ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

المبحث الأوّل

اختلف الأصحاب في أنّ للصيغة المخصوصة تأثيراً خاصّاً وأثراً مخصوصاً باعتبار كونها معتبرة في اللزوم أو في الصحّة أو في صدق الاسم أو لا؟ ومنه نشأ النزاع في المعاطاة بين قائل بكونها بيعاً صحيحاً لازماً ، وقائل بكونها بيعاً صحيحاً غير لازم ، وقائل بكونها بيعاً غير صحيح فلا يؤثّر ملكاً ولا إباحة ، وقائل بعدم كونها بيعاً أصلاً ، وحينئذ فإمّا أن تكون إباحة لوجوه التصرّفات ، أو معاملة مستقلّة موجبة لنقل الأعيان أو المنافع وليست بيعاً ولا إجارة ولا صلحاً ولا هبة ولا عارية ، أقوال خمس.

أوّلها : منسوب إلى ظاهر المفيد قائلاً ـ على ما حكي عنه في المقنعة ـ : «ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان المتبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان» (١) واستظهار الصحّة واللزوم من هذه العبارة لعلّه بملاحظة عدم تعرّضه فيها لذكر الصيغة مع تعرّضه لجملة من شرائط الصحّة ، فبالإطلاق تدلّ على انعقاد البيع مع الصحّة بدون الصيغة ، واعتباره الافتراق بالأبدان وهو شرط اللزوم لا الصحّة ، فيكون مفاد العبارة أنّه ينعقد البيع الصحيح اللازم بالامور المذكورة الّتي منها ما هو شروط للصحّة ، ومنها ما هو شرط للزوم. وعزي الموافقة له إلى الأردبيلي (٢) والكاشاني (٣) ونسبه في الحدائق (٤) أيضاً إلى صاحب الكفاية (٥) وإلى والده وإلى الشيخ عبد الله بن صالح البحراني وقال : «إنّهما نقلاه أيضاً عن شيخهما العلّامة الشيخ سليمان البحراني» (٦) ويظهر الميل إليه من عبارة المسالك (٧) لو لا الإجماع على خلافه ، لمكان

__________________

(١) المقنعة : ٩١.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ١٤٢.

(٣) المفاتيح ٣ : ٤٩.

(٤ و ٦) الحدائق ١٨ : ٣٥٠.

(٥) الكفاية : ٨٨.

(٧) المسالك ٣ : ١٥١.

٤٨١

قوله بعد ما نقله ما أحسنه وأمتن دليله : إن لم ينعقد الإجماع على خلافه. والظاهر أنّ مراده انعقاد الإجماع على خلافه في دعوى اللزوم لا في القول بانعقاد البيع وصحّته بدون الصيغة المخصوصة. وعن شرح القواعد للشيخ أيضاً حكاية الإجماع محصّلاً ومنقولاً على عدم كفاية المعاطاة في اللزوم ، وقضيّة ذلك أيضاً كون مخالفة قول المفيد للإجماع في دعوى اللزوم فقط ، بل قد يدّعى الضرورة على أنّ للصيغة المخصوصة تأثيراً خاصّاً وأثراً مخصوصاً ، ولا يكون ذلك الأثر إلّا اللزوم إذ لا ضرورة بل لا إجماع على اعتبارها في صدق الاسم ولا في الصحّة.

وثانيها : خيرة المحقّق الثاني في شرح القواعد وتعليق الإرشاد (١) ووصفه في عبارته المحكيّة عن شرح القواعد بالمعروفيّة بين الأصحاب قائلاً : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم خلافاً لظاهر عبارة المفيد ، ولا يقول أحد بأنّها بيع فاسد سوى المصنّف في النهاية (٢) وقد رجع عنه في كتبه (٣) المتأخّرة عنها ، وقول الله تعالى : «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٤) يتناولها لأنّها بيع بالاتّفاق حتّى من القائلين بفسادها لأنّهم يقولون إنّها بيع فاسد. وقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (٥) عامّ إلّا ما أخرجه الدليل ...» (٦) إلى آخر ما ذكره. وستسمع تتمّة عبارته ، واختاره أكثر من تأخّر عنه إن لم نقل عامّتهم.

واحتمله في المسالك ، وجعل عبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة ذلك ، قائلاً : «هل المراد بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب العين إفادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن الخيار وبالتصرّف يتحقّق لزومه ، أم الإباحة المحضة الّتي هي بمعنى الإذن في التصرّف وبتحقّقه يحصل الملك له وللعين الاخرى؟ يحتمل الأوّل ... إلى أن قال : وعبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة هذا المعنى لأنّه قال : الأقوى عندي أنّ المعاطاة غير لازمة بل لكلّ منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية (٧) ومقتضى تجويز الفسخ ثبوت الملك في الجملة ، وكذا تسميتها معاوضة والحكم باللزوم

__________________

(١) حاشية الإرشاد : ٢١٦.

(٢) النهاية ٢ : ٤٤٩.

(٣) كما في المختلف : ٣٤٨.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

(٥) النساء : ٢٩.

(٦) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٧) التحرير ٢ : ٢٧٥.

٤٨٢

بعد الذهاب» (١) انتهى.

وقد يستظهر القول بانعقادها بيعاً مع الصحّة ممّن عدا الشيخ في المبسوط (٢) والخلاف (٣) وأتباعه كالحلّي في السرائر (٤) والحلبي في الكافي (٥) وابن الزهرة في الغنية (٦) عن جماعة من القدماء كالقديمين ـ ابني أبي عقيل والجنيد ـ وابني بابويه والبرّاج والمرتضى والجعفي وابن سعيد في الجامع والنزهة التفاتاً إلى عدم ذكرهم الصيغة المخصوصة ولا غيرها من الألفاظ في عداد الشرائط المعتبرة في انعقاده وصحّته ، ولا ينافيه تعريفه بالعقد في كلام غير واحد منهم ، وإن فسّرنا العقد بالإيجاب والقبول لأنّه أعمّ من القوليّين والفعليّين والملفّقين ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه بحسب العرف واللغة عبارة عن الربط والشدّ الصادقين مع الأفعال الغير المتوقّفين على الألفاظ سيّما الصيغة المخصوصة. بل قد يحتمل لأجل ما ذكر موافقة هؤلاء المفيد في دعوى اللزوم زيادة على الانعقاد والصحّة.

وثالثها : ما اشتهر نسبته إلى العلّامة في نهاية الإحكام كما سمعت نسبته إليه في عبارة جامع المقاصد فقال : «بأنّها بيع فاسد لا يؤثّر في ملك ولا في إباحة للتصرّفات» (٧)

وقد يقال ، بأنّ له موافقاً وهو المحقّق في الشرائع لمكان قوله : «ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإن حصل من الأمارات ما يدلّ على إرادة البيع سواء كان في الحقير أو الخطير» مع قوله فيما بعد ذلك : «ولو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضموناً عليه» فإنّ العبارة الاولى ظاهرة في نفي الآثار المترتّبة على البيع من الملك وإباحة التصرّفات مع تسليم كونها بيعاً بقرينة قوله في العبارة الثانية : «ولو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد الخ. كما أنّ قوله : «لم يملكه» في هذه العبارة صريح في نفي الملكيّة ، وقوله : «كان مضموناً عليه» صريح في نفي الإباحة إذ الحكم بالضمان إنّما هو على تقدير عدم إفادتها الإباحة أيضاً. فمفاد العبارتين أنّ المعاطاة المعبّر عنها بالتقابض من غير لفظ ليست من البيع الصحيح المفيد للملك ولا الإباحة من غير ملك ،

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٥١.

(٢) المبسوط ٢ : ٨٧.

(٣) الخلاف ٣ : ٤١ مسألة ٥٩.

(٤) السرائر ٢ : ٢٥٠.

(٥) الكافي في الفقه : ٢٥٢.

(٦) الغنية : ٢١٤.

(٧) التحرير ٢ : ٢٧٥.

٤٨٣

وهذا عين ما صار إليه العلّامة في النهاية.

وفيه نظر : لأنّ العبارة الثانية في كلام المحقّق مسوقة لإعطاء قاعدة كلّيّة في كلّ مبيع مقبوض بالعقد الفاسد الّذي يكون فساده لاختلال شرط من شروط الصحّة وإن صدق معه العقد وانعقد أصل البيع من غير أن يكون ذلك من فروع الحكم السابق ، والعبارة الاولى مسوقة لبيان عدم كفاية التقابض من غير لفظ في انعقاد العقد الّذي عرّفه أوّلاً باللفظ الدالّ على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم. وهذا لا ينافي انعقاد البيع ولا صحّته من غير لفظ ، لجواز التفكيك بينه وبين العقد موضوعاً.

بناءً على دعوى اختصاص العقد بالإيجاب والقبول اللفظيين وعدم دخله في حقيقة مسمّى البيع ، كما عليه مبنيّ بعض طرق القول بصحّة المعاطاة وانعقادها بيعاً ، ومنه : ما عن أبي حنيفة من العامّة وبعض كتب الحنفيّة على ما نقل حكايته عنه عن الشيخ في الخلاف حيث قال : «إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال : أعطني بها بقلاً أو ماءً ، فأعطاه فإنّه لا يكون بيعاً وكذلك سائر المحقّرات ، وإنّما يكون إباحة له فيتصرّف كلّ منهما فيما أخذه تصرّفاً مباحاً من دون أن يكون ملكه ، وفائدة ذلك أنّ البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته كان لهما ذلك لأنّ الملك لم يحصل لهما ، وبه قال الشافعي (١) وقال أبو حنيفة (٢) : يكون بيعاً صحيحاً وإن لم يحصل الإيجاب والقبول ، وقال ذلك في المحقّرات دون غيرها ...» (٣) إلى آخر ما ذكره. وعن بعض كتب الحنفيّة أنّه بعد ما فسّر البيع بمبادلة مال بمال قال : «وينعقد بالإيجاب والقبول وبالتعاطي» (٤).

فلم يظهر من عبارة الشرائع أنّه قائل بفساد البيع مع انتفاء الإيجاب والقبول اللفظيّين ، كما لا يظهر منها أيضاً كونه قائلاً بانعقاد موضوع البيع بدونه. فكلامه يحتمل وجوهاً : انعقاد المعاطاة بيعاً صحيحاً مفيداً لملك متزلزل كما عليه الكركي ، وانعقادها

__________________

(١) المجموع ٩ : ١٦٣ ، فتح العزيز ٨ : ٩٩.

(٢) المجموع ٩ : ١٦٢ ، فتح العزيز ٨ : ١٠١ ، النتف ١ : ٤٤٢.

(٣) الخلاف ٣ : ٤١ المسألة ٥٩.

(٤) الفتاوى الهندية ٣ : ٢.

٤٨٤

بيعاً فاسداً غير مفيد للملك والإباحة كما عليه العلّامة في النهاية ، وانعقادها إباحة مجرّدة عن الملك لا بيعاً كما عليه الشيخ وأتباعه ، وربّما يحتمل موافقته للمفيد أيضاً بناءً على كون البيع في مورد انفكاكه عن العقد على القول به مثله في اللزوم إلّا ما خرج بالدليل.

ورابعها : مذهب الشيخ وأتباعه فقالوا بأنّها تفيد إباحة وجوه التصرّفات بعد نفي تسميتها بيعاً ، وقد سمعت عبارة الشيخ في الخلاف وعلى منوالها عبارة السرائر (١) ويقرب منهما عبارة الغنية (٢) وغيرها.

وقد يجعل ذلك قولين :

أحدهما : إفادتها لإباحة مطلق التصرّفات حتّى ما يتوقّف منها على الملك ، كالوقف ووطء الجارية والهبة والبيع ، وعزي إلى ظاهر عبائر كثير منهم بل في المسالك «أنّ كلّ من قال بالإباحة يسوّغ جميع وجوه التصرّفات» (٣).

وثانيهما : إباحة ما لا يتوقّف من التصرّفات على الملك كالأكل والشرب واللبس والركوب وما أشبه ذلك ، وعزي إلى ظاهر كلام الشهيد في حواشيه على القواعد (٤) وفي المسالك جعل القول بالإباحة مشهوراً ، لكن المحقّق الكركي نزّله في جامع المقاصد على إرادة الملك المتزلزل ليوافق مختاره من انعقادها بيعاً جائزاً حيث قال ـ عقيب عبارته المتقدّمة في تحرير القول الثاني ـ : «وما يوجد في عبارة جمع من متأخّري الأصحاب من أنّها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب إحدى العينين يريدون به عدم اللزوم في أوّل الأمر وبالذهاب يتحقّق اللزوم ، لامتناع إرادة الإباحة المجرّدة من أصل الملك ، إذ المقصود للمتعاطيين الملك فإذا لم يحصل كان بيعاً فاسداً ولم يجز التصرّف وكافّة الأصحاب على خلافه ، وأيضاً فإنّ الإباحة المحضة لا يقتضي الملك أصلاً ورأساً فكيف يتحقّق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده؟ وإنّما الأفعال لمّا لم يكن دلالتها على المراد بالصراحة كالقول لأنّها تدلّ بالقرائن منعوا من لزوم العقد بها ، فيجوز الترادّ

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٥.

(٢) الغنية : ٢١٤.

(٣) المسالك ٣ : ١٤٩.

(٤) الحاشية النجاريّة (مخطوط) : ٥٧.

٤٨٥

ما دام ممكناً ، ومع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم ، ويكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع الترادّ في الباقي إذ هو موجب لتبعّض الصفقة والضرر» (١) انتهى.

ويشكل مع عدم اختصاص هذا القول بالمتأخّرين بل العمدة من أهله الشيخ وأتباعه عدم إمكان هذا التنزيل بالنظر إلى ما في كلام كثير منهم من نفي البيعيّة صريحاً ، مع في كلام غير واحد أيضاً كالشيخ والحلّي من نفي الملك صريحاً. وحمله على إرادة نفي استقرار الملك الغير المنافي لحصوله متزلزلاً ـ مع كمال بعده ـ لا يجدي نفعاً بعد التصريح بنفي البيعيّة.

وخامسها : ما يظهر من الشهيد فيما حكي عنه في موضع من شرحه للقواعد من قوله : «إنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة أو لازمة» (٢) انتهى ، وتبعه الشيخ في شرح القواعد فإنّه بعد ما اختار في المعاطاة مطلقاً إفادتها الملك قال فيما حكي عنه : «وهل هي داخلة في اسم المعاملة الّتي جاءت في مقامها فتجري فيها شرائطها وأحكامها؟ ظاهر جماعة من الأصحاب اختيار ذلك ، فتجري فيها قائمة مقام البيع أحكام الشفعة والخيار والصرف والسلم وبيع الحيوان والثمار وجميع شرائطه سوى الصيغة ، ولم يقم على ذلك شاهد معتبر من كتاب أو سنّة أو إجماع ، والأقوى أنّها قسم آخر بمنزلة الصلح والعقود الجائزة ، ويلزم فيها ما يلزم فيها ، فتصحّ المعاطاة على المشاهد من مكيل أو موزون من غير اعتبار مكيال أو ميزان ، وبنحو ذلك جرت عادة المسلمين. نعم لو أرادوا المداقّة بنوا على إيقاع الصيغة والمحافظة على الشروط ، فالظاهر أنّه متى جاء بالفعل مستقلّاً أو مع ألفاظ لا يستجمع الشرائط مقصوداً بهما المسامحة جاء حكم المعاطاة ، وعلى الأوّل فإن صرّح فيها بإلحاق بيع أو غيره بنى عليه وإلّا فالبيع أصل في المعاوضة على الأعيان مقدّم على الصلح والهبة المعوّضة والإجارة أصل في نقل المنافع مقدّمة على الصلح والجعالة» (٣) انتهى.

وهاهنا قولان آخران :

أحدهما : التفصيل بين ما يقع بالفعل المحض من غير لفظ يدلّ على الرضا فلا يفيد

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٥٠.

(٣) شرح القواعد ٢ : ٣١ ـ / ٣٢.

٤٨٦

إلّا جواز التصرّف وما يقع باللفظ الدالّ عليه كائناً ما كان وإن لم يجامع الشروط المعتبرة في الصيغة المخصوصة ، فينعقد بيعاً صحيحاً بل لازماً كما أشار إلى حكايته في المسالك عن بعض مشايخه ، قائلاً ـ بعد نقل قول المفيد ـ : «وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين (١) يذهب إلى ذلك أيضاً لكن يشترط في الدالّ كونه لفظاً وإطلاق كلام المفيد أعمّ منه» (٢) ووافقه صاحب الحدائق (٣) بل يظهر من مفتاح الكرامة أنّ له موافقاً آخر من أهل البحرين غيره حيث نقل هذا القول عن السيّد المذكور «ومن وافقه من أهل البحرين» (٤) بصيغة الجمع.

وثانيهما : التفصيل بين أن يكون في قصدهما إيقاع البيع اللازم وعدمه ، فيفسد على الأوّل مطلقاً ويصحّ على الثاني بيعاً ولكن مع الجواز لا اللزوم ، وهو الّذي رآه بعض مشايخنا (٥) حقّاً وزعم كونه موافقاً لقواعد الشريعة جامعاً بين الأدلّة الشرعية المتعارضة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ محلّ النزاع ومورد الكلام الّذي يتوارد عليه هذه الأقوال هو أن يقصد المتعاطيان بفعلهما تمليك العين وتملّكها بعوض مأخوذ في المجلس أو مضمون في الذمّة ولو قصداً إجماليّاً وهو كون المركوز في نفسهما المحرّك لهما إلى هذا الفعل هو الملك في العوضين وإن لم يلتفتا إليه حين الفعل لاشتغال الذهن إلى شاغل آخر ، وإن شئت تطبيق ذلك على معنى البيع المتقدّم المشترك بين الصحيح والفاسد فعبّر عنه بمبادلة عين بعوض بقصد التمليك والتملّك فيهما من دون إعمال صيغة مخصوصة منهما ولا من أحدهما سواء وقع بينهما حين الفعل لفظ آخر غيرها يدلّ على التراضي وقصد الملك المعاوضي أو لم يقع.

وكون ذلك هو المحلّ للنزاع ومورد الأقوال هو المنساق من مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم المصرّح به في كلام جماعة ولا سيّما غير واحد من مشايخنا قدّس الله أرواحهم ، وهو الّذي يساعد عليه الاعتبار لوجوب توارد أقوال المسألة

__________________

(١) ومراده من بعض مشايخه المعاصرين السيّد حسن بن السيّد جعفر البحراني.

(٢) المسالك ٣ : ١٤٩.

(٣) الحدائق ١٨ : ٣٥٠.

(٤) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٠٦.

(٥) المكاسب ٣ : ٥١.

٤٨٧

المختلف فيها على أمر واحد مشترك بين الجميع.

ومن أغرب ما سبق إلى بعض الأوهام في هذا المقام جعل محلّ النزاع المعاطاة المقصود بها مجرّد الإباحة الخالية عن قصد الملك رأساً ، كما نسبه شيخنا المعظّم إلى بعض معاصريه ، وقال : «إنّه رجّح بقاء الإباحة في كلامهم على ظاهرها المقابل للملك ونزّل مورد حكم قدماء الأصحاب بالإباحة على هذا الوجه» وطعن على من جعل محلّ النزاع في المعاطاة بقصد التمليك قائلاً : «بأنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلاً عن أعاظم الأصحاب وكبرائهم» (١) انتهى.

وفيه : أنّ ما لا يقصد فيه الملك أصلاً ولو إجمالاً ـ مع كونه خلاف ما هو بأيدي الناس في جميع الأعصار والأمصار من المعاطاة في أغلب معاملاتهم خصوصاً المحقّرات ـ كيف يتحمّل القول بالبيعيّة مع الصحّة واللزوم والقول بالبيعيّة المفيدة لملك متزلزل والقول بالبيعيّة الفاسدة والقول بالمعاوضة المستقلّة المفيدة لملك الأعيان والمنافع ، بخلاف المعاطاة المقصود بها الملك فإنّها تتحمّل جميع هذه الأقوال ، ولا ينافيها القول بإفادتها الإباحة المحضة فإنّ قصد التمليك يتضمّن الإذن في عموم التصرّفات الّتي يقال لها الإباحة المالكيّة ، غايتها أنّها حيث حصل الملك ملغاة في نظر الشارع لأنّ العين بعد ما خرج عن ملك صاحبها ودخل في ملك آخر لا عبرة في جواز التصرّفات له بإذن المالك الأوّل ، إلّا أنّه من الجائز في محلّ النزاع كون قصد التمليك ممّا لم يمضه الشارع مع إمضائه لما يتضمّنه من الإذن في التصرّفات ، وهذا هو معنى انعقاد المعاطاة إباحة وعدم انعقادها بيعاً.

ودعوى : أنّ مقصود المتعاطيين إذا كان هو الملك والمفروض عدم حصوله فكيف يتصوّر معه جواز التصرّف ، استبعاد محض لا يصغى إليه ، مع أنّ جواز التصرّف يتبع الإباحة المالكيّة الّتي أمضاها الشارع على ما هو مفروض القول بالإباحة ، فإنّ ذلك ليس بأبعد من حصول البيعيّة أو هي مع الملك أو هما مع اللزوم فيما فرض عدم قصد شي‌ء من ذلك ، بل هذا أبعد بمراتب شتّى من حصول جواز التصرّف مجرّداً عن الملك

__________________

(١) الجواهر ٢٢ : ٢٢٥.

٤٨٨

فيما قصد به الملك.

فما تقدّم من أنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة ... الخ.

يدفعه : أنّ القول بالبيع أو هو مع الملك أو هما مع اللزوم من دون قصد شي‌ء من ذلك ممّا لا ينبغي نسبته إلى أصاغر الطلبة.

ثمّ إنّ النزاع في المعاطاة من الجهات المذكورة إنّما هو باعتبار خلوّها عن الصيغة المخصوصة لا لاختلال شي‌ء من الشرائط المعتبرة في انعقاد البيع وصحّته ، ولذا صرّح جماعة بأنّه يعتبر تحقّق جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع بحيث لم يفارق البيع بالصيغة المحكوم عليها بالصحّة واللزوم إلّا في خلوّها عن الصيغة الخاصّة الّذي نشأ منه النزاع واختلفت بسببه الأنظار.

ونحن لتحقيق المقام وتبيين ما هو المختار في محلّ الكلام نتكلّم في جهات ثلاث :

الجهة الاولى : في مدخليّة الصيغة المخصوصة في صدق الاسم وتحقّق عنوان البيعيّة وعدمها ، فإنّ فيه خلافاً ظهر ممّا تقدّم ، إذ كلّ من قال بأنّ المعاطاة تفيد إباحة التصرّف يلزمه القول بأنّها ليست بيعاً كما هو صريح الشيخ في عبارته المتقدّمة من الخلاف وكذلك من يتبعه ، وعن الحاشية الميسيّة «أنّ المشهور بين الأصحاب أنّها ليست بيعاً محضاً ولكنّها تفيد فائدته في إباحة التصرّف» (١) وعن الغنية الإجماع عليه حيث إنّه بعد ذكر الإيجاب والقبول في عداد شروط الصحّة وانعقاد البيع قال : «واعتبرنا حصول الإيجاب والقبول تحرّزاً عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والإيجاب من البائع بأن يقول بعنيه بألف فيقول بعتك بألف فإنّه لا ينعقد بذلك بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك اشتريت أو قبلت حتّى ينعقد ، واحترازاً أيضاً عن القول بانعقاده بالمعاطاة نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول أعطني بقلاً فيعطيه فإنّ ذلك ليس ببيع وإنّما هو إباحة للتصرّف ، ويدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه» (٢) انتهى.

ويظهر دعواه أيضاً من عبارة المسالك حيث إنّه بعد ما ذكر ملزمات المعاطاة قال :

__________________

(١) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٤٩٩.

(٢) الغنية : ٢١٤.

٤٨٩

الثامن على تقدير لزومها بأحد الوجوه المذكورة فهل يصير بيعاً أو معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل ، ويحتمل الثاني لإطباقهم على أنّها ليست بيعاً حال وقوعها فكيف يصير بيعاً بعد التلف» (١) انتهى.

وفي مقابله القول بكونها بيعاً ولو مع الفساد أو الصحّة وعدم اللزوم كما عليه المفيد والعلّامة في النهاية والكركي ومن تبعه من أكثر المتأخّرين (٢) إن لم نقل كلّهم ، وقد تقدّم في عبارة الكركي في جامع المقاصد قوله : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم» (٣) بل ربّما نسب إليه دعوى الاتّفاق عليه.

وهذا هو الأقوى بل الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف لوجوه :

منها : إطلاق البيع والشراء والابتياع والاشتراء في محاورات أهل العرف العامّ من المتشرّعة وغيرهم قديماً وحديثاً في جميع الأعصار والأمصار على المعاطاة بجميع صورها الّتي سيأتي إليها الإشارة المتداولة بين الناس من أهالي الأسواق وغيرهم من المدنيّين والبدوييّن من المسلمين وغيرهم من ملل الكفر بجميع أصنافهم ، فإنّ كلّ من عامل في سلعته كائنة ما كانت مع أحد بطريق المعاطاة وبادلها بعوض يقصد التمليك والتملّك من غير صيغته يقول في مقام الخبر : بعته ويقال له : باع ، كما يقول صاحبه : ابتعت أو اشتريت ، ويقال له : ابتاع أو اشترى ، إطلاقاً شائعاً لا يشوبه شكّ وريبة ، بل هو من أوضح الواضحات الّتي لا حاجة لها إلى الاستدلال.

والمناقشة فيه بأنّه استعمال وهو أعمّ من الحقيقة ، يدفعها أنّ قاعدة أعمّية الاستعمال وإن كانت في موردها مسلّمة غير أنّ المقام ليست من مجاريها ، فإنّ الاستعمال حسبما يقع ويتحقّق في محاورات العرف على أنواع ، فقد يجهل حاله من حيث إنّه يلاحظ معه علاقة بين المستعمل فيه ومعنى آخر أو لم يلاحظ ، وقد يعلم بأنّه يلاحظ معه العلاقة ، وقد يعلم بأنّه لا يلاحظ معه علاقة أصلاً ، والأوّل ما يقال فيه أنّ

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٥١.

(٢) كما في مجمع الفائدة ٨ : ١٣٩ ، والمفاتيح ٣ : ٤٨ ، والحدائق ١٨ : ٣٥٠.

(٣) جامع القاصد ٤ : ٥٨.

٤٩٠

الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمقام من قبيل الأخير ، وهو كالتبادر من خواصّ الحقيقة ولوازم الوضع ، كما أنّ ما قبله من خواصّ المجاز وعلائمه.

وما ذكرناه في دفع المناقشة أسدّ وأتمّ ممّا قيل : من أنّ أعمّيّة الاستعمال إنّما هو مع تعدّد المستعمل فيه وهو هنا غير ثابت واستعماله فيما كان مع الصيغة بدون التقابض لا يثبته لجواز كون المستعمل فيه هو القدر المشترك ، إذ لا فرق في عدم دلالة الاستعمال من حيث هو على شي‌ء من الحقيقة والمجاز بين صورتي اتّحاد المستعمل فيه وتعدّده كما حقّقناه في الاصول. ثمّ إنّ الإطلاق المذكور بعد ما ثبت كونه على وجه الحقيقة فلا ينافي كون اللازم من المختار كون البيع مقولاً بالتواطؤ على المعاطاة وعلى البيع بالصيغة ، لكونه وضعاً للقدر الجامع بينهما وهو مبادلة عين بعوض بقصد الملك لكونه حينئذٍ من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

ومنها : التبادر فإنّ قول القائل : «بعت داري أو ثوبي أو فرسي أو حطبي أو بقلي» وغير ذلك من استعمالات هذا اللفظ عند الإطلاق يتبادر منه في العرف القدر المشترك بينها وبين ما وقع بالصيغة ، أعني المعاملة الصالحة لوقوعها على وجه المعاطاة أو بالصيغة دون خصوص ما يقع منها بالصيغة.

ومنها : عدم صحّة سلب اسم البيع عنها بجميع صورها الآتية ، فإنّ من قال لمن باع سلعته كائنة ما كانت بطريق المعاطاة : ما باع أو ما بعته أو أنّه ليس ببيع ، كان مستهجناً في نظر أهل العرف مستنكراً لديهم.

ومنها : أنّه لو قال قائل : «بعت متاعي ولكن ما أجريت الصيغة» لم يتناقض أي لا يفهم التناقض بين قوليه ، وصحّة الاستفهام ممّن قال : «بعت متاعي» بعبارة هل بعت بالصيغة أو بغير صيغة؟. وهذه الوجوه كلّها من خواصّ الحقيقة ، وبها يثبت كون البيع حقيقة في المعاطاة وعدم دخول الصيغة المخصوصة في معناه بحسب الوضع العرفي ، ثمّ يتمّ كونه كذلك بحسب اللغة والعرف القديم وعرف زمان الشارع أيضاً بأصالة عدم النقل.

وتوهّم : أنّ خروج الصيغة عن مسمّى البيع بحسب الوضع اللغوي لا ينافي دخوله فيه بحسب الشرعي ، يدفعه : عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولا المتشرعيّة في لفظ البيع وغيره من المعاملات كما حقّقناه في الاصول ، ويكشف عنه عدم اصطلاح للمتشرّعة

٤٩١

فيه سوى اصطلاح العرف العامّ ، مع أنّا نقطع بثبوت البيع من قديم الأيّام حتّى أزمنة الجاهليّة بل الامم الماضية ولم يتصرّف فيه الشارع بنقل ولا تجوّز سوى أنّه اعتبر في صحّته شروطاً.

وبجميع ما بيّنّاه خصوصاً ما حقّقناه من الإطلاق يندفع ما قيل في منع تسميتها بيعاً عرفاً على وجه الحقيقة ، من أنّ غاية العرف استعماله فيها ، ولا ريب في أنّه من مسامحاته «وإلّا فأهل العرف مطبقون على عدم المسامحة في البيوع الخطيرة» (١) كما في مفتاح الكرامة ، فإنّ المسامحة في إعمال الصيغة في الامور الحقيرة لا تقضي بالمسامحة في استعمال البيع في البيوع الخالية عن الصيغة وهذا واضح.

احتجّوا أوّلاً : بإجماع الغنية.

وثانياً : بأنّها لو كانت بيعاً لكان لازماً والتالي باطل وكذا المقدّم ، أمّا الملازمة فبالإجماع على أنّ كلّ بيع لازم.

وثالثاً : بالاستقراء المقرّر بأنّا وجدنا كلّ عقد من العقود وكلّ إيقاع من الإيقاعات أنّها لا تنعقد إلّا بألفاظ مخصوصة على أنّها أسباب لانعقادها فكذا البيع لأنّ الظنّ يلحق الشي‌ء بالأعمّ الأغلب ، ويؤيّده أنّ البيع أمر نفساني لا يظهر إلّا من دلالة صريحة ، ولا دلالة صريحة إلّا الألفاظ إذ الأفعال لا دلالة فيها ، ولو سلّم فدلالتها ليست صريحة.

والجواب عن الأوّل : بأنّه منقول فليس بمقبول سيّما في المسألة اللغويّة الّتي لا دخل للكشف فيها عن رأي المعصوم عليه‌السلام والمفروض عدم كون البيع من مصطلحات الفقهاء ليرجع في معرفته إلى اتّفاقهم بل هو كالماء والأرض والسماء والكلاء من الموضوعات العرفيّة العامّة الّتي يرجع فيها إلى العرف العامّ الكاشف عن اللغة ، ولو سلّم كون منقوله مفيداً للظنّ فلا عبرة به في اللغة.

وقد يجاب أيضاً بمعارضته لاتّفاق جامع المقاصد الّتي اختلف النقل عنه فتارةً قوله : «إنّ المعاطاة بيع بالاتّفاق» كما في المستند (٢) واخرى أنّ المعاطاة بيع عند كافّة الأصحاب (٣).

__________________

(١) مفتاح الكرامة ١٢ : ٥٠٥.

(٢) المستند ١٤ : ٢٤٩.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

٤٩٢

وقد يزاد أنّ هذا أقوى وأسدّ لكون ناقله أثبت وأبصر وأخبر ، مع أنّ إجماعات الغنية في نفسها مستراب فيها لعدم اعتدادهم بها ويتوهّن منقوله ، هذا بالخصوص بمخالفته لما تقدّم من أدلّة القول المختار وبالإجماع العملي من المسلمين كافّة على إجراء المعاطاة مجرى البيع اسماً وحكماً ، حتّى أنّهم يستنكرون نفي البيع عنها.

وقد يؤوّل جمعاً بينه وبين أدلّة كونها بيعاً ، فيقال : بأنّ دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعاً كابن زهرة في الغنية فمرادهم بالبيع المعاملة اللازمة الّتي هي إحدى العقود ، ولذا صرّح في الغنية «بكون الإيجاب والقبول من شرائط صحّة البيع» (١).

والجواب عن الثاني : بمنع دخول اللزوم في مسمّى البيع بل هو كالجواز المقابل له من أحكام العقد ، والأصل الثابت من عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) وغيره في كلّ عقد هو اللزوم إلّا ما خرج بدليل قضى بالجواز ، ومنه المعاطاة على ما ستعرفه.

والجواب عن الثالث : منع الاستقراء المذكور بناءً على جريان المعاطاة في سائر العقود ، مع أنّ قاعدة الإلحاق بعد ما تقدّم من الأدلّة ممّا لا حكم لها.

وأمّا التأييد ففيه ـ مع أنّه لو تمّ لقضى باعتبار مطلق اللفظ لا الألفاظ المخصوصة كبعت وشريت وابتعت واشتريت ـ منع انحصار صراحة الدلالة في الألفاظ ، فإنّ الفعل أيضاً بمعونة قرائن الأحوال أيضاً يصير صريح الدلالة على المقصود كما في المعاطاة المبحوث عنها ، إذ الكلام فيما علم كون قصد المتعاطيين ملك العوضين ولو إجمالاً ، وعلامته أنّ كلاًّ منهما بعد الإعطاء والأخذ يخصّص ما وصل إليه بنفسه يقول إنّ هذا لي أو أنّه مالي حتّى أنّه يحلف عليه ويعارض من أنكر كونه له ، فلا فرق في تحقّق البيع وصدق الاسم بين كون الدالّ على قصد الملك هو الفعل أو القول أو الملفّق منهما ، كما لا فرق في القول الدالّ عليه بين الألفاظ المخصوصة أو مطلق اللفظ.

وبالتأمّل في ذلك يظهر أنّ المعاملة البيعيّة لها صور كثيرة ترتقي إلى خمس وعشرين صورة ، وذلك لأنّها إمّا فعليّة أو قوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها من اللفظ

__________________

(١) الغنية : ٢١٤.

(٢) المائدة : ١.

٤٩٣

المطلق ، أو فعليّة وقوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها ، وكلّ واحدة من هذه الخمس إمّا في جانب الإيجاب أو في جانب القبول ، ومرتفع الخمس في الخمس خمس وعشرون ، أربع منهما بيع بالصيغة وإذا القي عنها هذه الأربع بقيت إحدى وعشرون صورة كلّها مندرجة في المعاطاة ، لما قيل من أنّ هذه اللفظة في لسان الفقهاء صارت اصطلاحاً في كلّ معاملة وقعت بغير لفظ أو بغير صيغة مخصوصة ، أو مع اختلال إحدى الشروط المعتبرة في الصيغة من العربيّة والماضويّة والصراحة وغيرها.

ولا ريب على المختار في تحقّق ماهيّة البيع في الجميع إذا حصلت بقصد الملك على وجه التعويض وصدق اسم البيع على الجميع لتبادر القدر المشترك من لفظه عند الإطلاق واستعمال البيع في كلّ واحدة من غير ملاحظة علاقة وعدم صحّة سلب الاسم عنها. وتوهّم أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة قد ظهر ما فيه ، كما أنّ توهّم ابتنائه على المسامحة العرفيّة قد ظهر ما فيه لعدم صحّة سلب الاسم.

ودعوى : أنّه يطلق عليها البيع مجازاً ولذا يقيّد بالمعاطاة ويقال بيع المعاطاة كما في ماء البحر ، يدفعها عدم منافاة ذلك الحقيقة لوضوح الفرق بين التقييد والتزامه كما في ماء البحر ، ولذا يصحّ إطلاق البيع بدون القيد أيضاً ، فالإضافة من إضافة العامّ إلى الخاصّ والقيد توضيحي فلا يكون علامة للمجاز.

وهل يعتبر الصيغة المخصوصة أو مطلق اللفظ في مسمّى العقد فالمعاطاة بجميع صورها أو في كثير منها لا تكون عقد وإن صدق عليها البيع ، أو لا فالمعاطاة عقد كما أنّها بيع؟ قولان ، أوّلهما لازم كلّ من عرّف البيع بالعقد أو الإيجاب والقبول أو اللفظ الدالّ على نقل الملك ثمّ قال بأنّ المعاطاة ليست بيعاً بل تفيد إباحة التصرّفات أو أنّها معاوضة مستقلّة.

وقد يقال : إنّ اللفظ على تقدير اعتباره في مسمّى العقد فإنّما يعتبر في الإيجاب لا في القبول ، فكلّما تحقّق إيجابه باللفظ فهو عقد سواء تحقّق قبوله أيضاً باللفظ أو بالفعل. والأقوى عدم اعتباره لا في الإيجاب ولا في القبول ، لا في العقود اللازمة ولا في العقود الجائزة.

ودعوى : أنّ الأصحاب أجمعوا على اعتبار اللفظ في مسمّى العقد في الجملة إمّا

٤٩٤

إيجاباً فقط أو إيجاباً وقبولاً ، مردودة على مدّعيها.

وبالجملة فالمعاطاة المبحوث عنها كما يصدق عليها اسم البيع فكذلك يصدق عليها اسم العقد لما قرّرناه في رسالة منفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود ، وخلاصته : أنّ العقد بحسب العرف واللغة عبارة عن الربط والشدّ ، ويصدق على الربط المعنوي المتحقّق بين شخصين فيما يتعلّق بالأموال أو ما بحكمها ، وهو في محلّ البيع أن يربط البائع سلعته بالمشتري بجعله بالقصد والنيّة ملكاً له ليصير ما عند المشتري من الثمن في عوضه ملكاً له والمشتري بقبوله وهو إنشاء الرضا بما صنعه البائع يمضي ربط البائع وجعله ، ولا ريب أنّه أعمّ ممّا يتحقّق بالألفاظ المخصوصة أو بمطلق الألفاظ أو بالأفعال حيث قارنها القصد والرضا ، فالبائع هو الرابط ، والصيغة المخصوصة في الإيجاب أو مطلق اللفظ أو الفعل الكاشف عن القصد والرضا ما به الربط ، فالعقد بمعنى الربط صادق على المعاطاة المبحوث عنها بجميع صورها المتقدّمة وإن قلنا بأنّ وضع العقد لغة إنّما هو للربط الحسّي كما في ربط أحد طرفي الحبل بطرفه الآخر وربط حبل بحبل آخر ، وربط خرقة بخرقة ونحوها ، وأنّ إطلاقها على الربط المعنوي مبنيّ على الاستعارة إذ المقصود عدم اعتبار اللفظ في صدق العقد بمعنى الربط المعنوي وإن قلنا بكون إطلاقه عليه على وجه الاستعارة.

فالمعاطاة المقصود بها ملك العوضين عقد بمعنى الربط المعنوي حقيقة ، ولا ينوط صدقه وصحّة إطلاقه ولو باعتبار المعنى المجازي المستعار له بكون ما به الربط هو اللفظ المخصوص أو مطلق اللفظ ، نظير الأسد المستعار للرجل الشجاع الصادق باعتبار هذا المعنى على الأبيض والأسود النافي لاحتمال دخول البياض في معناه المستعار له. وبالجملة لفظ العقد باعتبار معنى الشدّ والربط كما يصدق على العقود المنعقدة بالألفاظ المخصوصة أو بمطلق اللفظ ، كذلك يصدق على المعاطاة بجميع صورها سواء فرضناه من المعنى الحقيقي أو معنى مجازيّاً له ، فالمعاطاة المقصود بها التمليك والتملّك ممّا يتحقّق به الربط بين المتعاطيين ويصدق عليه اسم العقد صدقاً حقيقيّاً إن كان صدقه على سائر العقود على وجه الحقيقة أو مجازيّاً إن كان في سائر [العقود] على هذا الوجه.

٤٩٥

وأمّا دفع ما ذكرناه تارةً بدعوى القطع بعدم كونها ممّا يسمّى عقداً واخرى بأنّ العقد كالبيع من الموضوعات العرفيّة فلا بدّ في معرفتها من مراجعة العرف وقد فهم فقهاؤها باعتبار العرف أنّ المعاطاة ليست عقداً ، واضح الدفع بأنّا نقطع بتسميتها عقداً بالوجه الّذي يسمّى سائر العقود من جهته عقداً كما عرفت ، وأنّ فهم الفقهاء إن اريد به فهم كلّهم فغير مسلّم ، وإن اريد به فهم بعضهم أو أكثرهم فغير قادح بعد ما ساعد اللفظ باعتبار الوضع أو العلاقة المصحّحة للاستعمال على تحقّق المعنى المتحقّق في العقود اللفظيّة ، وهو الربط المعنوي في المعاطاة أيضاً.

الجهة الثانية : في مدخليّة الصيغة المخصوصة في الصحّة وعدمها ، ويرجع الكلام في ذلك إلى أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك والتملّك ـ بعد ما بنينا على كونها بيعاً ـ هل تقع صحيحة على معنى كونها بحيث يترتّب عليها أثر حصول الملك وانتقال كلّ من العوضين إلى مالك الآخر بناءً على عدم كون الصيغة المخصوصة معتبرة في صحّة البيع ، أو أنّها فاسدة بناءً على اعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة؟ قولان ، ثانيهما للعلّامة في النهاية (١) كما تقدّم.

وأوّلهما للمحقّق الثاني (٢) ومن تبعه من المتأخّرين (٣) ولعلّه أكثر المتأخّرين إن لم نقل كلّهم ، فالمشهور بين المتأخّرين هو هذا القول.

وقد يتوهّم أنّ الشهرة القدمائيّة في جانب القول بالفساد نظراً إلى ما تقدّم عن الشيخ وأتباعه من إنكار إفادتها الملك ، بل عليه كلّ من قال بأنّها تفيد إباحة التصرّفات.

ويدفعه أوّلاً : أنّ هذا الإنكار بناءً منهم على إنكار كونها بيعاً ، وأمّا على تقدير كونها بيعاً كما أنّ كلامنا على هذا التقدير فلم يظهر منهم إنكار إفادتها الملك.

وثانياً : أنّه لم يعلم موافقة الشيخ على هذا القول من أكثر القدماء كابن بابويه والقديمين والمرتضى وابني حمزة وسعيد وأضرابهما ممّن لم يتعرّض للصيغة المخصوصة في شرائط الصحّة كما تقدّم.

__________________

(١) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٣) كما في مجمع الفائدة ٨ : ١٣٩ ، المفاتيح ٣ : ٤٨ ، الحدائق ١٨ : ٣٥٠ ، الكفاية : ٨٨.

٤٩٦

وكيف كان فالأقوى ما هو المشهور بين المتأخّرين من صحّة المعاطاة وإفادتها الملك لوجوه :

أوّلها : سيرة المسلمين قديماً وحديثاً في جميع الأعصار والأمصار على أنّهم يعاملون في الأموال المأخوذة بالمعاطاة معاملة الأملاك في تصرّفاتهم فيها ، من البيع والهبة والوقف والعتق ووطء الجارية والوصيّة والتوريث واستطاعة الحجّ وإخراج الخمس والزكاة وجعل المهر في النكاح دواماً وانقطاعاً وما أشبه ذلك ، فتكشف عن رضا صاحب الشريعة وصادعها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتوهّم بنائها على المسامحة وقلّة المبالاة في الدين كما في ارتكابهم لكثير من الامور الغير المشروعة ، يدفعه عدم كونها حادثة بل قديمة من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعصار الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام ودخول الفقهاء والعلماء والصلحاء والمتّقين والمتورّعين ، مضافاً إلى أنّ من آثار الملكيّة الّتي يرتّبونها على الأموال المذكورة ما لا مسرح لاحتمال المسامحة فيه ، كالحلف أو الإحلاف عليه في مقام التداعي أو الدعوى والإنكار وإقامة البيّنة على الملكيّة والقضاء بها ، وعدم تكذيب المدّعي للملكيّة وكون التكذيب من مكذّبه مستنكراً إلّا إذا استند تكذيبه إلى اختلال شرط من شروط الصحّة.

وبهذا كلّه تندفع المناقشة فيها بأنّ أقصاها الكشف عن إباحة التصرّفات ، فإنّ التصرّفات المبتنية على الملك خصوصاً الحلف والإحلاف وإقامة البيّنة على الملكيّة والقضاء بها لا تتمّ بدون الملك.

وبهذا كلّه مضافاً إلى القطع باستقرار السيرة على استناد تصرّفاتهم بأسرها على الملكيّة واعتقاد حصول الملك من أوّل الأمر وكشفها عن تقرير المعصوم على أصل الملكيّة واعتقاد حصولها بنفس المعاطاة ابتداءً ومن أوّل الأمر ، يعلم أنّه لا مجال لأحد أن يقول بمنع اعتبار الملك في التصرّفات المتوقّفة عليه في جميع أحوالها ـ التفاتاً إلى عدم كون التوقّف عقليّاً حتّى يستحيل الانفكاك بل شرعي ثبت بالإجماع أو غيره من الأدلّة فيجوز اختصاص موردها بغير المأخوذ بالمعاطاة ، فإنّ نحو هذا الاحتمال ليس بمستبعد ، كيف وعليه مبنيّ القول بالإباحة ممّن يسوغ جميع وجوه التصرّفات حتّى المتوقّفة منها على الملك ، مع أنّ نحو هذه التصرّفات من غير ملك مع توقّف نوعها على

٤٩٧

الملك بعادم النظير في الشريعة ، كما في بيع ثلث الميّت أو وقفه الموصى بهما على القول بعدم كونه ملكاً للميّت والمفروض عدم كونه ملكاً للوصي ولا للوارث ، وبيع الوقف العامّ عند قيام ما يسوغه على القول في الوقف بكونه فكّ الملك أو انتقال ملكه إلى الله عزوجل ، وشراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه بقيّة التركة وما أشبه ذلك ـ ولا أن يقول بعد تسليم التوقّف الدائمي على الملك بمنع اقتضاء السيرة الجارية بنحو هذه التصرّفات سبق الملك وحصوله من أوّل الأمر ، لكفاية حصوله آناً ما في صحّة التصرّف ، فيجوز حينئذٍ التزام إباحة جميع التصرّفات مع التزام حصول الملك عند التصرّف المتوقّف على الملك لا من أوّل الأمر.

ثانيها : قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) فإنّه يدلّ على الصحّة فيما سمّي بيعاً على معنى كونه بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك ، كما استدلّ به الفقهاء قديماً وحديثاً على الصحّة في جميع أبواب البيوع. وهذا ممّا لا إشكال فيه ، بل الإشكال في بيان وجه دلالة الآية على الصحّة فإنّه لا يخلو عن غموض ، غير أنّ الظاهر أنّها تدلّ عليها بالالتزام ، نظراً إلى أنّ مدلولها المطابقي هو الحكم التكليفي ، وهو ترخيصه تعالى في المعاملة البيعيّة المتداولة بين الناس المقصود بها التمليك والتملّك ، إذ الإحلال إفعال من الحلّ عبارة عن جعل الحلّيّة كما أنّ التحريم من الحرمة عبارة عن جعل الحرمة ، فحاصل معناه أنّه تعالى جعل الحلّيّة للبيع ورخّص فيه ، ويستلزم ذلك عرفاً كون البيع بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك.

ويؤيّده قرينة المقابلة بينه وبين قوله : «وَحَرَّمَ الرِّبا» فإنّ تحريمه الربا معناه منعه تعالى من المعاملة الربويّة وطلب تركها حتماً ، وهذا يكشف عن مبغوضيّة هذه المعاملة في نظره تعالى ، فيستلزم عرفاً أو عقلاً عدم كونها بحيث يترتّب عليها أثر الملك أو كونها بحيث لا يترتّب عليها الأثر ، فقوله : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» بقرينة المقابلة معناه رخّص الله في البيع ، فيكشف عن عدم مبغوضيّة البيع في نظره تعالى بل كونه بحيث رضي به تعالى ، فيستلزم عرفاً أو عقلاً كونه بحيث يترتّب عليه الأثر.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٤٩٨

وقد يقال كما حكي : إنّ الآية تدلّ عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا على مجرّد الحكم التكليفي. ولم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد به أنّ الإحلال من الحلّ وهو مرادف للصحّة بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الأثر ، فيكون معنى «أحلّ الله البيع» صحّح الله البيع ، ففيه منع واضح ، إذ الحلّ بمعنى الحلّيّة باعتبار وضعه العرفي أو الشرعي كما هو المصرّح به في كلامهم نقيض للحرمة ، وكونه مرادفاً للصحّة يقتضي وضعه ثانياً بالنقل أو بالاشتراك لمعنى الصحّة ، والأصل ينفيهما ، وعلى هذا فالآية دالّة بالمطابقة على الحكم التكليفي لا الوضعي.

وأمّا ما يقال في وجه الاستدلال بالآية : من أنّ المتبادر عرفاً من حلّ البيع صحّته شرعاً ، فإن اريد به التبادر الأوّلي من حاقّ اللفظ على حدّ التبادرات الوضعيّة الكاشفة عن الوضع ، فمرجعه إلى دعوى الدلالة بالمطابقة على الصحّة ، وقد عرفت ما فيه.

وإن اريد به التبادر المستند إلى القرينة الخارجيّة على حدّ تبادرات المعاني المجازيّة المستندة إلى قرائنها ، فيكون المتبادر على هذا الوجه من أحلّ البيع صحّح الله البيع ، فأصل الدعوى ممّا لا حزازة فيه إلّا أنّ الإذعان بها يحتاج إلى وجود قرينة التجوّز في الآية ولم نقف عليها ، فوقوع التجوّز بإرادة الصحّة من الحلّ غير واضح.

وإن اريد به التبادر الثانوي على حدّ تبادر المداليل الالتزاميّة الحاصل عقيب تبادر المدلول المطابقي فلعلّه يرجع حينئذ إلى ما قرّرناه فلا حجر فيه حينئذٍ.

وقد يقرّر وجه الاستدلال بالآية بأنّه يدلّ على حلّيّة جميع التصرّفات المترتّبة على البيع ، ولا يخلو عن قصور إلّا أن يوجّه بأنّ حلّيّة التصرّفات المترتّبة على البيع تكشف عن صحّة نظر أهل العرف ومطابقة معتقدهم للواقع ، حيث إنّهم يستعملون البيع في معاملاتهم باعتقاد التأثير في حصول الملك خصوصاً إذا حمل البيع على تمليك العين على وجه التعويض كما تقدّم في تعريفه ، بتقريب أنّ التمليك لا يتحقّق ولا يصدق إلّا حيث حصل الملك ، فالمراد من البيع التمليك المستتبع لحصول الملك ولكن في نظر أهل العرف وعلى حسب معتقدهم.

والشكّ في الصحّة والفساد حيث يستدلّ لإثبات الصحّة بالآية يرجع إلى الشكّ في صحّة نظر العرف ومطابقة معتقدهم للواقع ، وحلّ التصرّفات المترتّبة على البيع بهذا

٤٩٩

المعنى يكشف عن صحّة نظرهم ومطابقة معتقدهم للواقع ، على معنى حصول الملك في الواقع الّذي يستتبعه التمليك المقصود حين المعاملة في نظر العرف وعلى حسب معتقدهم.

وكيف كان فاورد على الاستدلال بالآية لإثبات الصحّة مطلقاً أو في خصوص المعاطاة بوجوه :

منها : أنّ الآية لا تعلّق لها بهذا الدين بل مفادها حكم متعلّق باليهود والنصارى ، لكونها حكاية عنهم كما يشهد به ظاهر صدر الآية. وفيه من الوهن ما لا يخفى إذ لا شهادة في صدر الآية بما ذكر بل ظاهر سياقها وما قبلها وما بعدها من الآيات خصوصاً قوله : «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (١) مع قوله : «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (٢) كون الخطاب مع المسلمين فيكون حلّيّة البيع وحرمة الربا من أحكام الإسلام ، ولو سلّم كون قول «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» من مقالة أهل الكتاب فلا ينافي كون الخطاب معهم حال دخولهم في الإسلام ، نظراً إلى أنّهم لمّا تمسّكوا بعد الإسلام بمقالتهم السابقة على الإسلام فنزلت الآية لردّهم.

ومنها : عدم تناول الآية للمعاطاة لعدم كونها بيعاً ، كما عليه مبنيّ قول العلّامة في النهاية. ويدفعه ما سبق من تحقيقه في الجهة الاولى ، فالاستدلال بالآية إنّما هو [بعد] الفراغ عن إحراز كونها بيعاً.

ومنها : أنّ من شروط حجّيّة إطلاق المطلق عدم وروده مورد بيان حكم آخر ، وهذا الشرط غير موجود هنا ، لكون الآية مسوقة لبيان حلّيّة البيع في الجملة على طريقة القضيّة المهملة في مقابلة تحريم الربا على وجه السلب الكلّي ، من غير نظر إلى التعميم والتخصيص بالقياس إلى المعاطاة والبيع بالصيغة ، وذلك كما يقال : فلان يلبس الفرو ، فإنّ معناه ليس أنّه يلبس أيّ فرو أو كلّ فرو حتّى يستدلّ به على الحكم في مطلق حتّى ما يتّخذ من جلد غير المأكول كالثعلب والأرنب أو من جلد نجس العين كالكلب والخنزير ، فكأنّه تعالى في الآية قال : «ما أحلّ الله إلّا البيع» من باب قصر الأفراد ردّاً

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٥٠٠