوضع الشرعي ، فتكون هذه اللفظة من الحقائق الشرعيّة.

ويؤيّده أنّها في نحو قوله تعالى : و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» (٢) وقوله أيضاً : «إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (٣) بل في جميع خطابات الشرع كتاباً وسنّة وفي عرف المتشرّعة مصروفة إلى هذا المعنى لا غير ، ولم يعلم من غير أهل هذا الدين أنّهم يخصّونها به. وكيف كان فموضوع البحث هو الميتة بهذا المعنى ، ولها أنواع ثلاث لأنّها

__________________

(١) القاموس ١ : ١٥٨. (موت)

(٢) المائدة : ٣.

(٣) الأنعام : ١٤٥.

٥٢

إمّا أن تكون من نجس العين كالكلب والخنزير ، أو من طاهر العين ، وعلى الثاني إمّا أن تكون من ذات النفس السائلة كالحمير والبغال والبرازين وغيرها ، أو من غير ذات النفس السائلة كالسمك والجرادة وغيرها.

أمّا النوع الأوّل : فلا إشكال بل لا خلاف في حرمة المعاوضة بل مطلق المعاملة عليها ، ولا في عدم جواز الانتفاع بها مطلقاً ، ولا في عدم جريان ملك المسلم عليها ابتداءً واستدامةً فيما كانت من الكلاب الأربع ، من غير فرق في هذه الأحكام بين الميتة بجملتها أو بأبعاضها ممّا تحلّه الحياة من أجزائها وغيرها ، فإنّ الكلّ من وجوه النجس ، والدليل على الكلّ في الكلّ ـ بعد ظهور الإجماع بل الإجماعات المنقولة على ما قيل ـ عموم رواية تحف العقول الّتي دلالتها على تحريم البيع للجملة في مواضع منها.

وهل يستثنى من أجزاء ميتة الخنزير شعرها للانتفاع به باتّخاذ حبل يستقى به أو لا؟ أقوال ، ثالثها الفرق بين ما لا دسومة فيه فيجوز وما فيه دسومة فلا يجوز ، وعلى الاستثناء ففي كونه من حلّ الانتفاع أو من حلّ المنفعة ليحلّ بيعه في تلك المنفعة وجهان ، وتحقيق القول في هذين الفرعين يأتي عند الكلام في الخنزير ، فإنّ الاختلاف في الانتفاع بشعر الخنزير على الوجه المذكور واقع ثمّة ، وظاهر إطلاقهم عدم الفرق بين ما لو اخذ الشعر من الحيّ أو من الميتة.

وأمّا النوع الثاني : وهو ميتة طاهر العين ممّا له نفس سائلة ، فالمعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر حرمة المعاوضة عليها ، بل في المنتهى (١) دعوى إجماع المسلمين كافّة على تحريم بيع الميتة. ويدلّ عليه من الروايات (٢) كلّما دلّ على سحتيّة ثمن الميتة ورواية تحف العقول في مواضع عديدة منها ، وعلى تحريم مطلق المعاوضة بل المعاملة عليها عموم قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام». كما يدلّ على حرمة الانتفاع بها بجميع وجوهه حتّى إطعام السباع والطيور والبزازين.

ويدلّ على عدم جريان ملك المسلم عليها ابتداءً واستدامةً عموم قوله عليه‌السلام : «ومنهيّ

__________________

(١) المنتهى ٢ : ١٠٠٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ٩٤ / ٥ و ٨ و ٩ ، ب ٥ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ١٠٥ / ٤٣٥ و ٨٢٤.

٥٣

عن ملكه» بالتقريب المتقدّم ، وعلى حرمة الانتفاع بها مطلقاً بالخصوص ـ مضافاً إلى الإجماع المنقول عن التنقيح (١) والإيضاح (٢) على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة بقول مطلق ، وإلى الكتاب العزيز في الآيات المتكرّرة المتقدّم إلى بعضها الإشارة ولو في الجملة إن قلنا بانصراف إطلاقها في خصوص الأكل ـ عدّة روايات (٣) مصرّحة بأنّ الميتة لا ينتفع بها وفي بعضها لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب ، وهذا مضافاً إلى ما ذكر يعمّ الجملة والأبعاض.

نعم يستثنى من أبعاضها في جميع الأحكام المذكورة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص ما لا تحلّه الحياة من أجزائها كالشعر والصوف والوبر والريش والقرن والعظم وغيره ، لما تحقّق في كتاب الطهارة من طهارة هذه الأجزاء ، فيجري عليها ملك المسلم استدامةً للاستصحاب وابتداءً للعمومات ، فيحلّ الانتفاع بها بجميع الانتفاعات التابعة للملك ، ويجوز بيعها وشراؤها بل يجري عليها عقود المعاوضة مطلقاً وغيرها ، كلّ ذلك للعمومات الشاملة لها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً.

وربّما يستشكل في تحريم التكسّب بجلد الميتة وتحريم الانتفاع به مطلقاً ، كما عن الكفاية (٤) والحدائق (٥) نظراً منهما إلى رواية الصيقل رواها الشيخ بإسناده عن محمّد ابن الحسن الصفّار عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن أبي القاسم الصيقل وولده قال : «كتبوا إلى الرجل : جعلنا الله فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ، ونحن مضطرّون إليها ، وإنّما علاجنا جلود الميتة من البغال والحمير الأهليّة لا يجوز في أعمالنا غيرها ، فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا؟ ونحن نصلّي في ثيابنا ، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب : اجعل ثوباً للصلاة ...» (٦) الخ بتوهّم أنّه يدلّ على الجواز في جميع ما سئل عنه.

والجواب أوّلاً : أنّ الرواية معارضة بما هو أقوى منها من المعتبرة المصرّحة بعدم

__________________

(١) التنقيح ٢ : ٥.

(٢) الإيضاح ٤ : ١٥٢.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٨٥ / ٢ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، المهذّب ٩ : ٧٩ / ٣٣٥.

(٤) الكفاية : ٨٤.

(٥) الحدائق ١٨ : ٧٣.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٧٣ / ٤ ، ب ٣٨ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٦ / ١١٠٠.

٥٤

جواز الانتفاع من الميتة بشي‌ء ، وقد تقدّم (١) الإشارة إلى بعضها المصرّح بأنّه لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب.

وثانياً : القدح في سندها لجهالة الراوي ، فإنّ أبا القاسم الصيقل غير مذكور في الرجال بمدح ولا قدح ، ويتأكّد ضعفها بإعراض الأصحاب عن العمل بها في تجويز التكسّب والانتفاع بقول مطلق.

وثالثاً : أنّها محتملة للتقيّة لموافقتها مذهب العامّة القائلة بطهارة جلد الميتة بالدبغ ، وربّما يشعر بها الإضراب في الجواب عمّا سئل عنه فأجاب بما لا يوافق السؤال ، مع أنّ المكاتبة يحتمل فيها من التقيّة ما لا يحتمل في غيرها ، والتقرير مع كونه دلالة ضعيفة إنّما يكشف عن الرضا حيث لم يكن لعدم الردع جهة إلّا الرضا ، ولا يكون إلّا حيث ينتفي احتمال التقيّة.

ورابعاً : منع الدلالة ، فإنّ الجواب لا ظهور له في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا مع قيام احتمال التقيّة.

وقد يقال في منع الدلالة بالقياس إلى البيع والتكسّب : إنّ مورد السؤال عمل السيوف وبيعها وشراؤها ، لا خصوص الغلاف مستقلّاً ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف وهو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال.

وفيه : أنّه تفكيك غير سائغ بين فقرات السؤال فإنّ مورده عمل جلود الميتة وبيعها وشراؤها ومسّها فإن دلّ الجواب على الجواز في الأوّل دلّ عليه في البواقي ، وإن لم يدلّ عليه في البواقي لم يدلّ عليه في الأوّل والتفكيك غير معقول. والإنصاف أنّ في عدم تعرّضه عليه‌السلام لتجويز هذه الامور صراحة والاقتصار في الجواب على بيان العلاج للصلاة دلالة على مبغوضيّة هذه الامور في نظره عليه‌السلام وعدم رضاه بشي‌ء منها ، وإنّما لم يصرّح به لمانع وهو خوف الإشاعة المنافية للتقيّة.

ولكثير ممّا ذكرناه من الوجوه يظهر الجواب عن رواية قاسم الصيقل قال : «كتبت

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٦٠ الرقم ٥.

٥٥

إلى الرضا عليه‌السلام إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاصلّي فيها؟ كتب إليّ اتّخذ ثوباً لصلاتك ، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام إنّي كتبت إلى أبيك عليه‌السلام بكذا وكذا فصعّب عليّ ذلك ، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ، فكتب إليّ كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله فإن كان ما يعمل وحشيّاً ذكيّاً فلا بأس» (١).

بل هذا باعتبار المفهوم ربّما يدلّ على المنع من عمل جلود الميتة.

كما يظهر الجواب أيضاً عن خبر حسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصيب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال : نعم ، وقال : يدبغ فينتفع به ولا يصلّي فيه» (٢) بل هذا لمخالفته عدّة قواعد محكّمة من المذهب ـ من عدم طهر جلد الميتة بالدبغ ، وحرمة شرب الماء المتنجّس ، وحرمة التوضّي وعدم صحّته بالماء المتنجّس ـ مطروح أو محمول على التقيّة ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم صاحب الوسائل (٣).

واختلف الأصحاب في الاستقاء بجلد الميتة في غير مشروط بالطهارة ـ من المأكول والمشروب والوضوء والصلاة ـ كسقي الدوابّ والمزارع والبساتين وما أشبه ذلك ، فالمشهور المنع ، وذهب جماعة كالشيخ في النهاية (٤) والفاضلين في الشرائع (٥) والنافع (٦) والإرشاد (٧) إلى الجواز ، ولقد أفرط الصدوق في المقنع (٨) فجوّز الاستقاء بجلد الخنزير ، وهو يعطي جوازه في غيره من جلود الميتة بطريق أولى.

والأقوى المشهور ، لعموم أدلّة المنع من الانتفاع بالميتة المتناول لجلدها أيضاً ، وشذوذ القول بالجواز مع عدم مستند له ، سوى ما أشار إليه الشهيد الثاني في المسالك «من الأصل وكون النجاسة غير مانعة من أصل الاستعمال» (٩) ويدفعه : أنّ الأصل يخرج منه بدليل المنع ، وأنّ النجاسة العينيّة مانعة من مطلق الاستعمال كما أنّها مانعة من المعاوضة بالمال. ويكفي في دليله عموم قوله عليه‌السلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / ١ ، ب ٤٩ أبواب النجاسات ، التهذيب ٢ : ٣٥٨ / ١٤٨٥.

(٢) الوسائل ٢٤ / ١٨٦ / ٧ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٧٨ / ٣٣٢.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٨٦.

(٤) النهاية ٣ : ١٠١.

(٥) الشرائع ٣ : ٢٢٧. (٦) النافع : ٢٤.

(٧) الإرشاد ٢ : ١١٣. (٨) المقنع : ١٨.

(٩) المسالك ٢ : ٢٤٧.

٥٦

قوله عليه‌السلام : «أو شي‌ء من وجوه النجس» المتناول لمثل جلد الميتة أيضاً.

ولئن سلّمنا عدم كون النجاسة مانعة من الاستعمال فالميتيّة الّتي هي جهة اخرى كافية في المنع.

ويكفي في دليله العموم المذكور أيضاً بعد ذكر الميتة في عداد الامور المذكورة قبله ، مضافاً إلى خصوص عدّة روايات مصرّحة بمنع استعمال الجلد أيضاً بقول مطلق على ما تقدّم الإشارة إليها مثل خبر الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة الّتي يؤكل لحمها ذكيّاً؟ فكتب عليه‌السلام : لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب» (١).

وصحيح عليّ بن أبي المغيرة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ فقال : لا ، قلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بشاة ميتة ، فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال : تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكّى» (٢).

وخبر يونس بن يعقوب عن أبي مريم قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : السخلة الّتي مرّ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي ميتة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لم تكن ميتة يا أبا مريم ، ولكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» (٣)

وهذا كسابقه في الدلالة على ردع الراوي عمّا اعتقده من ترخيص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الانتفاع بجلد الميتة ، فيدلّان على المنع من الانتفاع بقول مطلق ، مضافاً إلى قوله عليه‌السلام : «لا» في سابقه المتناول لوجوه الانتفاع حتّى بجلدها بدليل فهم الراوي ولذا نقضه بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبما اعتقده على خلاف الواقع.

وموثّقة سماعة قال : «سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ فقال : إذا رميت وسمّيت

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٨٥ / ١ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٥.

(٢) الوسائل ٢٤ : ١٨٤ / ١ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٢٥٦ / ٧.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٨٥ / ٣ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٥.

٥٧

فانتفع بجلده ، وأمّا الميتة فلا» (١) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وبهذا كلّه يظهر ضعف ما سمعت عن الصدوق من تجويز الاستقاء بجلد الخنزير مع شذوذه وضعف مستنده ، وهو الأصل على ما أشار إليه في المسالك حيث قال : «إنّ النهي في الآية مورده الميتة مطلقاً الشامل للانتفاع بجلدها بخلاف الخنزير فإنّ مورده اللحم فلا يتعدّى إلى غيره للأصل» (٢).

وفيه : أنّ التعدّي إلى غيره يثبت بالأخبار فإنّها إمّا شاملة بمنطوقها من جهة الإطلاق لجلد الخنزير لأنّه نوع من جلد الميتة ، أو توجب التعدّي إليه بمفهومها الموافقة نظراً إلى الأولويّة ، وبه يتعيّن الخروج عن الأصل.

النوع الثالث : وهو ميتة ما ليس له نفس سائلة كميتة السمك ونحوه ، وهذه تشارك ميتة ذي النفس في الحرمة الذاتيّة وتمتاز عنها في الطهارة ، فلا يلحقها البحث من جهة النجاسة بل من حيث الحرمة. وهذا البحث يلحقها تارةً في حرمة التكسّب بها ، واخرى في جواز الانتفاع بشي‌ء منها من غير جهة الأكل ، كالانتفاع بدهنه للإسراج وتدهين الأجرب وطلي السفن ونحو ذلك.

أمّا الجهة الاولى : فالظاهر عدم الخلاف في حرمة التكسّب بها والمعاوضة عليها في الجملة ، وهو المعتمد لعموم قوله في رواية التحف : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا نهى عنه من جهته أكله ...» الخ ، وعموم الملازمة المستفادة من النبوي «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر جواز الانتفاع بدهنها فيما ذكر كما عليه جماعة (٣) وفي كلام بعض مشايخنا (٤) «الظاهر أنّه لا خلاف فيه» للأصل وفقد ما يوجب الإضراب عنه من النصوص وغيرها حتّى عموم قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» لاختصاصه

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٨٥ / ٤ ، ب ٣٤ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٩.

(٢) المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٣) كما في المسالك ٣ : ١٢١ ، الحدائق ١٨ : ٧٧ ، مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٩ ، الجواهر ٢٢ : ١٧.

(٤) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٤٠.

٥٨

بوجوه النجس وخصوص النصوص المانعة من الانتفاع بالميتة مطلقاً لاختصاصها بميتة ذي النفس بحكم الانصراف. ثمّ إنّ ما ذكر من فائدة الإسراج أو التدهين أو الطلي فوائد مقصودة للعقلاء من هذا الدهن ، فتكون من قبيل المنفعة المحلّلة ، وبيعه في تلك المنفعة جائز وصحيح ، وفي فائدة الأكل حرام وفاسد على ما تقدّم من قاعدة التفصيل فيما اشتمل على المنفعتين فليتدبّر.

فرع : إذا اختلط المذكّى والميتة من ذي النفس المأكول مع تعذّر التميّز ، فإن كان اختلاط مزج يجب اختيار الجميع قولاً واحد فيحرم بيعه وأكله وسائر الانتفاعات به ، ويؤيّده أو يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» (١) وإن كان اختلاط اشتباه مع كما في الشبهة المحصورة ، فالأصحّ وفاقاً للأكثر وجوب اجتناب الجميع عملاً بقاعدة الشبهة المحصورة ـ على ما تقرّر في الاصول ـ خلافاً للمحقّق الأردبيلي (٢) وصاحب الكفاية (٣) والنراقي في المستند (٤) فجوّزوا الارتكاب ولو بالأكل إلى أن يعلم بقاء مقدار الحرام ، للأصل ، وقوله عليه‌السلام : في صحيح ضريس الكناسي «سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم فآكله؟ فقال : أمّا ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام» (٥).

والأصل مدفوع بالقاعدة المأخوذ في موضوعها العلم الإجمالي المنجّز للتكليف ، والخبران مدفوعان باختصاصهما بمحتمل الحرمة الّذي لم يكن معه علم إجمالي فلا يتناولان المقام.

وهل يجوز بيع الجميع باعتبار كون أحدهما مذكّى؟ فله صورتان ، إحداهما : بيعه من المسلم ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف في عدم جوازه بل هو من فروع القاعدة المذكورة المقتضية لوجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، ولا يتمّ إلّا بالامتناع

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٧٢ / ٦.

(٢) مجمع الفائدة ١١ : ٢٧١.

(٣) الكفاية : ٢٥١.

(٤) المستند ١٥ : ١٥٤.

(٥) الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ / ١ ، ب ١٦٤ الأطعمة المحرّمة ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٦.

٥٩

عن بيع الجميع ، كما لا يتمّ إلّا بالامتناع عن أكل الجميع وعن سائر الانتفاعات بالجميع.

واخراهما : بيعه من المستحلّ للميتة ، وفيه اختلاف ، فعن الشيخ في النهاية (١) وابن حمزة في الوسيلة (٢) ويحيى بن سعيد في الجامع (٣) جوازه ، ومال إليه في الشرائع إن قصد به بيع المذكّى ، حيث قال : «وربّما كان حسناً إن قصد بيع الذكي حسب» (٤) ونسب اختياره إلى العلّامة في المختلف (٥) أيضاً ، ومستندهم صحيح الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا اختلط الذكيّ والميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة وأكل ثمنه» (٦) وحسنه بل صحيحه على الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّه سئل عن رجل كان له غنم وبقر وكان يدرك الذكيّ منها فيعزله ويعزل الميتة : ثمّ إنّ الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال : يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه فإنّه لا بأس» (٧) قيل ونحوهما خبر عليّ بن جعفر.

وعن الحلّي أنّه منع عن بيعه والانتفاع به مطلقاً ، لمخالفة الرواية لُاصول المذهب في جواز بيع الميتة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» (٨).

والمحقّق بما سمعت منه في الشرائع وجّه الرواية ـ كما فهمه في المسالك ـ بما إذا قصد به بيع المذكّى حسب ، فلا يكون منافياً لُاصول المذهب.

واستشكله في المسالك «بأنّ مع عدم إمكان التميز يكون المبيع مجهولاً فلا يمكن إقباضه فلا يصحّ بيعه منفرداً» (٩).

ونقل الجواب عنه عن المختلف «بأنّه ليس بيعاً حقيقيّاً بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فيكون سائغاً ، وإنّما اطلق عليه اسم البيع لمشابهته له في الصورة من حيث إنّه بذل مال في مقابلة عوض» (١٠).

واستشكله أيضاً بأنّ مستحلّ الميتة أعمّ ممّن يباح ماله إذ لو كان ذمّيّاً كان ماله

__________________

(١) النهاية : ٥٨٦.

(٢) الوسيلة : ٣٦٢.

(٣) الجامع للشرائع : ٢٥٠.

(٤) الشرائع ٣ : ٢٢٣.

(٥) المختلف ٨ : ٣١٩.

(٦) الوسائل ١٧ : ٩٩ / ١ ، ب ٧ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٢٦٠ / ٢.

(٧) الوسائل ١٧ : ٩٩ / ٢ ، ب ٧ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١.

(٨) السرائر ٣ : ١١٣.

(٩) المسالك ١٢ : ٥٨.

(١٠) المختلف ٨ : ٣١٩.

٦٠