ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

بالإمكان ، فإنّ عدم الدليل على الزيادة لا ينفي احتمالها.

وتوهّم : الاستناد للحكم بعدمها إلى القاعدة الاصوليّة المعبّر عنها بأنّ عدم الدليل على الوجود دليل على العدم ، يدفعه : أنّ هذه القاعدة على تقدير تماميّتها مختصّة بالشرعيّات ولا تجري في العقليّات.

كما أنّ توهّم الاستناد إلى الأصل بمعنى استصحاب عدم الزيادة ، يدفعه : أنّ الاستصحاب يقتضي حالة سابقة تكون هي المستصحب ، وإنّما يتمّ فيما كان في أصله ممكناً وشكّ في طروء الضرورة لعدمه فيقال : بأنّ الأصل عدم طروء الزيادة ، ومحلّ البحث ليس من هذا القبيل ، لأنّ الشكّ في ضرورة عدم الشي‌ء المعدوم الّذي لو كانت صفته هذه كانت ثابتة له من الأزل.

وتوهّم : الاستناد إلى الغلبة بدعوى أنّ الممكنات أغلب من الممتنعات أيضاً ، مدفوع بأنّ هذه الغلبة ممّا لا طريق إلى إحرازه ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو تصفّح سلسلة المعدومات ووجد أغلبها بصفة عدم ضرورة عدمها وهذا غير ممكن جزماً.

فالتحقيق أنّ أصالة الإمكان ممّا لا مدرك له ، نعم يمكن في خصوص محلّ البحث إثبات الإمكان بملاحظة الوقوع الّذي هو أخصّ ، وستعرف في الجهة الثانية أنّ له أصل وحقيقة في الجملة ، والظاهر أنّ الوقوع في الجملة دليل على الإمكان في الجملة.

وعن الشيخ (١) الاحتجاج على الامتناع ، بأنّه لولاه لزم إبطال معاجز الأنبياء فيبطل به النبوّات ، إذ كلّ نبيّ أتى بمعجزة يحتمل كونه ساحراً متنبّئاً أتى بسحره لإثبات دعواه الكاذبة ، ولو امتنع السحر لم يحتمل ذلك.

واجيب : بمنع الملازمة لجواز الحيلولة بأن يحول سبحانه بين الساحر المتنبّئ ، وبين سحره ويمنعه من التأثير ، كما حال في قصّة إبراهيم عليه‌السلام بينه وبين النار ومنع من تأثيرها حتّى صارت بالقياس إليه برداً وسلاماً.

وفيه : أنّه لا يجدي نفعاً إلّا إذا كانت قضيّة قولنا «كلّ ساحر متنبّئ فالله عزوجل يحول بينه وبين سحره» معلومة لكلّ واحد من آحاد المكلّفين مركوزة في أذهانهم

__________________

(١) التبيان ١ : ٣٧٤ نقلاً بالمعنى.

٣٠١

ليظهر لهم صدق الآتي بخارق العادة في دعواه النبوّة والمفروض خلافه.

والتحقيق في جوابه منع الملازمة :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الوقوع الّذي ستعرف ثبوته في الجملة يدلّ على إمكانه ، فيكشف عن كون دعوى الملازمة واردة على سبيل المغالطة وإن لم يعرف أنّ جهة المغالطة أيّ شي‌ء.

وأمّا ثانياً : فلأنّ إبطال المعاجز والإفحام للأنبياء يترتّب على وقوع السحر في الخارج لا على إمكانه ، والإمكان أعمّ من الوقوع ، فعلى القول بأنّه ممكن ولكنّه ليس بواقع لا يلزم الإبطال والإفحام ، لأنّ كلّ ما وقع من المتنبّئ من خوارق العادات لا يحتمل كونه سحراً على هذا القول.

ولو قيل : لا كلام على هذا القول في أنّ السحر يقع على وجه التخييل وتلبيس الأمر على الوهم ، فمن أين يميّز الناظر فيما أتى به المتنبّئ من خارق العادة ويعرف أنّه أمر واقعي وليس ممّا لا واقعيّة له بل هو مجرّد تخييل وتلبيس ، فإنّ كلّ خارق للعادة أتى به المتنبّئ يحتمل كونه من هذا القبيل.

قلنا : طريق معرفة ذلك هو الرجوع إلى العقل وإعماله وإزالة غطاء الشبهات عنه فإنّه الحجّة البالغة الّتي أعطاها الله سبحانه المكلّف ، وهو لمن يراجعه ويستعمله كما هو حقّه يميّز بين الحقّ والباطل ويرشد صاحبه إلى الحقّ ، كما يدلّ عليه رواية ابن السكّيت المرويّة عن العيون والعلل قال لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بيد البيضاء والعصا وآلة السحر ، وبعث عيسى عليه‌السلام بالطبّ ، وبعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام والخطب؟ فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يمكن في وسع القوم مثله وبما أبطل به سحرهم وأثبت الحجّة عليهم ، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه‌السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتياج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم ، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال : والشعر ـ فأتاهم من كتاب الله عزوجل ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم. فقال ابن السكّيت :

٣٠٢

تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال عليه‌السلام : العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على الله فتكذبه ، فقال ابن السكّيت : هذا والله الجواب» (١).

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الفرق بين السحر والمعجزة واضح بما اخذ فيها ممّا يميّزها عن السحر ، فإنّها عبارة عن كلّ فعل عجز البشر عن الإتيان به وكان خارقاً للعادة ومطابقاً ـ مثل شقّ القمر وقلب العصا حيّة وإحياء الموتى وردّ الشمس واستنطاق الحصى والبهائم ، وجعل الماء المسائل ساكناً ، وجعل الحجر أو الشجر الساكن متحرّكاً ماشياً وما أشبه ـ والقيد الأوّل لإخراج السحر والشعبذة لأنّهما من مقدورات البشر ، ويقبل كلّ منهما المعارضة بالمثل ولذا اعتبر فيها عدم المعارضة من لم يعتبر عجز البشر عن الإتيان بمثله.

وفي الرواية المتقدّمة أيضاً إشارة إلى اعتبار العجز عن الإتيان به وبمثله وعدم قبول المعارضة ، ومن ثمّ آمن سحرة فرعون وهم اثنا عشر الف رجل بموسى عليه‌السلام لأنّهم عرفوا بسبب عجزهم عن المعارضة والإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه‌السلام من قلب العصا حيّة أنّه من فعل الله عزوجل فعرفوا بذلك صدقه في دعوى النبوّة. وكذا الحال في القرآن المجيد فإنّ فصحاء عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطب والشعراء وغيرهم بعد ما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه بل عن مثل آية منه عرفوا أنّه كلام الله سبحانه ومن عنده ، لخروجه من الطاقة البشريّة. ولعلّ من حكمة الخفيّة في بعث كلّ نبيّ من جنس البشر لا غير هو أن يظهر لقومه أنّ ما أتى به من خوارق العادات ليس من مقدورات البشر ليصدّقوه في دعوى النبوّة.

ثانيتهما : أنّ السحر هل هو واقع؟ على معنى أنّ ما ادّعي كونه سحراً هل له أصل وحقيقة في الواقع وتأثير في نفس الأمر أو لا بل هو مجرّد تخييل وتلبيس للأمر على الوهم؟ فقد اختلف فيه أصحابنا ، فقيل بأنّ له أصلاً حقيقة في الواقع وتأثيراً في نفس الأمر مطلقاً. وقيل بأنّ لا حقيقة له أصلاً ، ونسبه الشهيدان في الدروس (٢) والمسالك (٣) إلى الأكثر ، وفي الروضة (٤) إلى كثير منهم ، وربّما نقل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه.

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) الدروس ٣ : ١٦٤.

(٣) المسالك ٣ : ١٢٨.

(٤) الروضة ١ : ٢٧٢.

٣٠٣

وقيل بأنّه لا تأثير له إلّا في التفريق بين المرء وزوجه وإلقاء البغضاء بينهما ، وهذا نقله في المجمع (١) عن بعضهم. وقيل بأنّه لا يؤثّر إلّا في استخدام الجانّ واستحضارهم. وقد يستظهر من فخر المحقّقين الفرق بين دعوى الكواكب فلا أصل له وغيره حيث قال : «اختلف علماؤنا فيما عدا دعوة الكواكب» (٢) وفيه نظر ، وقضيّة كلامه عدم كون القول الأوّل على وجه الإطلاق المنحلّ إلى الإيجاب الكلّي.

والمختار وفاقاً لبعض مشايخنا (٣) أنّ له حقيقة في الجملة على وجه الإيجاب الجزئي ، ودليله شهادة الوجدان والمشاهدة والحسّ والعيان بتأثير جملة من أنواعه فيما قصد منه من الآثار وتأثّر المسحور منه وظهور آثاره فيه ، كما في المصاب يستحضر لاستعلاجه الجانّ ، وفي عقد اللسان وعقد الرجل على امرأته ، والتفريق فيما بين المرء وزوجه ، أو التحبيب فيما بينهما ، وإلقاء العداوة والبغضاء بين المتحاببين المتصافيين ، وصرف القلوب المؤتلفة بعضها عن بعض ، وجذب القلوب المتنافرة بعضها إلى بعض ونحو ذلك. وإلى جميع ما ذكر أشار ثاني الشهيدين في المسالك بدعوى «وجدان أثره في كثير من الناس على الحقيقة ... إلى أن قال : وإحضار الجانّ وشبه ذلك فإنّه أمر معلوم لا يتوجّه دفعه».

وتوهّم : أنّ هذا كلّه تأثير من الوهم فإنّه قد يكون مؤثّراً في النفوس كالمشي على جذع ملقى طرفاه على رأسي جدارين عاليين وعلى جذع آخر ملقى على وجه الأرض ، فإنّ الوهم في الأوّل يؤثّر اضطراب القلب ومخافة السقوط ، وربّما يسقط إلى الأرض بخلاف الثاني ، وكذلك من كان في ليلة مظلمة عند ميّت مع علمه بأنّه جماد لا ينشأ منه شي‌ء ، ومع ذلك يطرؤه الخوف والخشية حتّى ربّما يأخذه الغشوة بل ربّما يبلغه خوفه بالهلاك ، وليس ذلك كلّه إلّا من تأثيرات الوهم ، وهكذا يقال في الآثار الغريبة الظاهرة من فنون السحر المعهودة عند أهله.

يدفعه : ما أشار إليه في المسالك من «أنّ هذا إنّما يتمّ لو سبق للقابل علم بوقوعه ، ونحن نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلاً حتّى يضرّ به» (٤) هذا مع أنّ الأمر في تأثير

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٧٨.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٥.

(٣) الجواهر ٢٢ : ٨٧.

(٤) المسالك ٣ : ١٢٨.

٣٠٤

النميمة الّتي هي من أكبر السحر وترتّب آثار فنون الفساد واضح لا يمكن إنكاره إلّا من مكابر متعسّف.

ويدلّ على ذلك الرواية المرويّة عن الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مسائل كثيرة ، منها ما ذكره بقوله : «أخبرني عن السحر ما أصله؟ وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ السحر على وجوه شتّى :

منها بمنزلة الطبّ كما أنّ الأطبّاء وضعوا لكلّ داء دواءً ، فكذلك علم السحر احتالوا لكلّ صحّة آفة ولكلّ عافية عاهة ولكلّ معنى حيلة ، ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة ، ونوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين منهم ، قال : فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال : من حيث علم الأطبّاء الطبّ بعضه بتجربة وبعضه بعلاج ، قال : فما تقول في الملكين هاروت وماروت وما يقول الناس إنّهما يعلّمان السحر؟ قال : إنّما هما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو تعالج بكذا وكذا لصار كذا ، فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم قال : أفيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك ، وأضعف من أن يغيّر خلق الله ، إنّ من أبطل ما ركّبه الله تعالى وصوّر غيره فهو شريك الله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهَرَم والآفة والأمراض ، ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وأنّ من أكبر السحر النميمة يفرّق به بين المتحابّين ، ويجلب العداوة على المتصافّين ، ويسفك به الدماء ، ويهدم بها الدور ، ويكشف بها الستور ، والنمّام شرّ من وطأ الأرض بقدمه ، فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنّه بمنزلة الطبّ ، أنّ الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء فجاءه الطبيب فعالجه بغير ذلك فأبرأه ...» (١) الحديث.

المقام الثاني : في حكم السحر الّذي يتكلّم فيه تارةً من حيث علمه ، واخرى من

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٨١.

٣٠٥

حيث تعلّمه وتعليمه ، وثالثة من حيث التكسّب به ، ورابعة من حيث كفر مستحلّه ، وخامسة من حيث وجوب قتل عامله ، إلّا أنّ هذه الجهة الخامسة ليس هنا موضع ذكرها ، بل محلّه باب الحدود لأنّ الأصحاب ذكروا قتل الساحر في ذلك الباب.

فالعمدة في المقام هو التكلّم في الجهات الأربع :

الجهة الاولى : في حرمة عمل السحر ، والظاهر أنّه لا يتفاوت فيه الحال بين ما لو كان السحر أمراً واقعيّاً أو أمراً تخيّليّاً أو بعضه واقعيّاً وبعضه تخيّليّاً ، لأنّ الحرمة في الشريعة ثبت لعنوان السحر كائناً ما كان ، فتثبت لكلّ ما يصدق عليه عنوان السحر على وجه الحقيقة إلّا ما خرج بالدليل.

وأمّا ما اطلق عليه السحر مجازاً للمشابهة والمشاركة في الصورة كالاستعانة بخواصّ الأجسام السفليّة أو بالنسب الرياضيّة الّتي تسمّى علم الحيل وجرّ الأثقال على مذهب فخر المحقّقين المصرّح فيما تقدّم بعدم كونهما من السحر ، وقضيّة كلامه أن يكون إطلاق السحر عليه حيثما وقع مجازيّاً فلا بدّ في إلحاقه بالسحر في الحرمة من دليل آخر يدلّ على اللحوق ، ولا يكفي فيه أدلّة حرمة السحر كما هو واضح ، وحيث لم يساعد عليه دليل يحكم فيه بعدم الحرمة عملاً بالأصل ، كما أنّه كذلك كلّما اشتبه كونه سحراً من الأعمال الغريبة والأفعال العجيبة ، لاختلاف العلماء فيه كالاختلاف الّذي يستظهر فيما بين الشهيد الثاني في المسالك حيث اعتبر فيه كونه بحيث يحدث بسببه ضرر على الغير وبين غيره ممّن لم يعتبر ذلك ، فيشتبه ما لم يحدث بسببه ضرر على الغير بين كونه سحراً وعدمه.

وكذلك على ما تقدّم عن العلّامة (١) حيث اعتبر فيه كونه مؤثّراً في بدن المسحور أو قلبه أو عقله ، وغيره لم يعتبر ذلك فيشتبه ما ليس بمؤثّر ، ففي نحو ذلك يجب لرفع الاشتباه واستعلام حقيقة الحال الرجوع إلى اللغة ثمّ إلى العرف ثمّ إلى الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة ، فإن لم يتبيّن شي‌ء يحكم فيه بعدم الحرمة أيضاً للأصل ، وكيف كان فالمعروف من مذهب الأصحاب حرمة السحر.

__________________

(١) القواعد ٢ : ٩.

٣٠٦

وعن المختلف (١) بلا خلاف وفي الرياض (٢) عن جماعة الإجماع عليه ، ويظهر من فخر المحقّقين في الأنواع الأربع المتقدّمة منه حيث قال : «والكلّ حرام في شريعة الإسلام» (٣) كونه إجماع المسلمين ، وربّما نسب إليه دعوى كونه من ضروريّات الدين ، وكأنّه استظهار من قوله : «ومستحلّه كافر» بتقريب أنّ المستحلّ منكر لحرمته لا محالة ولا يكون كافراً إلّا باعتبار كون إنكاره إنكاراً لضروريّ الدين ، وقد يستظهر ذلك أيضاً من الشهيدين في الدروس (٤) والمسالك (٥) حيث قالا : «ويقتل مستحلّه» نظراً إلى أنّ قتل المستحلّ لا يكون إلّا لارتداده ولا معنى للارتداد إلّا باعتبار كونه إنكاراً لضروريّ الدين.

ويشكل دعوى الضرورة بمعناها المعروف لعدم وضوح حرمته عند كافّة آحاد المسلمين حتّى الدهاقين والرساتيق ، اللهمّ إلّا أن يراد بالضرورة هنا العلم الضروريّ الحاصل من تظافر حرمته وتسامعها بين العلماء ومخالطيهم وغيرهم ممّن يحذو حذوهم من العارفين المطّلعين على اصول الدين وفروعه المتلقّاة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه يعلم بذلك ضرورة كون حرمته ممّا أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى أيّ حال كان فالأصل في حرمته في الجملة أوّلاً : الضرورة بالمعنى المذكور المعتضدة بدعواها من الفخر والشهيدين ونفي الخلاف والإجماعات المنقولة.

وثانياً : الروايات ، ففي رواية عن السكوني عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن أبيه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفّار لا يقتل ، قيل : يا رسول الله لِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال : لأنّ الشرك أعظم من السحر ، لأنّ السحر والشرك مقرونان» (٦) وفي رواية اخرى عن السكوني أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله لكن مع اختلاف يسير لا يوجب اختلافاً في المعنى ، ومن هذا الاختلاف أنّه ذكر «ولأنّ السحر والشرك مقرونان» (٧) بواو العطف.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) الرياض ٨ : ١٦٦.

(٣) إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٥.

(٤) الدروس ٣ : ١٦٤.

(٥) المسالك ٣ : ١٢٨.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٤٦ / ٢ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ٣٧١ / ١٧٥٢.

(٧) الوسائل ٢٨ : ٣٦٥ / ١ ، ب ١ أبواب بقيّة الحدود ، الكافي ٧ : ٢٦٠ / ٢.

٣٠٧

وفي رواية زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه» (١) وفي اخرى «على امّ رأسه» وفي رواية مرسلة على ما في الرياض والمستند «حلّ دمه».

وفي رواية أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام «نحن أهل بيت عصمنا الله من أن نكون فتّانين أو كذّابين أو ساحرين أو زنّائين ، فمن كان فيه شي‌ء من هذه الخصال فليس منّا ولا نحن منه» (٢).

وفي رواية نبويّة «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة لا يدخلون الجنّة ، مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم» (٣).

وفي رواية مرسلة قال : «دخل عيسى بن سقفي على أبي عبد الله عليه‌السلام وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر ، فقال له : جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر وكنت آخذ عليه الأجر وكان معاشي ، وقد حججت منه ومنّ الله عليّ بلقائك ، وقد تبت إلى الله عزوجل ، فهل لي في شي‌ء من ذلك مخرج؟ فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : حلّ ولا تعقد» (٤) وروي ذلك بطرق متعدّدة وفيه موضعان من الدلالة : أحدهما باعتبار التقرير ، والآخر باعتبار النهي.

ويدلّ عليه أيضاً الروايات الدالّة على تحريم تعلّمه وتعليمه بالفحوى أو بالاستلزام العرفي ، بدعوى أنّ المنساق منها عرفاً كون تحريم التعلّم غيريّاً لحقه لأجل كون عمله محرّماً.

وفي رواية مرويّة عن الفقيه عن السكوني عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لامرأة سألته أنّ لي زوجاً وبه غلظة عليّ وأنّي نّي صنعت شيئاً لُاعطفه عليّ ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افّ لك كدّرت البحار ، وكدّرت الطين ، ولعنتك

__________________

(١) الوسائل ٢٨ : ٣٦٧ / ٣ ، ب ١ أبواب بقيّة الحدود ، الكافي ٧ : ٢٦ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٤٨ / ٨ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، تفسير فرات الكوفي : ٦٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٤٨ / ٦ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، الخصال : ١٧٩ / ٢٤٣.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٤٧ / ١ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٥ / ٧.

٣٠٨

الملائكة الأخيار وملائكة السماء والأرض ، قال : فصامت المرأة نهارها وقامت ليلها وحلقت رأسها ولبست المسوخ فبلغ ذلك النبيّ ، فقال : إنّ ذلك لا يقبل منها» (١) بناءً على أنّ المراد من الشي‌ء الّذي صنعتها شي‌ء من السحر كما فهمه الصدوق ، وهذه الروايات وإن كانت بحسب أسانيدها ضعافاً غير أنّ كثرتها وانجبارها بالعمل واعتضادها بالضرورة والإجماعات المنقولة يغني عن التأمّل في قبولها.

وحيث إنّ الحرمة فيها معلّقة على ماهيّة السحر السارية في جميع أنواعه وأشخاصه ، وهل استثني منه شي‌ء أم لا؟ ظاهر من أطلق تحريم السحر كالإيضاح (٢) وغيره (٣) وقيل الأكثر عدم الاستثناء ، وقيل كما عليه جماعة بالاستثناء واختلف في المستثنى ، فممّا قيل باستثنائه حلّ عقد السحر أي رفع ضرر السحر بالسحر ، واختاره غير واحد من مشايخنا (٤).

ومنعه جماعة كالعلّامة في جملة من كتبه (٥) والشهيد في الدروس (٦) والفاضل الميسي (٧) والشهيد الثاني (٨). وينبغي تخصيص مورد الاستثناء بصورة انحصار طريق الدفع في السحر ، وعليه ينزل إطلاق من أطلق اقتصاراً في الحكم المخالف للعمومات على موضع اليقين.

وكيف كان فقد يستدلّ عليه بقاعدة أنّ الضرورات تبيح المحظورات ، ويشكل بأنّ المسلّم منها ما لو كان ضرر السحر بحيث خيف بسببه تلف النفس أو زوال العقل ، لأنّ مصلحة حفظ النفس عن التلف والعقل عن الزوال أعظم من مفسدة السحر ، وأمّا مطلق الضرر وإن لم يبلغ حدّ تلف النفس ولا زوال العقل فلا يسلّم كون التخلّص عنه من الضرورة المبيحة للمحظور ، لعدم دليل معتبر على كون مصلحة دفع مطلق الضرر أعظم من مفسدة السحر ، والعبارة المذكورة لبيان القاعدة ليست بلفظ الحديث حتّى يؤخذ بعمومها أو إطلاقها.

واستدلّ عليه أيضاً بما تقدّم في حديث عيسى بن سقفي من قوله عليه‌السلام : «حلّ

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤٤٥ / ٤٥٤٤.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٥. (٣) التنقيح الرائع ٢ : ١٢.

(٤) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٢٩٦.

(٥) القواعد ٢ : ٩ ، التذكرة ١ : ٥٨٢ ، المنتهى ٢ : ١٠١٤.

(٦) الدروس ٣ : ١٦٤. (٧) نقل عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٢٣٧.

(٨) المسالك ٣ : ١٢٨.

٣٠٩

ولا تعقد» فإنّ الأمر هنا يفيد الإذن والرخصة في حلّ عقد السحر. وفي دلالته عليه بقول مطلق إشكال بل منع ، لا لما عن بعضهم من حمله على الحلّ بغير السحر كالاستعانة بالآيات القرآنيّة أو الأدعية والتعويذات المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام كما في حلّ عقد الرجل عن حليلته كما حكاه في الوسائل (١) واستحسنه ، فإنّه بعيد في الغاية عن لفظ الرواية ، خصوصاً مع مقابلته للعقد بالسحر فيكون ظاهراً في الحلّ بالسحر ، بل لقوّة احتمال كون المراد به حلّ الساحر ما عقده بسحره ورفع آثار سحره عن مسحوريه ، بقرينة قول السائل : «هل لي في شي‌ء من ذلك مخرج؟» بعد قوله : «وقد تبت إلى الله» فإنّه طلب للمخرج عن إثم أعماله السالفة وعقوبة أفعاله القبيحة من فنون السحر بعد التوبة ، فكأنّه سأله عليه‌السلام عن قبول توبته فقوله عليه‌السلام : «حلّ ولا تعقد» معناه أنّ توبتك بعد الندامة على ما مضى أن تحلّ ما عقدته بسحرك ولا تعود إلى العقد بالسحر في المستقبل.

وهذا نظير ما ورد فيمن عليه مظلمة الناس من أنّ توبته تفريغ ذمّته عن المظلمة وردّها إلى أهلها ، ونحوه في التوبة عن الغيبة على القول بوجوب استحلال المغتاب ، ويؤيّده فهم الصدوق في الفقيه حيث قال : «وروي أنّ توبة الساحر أن يحلّ ولا يعقد» (٢) فإنّ ظاهره أنّه فهمه من رواية ابن سقفي لا أنّه ورد رواية اخرى بتلك العبارة ، على أنّه لو كانت رواية اخرى خرجت شاهدة بما احتملناه في رواية ابن سقفي.

واستدلّ أيضاً بعدّة روايات وردت في قصّة هاروت وماروت ، وأنّهما ملكان وأنّهما كانا يعلّمان السحر الدالّة بمجموعها على أنّهما كانا يعلمانه لأن يحلّ به لا لأن يعقد به.

فمنها : ما عن عيون الأخبار بسند ضعّفه الغضائري وقوّاه غيره استناداً إلى اعتماد الصدوق على محمّد بن القسم الّذي ضعّفه الغضائري ، وإكثاره من الرواية عنه وكونه من مشايخه وذكره حيثما يذكره بقوله رضى الله عنه عن الإمام الهمام الحسن بن عليّ العسكري عليهما‌السلام عن آبائه في حديث قال في قوله عزوجل : «وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ» (٣) قال : «كان بعد نوح عليه‌السلام قد كثرت السحرة المموّهون ، فبعث الله عزوجل

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٤٧.

(٢) الفقيه ٣ : ١١٠ / ٤٦٣.

(٣) البقرة : ١٠٢.

٣١٠

ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة ، وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم ، فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزوجل وأمرهم أن يقفوا به على السحر ، وأن يبطلوه ونهاهم أن يسحروا به الناس» وهذا كما يقال إنّ السمّ ما هو؟ وأنّ ما يدفع به غائلة السمّ ما هو؟ ثمّ يقال : للمتعلّم هذا السمّ من رأيته بسمّ فادفع غائلته بهذا ولا تقتل بالسمّ ... إلى أن قال : «وما يعلّمان من أحد ذلك السحر وإبطاله حتّى يقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلّمون من هذا ويبطلوا به كيد السحرة ولا تسحروهم ، فلا تكفروا باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار ، ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنّك تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلّا الله فإنّ ذلك كفر ... إلى أن قال : فيتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم لأنّهم إذا تعلّموا ذلك السحر ليسحروا به ويضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّ بدينهم ولا ينفعهم» (١).

ومنها : رواية عليّ بن الجهم عن مولانا الرضا عليه‌السلام في حديث قال : «وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم ، وما علّما أحداً من ذلك شيئاً حتّى قالا إنّما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لمّا امروا بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرّقون بما تعملوه بين المرء وزوجه قال الله تعالى : «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللهِ» (٢) (٣).

ومنها : ما تقدّم في رواية الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق من قوله عليه‌السلام حيث سأله عن الملكين هاروت وماروت وما يقول الناس إنّهما يعلّمان السحر : «إنّما هما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو تعالج بكذا وكذا لصار كذا ، فيتعلّمون منهما يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم ...» (٤) الحديث.

ودلالات هذه الروايات وإن كانت واضحة ولا يتوجّه أنّ أقصى ما يثبت بها كون

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٤٧ / ٤ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢٦٦ / ١.

(٢) البقرة : ١٠٢.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٤٧ / ٥ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧١ / ٢.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٨١.

٣١١

إبطال السحر في الشرائع السالفة ولا يلزم منه جوازه في هذا الشرع أيضاً لكفاية الاستصحاب في إثبات بقائه إلى هذا الشرع لعدم ثبوت نسخه ، ولكن قصور أسانيدها مانع من الوثوق بصدقها والتعويل عليها في قبول الحكم المخالف للعمومات ، ولم يثبت لها جابر من عمل الأصحاب أو أكثرهم أو جمع من أساطينهم ، ولذا صار الجماعة المتقدّم ذكرهم إلى المنع ، وبالجملة لم يعلم جابر لها أوجب الوثوق بصدقها والاطمئنان بصدورها كما هو مناط حجّيّة أخبار الآحاد. فالأقوى هو المنع من حلّ السحر بالسحر ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ تلف النفس أو زوال العقل.

وممّا استثني أيضاً التوقّي ودفع المتنبّئ بالسحر كما اختاره الشهيدان في المسالك (١) والدروس (٢) والفاضل الميسي (٣) والكاشاني (٤) على ما حكي ، خلافاً للعلّامة في أكثر كتبه (٥) فمنع عنهما ، وعليه صاحب الوسائل في دفع المتنبّئ حتّى أنّه قال : في حاشية منه : «إنّ أصل الحكم بالجواز من العامّة لأنّه موجود في كتبهم بناءً منهم على أصلهم الفاسد من عدم وجوب وجود الإمام في كلّ زمان فأوجبوا دفع المتنبّئ على الرعيّة ، وأمّا على اصول الشيعة فدفعه من وظائف الإمام لا الرعيّة ، مع أنّه ورد النصّ بأنّ من ادّعى النبوّة بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب قتله فالشارع تعالى أمر الرعيّة بقتل المتنبّئ ولم يأمرهم بتعلّم السحر» (٦) وإلّا ورد فيه أيضاً نصّ.

ولقائل أن يقول : إنّ كلام المجوّزين ليس على عنوان التوقّي ودفع المتنبّئ بل على عنوان تعلّم السحر ، فإنّه عندهم مخرج عن عموم ما دلّ على حرمة التعلّم كما هو ظاهر عبائرهم الّتي منها عبارة المسالك القائلة بأنّه لو تعلّمه ليتوقّى به أو يدفع المتنبّئ بالسحر فالظاهر جوازه وتعلّمه لإحدى الغايتين لا يستلزم عمله :

أمّا الأوّل : فلجواز أن يراد بالتوقّي تحفّظ نفسه عن الوقوع في عمل السحر في محلّ الاشتباه بين السحر وغيره ، فإنّه إذا عرف السحر وميّز بينه وبين غيره لا يرتكب السحر فيما ابتلي به ممّا احتمل كونه سحراً.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٨.

(٢) الدروس ٣ : ١٦٤.

(٣) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ٢٣٧.

(٤) المفاتيح ٢ : ٢٤.

(٥) القواعد ٢ : ٩ ، المنتهى ٢ : ١٠١٤ ، التحرير ٢ : ٢٦١.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٤٥.

٣١٢

وأمّا الثاني : فلأنّه يتعلّم السحر ويعرف أسبابه الخفيّة فيلزم المتنبّئ الآتي بالسحر لإثبات دعواه الكاذبة على كذبه بواسطة إلزامه بأنّ ما أتى به من خارق العادة من السحر ، ببيان أنّ سببه الخفيّ كذا وكذا.

فهؤلاء حينئذٍ متّفقون مع المانعين في تحريم أصل عمل السحر حتّى في مقام التوقّي ودفع المتنبّئ.

ولكنّا نتكلّم معهم في منع جواز تعلّمه أيضاً على كلّ تقدير أي سواء استلزم عمله في المقامين أولا؟.

أمّا في مقام التوقّي فنقول : إنّ التوقّي إمّا أن يراد به تحفّظ نفسه من الوقوع في عمل السحر فيما اشتبه بينه وبين غيره ، أو تحفّظ نفسه من سحر غيره على وجه الرفع وهو أن يرفع ضرر سحر الغير الواقع عليه بطريق السحر الّذي تعلّمه ، أو على وجه الدفع وهو أن يستعمل في حقّ نفسه سحراً لا يؤثّر معه ما يتوقّع وقوعه عليه من سحر الغير في المستقبل ، سواء قطع بوقوعه عليه فيما بعد أو ظنّه أو احتمله ، وأيّاً ما كان فالأقوى فيه المنع وعدم الجواز.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاشتباه المفروض فيما اشتبه بين السحر وغيره إن لم تكن مجامعاً للعلم الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يتّفق أنّه بعمل احتمل كونه سحراً على وجه الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، وحينئذٍ فإذا تعلّم السحر وميّز بينه وبين غيره لا يقع في نحو ذلك في عمل السحر المحرّم عليه في الواقع ، فنقول في منع جواز التعلّم في نحو هذه الصورة أنّ الشارع قرّر له في نظائرها طريقين :

أحدهما : ما يتوصّل به إلى الفعل والارتكاب وهو أصالة البراءة. والآخر : ما يتوصّل به إلى الترك والاجتناب وهو طريقة الاحتياط ، بضابطة أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، فإنّ أقلّ مراتبه الرجحان ، فمن اشتبه عليه الأمر في الموضوع الخارجي له أن يختار الفعل تعويلاً على الأصل وأن يختار الترك عملاً بالاحتياط فأيّ شي‌ء يبقى له من الاصول أو القواعد أو الأدلّة يسوّغ له تعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة التوقّي وإن كان مجامعاً للعلم الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يكون هناك أعمال متعدّدة يعلم أنّ بعضها ما هو سحر في الواقع وبعضها ما ليس بسحر في الواقع ، واشتبها

٣١٣

عليه فيتعلّم السحر ليميّزه عن غيره فلا يقع في السحر المحرّم الواقعي.

فنقول في منع التعلّم حينئذٍ : إنّ العلم الإجمالي المفروض إن كان في غير محصور بحيث كان المورد من مسألة الشبهة الغير المحصورة قصد له الشارع طريقاً في نظائره وهو جواز الارتكاب تعويلاً على الأصل ، مع جواز الاجتناب أيضاً. عملاً بطريقة الاحتياط فلا مسوّغ لتعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة التوقّي أيضاً ، وإن كان في محصور بحيث اندرج المورد في الشبهة المحصورة فيتعلّم السحر حينئذٍ لئلّا يقع في المحرّم الواقعي المعلوم بالإجمال ، فنقول في منع جوازه : إنّ الواجب عليه إنّما هو الاجتناب عن الجميع لئلّا يقع في المحرّم الواقعي على ما هو قاعدة الشبهة المحصورة المقرّرة في الاصول ، وهذا هو الطريق الّذي قرّر له الشارع حينئذٍ فلا مسوّغ لتعلّم السحر أيضاً الّذي دلّ الدليل على تحريمه.

وتوهّم : أنّ المسوّغ هو أنّ المكلّف المبتلى بشبهة محصورة إذا كان له طريق إلى رفع الاشتباه ومعرفة الحرام الواقعي من الحلال جاز له سلوك هذا الطريق للتمييز حتّى يرتكب الحلال ويجتنب عن الحرام ، يدفعه : أنّ هذا إنّما يسلّم في الطريق المشروع له بحسب الشرع والمقام ليس منه.

وأمّا الثاني : فلأنّ التوقّي عن سحر الغير على وجه الرفع راجع إلى مسألة حلّ عقد السحر بالسحر ، وقد تقدّم تفصيل القول فيه وقوّينا فيه المنع ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ التلف ولا زوال العقل.

وأما الثالث : فلأنّه بعد ما ثبت عدم جواز التوقّي بمعنى الرفع بقول مطلق ، فالتوقّي بمعنى الدفع أولى بعدم الجواز لأنّ الدفع أهون من الرفع ، ومرجع المنعين إلى منع وجود دليل يسوّغ السحر في مقام التوقّي بكلّ من معنييه الرفع والدفع والتوقّي بنفسه لا يصلح دليلاً عليه.

لا يقال : يكفي في دليل ذلك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون أو المقطوع ، فإنّ هذه القاعدة كما يستباح بها إفطار صوم نهار رمضان لمن يضرّه الصوم بحدوث ضرر منه أو اشتداده أو عسر علاجه أو بطؤه فكذلك يستباح بها السحر للتوقّي بكلّ من معنييه.

لأنّا نقول : إنّ هذا اشتباه ، وإعمال القاعدة المذكورة في مسألة الإفطار خلط ،

٣١٤

وتوضيحه : أنّ وجوب دفع الضرر في محلّ الاحتمال أو الظنّ أو القطع قاعدة عقليّة ، لأنّ الحاكم بوجوب الدفع هو العقل المستقلّ لاستقلاله بإدراك أنّ دفع الضرر بأحد الوجوه الثلاث بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، وهذا وجوب عقلي يلازم الوجوب الشرعي بحكم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإذ ثبت وجوب الدفع بحكم العقل يثبت وجوب مقدّمته وهو ما يدفع به الضرر من ترك شي‌ء أو فعله ، بحكم أنّ وجوب الشي‌ء يستلزم وجوب مقدّماته ، وهذا هو تحرير قاعدة وجوب دفع الضرر ولا تجري إلّا فيما كانت مقدّمة الدفع محلّلة ، بأن لا يكون ما يدفع به الضرر ترك واجب شرعي أو فعل محرّم شرعي إذ لو كان كذلك لا يسلّم وجوبه من باب مقدّمة الدفع لا بمعنى أنّ الدفع واجب ولا يجب مقدّمته في صورة ما لو كان ترك واجب أو فعل حرام بل لعدم وجوب ذي المقدّمة حينئذٍ.

فالسرّ في ذلك أنّ العقل بملاحظة وجوب الواجب الّذي تركه مقدّمة للدفع ، وبملاحظة حرمة الحرام الّذي فعله مقدّمة للدفع بوجوب الدفع ، بل ومع احتمال الوجوب أو الحرمة أيضاً لا يحكم بوجوب الدفع ، بل نجده متحيّراً ومتوقّفاً في الحكم به ، وهذا هو السرّ في عدم جريان القاعدة في إفطار نهار رمضان لمن يضرّه الصوم لكون العقل متوقّفاً في الحكم بوجوب دفعه بالإفطار التفاتاً منه إلى احتمال وجوب صومه بملاحظة عموم ما دلّ على وجوب صيام شهر رمضان.

وهكذا نقول في منع جريانها في مسألة التوقّي بالسحر عن ضرر سحر الغير مطلقاً في كلّ من معنييه ، فإنّ السحر الّذي يريد المسحور استعماله للدفع أو الرفع ما لم يثبت جوازه بدليل من الخارج لا يحكم معه العقل بوجوب دفع ضرر سحر الغير باستعماله ، ولا ينافي ما ذكرناه بالقياس إلى مسألة إفطار نهار رمضان من عدم جريان القاعدة فيه كون فتوى الفقهاء من غير خلاف جواز الإفطار بل وجوبه وحرمة الصوم ، لأنّ ذلك ليس من القاعدة المذكورة بل من قاعدة نفي الضرر الّتي هي قاعدة شرعيّة مستفادة من عموم قوله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (١) فإنّ أصحّ معانيها على ما حقّقناه في

__________________

(١) الوسائل ٢٦ : ١٤ / ١٠ ، موانع الإرث ، الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧.

٣١٥

رسالة منفردة لنا في تأسيس هذه القاعدة نفي الحكم الضرري أعني مجعوليّة حكم أدّى إلى ضرر المكلّف بحيث استند الضرر إلى الشارع باعتبار جعل ذلك الحكم وهذا كصوم نهار رمضان فيمن يضرّه الصوم فإنّه لو كان واجباً لأدّى وجوبه إلى ضرر المكلّف والقاعدة تنفيه.

لا يقال : لِمَ لا يجوز أن يكون مستند الجواز فيما نحن فيه أيضاً هذه القاعدة؟ لمنع جريانها أيضاً فيما نحن فيه ، فإنّ ضرر السحر الّذي وقع على المسحور في مسألة الرفع أو الّذي يتوقّع وقوعه عليه في مسألة الدفع يستند إلى فاعل السحر سواء حرم على المسحور إعمال السحر لرفعه أو دفعه أو لا ، فلا يكون حرمته المجعولة من الحكم الضرري بالمعنى الّذي ينفيه القاعدة.

فإن قلت : لا إشكال في أنّ استعمال السحر من المسحور في مسألة الدفع مانع من حدوث ضرر سحر الغير ، وعدمه مستند إلى منع الشارع منه ، وحدوث الضرر يستند إلى عدمه ، فيستند إلى منع الشارع وهو في مسألة الرفع رافع لضرر السحر الواقع عليه ، وبقاؤه يستند إلى عدمه المستند إلى منع الشارع أيضاً فيستند إليه البقاء ، فيكون المنع حكماً ضرريّاً فينفى بموجب القاعدة لئلّا يتضرّر المسحور بالحدوث أو البقاء.

قلت : لا كلام في أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة للحدوث ، ولا في أنّ عدم الرافع من أجزاء العلّة التامّة للبقاء ، وقضيّة كونهما من أجزاء العلّة التامّة أن يكون لهما مدخليّة ما في حدوث الضرر أو بقائه ، ولكن مجرّد هذه المدخليّة لا تكفي في استناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إلى الشارع في نظر العرف الّذي هو مناط جريان قاعدة نفي الضرر ، لأنّ الشي‌ء في نظر العرف يستند إمّا إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أو ما هو العمدة من أجزاء العلّة ، ولا ريب أنّ العمدة من أجزاء علّة الحدوث أو البقاء هنا إنّما هو فعل الساحر لا عدم المانع ولا عدم الرافع ، فيستند إليه الضرر في نظر العرف حدوثاً وبقاءً لا إلى الشارع حيث جعل الحرمة لاستعمال السحر على المسحور في مقام التوقّي هذا.

مضافاً إلى أنّه يكفي في نفي الشارع لاستناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إليه أنّه حرّم السحر على الساحر فإذا عصى الساحر بفعله السحر المحرّم عليه لم يوجب ذلك صحّة استناد ضرر سحره عرفاً إلى الشارع باعتبار أنّه حرّم استعمال السحر على المسحور

٣١٦

أيضاً فليتدبّر.

وممّا حقّقناه يظهر حقيقة الحال في باطل السحر المتداول في الألسنة يريدون به ما يبطل السحر ، فإن كان بطريق مشروع كالاستعانة بالقرآن أو الدعاء والتعويذ فلا إشكال في جوازه ، وإن كان بطريق السحر فالوجه عدم الجواز عملاً بعموم قاعدة تحريم السحر مع عدم المخرج.

وأمّا في مقام دفع المتنبّئ فالحق فيه أيضاً مع المانعين ، سواءً رجع قول المجوّزين إلى تجويز مجرّد تعلّم السحر لكفايته في الدفع أو إليه مع علمه أيضاً ، وذلك لأنّ المتنبّئ إمّا أن يظهر في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فيما بعده ، وعلى الثاني فإمّا أن يكون ظهوره في زمن حضور إمام العصر أو في غيبته.

أمّا الصورة الاولى : مع أنّ استعلام حكم أهل عصر النبيّ لا يثمر في حقّنا ، فدفع المتنبّئ من وظائف النبيّ لا الرعيّة وهو أقدر على دفعه بغير السحر من الرعيّة في دفعهم بطريق السحر ، ومع ذلك فأيّ حاجة للرعيّة إلى تعلّمه أو عمله.

وأمّا الصورة الثانية : فمع أنّ التكلّم في حكم أهل زمن الحضور غير مفيد ، يظهر حكمها ممّا مرّ ، فإنّ دفع المتنبّئ من وظائفه وهو أقدر على دفعه بغير طريق السحر من الرعيّة في دفعهم بطريق السحر.

وأمّا الصورة الثالثة : فلعدم الحاجة في إظهار كذبه وإظهار كون ما أتى به من خارق العادة سحراً إلى تعلّم السحر ولا إلى عمله ، لكون كلّ من الأمرين معلوماً بالضرورة من دين الإسلام ، على أنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قيام الساعة مع شهادة الكتاب العزيز والسنّة القطعيّة بذلك.

مع أنّ الّذي أوجبه الله سبحانه على الرعيّة في دفعه إنّما هو تكذيبه بلا توقّف بل قتله بلا مهلة ، ومع ذلك فأيّ دليل من العقل والنقل دلّ على جواز تعلّم السحر لدفعه فضلاً عن وجوبه وعن جواز عمله أو وجوبه.

ولو خيف على ضعفاء العقول المتردّدين إليه المستمعين لكلامه الناظرين في سحره من الضلال ، فطريق حفظهم الّذي أوجبه الله تعالى على العلماء إنّما هو منعهم عن التردّد إليه وردعهم عن الاستماع لكلامه والنظر في سحره من باب النهي عن المنكر

٣١٧

والردع عن الباطل ، وإن لم يرجعوا إلى العلماء أو لم يستمعوا قولهم أو لم يرتدعوا حتّى ضلّوا فهم مقصّرون في ضلالتهم ولا جرح على غيرهم.

ولو فرض أنّ المتنبّئ حصل له أتباع واجتمع عليه اناس فهجم إلى بلاد المسلمين لهدم بيضة الإسلام فالواجب على المسلمين الدفاع ، ولو فرض أنّهم لم يجتمعوا لدفاعهم لعصيانهم أو عدم تمكّنهم ولو لعدم إعانة سلطان المسلمين لهم ، وأمكن دفعه بتعلّم السحر أو عمله وانحصر الطريق فيه أمكن القول بجوازه بل وجوبه حينئذٍ ترجيحاً لمصلحة حفظ بيضة الإسلام فإنّها أعظم بمراتب شتّى من مفسدة السحر وتعلّمه ، ولكن هذا عند وقوع الواقعة ، وكلام المجوّزين ليس على هذا الفرض البعيد الّذي لم يتّفق في الخارج بعد ، بل ظاهرهم تعلّم السحر من غير وقوع الواقعة لمجرّد احتمال أنّه لو وقعت في وقت من الأوقات على الوجه المفروض لقام المتعلّم إلى دفعه ، وهذا ممّا لا يساعد دليل على جوازه فضلاً عن وجوبه كفاية بحيث ينهض ذلك الدليل مخرجاً عن عموم تحريم السحر وتعلّمه.

الجهة الثانية : وما بعدها في تعلّم السحر وتعليمه والتكسّب به وكفر مستحلّه.

أمّا تعلّمه فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريمه ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف ، وعن الأردبيلي في شرح (١) الإرشاد احتمال كونه إجماعيّاً أو استظهاره. ويدلّ عليه من النصوص عموماً ما في رواية تحف العقول من قوله عليه‌السلام : «وما يكون منه أو فيه الفساد محضاً ولا يكون منه أولاً فيه وجه من وجوه الصلاح حرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاجرة عليه» (٢) وخصوصاً رواية إسحاق عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام «إنّ عليّاً عليه‌السلام قال : من تعلّم من السحر شيئاً كان آخر عهده بربّه ، وحدّه القتل إلّا أن يتوب» (٣) ورواية أبي البختري المرويّة عن قرب الإسناد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام «إنّ عليّاً قال : من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر ، وكان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن يقتل إلّا أن يتوب» (٤) وفي كلام صاحب الوسائل في الحاشية ما يعطي كون هذه الرواية

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٧٩.

(٢) تحف العقول : ٣٣١.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٤٨ / ٧ ، ب ٢٥ ما يكتسب به ، قرب الإسناد : ٧١.

(٤) الوسائل ٢٨ : ٣٦٧ / ٢ ، ب ٣ بقيّة الحدود ، التهذيب ١٠ : ١٤٧ / ٥٨٦.

٣١٨

متواترة لأنّه عند تزييف القول لجواز التعلّم لدفع المتنبّي قال : «وتخصيص النصّ المتواتر المشتمل على نهاية التأكيد والتهديد والوعيد من غير مخصّص غير جائز» (١) وعلى هذا فقصور سندي الخبرين إن كان منجبر بذلك مضافاً إلى العمل.

وقضيّة إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق في التحريم بين ما لو كان تعلّمه لغرض العمل به أو لغرض آخر غير العمل من الأغراض الصحيحة ولعلّه لقاعدة حماية الحمى المنصوص عليها في الروايات ، خلافاً لمن جوّزه لدفع المتنبّي بالسحر كما عرفت من الشهيدين ومن تبعهما وقد عرفت ضعفه لكونه من القول بلا دليل والتخصيص بلا مخصّص ، ولمن جوّزه أيضاً لغرض تحصيل الفضيلة والكمال والارتفاع عن حضيض الجهل تعليلاً بأنّ علم كلّ شي‌ء خير من جهله كما عن الشيخ في شرحه (٢) للقواعد ، والتعليل عليل لمنع الخيريّة مع الحرمة الذاتيّة.

وأمّا تعليمه : فالظاهر أنّه أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه ، ويدلّ عليه صريحاً ما سمعت من رواية تحف العقول ، مضافاً إلى عموم تحريم المعاونة على الإثم ، فإنّ تعلّمه إذا كان حراماً فتعليمه معاونة على الإثم.

وأمّا التكسّب به وأخذ الاجرة عليه فهو أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه بل الظاهر أنّه إجماعي (٣) ويدلّ عليه صريحاً ما سمعت من رواية التحف. ويمكن أن يستدلّ عليه أيضاً بالنبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً على أنّ المراد بالثمن مطلق العوض لا خصوص ما يقابل به العين ، فيكون المراد من قوله : «إذا حرّم شيئاً» ما يعمّ الأعيان المحرّمة والأعمال المحرّمة.

وأمّا كفر مستحلّه : فيعلم الكلام فيه بالتأمّل فيما ذكرناه على دعوى ضرور الدين في عمل السحر ، ومحصّله أنّ المستحلّ المنكر لتحريم عمل السحر إنّما يكفر بإنكاره إذا علم ضرورة كون تحريمه ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنكاره تكذيب للنبيّ وهو الكفر.

ويلحق بباب السحر الشعبذة والكهانة والقيافة ، والكلام في هذه الموضوعات الثلاث يقع في مقامات :

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٤٥.

(٢) شرح القواعد ١ : ٢٣٩.

(٣) مفتاح الكرامة ١٢ : ٢٢٦.

٣١٩

المقام الأوّل : في الشعبذة.

وكونها ملحقة بالسحر مبنيّ على عدم كونه من أنواعه وحينئذٍ تمسّ الحاجة إلى تجشّم الاستدلال على حكمه ، وإلّا فعلى القول بكونه منه ـ كما تقدّم عن الرازي حيث جعل التخييلات والأخذ بالعيون من أنواعه ، فإنّه بظاهر العنوان مع ملاحظة الأمثلة المذكورة له منطبق على الشعبذة ، فإنّ الأخذ بالعين ما يعبّر عنه بالفارسيّة بـ «چشم‌بندى». وحاصل معناه أن يسترق إنسان بسرعة يده ونحوها بالحركة عين إنسان آخر فيرى الشي‌ء الصادر عنها على غير حقيقته وعلى خلاف ما عليه أصله ، فيتخيّل أنّ له أصلاً وحقيقة ، ونظيره النار المتحرّكة على الاستدارة بسرعة حيث ترى على هيئة الدائرة فيتخيّل الحركات الشعاعيّة متّصلة بعضها ببعض ، مع أنّه ليس كذلك في الواقع ونحوها القطرة المتساقطة فترى على هيئة الخطّ المستقيم المستطيل ويرى ساكن السفينة الشطّ وساحله متحرّكاً والسفينة واقفة إلى غير ذلك من النظائر. ويظهر كونها من السحر من عبارة القاموس حيث عرّفه «بما لطف مأخذه ودقّ» (١) أي خفي سببه ، ومن عبارة مجمل اللغة «إخراج الباطل بصورة الحقّ» (٢) ويدلّ عليه رواية الاحتجاج المتقدّمة في حديث الزنديق حيث قال عليه‌السلام : «ونوع آخر خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة» (٣) ـ فلا حاجة إلى تجشّم الاستدلال بإقامة دليل آخر على تحريمها بل يكفي فيه الأدلّة المقامة على تحريم السحر لأنّها منه حقيقة ، بل لا حاجة حينئذٍ إلى إفرادها بالبحث.

وأمّا على تقدير عدم كونها منه ـ كما عليه مبنيّ إفرادها بالبحث ـ فتمسّ الحاجة إلى بيان حكمها بعد معرفة موضوعها فنقول : قد ذكر في القاموس «المشعبذ المشعوذ وقد شعبذ يشعبذ». وظاهره كون الشعبذة والشعوذة بمعنى وذكر في مادّة شعوذة ـ أنّها خفّة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشي‌ء بغير ما عليه أصله في رأى العين وهو مشعوذ ومشعوذ» (٤) وعرّفها الشهيد في الدروس «بأنّها أفعال عجيبة تترتّب على سرعة اليد بالحركة فتلتبس على الحسّ ...» (٥) الخ. والأظهر عدم كونها من خواصّ اليد ولذا

__________________

(١) القاموس ٢ : ٤٥.

(٢) مجمل اللغة ١ : ٤٨٨.

(٣) تقدّم في الصفحة : ٣٠٥.

(٤) القاموس ١ : ٣٥٥.

(٥) الدروس ٣ : ١٦٤.

٣٢٠