ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

الفساد لعدم وقوع ما قصد.

ومنشأ الإشكال اشتباه الدلالة اللفظيّة لهذه العبارة ونظائرها ، وتحقيق المقام مبنيّ على النظر في تشخيص المنهيّ عنه ومتعلّق الحرمة هل هو الغشّ للبيع كما هو صريح قوله : «نهى النبيّ أن يشاب اللبن بالماء للبيع» (١) وهو أيضاً ظاهر حديثي المناهي وعقاب الأعمال بل ظاهر حديث زينب العطّارة ، أو هو البيع لكونه غشّاً كما هو مقتضى حديث هشام بن الحكم في بيع السابري في الظلال ، أو هو بيع المغشوش كما عليه مبنيّ قول الأردبيلي؟

ودلالة النهي على فساد المعاملة إنّما يسلّم على هذا التقدير ، لكون البيع حينئذٍ من المنهيّ عنه لنفسه فيفيد النهي إمّا شرطيّة الخلوص أو مانعيّة الخلط ، وأيّاً ما كان فهو يفيد الفساد باعتبار انتفاء شرط الصحّة أو وجود مانع الصحّة على قياس ما هو الحال في النهي عن بيع الأعيان النجسة المقتضي لشرطيّة الطهارة الأصليّة في المبيع أو مانعيّة النجاسة الذاتيّة فيه عن الصحّة ، وكذلك النهي عن بيع المغصوب المقتضي لشرطيّة المملوكيّة أو مانعيّة المغصوبيّة.

وأمّا على الوجهين الأوّلين : فلا يقتضي النهي المفروض فيهما فساد المعاملة ، أمّا على الوجه الأوّل فلأنّ النهي متعلّق بالغشّ للبيع وهو لا يستلزم حرمة البيع فضلاً عن فساده ، نظير النهي عن الكذب للبيع.

وأمّا على الوجه الثاني : فلأنّ النهي متعلّق بالبيع لأمر خارج أعمّ منه من وجه متّحد معه في الوجود ، نظير المكالمة مع الأجنبيّة المنهيّ عنها المتّحدة مع البيع بالصيغة معها ، ومثل هذا النهي لا يوجب فساد البيع لعدم كونه من المنهيّ لنفسه ولا لجزئه ولا لشرطه ولا لوصفه اللازم ، ولقد عرفت أنّ قضيّة طائفة من أخبار الباب تعلّق النهي بالغشّ على الوجه الأوّل أو على الوجه الثاني ، فيحمل على أحدهما مطلقات الأخبار كقوله : «ليس من المسلمين من غشّهم» (٢) و «من غشّ الناس فليس منّا» (٣) وما أشبه ذلك.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٨٠ / ٤ ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٥.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٧٩ / ٢ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦ / ٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٨٣ / ١١ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣٣٤.

٣٦١

وأمّا تعلّقه على الوجه الثالث : فممّا لا شاهد عليه في الروايات فلا يلتفت إلى احتماله.

وتوهّم : وروده على هذا الوجه من حديث الدنانير المصبوبة حيث قال عليه‌السلام : ـ فيه بعد كسر الدينار المغشوش ـ «القه في البالوعة حتّى لا يباع بشي‌ء فيه غشّ» (١) لعود ضمير «لا يباع» إلى ذلك الدينار المغشوش.

يدفعه أوّلاً : عدم كون هذه الرواية بظاهرها معمولاً بها ، لعدم وجوب الكسر ولا الإلقاء في البالوعة. ولو سلّم فأقصى ما فيها من الدلالة إنّما هو الأمر بالإلقاء في البالوعة لا النهي عن البيع ولا ملازمة بينهما ، ولو سلّم النهي أيضاً فقصارى ما فيه حرمة البيع ، وأمّا أنّه لكونه غشّاً أو لكونه بيعاً للمغشوش فلا دلالة فيها على أحدهما صراحةً ولا ظهوراً ، فيكون بالقياس إلى الوجه الثاني مجملة. على أنّه بعد الكسر قد ظهر ما خفي فيه من الغشّ ، وقد عرفت عدم الحرمة حينئذٍ.

وأمّا كلام المحقّق الثاني وبناؤه الفساد على مسألة تغليب الاسم ففيه : أنّ الأقوى والأصحّ في مسألة تعارض الاسم والإشارة نوعاً وإن كان تغليب الاسم أخذاً بما هو الظاهر المنساق من العبارة في متفاهم العرف ـ من كون قصد المتعاقدين إلى العنوان الواقع اسمه على الشخص الخارجي وهو المشار إليه الحاضر كالحمار في المثال المتقدّم فيكون وقوع الإشارة وجريان العقد عليه على الخطأ والاشتباه ، فالمقصود بالذات في نحو المثال إنّما هو بيع الفرس وشراؤه ـ إلّا أنّ اسمه لم يصادف مصداقه بل صادف مصداق غيره ممّا ليس مقصوداً بالذات ، فيفسد العقد لأنّ ما قصد لم يقع العقد عليه وما وقع العقد عليه لم يقصد.

وأمّا إدراج ما نحن فيه من الغشّ بإجراء العقد على المغشوش كاللبن المشوب ونحوه في عنوان هذه المسألة فليس على ما ينبغي ، إذ لا تعارض فيه بين الاسم والإشارة بل هما متطابقان ، ضرورة أنّ مقصود البائع والمشتري بالبيع إنّما هو اللبن وله بحسب الخارج مصداقان صحيح وهو الخالص ، ومعيب وهو المشوب ، والاسم صادق عليهما حقيقة ، إذ المفروض عدم كون الخلط والشوب بحيث أخرجه عن اللبنيّة وإلّا

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٨١ / ٥ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٣.

٣٦٢

خرج عن موضع مسألة الغشّ وكان بيعه فاسداً ، فلو قال : بعتك هذا اللبن مشيراً إلى المشوب ، فقد باع ما هو من مصاديق العنوان المقصود بالبيع ، فقد صادف الاسم والإشارة محلّهما ، والعقد جرى على ما هو من مصاديق المقصود فيكون صحيحاً ، غاية الأمر كون المبيع معيوباً فيثبت للمشتري خيار العيب ، وكذا الحكم من حيث ثبوت الخيار في سائر أنواع الغشّ بالبيع.

ويلحق بباب الغشّ أمران :

أحدهما : النجش بفتح النون وسكون الجيم ، وهو عبارة عن أن يزيد الرجل في قيمة سلعة رجل وهو لا يريد شراءها ليرغب فيه غيره فيزيد لزيادته ، وهو سواء كان مع المواطاة مع البائع أو لا معها حرام شرعاً بلا خلاف ظاهراً ، بل عن جامع المقاصد (١) نقل الإجماع عليه ، وفي النبويّ «لعن الناجش والمنجوش له» (٢) وفي آخر «لا تناجشوا» (٣) وربّما اجبرا بالإجماع المنقول ، بل قيل : قبيح عقلاً لأنّه غشّ وتلبيس وإضرار ، وعلى تقدير كونه من الغشّ المنهيّ عنه يكفي في إثبات تحريمه كلّ ما دلّ على تحريم الغشّ من المطلقات.

وقد يفسّر النجش كما في القاموس (٤) والمجمع «بأن يمدح السلعة في البيع ليروّجها ويقع غيره فيها» (٥) مع المواطاة للصاحب أو لا معها (٦) قيل : وحرمته بهذا التفسير خصوصاً لا مع المواطاة يحتاج إلى دليل ، وحكي (٧) الكراهة عن بعض.

أقول : كأنّه نزّله على كون المدح بما يستحقّها السلعة لاتّصافها بالصفة الممدوحة ، وإلّا فلا ينبغي التأمّل في القبح والحرمة لكونه كذباً وإغراء وتغريراً وإضراراً ، بل ربّما يندرج في غشّ البائع إذا كان مع المواطاة كما لا يخفى.

وأمّا الكراهة في صورة الاستحقاق فهي أيضاً محتاجة إلى الدليل ، وعلى القول

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٩.

(٢) الوسائل ١٧ : ٤٥٨ / ٢ ، ب ٤٩ آداب التجارة ، الكافي ٥ : ٥٥٩ / ١٣.

(٣) الوسائل ١٧ : ٤٥٩ / ٤ ، ب ٤٩ آداب التجارة ، معانى الأخبار : ٢٨٤.

(٤) القاموس المحيط ٢ : ٢٨٩.

(٥) مجمع البحرين ٤ : ١٥٤.

(٦) المكاسب للشيخ الأنصاري ٢ : ٦٢.

(٧) مفتاح الكرامة ٤ : ١٠٦.

٣٦٣

بكفاية فتوى الفقيه في تسامح أدلّة السنن لا يبعد التزامها.

ثانيهما : تدليس الماشطة الّتي يراد تزويجها أو الجارية الّتي يراد بيعها ، والمراد به في كلام الأصحاب أعمّ من كتمان عيوبها أو إظهار محاسن لها ليست فيها ليرغب فيها الخاطبون والراغبون ، كتحمير وجهها وتسويم حواجبها لترى طويلة أو متقوّسة ، وهو على المعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر حرام ، وفي الرياض (١) بلا خلاف ، وعن الأردبيلي (٢) الإجماع عليه ، وهو مع ذلك إغرار وإغرار وإضرار فيقبح عقلاً بل غشّ بمعنى الخيانة أو عدم إمحاض فيعمّه دليل تحريمه.

ويدلّ عليه في الجملة الخبر المرويّ عن معاني الأخبار بسنده عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن آبائه قال : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النامصة والمنتمصة والواشرة والموتشرة ، والواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة» (٣).

قال الصدوق في شرح هذه الامور الأربع ـ ناقلاً عن عليّ بن غراب راوي الحديث ـ : «النامصة الّتي تنتف الشعر ، والمنتمصة الّتي يفعل ذلك بها ، والواشرة الّتي تشر أسنان المرأة وتفلجها وتحدّدها ، والموتشرة الّتي يفعل ذلك بها ، والواصلة الّتي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها ، والمستوصلة الّتي يفعل ذلك بها ، والواشمة الّتي تشم وشماً في يد المرأة أو في شي‌ء من بدنها ، وهو أن تغرر بدنها أو ظهر كفّها أو شيئاً من بدنها بإبرة حتّى تؤثّر فيه ثمّ تحشوه بالكحل أو بالنورة فتخضر» (٤) انتهى. واللعن ظاهر في التحريم ، وإطلاقه يعمّ صورة التدليس من فعل هذه الامور بل هو القدر المتيقّن من الإطلاق.

وأمّا لو كان كتمان العيب أو إظهار الحسن لا للتدليس بل للزينة للزوج فالظاهر جوازه بلا خلاف يظهر ، للأصل ، مضافاً إلى النصوص ـ الدالّة على الرخصة في الزينة بل استحبابها للزوج ـ الّتي منها : رواية سعد الإسكاف قال : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن القرامل الّتي تضعها النساء في رءوسهنّ يصلنه بشعورهنّ؟ فقال : لا بأس على المرأة

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٧٢.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٨٤.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٣٣ / ٧ ، ب ١٩ ما يكتسب به ، معاني الأخبار : ٢٤٩ / ١.

(٤) معاني الأخبار : ٢٤٩.

٣٦٤

بما تزيّنت به لزوجها ، قال : فقلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : ليس هنالك إنّما لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواصلة الّتي تزني في شبابها فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك الواصلة والموصلة» (١).

فهذه الرواية كما ترى بإطلاقها بل عمومها يعمّ الامور الأربع المتقدّمة في حديث اللعن ، فتدلّ على جوازها للزينة ، فيتعارض مع هذا الحديث تعارض العامّين من وجه ، وتخصيص حديث اللعن بصورة التدليس طريق جمع بينهما.

والعكس أيضاً بتخصيص رواية الزينة بما عدا الامور الأربع وإن كان محتملاً في بادئ النظر غير أنّه مزيّف باستلزامه تخصيص العامّ بالمورد وهو إخراج المورد عن تحته ، فإنّ من الامور الأربع وصل شعر المرأة وهو مورد السؤال في الرواية.

إلّا أن يذبّ عن ذلك بأنّ أحد الامور الأربع وصل شعر المرأة بشعر امرأة اخرى ومورد الرواية هو القرامل ، ولعلّ المراد به وصل شعرها بصوف أو شعر معز كما ورد في عدّة أخبار ، فلا يلزم المحذور المذكور بتخصيص الرواية بما عدا الامور الأربع.

ولكن يرد عليه أوّلاً : أنّ في بعض الأخبار ما يظهر كون القرامل للأعمّ ، كخبر عبد الله بن الحسن قال : «سألته عن القرامل؟ قال : وما القرامل؟ قلت : صوف تجعله النساء في رءوسهنّ ، قال : إذا كان صوفاً فلا بأس ، وإن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة والموصولة» (٢) فإنّ القرامل لو لا كونه أعمّ كان تفصيل الإمام عليه‌السلام لغواً.

وثانياً : أنّ تحريم وصل الشعر بالشعر مطلقاً خلاف النصّ والإجماع.

أمّا الأوّل : فلظهور «لا خير» في الخبر المتقدّم في الكراهة ، ويفصح عنها بل يدلّ على الجواز ما تقدّم في خبر سعد الإسكاف من إنكاره عليه‌السلام لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواصلة والموصولة بمعنى واصلة الشعر ، وصرفه اللفظين في قضيّة لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معنى الزانية والقائدة.

وأمّا الثاني : فلما عن الخلاف (٣) والمنتهى (٤) من الإجماع على أنّه يكره وصل

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٣٢ / ٣ ، ب ١٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٩ / ٣.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٣٢ / ٥ ، ب ١٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٦١ / ١٩٢٦.

(٣) الخلاف ١ : ٤٩٢.

(٤) المنتهى ١ : ١٨٤.

٣٦٥

شعرها بشعر غيرها رجلاً كان أو امرأة. وعلى هذا فتخصيص حديث اللعن بصورة التدليس متعيّن كتعيّن الجواز على كراهية في وصل الشعر بالشعر للزينة ، وعليها يحمل النهي عنه في خبرين آخرين :

أحدهما : مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دخلت ماشطة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها : هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت : يا رسول الله أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال : افعلي فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق ، فإنّه يذهب بماء الوجه ، ولا تصلي الشعر بالشعر» (١).

والآخر : خبر القسم بن محمّد عن عليّ قال : «سألته عن امرأة مسلمة تمشّط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك وقد دخلها ضيق؟ قال : لا بأس ، ولكن لا تصل الشعر بالشعر» (٢) وأمّا ما عدا الوصل من الامور المذكورة في حديث اللعن بعد التخصيص المذكور فلا دليل على كراهته ، ورواية سعد بعمومه يفيد الرخصة ، والأصل عدم الكراهة.

نعم على طريقة من يحمل اللعن على شدّة الكراهة جمعاً بينه وبين رواية الرخصة عموماً يتّجه القول بها في الجميع ، غير أنّه في غاية الضعف إذ لا شبهة في حرمة هذه الأربع وغيرها في مقام التدليس فلا بدّ مع (٣) الحمل المذكور ، فلا محيص من تخصيص مع الحمل المذكور بإخراج صورة التدليس ، وهذان تأويلان في الحديث بلا موجب لأحدهما فوجب الاقتصار على أحدهما ، وهو التخصّص بإخراج صورة الزينة لحصول الجمع بذلك من دون مسيس الحاجة إلى الحمل على الكراهة. ثمّ بعد ما ثبت كون تدليس الماشطة محرّماً حرم التكسّب به وأخذ الاجرة عليه. ونحو تدليس الماشطة تدليس المرأة بنفسها في الحرمة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٣١ / ٢ ، ب ١٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٩ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٣٢ / ٤ ، ب ١٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٩ / ١٠٣٠.

(٣) كذا ، والظاهر : من.

٣٦٦

النوع الحادي عشر

تزيين الرجل بما يحرم عليه

وهو على أنواع :

منها : تزيينه بالذهب وإن قلّ ، وبالحرير المحض عدا ما استثني ، فإنّه حرام بالادلّة المتقدّمة في باب لباس المصلّي من الصلاة مشروحة فلا حاجة إلى الإعادة.

ومنها : تزيينه بالزينة المختصّة بها من حليها ، كلبسه السواد والخلخال.

ومنها : لبسه الثياب المختصّة بها ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمان والأصقاع.

والحرمة فيهما وإن وصفها في الرياض بكونه على الأظهر الأشهر ، غير أنّ دليلها غير واضح عدا خبرين :

أحدهما : ما عن الكافي من قول أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : «لعن الله المحلّل والمحلّل له ... إلى أن قال : والمتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال» (١).

والآخر : ما عن العلل عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام «أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : اخرج من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا لعنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال عليّ عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال» (٢) قال الصدوق : وفي حديث آخر

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٨٤ / ١ ، ب ٨٧ ما يكتسب به ، الكافي ٨ : ٦٩ / ٢٧.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٨٤ / ٢ ، ب ٨٧ ما يكتسب به ، علل الشرائع : ٦٠٢ / ٦٣.

٣٦٧

«أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شي‌ء» (١).

ورمي بقصور الدلالة لأنّ الظاهر من التشبّه تأنث الذكر وتذكّر الانثى لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه ، وايّد بالخبر الثاني لمكان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأى رجلاً به تأنيث» وبرواية يعقوب بن جعفر الواردة في المساحقة «إنّ فيهنّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله المتشبّهات بالرجال من النساء ...» (٢) الخ ، ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال ، وهم المخنّثون واللائي ينكحهن بعضهنّ بعضاً» (٣).

ويمكن منع القصور بأنّ التشبّه من الجهة المذكورة لا ينافي التشبّه من جهة اللباس أيضاً واللفظ عامّ ، ويؤيّده رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «عن الرجل يجرّ ثيابه ، قال : إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء» (٤) وعنه عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء ، وينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها» (٥) غير أنّ فيهما ظهور في إرادة الكراهة خصوصاً أوّلهما بقرينة الموردة. فالمسألة لا تخلو عن إشكال وإن كان القول بالحرمة مطلقاً لا يخلو عن قوّة. وعلى حرمة التشبّه مطلقاً على الرجال يحرم على النساء أيضاً فيحرم عليهنّ لبس الثياب المختصّة بالرجال.

وأمّا الخنثى المتردّدة بين الذكر والانثى فيجب عليها تجنّب كلتا الزينتين المختصّتين بالرجال والنساء للعلم الإجمالي بتوجّه الخطاب باجتناب إحداهما المعيّنة في الواقع ، فتكونان من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما فتجتنب عنهما مقدّمة. وقد يستشكل على تقدير كون مدرك الحكم حرمة التشبّه بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبّه ، فليتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٨٥ / ٣ ، ب ٨٧ ما يكتسب به ، علل الشرائع : ٦٠٢ / ٦٤.

(٢) الوسائل ٢٠ : ٢٨٥ / ٥ ، ب ٢٤ النكاح المحرّم.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٢٨٥ / ٦ ، ب ٢٤ النكاح المحرّم.

(٤) الوسائل ٥ : ٢٥ / ١ ، ب ١٣ أحكام الملابس ، مكارم الأخلاق : ١١٨.

(٥) الوسائل ٥ : ٢٥ / ٢ ، ب ١٣ أحكام الملابس ، مكارم الأخلاق : ١١٨.

٣٦٨

الباب الرابع

في التكسّب بما يجب عليه فعله عيناً أو كفاية

وليعلم أنّ عبارات المحقّق والشهيد في النافع والشرائع واللمعة والدروس في عنوان هذه المسألة مختلفة ، ففي النافع «أخذ الاجرة على القدر الواجب من تغسيل الأموات وتكفينهم وحملهم ودفنهم والرشاء في الحكم ...» (١) الخ ونحوه ما في اللمعة (٢) وفي الشرائع «ما يجب على الإنسان فعله كتغسيل الموتى وتكفينهم وتدفينهم» (٣) ونحوه في الدروس قائلاً : «ما يجب على المكلّف فعله إمّا عيناً كالصلاة اليوميّة ، أو كفاية كتغسيل الميّت وتكفينه والصلاة عليه» (٤) والمرفوع في الجميع خبر السادس أو الخامس من التكسّب المحرّم أو المحرّم من التكسّب ، وقد خصّاه في النافع واللمعة بأخذ الاجرة وأطلقاه في الشرائع والدروس.

ومن ثمّ قد يقال في الفرق بينهما : بأنّ الأوّل يختصّ بعقد الإجارة نظراً إلى أنّ الاجرة عبارة عن المال المبذول في عقد الإجارة بإزاء المنفعة فلا يجري في سائر العقود ولو سلّم العموم فغايته الشمول كعقد الجعالة دون غيره ، بخلاف الثاني فإنّه يعمّهما وعقد الإجارة المجعول فيه فعل الواجب اجرة مبذولة بإزاء منفعة اخرى ، كما لو قال : آجرتك هذه الدابّة على أن تغسل ذلك الميّت مثلاً ، وعقد البيع المجعول فيه فعل الواجب ثمناً بناءً على أنّه أعمّ من الأعيان والمنافع وأنّ ما اشتهر من اختصاص البيع

__________________

(١) النافع : ١١٨.

(٢) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٣) اللمعة : ٦١.

(٤) الدروس ٣ : ١٧٢.

٣٦٩

بالأعيان معناه اختصاص المثمن فيه بها كما هو الأقوى خلافاً لمن يخصّه بالأعيان مثمناً وثمناً ، وعقد الصلح المجعول فيه ما صولح عنه أو مال المصالحة فعل الواجب ، وعقد النكاح المجعول فيه فعل الواجب مهراً ، والخلع والمباراة المجعول فيهما فعل الواجب فدية.

أقول : يمكن إرجاع كلّ من التعبيرين إلى مؤدّى الآخر ، أمّا إرجاع الأوّل فنحمله على إرادة المثال لعموم مناط المنع وهو كون الوجوب مانعاً كالحرمة ، وأمّا إرجاع الثاني فبأن يحمل التكسّب المحرّم فيما يجب فعله على الإنسان على إرادة التكسّب الخاصّ وهو أخذ الاجرة في عقد الإجارة أو ما يعمّه والجعالة أيضاً.

وكيف كان فموضوع المسألة ما يجب فعله على آخذ المال عوضاً على وجه يعود ذلك الفعل أو أثره وفائدته إلى باذل المال ، كفعل الواجب الكفائي الّذي فائدته سقوط الفرض عن الباذل والقضاء الّذي يعود نفعه وهو ثبوت الحقّ للمدّعي الباذل للأجر عليه المعبّر عنه بالرشاء ، فيعتبر فيه قيدان وجوب الفعل على آخذ المال عوضاً ، لأنّ مرجع البحث في هذا الباب إلى أنّ الوجوب فيما يكتسب به هل هو مانع من التكسّب به وضعاً ، كما أنّ الحرمة فيه كانت مانعة منه تكليفاً أو وضعاً أو لا؟ وكون الفعل الواجب بحيث يعود فائدته إلى باذل المال عوضاً منه لأنّ المعتبر في عقد الإجارة عود المنفعة إلى المستأجر ، كما أنّ المعتبر في عقود المعاوضة وقوع كلّ من العوضين لباذل العوض الآخر حذراً عن المعاملة السفهيّة ، ولئلّا يقع كلّ من العوض والمعوّض لشخص واحد ، فعدم جواز التكسّب في نحو ذلك وضعاً وعدم جواز أخذ الاجرة على نحوه لأجل ذلك ، لا لمانعيّة الوجوب.

فما في الدروس : من التمثيل لما يجب على المكلّف عيناً بالصلاة اليوميّة ، ليس بسديد ، إذ لو اريد بالصلاة اليوميّة ما يجب على آخذ المال فهي وفائدتها من كمال النفس وارتفاع الدرجة واستحقاق المثوبة لا تعودان إلى باذله ، ولو اريد بها ما وجب على باذل المال فهي ليست ممّا يجب على آخذه فلا وجوب حتّى يكون مانعاً ، مع أنّها غير قابلة للنيابة بعدم جواز أخذ الاجرة عليها لأجل ذلك لا للوجوب.

٣٧٠

وبالتأمّل في ذلك ينقدح أنّ الاستيجار على الحجّ واجباً أو مندوباً عن الغير حيّاً أو ميّتاً وعلى زيارات قبور المعصومين عليهم‌السلام عن الغير حيّاً أو ميّتاً وعلى تلاوة كلام الله عن الغير كذلك وعلى قضاء الفوائت عن الميّت وما أشبه ذلك خارج عن موضوع مسألة أخذ الاجرة على الواجبات. والإشكال الموجود في المسألة من جهة مانعيّة صفة الوجوب وعدمها عن أخذ الاجرة غير جار في هذه الموارد لانتفاء الوجوب في حقّ المستأجر.

نعم فيها إشكال آخر معروف ، وهو منافاة أخذ الاجرة للقربة المعتبرة فيها لأجل كونها من العبادات ، ولكنّه هيّن وواضح دفعه.

وتوضيحه : أنّ الأعمال المستحبّة وهي العناوين الّتي حكم الشرع باستحبابها وكذلك بعض الواجبات على أنواع :

منها : ما يعتبر في صحّتها المباشرة النفسيّة ، ولا تقع صحيحة في حقّ مكلّف لو وقعت من غير مباشرته ، كغسل الجمعة ، وفعل النوافل ، وعيادة المريض ، وما أشبه ذلك.

ومنها : ما لا يعتبر فيها المباشرة لما استفيد من أدلّتها من قبولها التسبيب كبناء المسجد أو المدرسة أو القنطرة أو الرباط وما أشبه ، حيث استفيد من أدلّة استحباب بناء المسجد أنّه عنوان يتأتّى تارةً بمباشرة المكلّف نفسه ، واخرى بتسبيبه وهو أن يأمر بالبنّاء ببنائه له ، فالمستحبّ في هذا النوع هو القدر المشترك بين ما يحصل بالمباشرة وما يحصل بالتسبيب.

ومنها : ما لا يعتبر فيها المباشرة أيضاً لما استفيد من دليل استحبابها قبولها النيابة كالأمثلة المذكورة للاستيجار.

أمّا النوع الأوّل : فحكمه أنّه لا يقع عليه عقد الإجارة ولا يجوز أخذ الاجرة عليه أصلاً ، وذلك لأنّ الاجرة في غسل الجمعة مثلاً إمّا أن يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على المؤجر ، أو يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على المستأجر ، ولا سبيل إلى شي‌ء منهما ، أمّا الأوّل فلعدم وقوع العمل للمستأجر وعدم عود فوائده من كمال النفس وارتفاع الدرجة واستحقاق المثوبة على تقدير حصولها إليه فيكون المعاملة سفهيّة مع

٣٧١

لزوم خلاف وضع عقود المعاوضة من وقوع العوضين معاً لشخص واحد هو أحد المتعاقدين ، وأمّا الثاني فلفرض اعتبار المباشرة فيه ، ومعناه عدم قبوله التسبيب ولا النيابة ، فيكون أخذ الاجرة على التقديرين أكلاً للمال بالباطل فيحرم.

وأمّا النوع الثاني : فحكمه أنّه يقع مورد لعقد الإجارة ويحلّ أخذ الاجرة عليه ، ولا يعتبر فيه قصد النيابة ولا النيّة ، وقصد القربة من العامل وهو البنّاء في بناء المسجد مثلاً لكون النيّة في نحوه وظيفة الباني فإنّه ببنائه على وجه التسبيب ينوي القربة.

والسرّ فيه أنّ فعل البناء من عامله وهو البنّاء إذا لم يقترنه النيّة وقصد القربة منه كان من أفعاله المباحة ، وهذا الفعل المباح يقع للباني ويعود نفعه وفوائده والثواب المعدّ له إليه ، ولأجل ذلك يصلح مورداً لعقد الإجارة ويملك الاجرة المجعولة بإزائه ، ومن هذا القبيل عمل الراثين والذاكرين والقارين لمصائب مولانا الشهيد عليه وعلى أصحابه الشهداء آلاف تحيّة وثناء في أخذهم الاجرة من البانين ، فإنّ إقامة العزاء لهم عليهم‌السلام على ما استفيد من أدلّة استحبابها أعمّ ممّا يحصل بمباشرة المكلّف وما يحصل بتسبيبه ، والقاري الراثي إذا لم ينو بفعله القربة كان من أفعاله المباحة ويعود نفعه وفوائده إلى الباني الآمر له بالقراءة ، حيث استفيد من أدلّة استحباب إقامة العزاء كونها أعمّ ممّا يحصل بطريق التسبيب.

وأمّا النوع الثالث : فحكمه أنّه أيضاً يقبل الإجارة ويؤخذ فيه الاجرة ، كما في الاستيجار على الحجّ وفوائت الميّت وغيرهما من الأمثلة المتقدّمة ، ولكنّه يعتبر فيه من العامل قصد النيابة وقصد القربة معاً.

والسرّ في الجميع أنّه قد ذكرنا أنّ عقد الإجارة لا يجري إلّا في عمل يصحّ عوضاً للُاجرة ، بأن يكون بحيث يعود نفسه أو منفعته إلى المستأجر ، ومن منافع عمل الإنسان في نوع ما يقبل النيابة قيامه مقام عمل غيره فله حينئذٍ أن يقيم عمله مقام عمل ذلك الغير تبرّعاً أو بأُجرة ، فعقد الإجارة يقع على ذلك وفائدته قيام عمله مقام عمل ذلك الغير لأنّه بعد إقامة عمله مقام عمل الغير صار هو بمنزلة ذلك الغير ، فيصير عمله الواقع منه في الخارج عمله ويكون تقرّبه وقصده للتقرّب تقرّبه وقصده ، ويكون جميع الفوائد

٣٧٢

المترتّبة عليه من الكمال وارتفاع الدرجة واستحقاق المثوبات الاخرويّة حاصلة له.

وحيث إنّ إقامة العمل مقام عمل الغير اعتبار منوط بالقصد والنيّة فلا يتحقّق هذا الاعتبار إلّا بقصده لإقامة عمله مقام عمل الغير فيعتبر منه ذلك القصد حين الإتيان بالعمل ، وهذا هو قصد النيابة الّتي اعتبروه في هذا المقام ، فإنّ قصد النيابة عن فلان عند الإتيان بالعمل معناه أنّه يقصد إقامة عمله هذا مقام عمل فلان ، فيكون هو بذلك القصد نائباً والفلان منوباً عنه ، فالاجرة إنّما تستحقّ وتؤخذ بسبب عقد الإجارة بإزاء النيابة بمعنى إقامة العمل مقام عمل الغير الّذي هو المنوب عنه ، وأصل العمل بعد قيامه بهذا الاعتبار مقام عمل المنوب عنه بل صيرورته عمله يؤتى به بداعي التقرّب وامتثال الأمر لا بداعي الاجرة واستحقاقها فإنّها تدعوه إلى أن يجعل نفسه نائباً ويقيم عمله مقام عمل المنوب عنه ، لا إلى الإتيان بأصل العمل بعد تحقّق النيابة بمعنى إقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.

وبالجملة الأجير إنّما يجعل نفسه بداعي أخذ الاجرة أو استحقاقها نائباً عن الغير وعمله قائماً مقام عمل ذلك الغير ، فالعمل المأتيّ به بعد تحقّق هذا الاعتبار يقع مقروناً بقصد القربة ومتقرّباً به إلى الله سبحانه ، فلا منافاة حينئذٍ بين أخذ الاجرة وقصد القربة ، لتغاير موجب استحقاق الأوّل ومورد الثاني.

فهاهنا داعيان وآمران مدعوّ إليهما ، الأوّل : من الداعيين قصد استحقاق أخذ الاجرة فإنّه يدعو الأجير إلى جعل نفسه نائباً وإقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.

وثانيهما : قصد القربة وامتثال الأمر إيجاباً أو ندباً ، فإنّه يدعو إلى الإتيان بالعمل الّذي صار بسبب تحقّق النيابة والإقامة على الوجه المذكور بالقصد والنيّة عمل المنوب عنه.

نعم ربّما يشكل الحال فيما يتداوله الناس في صلاة ليلة الدفن من أخذ المال لأجل هذه الصلاة فإنّها على ظاهر النظر لا تندرج في شي‌ء ممّا يقبل النيابة ولا التسبيب ، أمّا الأوّل فلانّ من شرط ما يقبل النيابة كونه بحيث لو كان المنوب عنه بنفسه قائماً به مخاطباً به أي مكلّفاً به إيجاباً أو ندباً كما هو الحال في قضاء فوائت الميّت وغيره ممّا تقدّم ، فإنّ الميّت في فوائته لو كان حيّاً وأراد القيام بقضاء فواته كان

٣٧٣

مخاطباً به ولو ندباً من جهة الاحتياط ، وهذه الصلاة ليست بتلك المكانة ، لأنّ الميّت لو كان حيّاً لم يكن له فعلها لعدم كونه مخاطباً به لا إيجاباً ولا ندباً ولذا لا يصحّ لغيره فيها قصد النيابة.

وأمّا الثاني فلأنّ ظاهر النصّ الوارد في تشريع هذه الصلاة اعتبار المباشرة فيها ، وهو الحديث المرويّ عن مصباح الكفعمي ، وموجز ابن فهد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يأتي على الميّت أشدّ من أوّل ليلة ، فارحموا موتاكم بالصدقة ، فإن لم تجدوا فليصلّ أحدكم يقرأ في الاولى الحمد وآية الكرسي ، وفي الثانية الحمد والقدر عشراً ، فإذا سلّم قال : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلى قبر فلان ، فإنّه تعالى يبعث من ساعته الف ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب وحلّة» (١) فإنّ قوله : «فليصلّ أحدكم» ظاهر في المباشرة ، وحينئذٍ فالآتي بهذه الصلاة إن أتى بها بداعي الاجرة لم تقع صحيحة فلم تستحقّ الاجرة ، وإن أتى بها بداعي القربة لم تستحقّ الاجرة رأساً ، وعلى التقديرين أخذها يكون أكلاً للمال بالباطل فلا يحلّ أخذها.

لا يقال : لِمَ لا يجوز أخذها في مقابل الثواب المعدّ لهذه الصلاة فيجري عليها عقد الإجارة ليعود ذلك الثواب إلى الميّت فيبدله له الأجير بعد الفراغ منها كما يرشد إليه الأمر به في النصّ المذكور ، لأنّا نقول : إنّ الأمر به في هذا المورد تعبّد من الشارع ، وهو بمجرّده لا يصحّح عقد الإجارة على هذه الصلاة ، ولا يجوز أخذ الاجرة بإزاء الثواب المعدّ لها ، لأنّ حصول الثواب من فعله سبحانه ولا يطمئنّ بحصوله منه تعالى ، نظراً إلى أنّ إفاضة فيض الثواب من المبدأ الفيّاض على أعمال العباد في دار الآخرة قد يحصل وقد لا يحصل ولو لحزازة في العمل فحصوله غير معلوم ولا مظنون. ومجرّد احتمال حصوله غير كاف في صحّة وقوعه عوضاً في عقد المعاوضة ، مضافاً إلى أنّه غير مقدور على تسليمه ولا على تسلّمه ، فإنّ الموجر والمستأجر لا يقدران على استخراجه منه تعالى ، والمنفعة في باب الإجارة لا بدّ وأن تكون مقدوراً على تسليمها أو على تسلّمها. ولذا ترى أنّ العلّامة قدس‌سره في التذكرة منع من إجارة الديك للصياح في

__________________

(١) البحار ٨٨ : ٢١٩ / ٤.

٣٧٤

أوقات الصلاة ، قائلاً : «لا يجوز استيجار الديك ليوقظه وقت الصلاة ، لأنّ ذلك يقف على فعل الديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره وقد يصيح وقد لا يصيح وربّما صاح قبل الوقت أو بعده» (١) انتهى.

نعم لو قصد باذل المال ببذله الصدقة وأخذه بصلاته التبرّع لرجاء أن يحصل للميّت نفع الصدقة ونفع الصلاة أو أحد النفعين ، فالظاهر عدم المنع منه نظراً إلى ورود الأمر في الحديث المذكور أوّلاً بالصدقة ، وكون العدول عنها إلى الصلاة على تقدير تعذّرها وإن كان الجمع بينهما من جهة شبهة مشروعيّة الصلاة مع إمكان الصدقة لظهور النصّ في الترتّب لا يخلو عن إشكال.

وبما نبّهنا عليه بالقياس إلى أخذ العوض في مقابلة الثواب ظهر الحال في مطلق الثواب المعدّ لسائر الأعمال الحسنة كغسل الجمعة والزيارة وتلاوة كلام الله والنوافل وغيرها وعدم صلاحيته عوضاً في عقد الإجارة وعقد الصلح وغيره من عقود المعاوضة على وجه القاعدة الكلّيّة لكون الجميع على خلاف قواعد الإجارة وعقود المعاوضة ، وكذا الحال في جعل الصلوات بصيغة «اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد» مورداً لعقد الصلح.

ثمّ إذ قد عرفت أنّ مرجع البحث عن التكسّب وأخذ الاجرة على الواجبات إلى منع الوجوب من التكسّب وأخذ الاجرة وعدمه فينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أقوال المسألة ، فنقول : إنّ القول بالمنع منه مطلقاً على ما في المسالك «هو المشهور بين الأصحاب» قال بعده : «وعليه الفتوى» (٢).

وفي الرياض «بلا خلاف» ثمّ قال : «بل عليه الإجماع في كلام جماعة» (٣).

وربّما يضعّف بعدم التصريح بالإجماع على إطلاق المنع في كلام أحد على وجه القطع به فضلاً عن جماعة.

ولعلّه قدس‌سره استظهره من عبائر جماعة توهمه كالمحقّق الأردبيلي والشهيد الثاني

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٢٩٥.

(٢) المسالك ٣ : ١٣٠.

(٣) الرياض ٨ : ١٨٠.

٣٧٥

والمحقّق الثاني ، حيث إنّ الأوّل في ذكر مستند الحكم قال : «وكأنّ دليله الإجماع» (١) والثاني بعد نسبته إلى المشهور قال : «وعليه الفتوى» (٢) لشيوع ورود هذا اللفظ في كلامهم لبيان فتوى الأصحاب ، والثالث بعد ما نقل التفصيل الآتي عن فخر المحقّقين في الإيضاح (٣) أورد عليه «بأنّه مخالف لنصّ الأصحاب» (٤).

لكن يشكل ذلك بظهور الأوّل في الشكّ فغايته أنّه ذكر لاحتمال الإجماع ، ومنافاة الثاني لو كان إجماعاً لسبق دعوى الشهرة الظاهرة في وجود القول بالخلاف فليحمل على إرادة فتواه لا فتوى الأصحاب ، وهذا أيضاً شائع وإن كان يمكن الجمع على تقدير إرادة فتوى الأصحاب بتأويل دعوى الشهرة بكون مراده من المشهور ما يقابل قول السيّد المرتضى الخارج عن موضوع المسألة ، كما يقتضيه ما حكاه عنه الشهيد في الدروس حيث إنّه بعد ما ذكر في مثال ما يجب على الإنسان كفايةً الّذي يحرم التكسّب به تغسيل الميّت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، قال : «وفي فتاوي السيّد أن ذلك واجب على الوليّ فلو استأجر غيره جاز» (٥).

والظاهر أنّ كون القول بالمنع مشهوراً بالمعنى المقابل لقول السيّد ، هذا لا ينافي كونه إجماعاً أيضاً. ولكن عليه حينئذٍ بعض ما يرد على الثالث فقد اورد عليه :

أوّلاً : أنّ فخر المحقّقين أسبق من المحقّق الثاني فهو أعرف بمذهب الأصحاب ، فلو كان إطلاق المنع إجماعاً عندهم كيف يختار لنفسه التفصيل المخالف له.

وثانياً : كيف يدّعي نصّ الأصحاب على معنى إجماعهم ، مع أنّ جلّ قدمائهم لم يتعرّضوا لأصل المسألة كالصدوقين والقديمين وسلّار وابن البرّاج وغيرهما من أتباع الشيخ عدا ابن إدريس ، فلا يعلم مذهبهم في المسألة بنفي ولا بإثبات.

وثالثاً : أنّ جماعة من معتبري المتأخّرين ذهبوا إلى خلاف إطلاق المنع كالفخر في تفصيله المتقدّم إليه الإشارة ، وهذا على ما حكي عبارته «الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص معيّن لا يجوز للمكلّف أخذ الاجرة عليه ، والّذي وجب كفاية فإن كان ممّا

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٨٩.

(٢) المسالك ٣ : ١٣٠.

(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٤) جامع المقاصد ٧ : ١٨٢.

(٥) الدروس ٣ : ١٧٢.

٣٧٦

لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ ولم يزل الوجوب ، فلا يجوز أخذ الاجرة عليه لأنّه عبادة محضة ، وقال الله تعالى : «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (١) حصر غرض الآمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص ، وما يفعل بالعوض لا يكون كذلك ، وغير ذلك يجوز أخذ الاجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن» (٢) وعن العلّامة في المختلف (٣) أنّه نصّ بجواز أخذ الاجرة على القضاء إذا لم يتعيّن ، ونحوه عن المحقّق في الشرائع (٤) إلّا أنّه قيّد صورة عدم التعيين بصورة احتياج القاضي ، ومع هذا كلّه فإنّ الوثوق بإجماع لم يصرّح به أحد على إطلاق المنع.

وأمّا القول بالجواز مطلقاً فلم نقف على مصرّح به ولا على نقل له ، نعم ربّما يستظهر من الفاضل التوني في شرح (٥) الإرشاد فإنّه على ما حكي في ردّ قول العلّامة بالمنع مطلقاً مستدلّاً بوجهين آتيين قال : «بأنّه لا دليل على عدم الجواز ولا نصّ في الكتب الأربعة» فيقال : بأنّ قضيّة ذلك أن يكون قائلاً بالجواز مطلقاً ، ولكن يخدشه منع الظهور في اختيار القول بالجواز لقوّة احتمال التوقّف في المسألة من جهة الشهرة ونحوها.

نعم حكي عن فخر المحقّقين ولد العلّامة في الإيضاح تفصيلاً بين ما كان الواجب عينيّاً أو كفائيّاً تعبّديّاً أو كفائيّاً توصّليّاً فمنع أخذ الاجرة في الأوّلين وجوّزه في الأخير إلّا ما نصّ الشارع بتحريمه أيضاً ، وعبارته المحكيّة لهذا التفصيل ما لفظه : «الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص لا يجوز للمكلّف أخذ الاجرة عليه ، والّذي وجب كفاية فإن كان ممّا لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ ولم يزل الوجوب فلا يجوز أخذ الاجرة عليه لأنّه عبادة محضة ، وقال الله تعالى «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (٦) حصر غرض الآمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص وما يفعل بالعوض ليس كذلك ، وغير ذلك يجوز أخذ الاجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن» انتهى (٧) وعن السيّد الطباطبائي في المصابيح (٨) اختيار هذا التفصيل ، وقد

__________________

(١) البيّنة : ٥. (٢) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٣) المختلف ٥ : ١٨.

(٤) الشرائع ٤ : ٦٩.

(٥) شرح حاشية الإرشاد (مخطوط) ١١٠.

(٦) البيّنة : ٥.

(٧) إيضاح الفوائد ٢ : ٢٦٤.

(٨) المصابيح : (مخطوط) ٥٩ ـ ٦٠.

٣٧٧

عرفت عن الفاضلين في المختلف والشرائع القول بجواز أخذ الاجرة على القضاء إذا لم يتعيّن ، وإن كان قيّده في الشرائع مع عدم التعيين بصورة احتياج القاضي.

وربّما نقل في المسألة قول آخر بالتفصيل بين الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الاجرة عليها وغيرها فلا يجوز ، والمراد بالاولى ما يتوقّف عليه نظام العالم وانتظام عيش بني آدم كالطبابة والحياكة والنجارة والصياغة وغيرها من الصناعات الواجبة كفاية. ولعلّه إلى ذلك يرجع ما عن الشيخ في شرحه (١) للقواعد من التفصيل بين الواجبات المشروطة بالتعويض وغيرها ، فجوّزه في الأوّل ومنعه في الثاني لأجل الملك والحقّ ، نظراً إلى أنّ المملوك لا يملك ثانياً ، والمستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

ثمّ إنّ القول بالمنع مطلقاً لا ينتقض بعمل الوصيّ الواجب عليه بعينه مع جواز أخذ الاجرة عليه من مال الصغير ولو بعد إيقاعه على حسب ما هو رأيه اجتهاداً أو تقليداً في قدرها من اجرة مثل العمل أو قدر الكفاية أو أقلّ الأمرين من اجرة المثل والكفاية على الخلاف في المسألة ، وكذلك الوصيّ على ثلث الميّت عند من ألحقه بالوصيّ على الصغير ، لأنّ ذلك ليس من باب المعاوضة المبنيّة على عقد الإجارة بل هو حكم شرعي ، أو أنّه استحقاق شرعي جعله الشارع للوصيّ إرفاقاً فلا ينافي وجوب العمل ، كما أنّه كذلك لو عيّن له الموصي شيئاً فإنّه يستحقّه من باب الوصيّة لا من باب المعاوضة.

ثمّ استدلّ على القول بالمنع مطلقاً أو في الجملة بوجوه :

منها : الإجماع المنقول في كلام جماعة اعتمد عليه السيّد في الرياض (٢).

وقد عرفت ما فيه ، والحقّ أنّ المنع في الجملة إجماعيّ ، والإجماع على إطلاقه غير ثابت بل المعلوم خلافه.

ومنها : منافاة أخذ الاجرة للإخلاص المعتبر في العمل.

وردّ بانتقاض عكسه بالواجبات التوصّليّة وطرده بالمندوبات القابلة للُاجرة.

ومنها : أنّ المنافاة بين أخذ الاجرة وصفة الوجوب ذاتيّة لأنّ المملوك لا يملك ثانياً والمستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٧.

(٢) الرياض ٨ : ١٨٠.

٣٧٨

ونقض بالواجبات النظاميّة والصناعات الواجبة كفاية. وقد يورد عليه بكونه مصادرة ، لأنّ دعوى المنافاة الذاتيّة أوّل المسألة ، وتعليلها بما ذكر عليل لمنع المملوكيّة والاستحقاق بالمعنى المعتبر في المعاوضات الماليّة.

ومنها : أنّ الإجارة لو تعلّقت به كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد والعدم على نحو سلطان الملّاك وكان له الإبراء والإقالة والتأجيل ، وكان للأجير قدرة على التسليم ، وفي الواجب ممتنع ذلك وهو في العيني بالأصل أو العارض واضح ، وأمّا الكفائي فلأنّه بفعله يتعيّن له فلا يدخل في ملك آخر ، ذكره الشيخ في شرح القواعد.

واجيب بأنّه إن أراد بالسلطنة الثابتة له بعقد الإجارة سلطنة بالنسبة إلى حقّه من حيث إنّه حقّ له فلا مانع من ثبوتها فله الإيجاد والعدم من هذه الحيثيّة ، غير أنّه لا ينافيها قيام المانع من عدم الإيجاد من حيثيّة اخرى جامعة لتلك الحيثيّة ، وكذلك مسألة الإبراء والإقالة والتأجيل فإنّ الكل جائز من الحيثيّة الاولى والحيثيّة الاخرى مانعة ولا منافاة ، ألا ترى أنّه لو استأجر المرضعة لإرضاع الطفل في محلّ التوقّف وجب وليس له حينئذٍ الإبراء ولا للطفل ولا الإقالة ولا التأجيل لإفضاء الجميع إلى هلاك الطفل وهذه حيثيّة مانعة من الامور المذكورة ، وكذلك لو استأجر أحداً لحفظ نفسه أو ماله في محلّ الخوف فليس له الإبراء ولا الإقالة ولا التأجيل لحرمة تضييع المال وإلقاء النفس في التهلكة.

ومنها : ما ذكره الشيخ أيضاً «من عدم نفع المستأجر فيما يملكه ويستحقّه غيره» (١) انتهى.

وكأنّه رحمه‌الله فرضه ممّا لا منفعة فيه تعود إلى المستأجر ، وقد عرفت سابقاً وستعرف أيضاً أنّه ليس بمحلّ كلام.

ومنها : أنّ أخذ الاجرة على الشي‌ء إنّما يجوز إذا كان ذلك الشي‌ء ممّا يختصّ بالمستأجر لئلّا يلزم أكل المال بالباطل ، والواجب لا اختصاص له.

واجيب : بأنّه يتمّ في الواجب الكفائي لتعلّق وجوبه بالجميع وأمّا العيني فلا. وظنّي

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٧.

٣٧٩

أنّه سهو من عدم فهم حقيقة مراد المستدلّ ، فإنّ الظاهر أنّه أراد بعدم الاختصاص به تعلّق حقّ الغير به من جهة إيجاب الشارع له عليه ليعود نفعه إلى الغير من المستأجر أو غيره ، وعليه يرجع مفاده إلى ما تقدّم من أنّ المستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

وتحقيق المقام على وجه يعلم منه ما هو الحقّ في المسألة وينكشف به صحّة الأدلّة وسقمها يستدعي تأسيس قاعدة ، وهي أنّه لا إشكال في أنّ عمل الإنسان محترم فلا يخرج منه مجّاناً وبلا عوض إلّا بما يسقط به احترامه ، وحينئذٍ فكلّ عمل للإنسان لا يخلو إمّا أن لا يشتمل على منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء عائدة إلى غيره ، أو يشتمل على نحو هذه المنفعة ، والأوّل لا يصلح مورداً لعقد الإجارة ولا يجوز أخذ الاجرة فلو أخذها كان آكلاً للمال بالباطل ، لأنّ عقد الإجارة إنّما شرّع لنقل المنافع المحلّلة المقصودة للعقلاء ، ولا يختصّ ذلك بما إذا كان العمل المذكور واجباً ، بل يجري في المندوبات بل المباحات الأصليّة أيضاً إذا لم يكن لها المنفعة المذكورة.

وعلى الثاني فإمّا أن يجوز له الامتناع من الإتيان بذلك العمل وبذله لغيره ممّن يعود إليه نفعه ، ولو امتنع فليس لأحد استخراجه منه مجّاناً ولو بإجبار وإكراه بل جواز استخراجه منه كذلك يتوقّف على رضاه وطيب نفسه ، أو لا يجوز له الامتناع ولو امتنع جاز استخراجه منه مجّاناً ولو بقهر عليه وإجبار له عليه من غير توقّف على رضاه وطيب نفسه. والأوّل ممّا لا ينبغي التأمّل في جواز أخذ الاجرة عليه ، لأنّه يصلح مورداً لعقد الإجارة ، والعقد يقع مؤثّراً في نقل العمل ومنفعته إلى المستأجر ونقل الاجرة إلى الأجير. والثاني كالعمل المستأجر عليه من كتابة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك حيث ليس له أن يمتنع من بذله والإتيان به ، ولو امتنع كان للمستأجر استخراجه منه قهراً وإجباره على الإتيان به من غير توقّف على رضاه وطيب نفسه ، وهذا ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة ثانياً ولا يستحقّ عليه اجرة اخرى من المستأجر الأوّل أو من غيره ، ولو وقع لم يكن صحيحاً ومؤثّراً في تملّك الاجرة واستحقاقها ، لأنّ قضيّة عقد المعاوضة أن لا يؤثّر في تملّك أحد العوضين إلّا حيث أثّر في تملّك العوض الآخر ، وهذا العقد لا يؤثّر في تملّك المستأجر للعمل ومنفعته ولا في استحقاقه ، لأنّه ملّكه

٣٨٠