ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

عليّ عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربعة لا تزال في امّتي إلى يوم القيامة ، الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة وأنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران وذرع من جرب» (١). قال المجلسي ـ في شرح الحديث ـ : «الاستسقاء بالنجوم اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في نزول المطر» (٢).

أقول : وعلى هذا فتحريم علم النجوم وتعلّمه إمّا لنفسه ومن حيث هو ، أو لتحريم لوازمه وغاياته ، ولا كلام في الثاني ، والأوّل محلّ إشكال لعدم وضوح دليله ، وإطلاق المنع في الأخبار المتقدّمة حسن لإثبات ذلك لو استقامت أسانيدها ، وقد عرفت الحال فيها ، مع أنّ لها معارضات من الروايات المصرّحة بأنّ أصل هذا العلم حقّ وأنّه من علوم الأنبياء وأنّه ما يعلمه الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام.

وفيها ما يدلّ على مدحه كالمرويّ في البحار عن كتاب نزهة الكرام تأليف محمّد بن الحسين بن الحسن الرازي ، قال المجلسي : وهذا الكتاب خطّه بالعجميّة تكلّفنا من نقله إلى العربيّة فذكر في أواخر المجلّد الثاني منه ما هذا لفظ من أعربه «وروى أنّ هارون الرشيد بعث إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام فأحضره ، فلمّا حضر عنده قال : إنّ الناس ينسبونكم يا بني فاطمة إلى علم النجوم ، وأنّ معرفتكم بها معرفة جيّدة ، وفقهاء العامّة يقولون : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا ذكروا في أصحابي فاسكتوا ، وإذا ذكروا القدر فاسكتوا ، وإذا ذكروا النجوم فاسكتوا ، وأمير المؤمنين كان أعلم الخلائق بعلم النجوم وأولاده وذرّيته الّذين تقول الشيعة بإمامتهم كانوا عارفين بها. فقال له الكاظم عليه‌السلام : هذا حديث ضعيف وإسناده مطعون فيه ، والله تبارك وتعالى قد مدح النجوم ، ولو لا أنّ النجوم صحيحة ما مدحها الله عزوجل ، والأنبياء كانوا عالمين بها ، وقد قال الله تعالى في حقّ إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام : «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (٣) وقال في موضع آخر : «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» (٤)

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٢٨ / ١٢ ، ب ١٨ ما يكتسب به ، الخصال : ٢٢٦ / ٦٠.

(٢) البحار ٥٥ : ٢٢٦.

(٣) الأنعام : ٧٥.

(٤) الصافّات : ٨٨.

٣٤١

فلو لم يكن عالماً بعلم النجوم ما نظر فيها وما قال «إِنِّي سَقِيمٌ» وإدريس عليه‌السلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم ، والله تعالى قد أقسم بمواقع النجوم «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» (١) وقال في موضع آخر : «وَالنّازِعاتِ غَرْقاً إلى قوله فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (٢) ويعني بذلك اثنى عشر برجاً ، وسبعة سيّارات والّذي يظهر بالليل والنهار بأمر الله عزوجل ، وبعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم ، وهو علم الأنبياء والأوصياء وورثة الأنبياء الّذين قال الله عزوجل : «وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (٣) ونحن نعرف هذا العلم وما نذكره. فقال له هارون : بالله عليك يا موسى هذا العلم لا تظهروه عند الجهّال وعوامّ الناس حتّى لا يشنّعوا عليك ونفس العوام به وغطّ ، وارجع إلى حرم جدّك. ثمّ قال له هارون : وقد بقي مسألة اخرى بالله عليك أخبرني بها ، فقال : سل ، فقال له : بحقّ القبر والمنبر وبحقّ قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرني أنت تموت قبلي أو أنا أموت قبلك لأنّك تعرف هذا من علم النجوم؟ فقال له موسى عليه‌السلام : آمني حتّى اخبرك ، فقال : لك الأمان ، فقال : أنا أموت قبلك وما كذّبت ولا أكذب ووفاتي قريب» (٤).

بل في بعض الأخبار ما هو صريح في عدم المنع منه ، غايته أنّه لا ينتفع به ، ففي المرويّ عن الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن فضّال عن الحسن بن أسباط عن عبد الرحمن بن سيّابة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّ الناس يقولون : إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها ، وهي تعجبني ، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي‌ء يضرّ بديني ، وإن كان لا يضرّ بديني فو الله أنّي لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون لا تضرّ بدينك ، ثمّ قال : إنّكم تنظرون في شي‌ء منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به» (٥).

فإنّ ذلك ونظائره لا بدّ وأن ينزّل على أنّ الإمام عليه‌السلام علم من حال السائل أنّ علمه بالنجوم لا يفضيه إلى فساد عقيدة ، ولا إلى الوقوع في حيثيّة من الحيثيّات القبيحة

__________________

(١) الواقعة : ٧٦.

(٢) النازعات : ١.

(٣) النحل : ١٦.

(٤) البحار ٥٥ : ٢٥ ـ ٢٥٣.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٤١ / ١ ، ب ٢٤ ما يكتسب به ، الكافي ٨ : ١٩٥ / ٢٣٣.

٣٤٢

المحرّمة. وقوله عليه‌السلام : «وقليله لا ينتفع به» معناه أنّ من لم يدرك كثيره كالمنجّم فعلمه القليل باعتبار عدم إحاطته بجميع النجوم وحركاتها ومقادير حركاتها ومعارضاتها ناقص والعلم الناقص ما لا يترتّب عليه الفائدة المقصودة منه ، كالمقدّمات الناقصة الّتي علامة نقصانها عدم إنتاجها النتيجة المطلوبة منها ، وقضيّة ذلك غلبة عدم إصابة الواقع في أحكام المنجّمين وإخباراتهم ، ولذا اشتهر بل نسب إلى الرواية «أنّ كلّ منجّم كذّاب» ولا ينافيه ما قد يتّفق في أحكامهم من الإصابة لأنّه لضرب من الاتّفاق لا من مقتضى أصل العلم ، وفي ذلك تعريض على عدم جواز التعويل على أحكامهم بل عدم جواز الحكم والإخبار لهم بصورة الجزم لعدم خلوصه عن وصيمة الكذب بل الظنّ الغالب فيه الكذب.

فانقدح بجميع كلماتنا المتقدّمة من البداية إلى تلك النهاية مسائل :

الاولى : الاعتقاد في الأفلاك والكواكب والنجوم بالقدم الذاتي أو الزماني ، ولا إشكال في كونه حراماً محرّماً لكونه كفراً.

الثانية : الاعتقاد فيها بالحياة والعلم والإرادة والاختيار ، وهذا أيضاً حرام لكونه مخالفة لإجماع المسلمين ، بل قد يكون من كفر إنكار ضروريّ الدين على ما ادّعاه غير واحد.

الثالثة : الاعتقاد فيها وفي حركاتها المخصوصة وأوضاعها المعيّنة بتدبير العالم والتأثير في الحوادث السفليّة بالاستقلال أو المدخليّة فيها بالاشتراك ، ولا إشكال في تحريمه أيضاً لكونه كفراً.

الرابعة : تعلّم علوم النجوم فإن كان لمجرّد شرافته أو لكون علم الشي‌ء خيراً من جهله أو لمعرفة الهيئة وأوضاع الأفلاك والكواكب وحركاتها ومقادير حركاتها قصداً إلى معرفة قدرة الله الكاملة وحكمته البالغة وعجائب مخلوقاته وغرائب مصنوعاته مع الاطمئنان على نفسه من الأمن عن فساد العقيدة والوقوع في إحدى الجهات المحرّمة فالظاهر جوازه ، للأصل ، وعدم الدليل على المنع والتحريم ، مع دلالة بعض النصوص المتقدّم إليها الإشارة عليه. ومع الخوف على نفسه من فساد العقيدة أو الوقوع في الجهة المحرّمة يحرم كما أنّه يحرم لو قصد به العمل لنفسه أو الحكم والإخبار لغيره.

الخامسة : النظر في النجوم بعد تعلّم علمه فإن كان ذلك لمعرفة أوقات الصلوات

٣٤٣

وسائر العبادات وتعيين جهة القبلة حيث يكتفي فيهما بالأمارة الظنّيّة أو لمعرفة الطرق في البرّ أو البحر فالظاهر جوازه أيضاً ، للأصل المعتضد بالنصّ والاعتبار بل الإجماع عليه ، وإن كان لاستنباط أحكام من الامور الخفيّة والأشياء الغيبيّة فإن قصد به مجرّد الاطّلاع الظنّي لا العمل وترتيب الأثر ولا الحكم والإخبار لغيره فالظاهر جوازه أيضاً ، وإن قصد به عمل نفسه على وجه الإذعان والقبول ليكون من الطيرة المأمور بالمضيّ فيها وعدم الاعتناء بها وإيكال الأمر إليه تعالى يحرم ، وإن قصد به الحكم والإخبار لغيره فإن كان حكمه بصورة الجزم مع دعوى العلم فالظاهر تحريمه ، لكونه كهانة محرّمة وتكذيباً لله سبحانه ومضادّة له وإضلالاً لضعفاء العقول من الناس الّذين يعتمدون على أحكامهم ويصدّقونهم في دعواهم وحكمهم. وإن كان على وجه الاحتمال كأن يقول : يحتمل نزول المطر في وقت كذا ، أو حدوث المرض أو وقوع الرخص في الأسعار أو موت فلان في وقت كذا ـ مثلاً ـ ففي جوازه والعدم وجهان : من الأصل ، ومن إطلاق النهي. وهو موهون ، والأصل قويّ ، والأحوط تجنّبه.

السادسة : الرجوع إلى المنجّم استخبار لتعيين المنحوسة من الساعات وتمييزها عن المسعودة ، فإن كان ذلك على وجه التعويل والإذعان والتصديق الموجب للخروج عن التوكّل فهو حرام جزماً ، وإن كان لمراعاة الاحتياط والأخذ بالأوثق مع عدم الخروج عن صفة التوكّل فالأقرب جوازه ، للأصل والاعتبار ، وعدم دليل واضح على المنع.

٣٤٤

النوع التاسع

في المحرّمات النفسيّة القمار

وليعلم أنّ القمار على ما يستفاد من كلام القاموس (١) والمحكيّ عن مجمل (٢) اللغة يأتي لغة كالقتال مصدراً من باب المفاعلة يقال : «قامر يقامر مقامرة وقماراً» ومقتضاه أن يقع من اثنين كما هو الأصل في باب المفاعلة فهو اللعب بالآلات المعدّة له أو مطلقاً إذا وقع من اثنين ، وكالذهاب مصدراً مجرّداً من باب نصر ينصر كما في القاموس أو ضرب يضرب كما في الصحاح (٣) وظاهر عبارة القاموس أنّه على هذا الاعتبار أيضاً يقع بين اثنين ، وربّما يحتمل وقوعه حينئذٍ من واحد ولازمه أن لا يكون فيه رهن وعوض لأنّه غير متصوّر من الواحد.

وأمّا على الاعتبار الأوّل ففي لزومه الرهن والعوض وعدمه قولان ، فعن بعض أهل اللغة أنّه الرهن على اللعب بشي‌ء من الآلات المعروفة ، وقضيّة ذلك دخول الرهن في ماهيّة القمار ، ويقتضيه كلام القاموس أيضاً حيث فسّر قامره براهنه فغلبه ، وعن جماعة كالصحاح والمصباح (٤) المنير والتكملة (٥) أنّه قد يطلق على اللعب بها مطلقاً أي مع الرهن وبدونه ، وعن (٦) بعض أنّ أصل المقامرة المغالبة ، وهذا يقتضي كون القمار بحسب الأصل للأعمّ ممّا يأتي بهذه الآلات ، لأنّ المغالبة قد يأتي بدونها بل بدون آلة ، كالمغالبة بالركض والأقدام والمصارعة والمشاعرة والمشابكة وهو المغالبة بتشبيك الأصابع وبالمشقّ وبالكبش وبالديك والريش وهو الطير كالحمام ونحوه ، والمغالبة في

__________________

(١) القاموس ٢ : ١٢١.

(٢) مجمل اللغة ٢ : ٧٣٣

(٣) الصحاح ٢ : ٧٩٩.

(٤) المصباح المنير ٢ : ٥١٥.

(٥) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ١٨٦.

(٦) المكاسب ١ : ٣٧١.

٣٤٥

هذه الأقسام يكون مع الرهن وبدونه.

فللبحث في الحكم أعني التحريم وعدمه جهات عديدة ، يقع التكلّم لتحقيقها في مسائل :

الاولى : اللعب بآلات القمار من الاثنين مع الرهن والعوض ، وفسّر بأجر جعل للغالب ، ولا إشكال بل لا خلاف في تحريمه. والأصل فيه الإجماع بقسميه ، ولا يبعد دعوى ضرورة الدين فيه في الجملة.

والكتاب قال عزّ من قائل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» (١) وليس المراد بالأكل المنهيّ عنه هنا معناه المعهود المشتمل على المضغ والازدراد بل إعطاء المال وأخذه والمعاملة عليه بالباطل وهو القمار ، أو أنّه داخل فيه بشهادة الأخبار المستفيضة المفسّرة له بالقمار ، وفي غير واحد منها بعد السؤال عن الآية «أنّ قريشاً كانوا يقامر الرجل منهم بأهله وماله فنهاهم الله عزوجل عن ذلك» (٢) وقال أيضاً : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» (٣) وقال أيضاً : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (٤) بضميمة الأخبار المستفيضة أيضاً المفسّرة للميسر بالقمار ، وفي بعضها أنّه «كلّما تقومر به حتّى الكعاب والجوز» (٥) وفي بعض آخر «كلّما قومر عليه فهو ميسر» (٦).

والسنّة لاستفاضة الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة في تحريمه ، بل قيل بكونها متواترة ، وفي بعضها الدلالة على كون اللعب بالبيض أيضاً من القمار كخبر عبد الحميد بن سعيد قال : «بعث أبو الحسن عليه‌السلام غلاماً يشتري له بيضاً ، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلمّا أتى به أكله ، فقال له مولى له : إنّ فيه من القمار ، قال : فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه» (٧).

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٦٤ / ١ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٢ / ١.

(٣) البقرة : ٢١٩.

(٤) المائدة : ٩٠.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٦٥ / ٤ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥٥ : ١٢٢ / ٢.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٦٧ / ١١ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، تفسير العيّاشي ١ : ٣٣٩ / ١٨٢.

(٧) الوسائل ١٧ : ١٦٥ / ٢ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٣ / ٣.

٣٤٦

وربّما يطعن عليه من حيث اشتماله على إقدام المعصوم على تناول المحرّم الواقعي جهلاً ، وهو مشكل ، لأنّ ما دلّ على عدم جواز الغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام دلّ على عدم جواز الجهل عليه في ذلك.

والخطب في دفعه سهل ، لما حقّق ودلّ عليه المستفيض من الروايات من كون علمه في الموضوعات إراديّاً ، على معنى أنّه إذا أراد علم شي‌ء منها يعلّمه الله عزوجل من حينه ، وإذا لم يرد لا يعلم إلّا بالأسباب العادية ، فجهله هنا إنّما هو لأنّه عليه‌السلام لم يرد العلم فلا ينافي العصمة ومنصب الإمامة ، وعدم جواز الجهل عليه كالغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام إنّما يسلّم في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة.

ثمّ إنّ المعاملة القماريّة كما أنّها محرّمة كذلك فاسدة قولاً واحداً ، فيحرم الأعواض المأخوذة من جهتها بلا خلاف ، قيل : وأجمعوا عليه محصّلاً ومنقولاً حدّ الاستفاضة ، هذا مضافاً إلى آية «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» (١) ورواية إسحاق بن عمّار قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون ، فقال : لا تأكل منه فإنّه حرام» (٢) ورواية السكوني عن أبي عبد الله قال : «كان ينهى عن الجوز يجي‌ء به الصبيان من القمار أن يؤكل ، وقال : هو سحت» (٣).

وحينئذٍ فالمال المأخوذ في ضمان آخذه ويجب عليه ردّه عيناً إن كانت باقية أو مثلاً أو قيمة إن كانت تالفة إلى صاحبه إن كان بالغاً وإلّا يردّه إلى وليّه ، وإن كان الآخذ صبيّاً يردّه وليّه ، وإن كان المالك مجهولاً مطلقاً أو في عدد غير محصور يتصدّق به عنه ، وعلى القول بكون ولاية المال المجهول المالك مع الحاكم يدفعه إليه أو يتصدّق بإذنه ، وإن كان مجهولاً في عدد محصور يجب محاللتهم ولو بالصلح.

وقد يقال : هنا بالصلح القهري ، نظير ما ذكروه في التداعي فيما لو كان المال بين اثنين فصاعداً وأقام كلّ منهما بيّنة على التساوي من جميع الجهات أو حلفا معاً أو نكلا فالمال بينهما نصفين أو أثلاثاً أو أرباعاً ، والأولى في ذلك الصلح وهو أن يصالح كلّ من

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٦٦ / ٧ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٤ / ١٠.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٦٦ / ٦ ، ب ٣٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٣ / ٦.

٣٤٧

المتعدّدين (١) تمام ما ادّعاه ، أو ما احتمل كونه له ببعضه وهو الّذي يأخذه على نسبة القسمة المذكورة.

ولو أكله حراماً أو نسياناً فتذكّر فهل يجب استفراغه ما دام في المعدة؟ قيل : نعم ، استناداً إلى رواية عبد الحميد بن سعيد المتقدّمة في فعل أبي الحسن عليه‌السلام. والأقوى العدم ، للأصل استضعافاً للرواية سنداً بسهل بن زياد ودلالة إذ ليس فيها إلّا فعل المعصوم وجهته مجهولة ، ولعلّه للتنزّه أو لئلّا يصير الحرام جزءاً لبدنه الشريف ، ووجوب التأسّي في مثله غير ثابت ، وأقصاه الرجحان وبلوغه حدّ الوجوب غير واضح ، مع أنّ الاستفراغ إن كان لردّه إلى صاحبه ففيه أنّه خرج عن الماليّة وكان في حكم التلف فرجع الردّ إلى البدل مثلاً أو قيمة ، وإن كان لحرمة استبقائه في المعدة أو لحرمة جعله جزءاً للبدن فلا دليل على شي‌ء منهما.

وهل يحرم الحضور في مجلس القمار والنظر إليه؟ لم نقف على قائل صريح بالتحريم ، نعم يقتضيه إطلاق الشهيد في الدروس حيث عدّ من أمثلة ما حرم لعينه «الحضور في مجالس المنكر لغير الإنكار أو الضرورة» (٢) ويظهر من السيّد في الرياض كونه قولاً محقّقاً بل اشتهاره وكان متردّداً في بلوغه الإجماع حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يستفاد ممّا استفاض من الأخبار حرمة الحضور في المجالس الّتي يلعب فيها بها والنظر إليها وذكر هذه الأخبار قال : «إلّا أنّ في إثبات التحريم بذلك إشكالاً إلّا أن يكون إجماعاً» (٣) وأمّا الأخبار المشار إليها الّتي يستفاد منها التحريم :

فكالمرويّ عن مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ، واتّخاذها كفر ، واللعب بها شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة ، والخائض يده كالخائض يده في لحم الخنزير ، ولا صلاة له حتّى يغسل يده كما يغسلها من مسّ لحم الخنزير ، والناظر إليها كالناظر في فرج امّه ، واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهى بها والسلام على اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء ، ومن جلس على اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : المتداعيين.

(٢) الدروس ٣ : ١٦٣.

(٣) الرياض ٨ : ١٧٠.

٣٤٨

النار ، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في يوم القيامة ، وإيّاك ومجالسة اللاهي والمغرور بلعبها فإنّها من المجالس الّتي باد أهلها بسخط من الله يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم» (١).

وصحيح حمّاد بن عيسى قال : «دخل رجل من البصريّين على أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام فقال له : جعلت فداك إنّي أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج ولست ألعب بها ، ولكنّي أنظر ، فقال : ما لك! ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله» (٢).

وخبر سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «المطّلع في الشطرنج كالمطّلع في النار» (٣).

وهذه الأخبار كما ترى واضح الدلالة على حرمة كلّ من الحضور والنظر ولا صارف لها من إجماع على الخلاف وغيره ، نعم هي مخصوصة بالشطرنج ولعلّ التعدّي إلى غيرها يتمّ بالإجماع على عدم الفصل إن ثبت.

ومن مشايخنا وفاقاً لما سمعت من الشهيد من قال : «لا يبعد القول بحرمة الجلوس في مجالس المنكر ما لم يكن للردّ أو للضرورة بل كان للتنزّه ونحوه ممّا يندرج به في اسم اللاهين واللاعبين خصوصاً في مثل حضور مجلس الطبل والرقص ونحوهما من الأفعال الّتي لا يشكّ أهل الشرع والعرف في تبعيّة حاضريها في الإثم لأهلها ، بل هم أهلها في الحقيقة ، ضرورة أنّ الناس لو تركوا حضور أمثال هذه المجالس لم يكن اللاهي واللاعب يفعلها لنفسه كما هو واضح» (٤).

أقول : يمكن استفادة هذا الحكم العامّ من ذيل صحيح حمّاد حيث قال عليه‌السلام : «ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله» بتقريب أنّ الله سبحانه لا ينظر إلى أهالي مجالس المعصية عموماً ، فإنكاره عليه‌السلام للحضور فيها يعمّ الجميع.

الثانية : اللعب بتلك الآلات من غير رهن ، وفي تحريمه والعدم وجهان بل قولان ، ومستند القول بعدم الوجوب الأصل واختصاص أدلّة تحريم القمار بما كان فيه رهن ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٢٣ / ٤ ، ب ١٠٣ ما يكتسب به ، مستطرفات السرائر : ٥٩ : ٢٩.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٢٢ / ١ ، ب ١٠٣ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٧ / ١٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٢٢ / ٢ ، ب ١٠٣ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٧ / ١٦.

(٤) الجواهر ٢٢ : ١١١.

٣٤٩

إمّا لدخوله في مفهومه أو لانصراف مطلقاته إلى ما فيه لأنّه الغالب. ودعوى أنّ هذا غلبة وجود والمعتبر في الصرف غلبة الإطلاق ، يدفعها ثبوت الغلبة في المشتمل على الرهن بحسب الإطلاق أيضاً.

وتوهّم : الاستناد للتحريم حينئذٍ إلى كونه لهواً وهو حرام ، يدفعه منع قيام الدليل على تحريم اللهو بقول مطلق.

والأقوى هو التحريم من جهة الروايات الدالّة عليه عموماً وخصوصاً.

أمّا الأوّل : فما في رواية تحف العقول من قوله عليه‌السلام : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به ... إلى أن قال : فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» وكذلك قوله الآخر : «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ، ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلّمه ، والعمل به وأخذ الاجرة عليه ، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات».

والخبر المرويّ عن كتاب المجالس للشيخ الحسن بن محمّد الطوسي رحمه‌الله بسنده عن عليّ بن موسى الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر» (١) ولا ريب أنّ اللعب بتلك الآلات مطلقاً ممّا يلهى عن ذكر الله ، ومقتضى كونه كذلك عموم التحريم في أدلّة تحريم الميسر كما هو واضح.

ورواية عبد الله بن المغيرة الّذي قيل فيه إنّه من أصحاب الإجماع رفعه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث : كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث : في تأديبه الفرس ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته امرأته فإنهنّ حقّ» (٢).

وأمّا الثاني : فأخبار مستفيضة ، مثل الخبر المتقدّم في المسألة الاولى عن جامع البزنطي ، وفيه مواضع عديدة من الدلالة.

وخبر أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل عن الشطرنج والنرد؟ فقال : لا تقربوهما ...» (٣) الحديث. وهذا كما ترى نهي عن جميع أفراد قربهما الّذي منه اللعب

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣١٥ / ١٥ ، ب ١٠٠ ما يكتسب به ، أمالي الطوسي ١ : ٣٤٥.

(٢) الوسائل ١٧ : ٤٩٣ / ٣ ، ب ٧ أحكام الدوابّ ، الكافي ٥ : ٥٠ / ١٣.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٢٠ / ١٠ ، ب ١٠٢ ما يكتسب به ، معاني الأخبار الرضا : ٢٢٤ / ١.

٣٥٠

بهما ولو بغير رهن.

وخبر أبي الجارود المرويّ عن تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١) قال : أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب ... إلى أن قال : وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج وكلّ قمار ميسر ... إلى أن قال : كلّ هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشي‌ء من هذا حرام من الله محرّم ...» (٢) الخ. والمراد من القمار آلاته لا معناه المصدري وهو المقامرة بقرينة قوله عليه‌السلام : «وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج» وكذلك البيع والشراء لعدم تعلّقهما بالفعل ، وتحريم الانتفاع به يعمّ ما نحن فيه أيضاً. وتوهّم : أنّه يوجب ظهور كون المراد صورة الرهن لأنّه الّذي ينتفع به لا الخالي من الرهن ، يدفعه : أنّ في الخالي أيضاً انتفاعاً كالتلذّذ أو الاشتغال عن هموم الدنيا وازدياد القوّة الفكريّة والغلبة على الحريف وما أشبه ذلك ، فإطلاق الانتفاع المحرّم يعمّ جميع أفراده الّتي منها ما نحن فيه.

وخبر يعقوب بن يزيد عن بعض أصحابنا قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اللعب بالشطرنج؟ فقال : الشطرنج من الباطل» (٣) يدلّ على أنّ اللعب بالشطرنج يحرم باعتبار كونه باطلاً فيعمّ الخالي من الرهن لأنّه أيضاً من الباطل.

ونحوه في الدلالة خبر الفضيل قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الأشياء الّتي يلعب بها الناس النرد والشطرنج حتّى انتهيت إلى السدر؟ فقال : إذا ميّز الله الحقّ من الباطل مع أيّهما يكون؟ قال : مع الباطل ، قال : فما لك وللباطل» (٤).

ونحوه موثّق زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّه سئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب الّتي يقال لها : لعبة الأمير ، وعن لعبة الثلث؟ فقال : أرأيت إذا ميّز الله الحقّ والباطل مع أيّهما تكون؟ قال : مع الباطل ، قال : فلا خير فيه» (٥).

قيل في وجه الدلالة في هذه الثلاث ونظائرها : إنّ مقتضى إناطة الحكم بالباطل

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣٢١ / ١٢ ، ب ١٠٢ ما يكتسب به ، تفسير القمي ١ : ١٨٠.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٢١ / ١٣ ، ب ١٠٢ ما يكتسب به ، تفسير العياشي ٢ : ٣١٥ / ١٥٣.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٢٤ / ٣ ، ب ١٠٤ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٦ / ٩.

(٥) الوسائل ١٧ : ٣١٩ / ٥ ، ب ١٠٢ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٦ / ١٠.

٣٥١

واللعب عدم اعتبار الرهن في اللعب بهذه الأشياء ، ولا يجري دعوى الانصراف هنا.

الثالثة : في اللعب بغير الآلات المعمولة في القمار الّذي يقال له المغالبة والمراهنة أيضاً إذا كان مع الرهان ، كالمصارعة والمسابقة بالركض والمغالبة بتشبيك الأصابع أو بالخطّ أو بالمشاعرة أو بالكبش أو الديك أو الأسد أو الجاموس أو العوامل وما أشبه ذلك ، ولا خلاف لأحد في فساد هذه المعاملة بجميع أنواعها إذا كانت مع الرهان ، فلا يخرج عن ملك صاحبه فيكون أخذه والتصرّف فيه أكلاً للمال بالباطل. فيحرم بنصّ الآية ، فالفساد ممّا لا بحث فيه هنا. بل الكلام في حكمها التكليفي وهو الحرمة وعدمها ، فإن كانت مع الرهان فعن العلّامة الطباطبائي في مصابيحه (١) التصريح بعدم الخلاف في الحرمة والفساد ، وقضيّة الإجماعات المنقولة في حرمة ما لا رهان فيه كما ستعرفه أن يكون الحرمة هنا أيضاً إجماعيّة بل بطريق أولى.

وقيل : إنّه ظاهر كلّ من نفى الخلاف في تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض وجعل محلّ الخلاف فيها بدون العوض ، فإنّه بظاهره يعطي أنّ محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق هناك ، بل عن تذكرة العلّامة في خصوص المصارعة «أنّه لا تجوز المسابقة على المصارعة بعوض ولا بغير عوض عند علمائنا أجمع لعموم النهي إلّا في الثلاثة الخفّ والحافر والنصل» (٢) ومع هذا كلّه فبعض مشايخنا (٣) صار هنا أيضاً إلى الجواز كما صار إليها فيما لا رهان فيه الّذي نسب السيّد في الرياض (٤) التحريم فيه إلى الأكثر ، وعن المسالك (٥) أنّه وصفه بالأشهريّة ، وحكى السيّد عن جماعة نقل الإجماع عليه كالمهذّب البارع (٦) وجامع المقاصد (٧) والفاضل وقد سمعت إجماعه في التذكرة (٨) وعن صاحب الكفاية (٩) عن الشيخ في المبسوط (١٠) الإجماع عليه أيضاً ، والسيّد (١١) مع ما عرفت منه خالف الأكثر فصار إلى الجواز ، ووافقه شيخنا في الجواهر (١٢).

فقد ظهر بما حرّرناه اختلاف أقوال الأصحاب في حكم المغالبة تكليفاً وهي

__________________

(١) المصابيح : ٢٢. (٢) التذكرة ٢ : ٣٥٤.

(٣) الجواهر ٢٢ : ١٠٩. (٤) الرياض ١٠ : ٢٣٧.

(٥) المسالك ١ : ٣٨١. (٦) المهذّب البارع ٣ : ٨٢.

(٧) جامع المقاصد ٨ : ٣٢٦.

(٨) التذكرة ٢ : ٣٥٤. (٩) الكفاية : ١٣٧.

(١٠) المبسوط ٦ : ٢٩٠. (١١) الرياض ١٠ : ٢٣٨.

(١٢) الجواهر ٢٨ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٣٥٢

الحرمة مع الرهان وبدونه ، والجواز فيهما ، والحرمة مع الرهان والجواز بدونه. والأقوى القول الأوّل ، لنا عموم المرويّ عن المجالس من قول مولانا أمير المؤمنين : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر» (١) وعموم ما في رواية ابن المغيرة المتقدّمة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث» (٢) ولا ريب في كون اللعب بالمراهنة بل مطلق المغالبة والمسابقة لهواً وملهياً عن ذكر الله فيحرم.

والظاهر أنّ موضوع اللهو الّذي اخذ منه الإلهاء موكول إلى العرف فلا ينتقض بفعل المباحات الأصليّة ، أو يقال : إنّ ملاكه التلذّذ النفساني الغير المعتدّ به عند العقلاء أو ما لم يتعلّق به غرض عقلائي هذا ، مضافاً فيما فيه رهان إلى قول الصادق عليه‌السلام : «أنّ الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخفّ والنصل» (٣) وإلى خبر العلاء بن سيّارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ والحافر والريش وما سوى ذلك فهو قمار حرام» (٤) ولو تعلّق بشي‌ء من هذه الأفعال غرض عقلائي يخرجه عن اللهو كالمصارعة لإصلاح المزاج والركض لتقوية الطبيعة وما أشبه ذلك فلا ينبغي التأمّل في الجواز.

وقد يستدلّ على الحرمة بعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا سبق إلّا في ثلاثة الخفّ والحافر والنصل» (٥) فإنّه يدلّ على حصر الجواز في الثلاثة فيحرم ما عداها وهو عامّ. وردّ بأنّه إنّما يسلّم على احتمال السكون في لفظ «سبق» لأنّه حينئذٍ معنى مصدري بمعنى المسابقة ، وأمّا على قراءة الفتح وهو حينئذٍ بمعنى المال المبذول للسابق فغايته الدلالة على حرمة المال وهي لا تلازم حرمة الفعل. واحتمال السكون معارض باحتمال الفتح ولا مرجّح ، فحصل الإجمال المانع من الاستدلال.

أقول : يمكن منع الدلالة على احتمال السكون أيضاً ، لأنّ كلمة «لا» النافية للجنس بعد تعذّر حقيقتها ظاهرة في نفي الصحّة لأنّها أقرب إلى الحقيقة عرفاً واعتباراً

__________________

(١) ١ و ٢ تقدّم في الصفحة : ٣٥٠.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٤١٣ / ٣ ، ب ٥٤ كتاب الشهادات ، الفقيه ٣ : ٣٠ / ٨٨.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٤١٣ / ٢ ، ب ٥٤ كتاب الشهادات ، التهذيب ٦ : ٢٨٤ / ٧٨٥.

(٥) الوسائل ١٩ : ٢٥٣ / ٤ ، ب ٣ ما يجوز السبق والرماية ، قرب الإسناد : ٤٢.

٣٥٣

فلا تصرف منه إلى نفي الجواز لأنّه مجاز بعيد لهذه اللفظة ، فغايتها الدلالة حينئذٍ على فساد المعاملة الرهانيّة في غير الثلاثة وهي لا تلازم الحرمة.

وتمسّك بعض مشايخنا (١) لما صار إليه من الجواز بالأصل ، وانصراف أدلّة القمار إلى غير ما نحن فيه ، والسيرة القطعيّة من الأعوام والعلماء في المغالبة بالأبدان وغيرها ، وقد روي (٢) مصارعة الحسن والحسين بمحضر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي الجميع ما لا يخفى ، إذ الأصل يخرج عنه بما سمعت ، ولا انصراف فيه ، والسيرة المدّعاة على وجه تكشف عن التقرير والرضا ممنوعة ، وتحقّقها على وجه القطع فيما بين المعتبرين من العلماء من الخلف والسلف غير معلوم وعمل البعض لا حجّية فيه ، وتحقّقها فيما بين الجهّال من العوام ممّا لا ينبغي الاعتداد به ، ومصارعة الحسنين رواية لم يعلم العمل بها من الأصحاب ، ولو سلّم فلعلّ الجواز في حقّهما لكونهما بحسب الظاهر في سنّ الطفوليّة فكيف يستدلّ به على الجواز في حقّ المكلّفين البالغين ، ومع هذا كلّه فهي قضيّة في واقعة ولا مقتضي للتعدّي إلى غيرها إلّا القياس المحرّم ، مع احتمال تطرّق النسخ كما يساعد عليه عمومات المنع وغيرها حسبما عرفت.

__________________

(١) الجواهر ٢٢ : ١٠٩.

(٢) ذخائر العقبى : ١٣٤ ، كنز العمّال ٧ : ١٠٧.

٣٥٤

النوع العاشر

الغشّ بما يخفى

وليعلم أوّلاً أنّه قال صاحب القاموس في مادّة الغشّ : غشّه لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر كغشَّشه ، والغشّ بالكسر الاسم منه ... إلى أن قال : والمغشوش الغير الخالص ، والغشّ محرّكة الكدر المشوب ...» (١) إلى آخر ما ذكره.

ويستفاد من كلامه مجي‌ء الغشّ لمعان : عدم إمحاض النصح ، وأن يظهر له خلاف ما أضمر ، وأن يفعل في الشي‌ء ما يخرجه عن كونه خالصاً وهو أن يشوبه بغير جنسه كشوب اللبن بالماء ومزج الحنّاء بقشر الرمّان وخلط الطحين بدقيق الشعير أو الدخن وما أشبه ذلك ، فالشي‌ء المشوب فيه يقال له : المغشوش ، أي الغير الخالص.

وأوّل هذه المعاني خارج عن محلّ البحث وإن كان هو أيضاً محرّماً لأنّه عبارة عن أن يشوب الناصح في نصيحته الواجبة عليه خصوصاً في حقّ المستشير خلاف النصيحة بصورتها بحيث لا يلتفت إليه صاحبه ، ولا ريب في حرمته ولكنّه لا دخل له بموضوع المسألة.

وكذلك المعنى الثاني وإن كان هو أيضاً محرّماً ، لأنّه عبارة من أن يضمر إنسان في حقّ المؤمن خيانة فيظهره له بصورة النصيحة ، ويقال له : المكر أيضاً المنصوص على حرمته فتوى ونصّاً كتاباً وسنّة ، وإن كان ربّما أمكن توجيهه بحيث يعمّ بعض أفراد موضوع المسألة بجعل الإضمار أعمّ من إضمار الخيانة وإخفاء عيب المال ، إلّا أنّه

__________________

(١) القاموس ٢ : ٢٨١ مادّة (غش).

٣٥٥

خلاف الظاهر لظهور الإضمار في أمر قلبي.

وأمّا المعنى الثالث فهو من موضوع المسألة إلّا أنّ معقد فتاوي الأصحاب ومورد الأدلّة من الإجماعات والروايات أعمّ منه لجهات ، فإنّ الغشّ قد يكون بإدخال غير الجنس في الجنس كمزج اللبن بالماء والحنّاء بقشر الرمّان والطحين بدقيق الشعير أو الدخن والحنطة بالتراب أو بالشعير.

وقد يكون بإدخال الردي‌ء من الجنس بجيّده كخلط الحنطة الجيّدة بالرديئة والسمن الجيّد بالردي‌ء منه.

وقد يكون بإظهار الشي‌ء بغير جنسه بنحو من التمويه كطلي الصفر بماء الفضّة وإظهاره فضّة وطلي الرصاص بماء الذهب وإظهاره ذهباً ويقال له المموّه ومنه إظهار لبن البقر باسم لبن الضأن أو المعز وإظهار لحم البقر أو البعير باسم لحم الغنم وإظهار دبس التمر باسم دبس العنب.

وقد يكون بإظهار صفة جيّدة للشي‌ء مفقودة فيه واقعاً.

وقد يكون بإخفاء عيب الشي‌ء وهذا أعمّ من الحقيقي والحكمي ، ومنه بيع المتاع المعيوب أو الردي‌ء في الظلال على ما ورد في رواية هشام بن الحكم قال : «كنت أبيع السابري (١) في الضلال ، فمرّ بي أبو الحسن عليه‌السلام فقال : يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ والغشّ لا يحلّ» (٢).

وقد يكون بإحداث صفة في الشي‌ء كرشّ التنباكو بماء البقم ونحوه ليعتريه اللون الجيّد ، ومنه وضع الإبريسم في مكان رطب أو بارد ليكتسب ثقلاً.

ثمّ إنّ الخلط والمزج قد يكون بما لا يخفى على المشتري كخلط الحنطة بالتراب أو بالشعير والأبيض منها بالأحمر وما أشبه ذلك ، وهذا ممّا لا حرمة فيه قولاً واحداً ، بل قد يقال بخروجه عن موضوع الغشّ لما يعتبر فيه كون المزج بما لا يظهر ، وكذلك غير المزج من الأنواع المذكورة فيعتبر في الجميع كونه بما يخفى.

__________________

(١) وهو ضرب من الثياب الرقاق يعمل بسابور وهو موضع بفارس عن مغرب. منه.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٨ / ٣ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٦.

٣٥٦

وينبغي أن يقيّد بكون الخفاء وعدم الظهور لذاته لا لمسامحة المشتري في التحرّي ، فإنّه لو كان على هذا الوجه لا حرمة فيه ولا أظنّ قائلاً بحرمته.

ثمّ الغشّ بما يخفى في جميع أنواعه قد يكون لغرض آخر غير البيع وهذا أيضاً ليس بمحرّم بالضرورة. وما كان منه للبيع قد يكون البائع يعلم المشتري بغشّه ، وهذا أيضاً لا حرمة فيه قولاً واحداً. فموضوع المسألة هو الغشّ بما لا يعرفه المشتري إلّا بإعلام البائع وهو لا يعلمه ، وحينئذٍ فغشّ المسلم على ما ورد في الأخبار إنّما يكون ببيعه المغشوش من المسلم ، وإطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ كما في قوله عليه‌السلام : «ليس من المسلمين من غشّهم» (١) وقوله أيضاً : «من غشّ الناس فليس بمسلم» (٢) وقوله أيضاً : «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ماكره» (٣) مجازي من باب وصف الشي‌ء بصفة متعلّقه ، فإنّ الوصف حاصل في المبيع لا في نفس البيع.

ويمكن كون القدر الجامع بين الأنواع المذكورة هو الخيانة وهي المرادة من الغشّ كما يقتضيه كلام بعض أهل اللغة ويقتضيه المقابلة بينه وبين النصح ، ويساعد عليه بعض الروايات الآتية فيكون إطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ لأجل كونه مصداقاً له ، على معنى أنّ البيع في جميع الأنواع المذكورة خيانة.

ثمّ إنّ الغشّ بمعنى بيع المغشوش قد يتكلّم فيه من حيث حكمه التكليفي وهو الحرمة وعدمها ، وقد يتكلّم فيه من حيث حكمه الوضعي على تقدير وهو الفساد وعدمه ، فالبحث يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر كما في كلام جماعة حرمة الغشّ ، وعن المنتهى (٤) التصريح بذلك ، والنصوص به مع ذلك متظافرة بل قيل متواترة ، ففي صحيح هشام بن سالم على الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٧٩ / ٢ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٨٣ / ١١ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣٣٤.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٨٣ / ١٢ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٩ / ٢٦.

(٤) المنتهى ٢ : ١٠١٢.

٣٥٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل يبيع التمر : يا فلان ، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم» (١).

وصحيح هشام بن الحكم قال : «كنت أبيع السابريّ في الظلال ، فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى عليه‌السلام فقال :يا هشام،إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ» (٢).

وفي حديث المناهي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال : «ومن غشّ مسلماً في شراء وبيع فليس منّا ، ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين» (٣).

وعن عقاب الأعمال بسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ في حديث ـ : «ومن غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا ويحشر مع اليهود يوم القيامة ، لأنّه من غشّ الناس فليس بمسلم ... إلى أن قال : ثمّ قال رسول الله : ألا ومن غشّنا فليس منّا قالها ثلاث مرّات ، ومن غشّ أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه وأفسد عليه معيشته ووكله إلى نفسه» (٤).

وعن عيون الأخبار بأسانيده عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره» (٥).

وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشاب اللبن بالماء للبيع».

وعن موسى بن بكر قال : «كنّا عند أبي الحسن عليه‌السلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه ، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين ، ثمّ قال لي : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بشي‌ء فيه غشّ» (٦).

وعن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبناته ، وكانت تبيع منهنّ العطر ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي عندهنّ ، فقال : إذا أتيتنا طابت بيوتنا ، فقالت : بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا بعت فأحسني ولا تغشّي فإنّه أتقى وأبقى للمال» (٧).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٧٩ / ٢ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٨٠ / ٣ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٦.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٨٢ / ١٠ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الفقيه ٤ : ٨ / ١.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٨٣ / ١١ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣٣٤.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٣٨ / ١٢ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٩ / ٢٦.

(٦) الوسائل ١٧ : ٢٨ / ٥ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦٠ / ٣.

(٧) الوسائل ١٧ : ٢٨١ / ٦ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٨ : ١٥٣ / ١٤٣.

٣٥٨

وفي رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سوق المدينة بطعام ، فقال لصاحبه : ما أرى طعامك إلّا طيّباً ، وسأله عن سعره ، فأوحى الله عزوجل إليه أن يدسّ يده في الطعام ، ففعل فأخرج طعاماً رديئاً ، فقال لصاحبه : ما أراك إلّا وقد جمعت خيانة وغشّاً للمسلمين» (١).

وفي مرسلة عبيس بن هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دخل عليه رجل يبيع الدقيق ، فقال : إيّاك والغشّ فإنّه من غَشّ غُشّ في ماله ، فإن لم يكن له مال غُشّ في أهله» (٢).

وفي رواية الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق أن يبلّه من غير أن يلتمس زيادة؟ فقال : ان كان بيعاً لا يصلحه إلّا ذلك ولا ينفعه غيره ، من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس ، وإن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح» (٣).

وروايته الاخرى قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون عنده لونان من الطعام سعرهما بشي‌ء ، وأحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعاً ثمّ يبيعهما بسعر واحد؟ قال : لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّى يبيّنه» (٤).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض ، وبعضه أجود من بعضه؟ قال : إذا رُئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغطّ الجيّد الردي‌ء» (٥).

ورواية داود بن سرحان قال : «كان معي جربان من مسك أحدهما رطب والآخر يابس ، فبدأت بالرطب فبعته ، ثمّ أخذت اليابس أبيعه ، قال : أنا لا اعطي باليابس الثمن الّذي يسوى ولا يزيدوني على ثمن الرطب ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك أيصلح لي أن أنديه؟ قال : لا ، إلّا أن تعلّمهم ، قال : فنديته ثمّ أعلمتهم ، قال : لا بأس» (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٨٢ / ٨ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦١ / ٧.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٨١ / ٧ ، ب ٨٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٦١ / ٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ١١٣ / ٣ ، ب ٩ أحكام العيوب ، الكافي ٥ : ١٨٣ / ٣.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٢ / ٢ ، ب ٩ أحكام العيوب ، الكافي ٥ : ١٨٣ / ٢.

(٥) الوسائل ١٨ : ١١٢ / ١ ، ب ٩ أحكام العيوب ، الكافي ٥ : ١٨٣ / ١.

(٦) الوسائل ١٨ : ١١٣ / ٤ ، ب ٩ أحكام العيوب ، الفقيه ٣ : ١٤٣ / ٦٢٨.

٣٥٩

وهذه الروايات كما ترى في الدلالة على المنع تعمّ الأنواع المتقدّمة بأجمعها خصوصاً إذا اعتبرنا الغشّ بمعنى الخيانة ، كيف وأنزل المراتب بيع الشي‌ء في الظلال وقد نصّت رواية هشام بن الحكم بكونه غشّاً وأنّه لا يحلّ ، وفي جملة منها الدلالة على اعتبار الخفاء وعدم الظهور على المشتري في الغشّ المحرّم ، كدلالة جملة منها على خروجه عن الحكم أو الموضوع بإعلام البائع وبيانه.

المقام الثاني : في حكم الغشّ من حيث فساد المعاملة وعدمه ،لمصير جماعة منهم ثاني (١) الشهيدين وتبعه محقّقو مشايخنا (٢) إلى العدم ولعلّه مذهب الأكثر ، خلافاً للمحكيّ عن المحقّق الأردبيلي (٣) لمصيره إلى الفساد استناداً إلى ورود النهي فيكون المغشوش منهيّاً عن بيعه. ويظهر من المحكيّ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد التردّد ، حيث إنّه بعد ما ذكر الغشّ بما يخفى ومثّل له بمزج اللبن بالماء ذكر في صحّة المعاملة وفسادها وجهين : «من حيث إنّ المحرّم هو الغشّ والمبيع عين مملوكة ينتفع بها ، ومن أنّ المقصود بالبيع هو اللبن والجاري عليه العقد هو المشوب» (٤).

وحاصل وجه الصحّة أنّ النهي تعلّق بالغشّ وهو أمر خارج عن المعاملة ، والمقصود من العقد بيع هذا اللبن المشوب وهو عين مملوكة ينتفع بها فيصحّ ، لأنّه عقد وقع من أهله في محلّه. وحاصل وجه الفساد أنّ مقصود المتعاقدين في البيع هو اللبن والعقد وقع على المشوب ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد فيفسد ، لأنّ العقود يتبع القصود. ولذا يظهر من ذيل عبارته بناء الوجهين على الإشكال في مسألة تعارض الإشارة والاسم وأنّه يبني فيها على تغليب الإشارة أو على تغليب الاسم ، كما لو باع هذا الفرس فبان حماراً ، ومعنى تغليب الإشارة في مورد هذا المثال استظهار أنّ المقصود بالذات هو البيع للحمار ، واسم الفرس وقع عليه خطأ ، وعليه مبنيّ احتمال الصحّة لوقوع العقد على ما قصد ، ومعنى تغليب الاسم استظهار أنّ المقصود بالذات هو البيع للفرس والإشارة وإجراء العقد على المشار إليه وقع خطأ ، وعليه مبنيّ احتمال

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٩.

(٢) الجواهر ٢٢ : ١١٢.

(٣) مجمع الفائدة ٨ : ٨٣.

(٤) جامع المقاصد ٤ : ٢٥.

٣٦٠