ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

بظهوره بين الناس ، واللازم من ذلك أن لا يكون كارهاً لذكره بذلك الفسق المتجاهر فيه ، وربّما يخرج من موضوع الغيبة أيضاً بهذا الاعتبار لما عرفت من اعتبار الكراهة في مفهومها.

والدليل على انتفاء الحرمة في غيبته عدّة من الروايات الّتي منها الصحيحة والموثّقة المتقدّمتان ، بناءً على دلالتهما بالمفهوم على نفي تحريم الغيبة لعدم كونه إلّا في المتجاهر.

ورواية هارون الجهم المرويّة عن مجالس الصدوق الموصوفة في المستند [بالصحيحة] «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة» (١).

ورواية أبي البختري «ثلاثة ليس لهم حرمة صاحبة هوى مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن بفسقه» (٢).

والمرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّه قال : من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له» (٣) أي لا حرمة لغيبته ، ويمكن كونه لنفي الحقيقة بناءً على ما تقدّم من أحد الوجهين. والجلباب الثوب الواسع الساتر لمعظم البدن ، وإضافته إلى الحياء للبيان ، واستعير عن الحياء بالثوب الواسع لأنّه يستر معائب الإنسان كما يستر الثوب البدن ، فيكون إلقاء الحياء عن الوجه كناية عن الإجهار في الفسوق والإعلان في ارتكاب القبائح.

واستدلّ أيضاً بما روي عن المحاسن عن صالح بن علقمة عن أبيه عن الصادق عليه‌السلام في حديث «فمن لم تره بعينيك يرتكب ذنباً ولم يشهد عليه شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً ، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان ...» (٤) الخ دلّ على ترتّب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة على طريق اللفّ والنشر ، أو على اشتراط الكلّ بكون الرجل غير مرئيّ منه الذنب ولا مشهوداً عليه به ، ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط خرج منه غير المتجاهر. وكون قوله :

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٧٩ / ٢ ، ب ١٥٤ أحكام العشرة ، أمالي الصدوق : ٤٢ / ٧.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٧٩ / ٥ ، ب ١٥٤ أحكام العشرة ، قرب الإسناد : ٨٢.

(٣) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٩ / ٣ ، ب ١٣٤ أحكام العشرة ، الاختصاص : ٢٤٢.

(٤) الوسائل ١٢ : ٢٨٥ / ٢٠ ، ب ١٥٢ أحكام العشرة ، أمالي الصدوق : ٩١ / ٣.

٢٦١

«ومن اغتابه» الخ جملة مستأنفة غير معطوفة على الجزاء خلاف الظاهر.

وقضيّة ظاهر إطلاق الروايات المذكورة عدم اشتراط جواز غيبة المتجاهر بكونه لقصد غرض صحيح كما اعترف به بعض مشايخنا قال : «ولم أجد من قال باعتبار قصد الغرض الصحيح ، وهو ارتداعه عن المنكر ، نعم عن الشهيد الثاني (١) احتمال اعتبار قصد النهي عن المنكر في جواز سبّ المتجاهر ، مع اعترافه بأنّ ظاهر النصّ والفتوى عدمه» (٢) انتهى.

وفي جواز اغتياب المتجاهر بالفسق في غير ما تجاهر به أيضاً ـ كما جزم به بعض مشايخنا استناداً إلى الأصل وعموم الروايات ونسب إلى بعض الأساطين (٣) وعن الحدائق (٤) استظهاره من جملة من الأعيان ـ وعدمه كما عن الشهيدين (٥) قولان.

والحقّ بناء المسألة على أنّ مناط اغتياب المتجاهر هل هو أنّه لا يكره ذكر عيبه أو أنّ الشارع أسقط احترامه فلا حرمة له عنده حتّى يحرم اغتيابه؟ فالمتّجه على الأوّل وجوب الاقتصار على الفسق المتجاهر فيه لأنّ قضيّة كونه متستّراً في غيره أن يكون كارهاً لذكره بخلاف ما تجاهر فيه فإنّ من لا يبالي بظهور عيبه لا يكره ذكره ، وعلى الثاني جواز التعدّي إلى غيره ، وظاهر أكثر الروايات المتقدّمة هو الثاني ، فالأقوى الأظهر القول الثاني وإن كان الأحوط هو الأوّل.

وعلى هذا القول فقد يقال : ينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح ، فمن تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرّض للنساء الأجانب ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة ، ومن تجاهر بكونه جلّاد السلطان يقتل الناس وينكّلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر ، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح دونها ، ولعلّ هذا هو المراد بـ «من ألقى جلباب الحياء» لا من تجاهر بمعصية خاصّة وعُدّ مستوراً بالنسبة إلى غيرها كبعض عمّال الظلمة (٦).

أقول : وجه الإلحاق غير واضح ، ولعلّه الأولويّة بالقياس إلى كراهة المغتاب فمن

__________________

(١) الروضة ٩ : ١٧٥.

(٢) المكاسب ١ : ٣٤٥.

(٣) صرّح به كاشف الغطاء في شرحه على القواعد ١ : ٢٢٨.

(٤) الحدائق ١٨ : ١٦٦.

(٥) كشف الريبة : ٧٩ ، القواعد والفوائد ٢ : ١٤٨.

(٦) المكاسب ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

٢٦٢

لا يكره ذكره بفسق شديد قبحه فلا يكره ذكره بما دون ذلك ، وفيه ما لا يخفى لمنع الملازمة فإنّ المتستّر قد يتستّر في فسقه لأنّه يكره ظهوره وإظهاره للناس وإن كان أضعف قبحاً ممّا تجاهر فيه ، نعم قد يكون تستّره لمحض الاتّفاق من غير كراهة له لظهوره في الناس وإظهاره لهم وإن كان أشدّ قبحاً ممّا تجاهر فيه ، فينبغي التفصيل في الإلحاق وعدمه.

ثمّ المتجاهر بفسق قد يكون متجاهراً في محلّة دون اخرى ، أو في بلد دون بلاد اخر على معنى كونه مستوراً فيها ، فمقتضى البناء المتقدّم جواز اغتيابه عند من كان مستوراً إذ لا احترام له. وتوهّم أنّ القدر الساقط من احترامه إنّما هو عند من هو متجاهر به ، يدفعه عدم معقوليّة تبعّض الاحترام وتجزيته.

ولو تجاهر بما ظاهره كونه فسقاً واعتذر له بما لو صحّ شرعاً أخرجه عن عنوان الفسق فإن لم يظهر كذبه وكان عذره بحسب الشرع مقبولاً لم يجز اغتيابه حينئذٍ ، لأنّه لا يعدّ متجاهراً بالفسق ، بخلاف ما لو ظهر كذبه كما لو كان من أعوان الظلمة وعمّال سلاطين الجور واعتذر في فعله بكونه مجبوراً أو أنّه دخل فيه بداعي رفع الظلم عن المظلومين أو بداعي منع السلطان عن الظلم أو بداعي صيانة نفسه أو عقاراته وأملاكه عن أيادي الغاصبين وتعدّيات الظالمين وما أشبه وعلمنا كذبه من خارج ، أو كان عذره غير مقبول شرعاً وإن كان صادقاً في اعتذاره كالجلّاد الّذي يقتل محترم الدم بأمر السلطان إذا اعتذر لفعله المجبوريّة والإكراه الناشئ من تهديد السلطان على قتله فإنّ هذا العذر بمقتضى أنّه لا تقيّة في الدماء غير مقبول شرعاً ، أو أنّ شارب الخمر جهاراً علّله بكونه للتداوي وأنّ الطبيب الحاذق أمره بذلك فإنّ هذا العذر ـ بناءً على عدم الرخصة في تناوله وشربه حتّى للتداوي وإن أمره الحاذق به كما هو الأقوى على ما تقدّم تحقيقه ـ غير مسموع شرعاً ، فإنّه لا يخرج بذلك في الصورتين عن كونه متجاهراً بالفسق ولا يحرم اغتيابه.

الثاني : تظلّم المظلوم ، وهو أن يذكر المظلوم مظلمة ظالمه عند غيره ، أو أن يذكر ظالمه بسوء وظلم أوقعه عليه عند غيره.

وفي تقييد من يذكر عنده بكونه ممّن يرجو إزالة مظلمته ورفع ظلمه وعدمه

٢٦٣

قولان : أوّلهما منسوب إلى كاشف الريبة (١) وجمع (٢) ممّن تأخّر عنه.

وثانيهما خيرة غير واحد من مشايخنا (٣) وعزي إلى بعض الأساطين ، ولعلّه الشيخ النجفي قدس‌سره في شرحه للقواعد (٤).

وربّما حكي القول بالتعدّي إلى مطلق سوء الظالم غير ما فعله في حقّ المظلوم على ما سمعناه عن بعض مشايخنا قدس‌سرهم فقال في التظلّم أقوال : أخصّها جواز التظلّم عن الظالم فيما ظلمه عند من يرجى رفع ظلمه فلا يجوز ذكر ظلمه عند من لا يرجى رفعه ولا ذكر سائر عيوبه ولو عند من يرجى رفع مظلمته ، والقول الآخر جواز التظلّم عنه وذكره بظلمه عند من يرجى إزالة مظلمته وعند من لا يرجى ذلك ، وثالث الأقوال جواز ذكره بظلمه وغيره من عيوبه عند من يرجى منه رفع المظلمة ومن لا يرجى منه ذلك. ولكنّا لم نحقّقه ولم نجده في كلام من يعتبر نقله ولم نقف على قائله أيضاً ، مضافاً إلى أنّه يأباه مادّة التظلّم ومفهومه فإنّ ذكر الظالم بما فيه من السوء غير ظلمه الّذي أوقعه على هذا المظلوم ممّا لا مدخل له في عنوان التظلّم أصلاً.

ولو فرض كون هذا الظالم متجاهراً في ظلمه بأن أوقعه عليه جهاراً وعلى رءوس الأشهاد فيجوز حينئذٍ ذكر عيوبه الاخر أيضاً على ما تقدّم في حكم المتجاهر لورد عليه أنّه يرجع حينئذٍ إلى غيبة المتجاهر فيخرج عن عنوان التظلّم إذ ليس الكلام في ذكر مظلمة الظالم من حيث إنّه متجاهر فيها ولذا يعمّ الحكم المتستّر بها أيضاً كما لو ضربه ليلاً أو شتمه أو أخذ ماله سرّاً كما نصّ عليه بعض مشايخنا (٥).

وكيف كان فدليل استثناء التظلّم قوله عزّ من قائل : «لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً» (٦).

وبيان الدلالة المتوقّفة على النظر في التركيب النحوي أنّ الجهر مصدر بمعنى الظهور ، وكلمة الباء فيما بعده للتعدية على حدّ ذهب به فتصير الجهر بمعنى الإجهار المرادف للإظهار ، فيكون التقدير وحاصل المعنى إنّ الله لا يحبّ أن يظهر السوء ، ومن

__________________

(١) كشف الريبة : ٧٧.

(٢) كما في الكفاية : ٨٦ ، المستند ١٤ : ١٦٨ ، مفتاح الكرامة ١٢ : ٢١٨.

(٣) المكاسب ١ : ٣٤٩ ، الجواهر ٢٢ : ٦٦.

(٤) شرح القواعد ١ : ٢٢٤.

(٥) المكاسب ١ : ٢٤٧.

(٦) النساء : ٤٨.

٢٦٤

القول بيان أي لا يحبّ من جنس القول إظهار السوء ، وفاعل المصدر محذوف وجوباً بدليل النفي والاستثناء وهو الأحد المنكر ، وتقديره لا يحب أن يظهر أحد السوء ، والمستثنى مفرّغ لوقوعه في كلام منفيّ حذف فيه المستثنى منه ، فيعرب بحسب اقتضاء العامل المتقدّم وهو الرفع على الفاعليّة للمصدر.

وحيث إنّ الاستثناء من النفي إثبات فيفيد أنّ الله يحبّ أن يجهر من ظلم بسوء ظالمه أي يظهر من حيث كونه مظلوماً سوء ظالمه ، والمنساق من الحيثيّة المنساقة في متفاهم العرف كون المراد من السوء سوء الظلم الّذي وقع من الظالم على المظلوم لا مطلق السوء ، وحيث إنّ الموصول باعتبار صلته ظاهر في المعنى الجنسي فيكون المستثنى عامّاً في كلّ مظلوم ، فالاستثناء حينئذٍ يفيد عموم الرخصة لكلّ مظلوم في ذكر مظلمة ظالمه عند غيره ، وإطلاقه يشمل من لا يرجى إزالة المظلمة ورفع الظلم.

وقد يتوهّم دلالة الآية على محبوبيّة ذلك لله تعالى فيفيد رجحان التظلّم الّذي أقلّ مراتبه الاستحباب. وهذا سهو ، لأنّ قوله : «لا يحبّ الله» ظاهر فيما يرادف الكراهة الظاهرة في المبغوضيّة ، فحاصل معنى نفي المحبوبيّة هو المبغوضيّة والاستثناء يفيد إثبات المحبوبيّة المرادفة لعدم المبغوضيّة وأقصاه الرخصة في الفعل بمعناها الأعمّ ، فالدلالة على الرجحان محلّ منع.

وكما أنّ توهّم هذه الدلالة سهو فكذلك ما في صريح عبارة مجمع البيان من جعل الاستثناء منقطعاً فيكون «إلّا» بمعنى لكن لرفع التوهّم أيضاً سهو ، ولعلّ منشأه زعم عدم كون المستثنى وهو قوله : «من ظلم» من جنس المستثنى منه وهو الجهر بالسوء ، ويدفعه أنّ المستثنى إذا كان مفرّغاً معرباً بحسب اقتضاء العامل الّذي هو المصدر كان عامله في الحقيقة هو جهر المظلوم بسوء ظالمه ، وهذا نوع من مطلق الجهر بالسوء الواقع في حيّز النفي فهو المستثنى في الحقيقة لا ما هو معرب بإعراب المستثنى منه المحذوف. ومع الغضّ عن ذلك نقول : بأنّ الموصول مندرج في «أحد» المنكّر المحذوف الّذي هو المستثنى منه في الحقيقة ، فانقطاع الاستثناء هنا ممّا لا معنى له أصلاً.

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى : «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا

٢٦٥

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (١) وكأنّه لزعم أنّ المراد بالانتصار طلب النصرة ولا يكون إلّا من المظلوم في مقام التظلّم عند من يرجو إزالة مظلمته.

وفيه نظر ، لأنّ الانتصار كما فسّره المفسّرون وذكره بعض أهل اللغة ويدلّ عليه سياق الآية والقرائن الموجودة معها سبقاً ولحوقاً خصوصاً ما سبق عليها من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ» (٢) اريد به في الآية ما يقابل العفو وهو الانتقام ، وقوله : «ما عليهم من سبيل» يعني به سبيل المؤاخذة والمعاقبة في دار الآخرة فيفيد الرخصة في انتقام المظلوم عن ظالمه وهو أن يصنع عليه مثل ما صنعه عليه كما أشار إليه بقوله : «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» فتكون الآية مساوقة لقوله : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (٣) وفي معناه قوله : «فَلا عُدْوانَ إِلّا عَلَى الظّالِمِينَ» (٤) فلا تعلّق لها بما نحن فيه.

وتوهّم : أنّ الحكمة في انتقام المظلوم إنّما هو لما فيه من شفاء الصدر وتشفّي القلب ، وهذا موجود في التظلّم أيضاً ، لأنّ المظلوم يتشفّى قلبه بمذاكرة مظلمة ظالمه في المجالس والمحافل. يدفعه : أنّه يرجع إلى استنباط العلّة من غير دلالة النصّ عليها ، فالتعدّي عن مورده إلى غيره قياس لا نقول به.

ويمكن كون مبنى الاستدلال على الفحوى والأولويّة ، بتقريب أنّ تظلّم المظلوم عن ظالمه أهون من انتقامه منه ، فلو كان مبناهما في الشريعة على التحريم كان الانتقام أغلظ حكماً وأشدّ مفسدة من التظلّم ، وإذا صحّ الترخيص في الأوّل بنصّ الآية كان الثاني أولى بالترخيص فيه. وفيه أيضاً منع ، لقصور العقول عن إدراك الحكم الخفيّة ، مع إمكان دعوى كون الأولويّة في العكس لأنّ التظلّم إشاعة سوء وهتك عرض يوجب فيه الفضيحة العظمى.

واستدلّ أيضاً [بنصوص] منها : ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بسند قويّ

__________________

(١) الشورى : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الشورى : ٣٩.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) البقرة : ١٩٣.

٢٦٦

على ما وصفه شيخنا «لا زلت مظلوماً منذ ولدتني امّي حتّى أنّ عقيلاً كان يرمد فيريدون أن يذرّوه ، فقال : لا تذرّوني حتّى تذرّوا عليّاً فيذرّوني وما كان بي رمد ...» (١) الحديث. وجه الدلالة أنّه عليه‌السلام تظلّم عن عقيل أو عن أبويه بما كانوا يصنعون فيه من الّذي بدون رمد الّذي لا يستريب أحد في كونه ظلماً ، ولم يكن في موضع رجاء الإزالة لأنّ الظلم قد وقع وانصرم زمانه ولم يكن عقيل وأبواه حين إذ تظلّم موجودين فلم يمكن تدارك ظلمه ، وفعل المعصوم حجّة ، فلولا التظلّم خصوصاً في موضع عدم رجاء إزالة المظلمة [جائزاً] لما أقدم عليه.

ومنها : ما روي عن زوجة أبي سفيان حيث شكت عنه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني ، آخذ من ماله ما يكفيني وولدي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف» (٢) وهذا تظلّم وذكر للعيب ويدلّ على جواز تقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وردّ بخروجه عن محلّ الغيبة ، لأنّ أبا سفيان لم يكن في الواقع مسلماً ، ويؤيّده ذكرها عيبه الآخر الخارج عن ظلمه.

ومنها : النبويّ «مطل الواجد ظلم» (٣) ويزيّفه أنّه ينهض دليلاً على إحراز الصغرى في موضع عدم الحاجة إليها فإنّ كون المطل من الواجد ظلماً مع وضوحه ليس من محلّ البحث الّذي هو عبارة عن ذكر الظلم الواقع في الخارج على المظلوم عند الغير ، نعم يتمّ الاستدلال بانضمام ما روي أيضاً من «أنّ مطل الواجد يحلّ عقوبته وعرضه» (٤) كما نقله الشهيد رحمه‌الله والمعروف مكان «المطل» ليّ (٥) الواجد (٦).

ومنها : ما تقدّم في مسألة المتجاهر في رواية أبي البختري من قوله : «والإمام الجائر» فإنّ إسقاط حرمته المجوّزة للغيبة ليس لكونه متجاهراً وإلّا بطل مقابلته للفاسق المعلن بفسقه بل من حيث جوره وهو الظلم ، وإسقاط حرمته كناية عن ذكره بظلمه ، وربّما ايّد الحكم بأنّ في منع المظلوم من هذا الّذي هو نوع من التشفّي حرجاً

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٢٣ / ١٠ ، ب ٨٥ أحكام العشرة ، علل الشرائع : ٤٤ / ٣.

(٢) المستدرك ٩ : ١٢٩ ، عوالي اللآلي ١ : ٤٠٢ / ٥٩.

(٣) البحار ٧٢ : ٢٣١.

(٤) المستدرك ١٣ : ٣٩٧ ، عوالي اللآلئ ٤ : ٧٢ / ٤٤.

(٥) الليّ : مطل الدين (القاموس ٤ : ٣٩٠).

(٦) الوسائل ١٨ : ٣٣٣ / ٤ ، ب ٨ أبواب الدين والقرض ، أمالي الطوسي ٢ : ١٣٤.

٢٦٧

عظيماً ، وبأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظالم وهي مصلحة خالية عن مفسدة فيثبت الجواز لأنّ الأحكام تابعة للمصالح هذا ، ولكن العمدة من أدلّة المسألة هو الآية.

الثالث : الاستفتاء ، وفسّر بأن يقول للمفتي : ظلمني فلان حقّي ، فكيف طريقي في الخلاص؟ كما في كلام بعض مشايخنا (١) أو فما حيلتي؟ أو ما تقول في حكمي؟ أو ما تحكم بيني وبينه؟ كما ذكره بعض (٢) آخر.

ويشكل بأنّه غير خارج عن التظلّم المتقدّم حكمه ودليله وهو الآية ، فإنّه لا فرق في إطلاقها بين كونه للتشفّي أو طلباً لطريق التخلّص عن ظلم الظالم أو رفعه وإزالته فيندرج فيه المعنى المذكور للاستفتاء فلا وجه لعدّه نوعاً آخر قسيماً له.

ولو فسّر بذكر معصية الخائض فيها طلباً لطريق حسم مادّة الفساد والردع عن محارم الله تعالى ـ كأن يقول : فلان أو جاري أو أخي يشرب الخمر أو يزني أو يسرق أو يقامر أو نحو ذلك فما أصنع فيه ، أو كيف نمنعه؟ أو غير ذلك ممّا يؤدّي مؤدّى طلب الفتوى على معنى حكم المفتي وبيانه لطريق المنع ـ كان أسدّ كما هو شائع الوقوع.

وحينئذٍ فالظاهر جواز ما تضمّنه من الغيبة وإشاعة السوء ، ودليله صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ امّي لا تدفع يد لامس ، فقال : احبسها ، فقال : قد فعلت ، فقال : فامنع من يدخل عليها ، قال : قد فعلت ، قال عليه‌السلام : فقيّدها ، فإنّك لا تبرّها بشي‌ء أفضل من أن تمنعها عن محارم الله عزوجل» (٣) والمناقشة بظهورها في كون المورد من المتجاهر ، يدفعها عموم التعليل المفيد لكون مصلحة المنع عن محارمه تعالى أقوى من مصلحة برّ الوالدين المأمور به عقلاً ونقلاً كتاباً وسنّة ، بل يدلّ على أنّه أفضل أفراد البرّ ، ويستفاد منه أيضاً أنّ المدار في الترجيح على الأفضليّة ، ويدلّ الرواية باعتبار التقرير على جواز الاستفتاء بالمعنى المذكور المتضمّن للغيبة وذكر المؤمن بسوئه ، ولكن ينبغي تقييده بصورة ما لو لم يحصل الغرض من الاستفتاء إلّا بتعيين المغتاب والتصريح باسمه. فلو حصل الغرض بذكره مبهماً

__________________

(١) المكاسب ١ : ٣٥٢.

(٢) انظر كشف الريبة : ٣٠٠.

(٣) الوسائل ٢٨ : ١٥٠ / ١ ، ب ٤٨ من أبواب حدّ الزنا ، الفقيه ٤ : ٧٢ / ٥١٤٠.

٢٦٨

ـ كأن يقول : إنّ لي جاراً أو صديقاً أو قريباً يفعل كذا وكذا ، أو يقول : رجل يفعل كذا ـ فالظاهر وجوب الاقتصار عليه وعدم جواز التعدّي من الإبهام إلى التصريح عملاً بعموم تحريم الغيبة وعدم ظهور مخرج للفرض عن أدلّته ، فإنّ التقرير المستفاد من الرواية دليل لبّي ويقتصر فيه على القدر المقطوع به من مورده.

الرابع : التحذير ، وهو تخويف المؤمن عن الوقوع في ضرر ديني أو دنيوي بما يتضمّن الوقيعة في الضارّ ، ويندرج فيه أنواع :

الأوّل : منع طلبة العلوم عن الاشتغال عند من طريقته باطلة كالطريقة الأخباريّة مثلاً أو عقيدته فاسدة بذكر بطلان طريقته أو فساد عقيدته ليحذروه ، ومنه منع الناس عن مخالطة من يضلّهم في دينهم أو مذهبهم الحقّ. وهذا ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه وإن تضمّن الوقيعة في الرجل وإشاعة سرّه ، لقوله تعالى : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (١) وهذا دعاء إلى الخير ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيح داود بن سرحان المتقدّم : «إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا في سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم لكيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ...» (٢) الخ. ولكن في كونه من الغيبة حتّى يحتاج إلى دليل الجواز تأمّل بل منع في غير من طريقته باطلة لانتفاء الإيمان والمؤاخاة المأخوذ في الغيبة.

الثاني : منع الناس عن الرجوع إلى عالم غير قابل للقضاء والإفتاء بذكر عدم قابليّته وعدم كونه أهلاً لهما ليحذروه ولا يفسد أعمالهم وأموالهم ، والظاهر جوازه بل وجوبه ، للآية المذكورة ، مع كون مصلحة الهداية وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل أعظم وأقوى من مفسدة الغيبة ومصلحة حرمة المؤمن ، وعليها مدار إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء ، ولكن ينبغي مراعاة عدم ترتّب مفسدة على الفعل كتوهين النوع ، أو انفتاح باب وقوع الناس في الغيبة أو الفساد من جهته ، أو اتّهام نفسه بكونه مغرضاً.

الثالث : منع المؤمن عن معاشرة من يضرّه في دنياه نفساً أو عرضاً أو مالاً ، كالمنع

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٢٤٣.

٢٦٩

عن الرجوع إلى طبيب ناقص بذكر نقصانه ، أو عن إدخال من يخون في أهله ولو بالنظر إليها في داره ، أو عن المعاملة لمن ينكر حقّه قرضاً أو قراضاً أو يعسر في أدائه ، أو عن تزويج امرأة بذكر قبائحها الّتي توجب وقوع المريد لتزويجها في فساد أو تلف مال أو اتّهام أو انهتاك عرض أو نحو ذلك ، ومنه بيان خلل في بكارتها وهو يريدها باعتقاد البكارة.

وهذا فيما كان الضرر هلاكة نفس محترمة ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه أيضاً ترجيحاً لأعظم المصلحتين وهي مصلحة حفظ النفس ، وفي غيره محلّ إشكال خصوصاً فيما كان الضرر ماليّاً سيّما اليسير منه ، إذ لم نقف على دليل مخرج عن أدلّة تحريم الغيبة وإشاعة السرّ.

ومن مشايخنا من نفى الريب في مثال تزويج المرأة عن أولويّة التنبيه على بعض قبائحها من ترك نصح المؤمن مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه (١).

والتمسّك بظهور الأخبار المشار إليها وإن كان غير بعيد في هذا المثال ونحوه وفيما كان الضرر المخوف من جهة المغتاب هتكاً للعرض أو نقصاً في الشأن وفيما كان الضرر المالي كثيراً يعتدّ به العقلاء ، وفي غيره مشكل غاية الإشكال ، والأولى إناطة الحكم بالأهمّ من مصلحة فعل النصيحة ومصلحة احترام المؤمن أو الأعظم من مفسدة اغتياب المؤمن وإذاعة سرّه وإشاعة عيبه ومفسدة ترك نصيحة مؤمن آخر ، ويختلف ذلك بحسب الأشخاص وبحسب أنواع الضرر وبحسب مراتب الضرر المالي.

الخامس : نصح المستشير وهو النصيحة المسبوقة بالاستشارة ، وهو من المشورة بمعنى طلب الرأي في الأمر ، وحاصل معناه رجوع الإنسان إلى غيره ممّن كمل عقله ليرى رأيه في أمره المتردّد فيه على معنى رأيه في صلاحه وفساده ، فالمستشير هو الّذي يرجع إليه ويطلب رأيه في مصلحته أو مفسدته في أمره ، والمعهود من معنى النصح في متفاهم العرف ما يعبّر عنه في الفارسيّة «بخير خواهى كردن» ويرادفه «نيك خواهى كردن» كما فسّره به في الكنز (٢) وهو المتبادر من قوله تعالى : «وَلا يَنْفَعُكُمْ

__________________

(١) المكاسب ١ : ٣٥٢.

(٢) كنز ٢ : ١٣١٨.

٢٧٠

نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» (١) وبمعناه النصيحة ، ولا يخالفه ما في المجمع من «أنّ أصل النصيحة الخلوص يقال : نصحته ونصحت» (٢) ونحوه ما في الأساس (٣) والغريبين (٤) ، وعن الصحاح (٥) أيضاً ، والمراد به هنا أن يخلص المؤمن رأيه في مصلحة أخيه المؤمن عن شوب الخيانة على معنى أن يريه ما يراه مصلحة أو مفسدة في أمره من غير خيانة لأنّه في حاصل المعنى يرجع إلى المعنى المذكور بل هو عينه.

ويدلّ على جواز الغيبة في مقام نصح المستشير بالخصوص الصحيح المرويّ عن محاسن البرقي عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتى رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : جئتك مستشيراً أنّ الحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام وعبد الله ابن جعفر خطبوا إليّ ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : المستشار مؤتمن أمّا الحسن فإنّه مطلاق للنساء ، ولكن زوّجها الحسين فإنّه خير لابنتك» (٦) وقوله عليه‌السلام : «المستشار مؤتمن» يعطي ضابطة كلّيّة تجري في جميع موارد الاستشارة وهي كون المستشار أميناً يجب عليه ردّ الأمانة من غير خيانة ، على معنى بيان ما يراه مصلحة المستشير ومفسدته ولا يخون في رأيه ، وفعل الإمام عليه‌السلام حجّة فيدلّ على جواز النصح وإن تضمّن ذكر سوء مؤمن آخر على قدر ما يتوقّف عليه النصح.

ونحوه في الدلالة عليه باعتبار فعل المعصوم النبويّ المرويّ مرسلاً «من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة بنت قيس لمّا شاورته في خطابها معاوية صعلوك لا مال له ، وأبو الجهم لا يضع العصى عن عاتقه» (٧).

وإطلاق صحيح حسين بن عمر بن يزيد عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله عزوجل رأيه» (٨) وفي سند آخر عن الكليني فيه إرسال عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من استشار أخاه فلم يمحضه محض

__________________

(١) هود : ٣٤.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٣١٨.

(٣) الأساس : ٤٥٨.

(٤) الغريبين ٦ : ١٨٤٦ (نصح).

(٥) الصحاح ١ : ٤١١.

(٦) الوسائل ١٢ : ٤٣ / ١ ، ب ٢٣ أحكام العشرة ، المحاسن : ٦٠١ / ٢٠.

(٧) مستدرك الوسائل ٩ : ١٢٩ / ٥ ، ب ١٣٤ أحكام العشرة ، عوالي اللآلي ١ : ٤٣٨ / ١٥٥.

(٨) الوسائل ١٢ : ٤٤ / ٢ ، ب ٢٣ أحكام العشرة ، المحاسن : ٦٠٢ / ٢٧.

٢٧١

الرأي سلبه الله عزوجل رأيه» (١).

وخبر عمّار بن مروان قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في وصيّته له : اعلم أنّ ضارب عليّ عليه‌السلام بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة» (٢).

وخبر إسماعيل بن عبد الله القرشي في حديث «إنّ رجلاً قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : الناصب يحلّ لي اغتياله؟ قال : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين عليه‌السلام» (٣).

ويدلّ عليه أيضاً إطلاق الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر فيها الصحاح والموثّقات وغيرهما الدالّة صراحةً وظهوراً على وجوب النصيحة ، وهذه الأخبار مع أخبار تحريم الغيبة وإن كان بينهما عموم من وجه لقضائها لجواز النصيحة بل وجوبها وإن تضمّنت غيبة مؤمن آخر وقضاء أخبار الغيبة بتحريمها وإن كانت في ضمن نصيحة مؤمن آخر سبقها استشارة أم لا فتتعارضان في نصح مستشير تضمّن غيبة مؤمن آخر ، والظاهر تعيّن إرجاع التخصيص إلى أخبار الغيبة ، لأظهريّة دلالات أخبار النصيحة على العموم وقلّة ورود التخصيص عليها واعتضادها بأخبار نصح المستشير المتضمّن لفعل المعصوم ولسيرة المسلمين قديماً وحديثاً حتّى الفقهاء المتورّعين وبفهم جماعة من الأساطين ولعلّهم الأكثرون.

السادس : جرح الشاهد عند الحاكم ، وجرح الراوي بذكر ما يوجب الفسق المانع من القبول.

أمّا الأوّل : فجوازه معلوم بالإجماع منقولاً ومحصّلاً فتوى وعملاً ، كما يعلم الأوّل بملاحظة فتاويهم في أحكام الشهادات والبيّنات حتّى أنّهم عقدوا لتعارض الجرح والتعديل باباً واختلفوا في تقديم أيّهما على الآخر ، والثاني بملاحظة السيرة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأمصار والأعصار من لدن عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعصار

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٣٨٤ / ٥ ، ب ٣٦ فعل المعروف ، الكافي ٢ : ٢٧٠ / ٥.

(٢) الوسائل ١٩ : ٧٤ / ٨ ، ب ٢ كتاب الوديعة ، الكافي ٥ : ١٣٣ / ٥.

(٣) الوسائل ١٩ : ٧٣ / ٤ ، ب ٢ كتاب الوديعة ، الكافي ٤ : ٢٩٣ / ٤٤٨.

٢٧٢

الأئمّة عليهم‌السلام إلى أعصارنا هذه ، فتكشف عن رضاهم وتقريرهم بل أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحكومات بإحضار من يعرف الشهود بتزكية أو جرح ، مضافاً إلى عمومات الأمر بإقامة الشهادات والنهي عن كتمانها كتاباً وسنّة ، وإلى ما قيل من أنّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفاسق أولى من مصلحة الستر على الشاهد. ولكن يعتبر في محلّ الجواز امور : الأوّل كون الجرح عند الحاكم لا غير. الثاني استدعاؤه وطلبه ، ومرجعه إلى عدم التبرّع بالشهادة. الثالث الاقتصار في إظهار الفسق على ما يحصل به الغرض من الجرح وعدم التعدّي إلى ما زاد ، ومرجعه إلى عدم إحصاء عيوب الشاهد وفسوقه ، فإنّ القدر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم الغيبة وإشاعة الفاحشة في «الّذين آمنوا» هو ما اجتمع فيه الشروط الثلاث دون غيره ممّا انتفى فيه الشروط وحدانيّاً أو ثنائيّاً أو ثلاثيّاً.

وأمّا الثاني : فجوازه أيضاً معلوم بالإجماع منقولاً ومحصّلاً كما يظهر للمتتبّع في سيرة العلماء وعملهم قديماً وحديثاً خلفاً عن سلف من لدن أعصار الأئمّة عليهم‌السلام حيث كانوا يتعرّضون لأحوال رواة الحديث بذكر مناقبهم وعيوبهم ومدائحهم وذمائمهم وتعديلهم وجرحهم وتفسيقهم ورميهم بالتخليط وفساد المذهب وعدم الاستقامة وفساد العقيدة من غير نكير حتّى في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام مع اطّلاعهم عليهم‌السلام وتقريرهم حتّى أنّ المتصدّين لهذا الشأن وضعوا لذلك فهارست ورسائل وكتباً كما يعلم ذلك بملاحظة كتب الرجال الموضوعة في هذه الصناعة ، وكونها مرجعاً لأهل الحلّ والعقد في مقام الاستنباط وتشخيص المقبول من الروايات عن مردودها وتمييز ما يترجّح منها في مقام التعارض على غيره ، أو لإحراز التعادل بين المتعادلين ، فهذا كلّه يكشف كشفاً ضروريّاً عن كون هذه الطريقة ممّا رضي به الأئمّة عليهم‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله عزوجل ، فهذا الإجماع العملي ضروريّ من أهل الحلّ والعقد من أهل الحقّ والباطل ، فهو من ضروريّات العلماء وإن لم يبلغ حدّ الضرورة عند كافّة الناس.

مضافاً إلى ما قيل : من أنّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة الشهادة بفسقه وإشاعة عيبه ونقصانه ، ويجوز فيه التبرّع بها أيضاً بل قيل : يستحبّ ذلك ، فيجوز الجرح للراوي على الإطلاق.

السابع : الشهادة عند الحاكم بالقتل أو شرب الخمر أو الزنا أو اللواط أو السرقة أو

٢٧٣

غيرها من الفسوق الكبائر لإقامة الحدود وحفظ الدماء المعصومة والأموال المحترمة لئلّا يتضيّع الحقوق ولا يغلب الباطل على الحقّ ، كذا نسب إلى الشيخ في شرحه (١) للقواعد ، ولا يخفى أنّ ذكر الحدّ في هذا العنوان إمّا مثال ، أو يراد به ما يعمّ القصاص والتعزيرات المنوطة برأي الحاكم.

والدليل على جواز هذه الشهادة ـ مع كونها من الغيبة الّذي هو دليل على الاستثناء ـ أوّلاً : إجماع علماء الإسلام على ما يظهر منهم في أبواب الدعاوي والشهادات والحدود والديات الّتي يندرج فيها الشهادة بالغاصبيّة أو السرقة ، وفيها حفظ الأموال المحترمة والشهادة بالقتل أو الجناية ، وفيها حفظ الدماء المعصومة من أن تهدر والشهادة بشرب الخمر والزنى واللواط والسحق وغيرها من أنواع الفسوق ، وفيها حفظ حقوق الله من أن تتضيّع.

وثانياً : السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأمصار والأعصار من لدن بناء الشرع إلى يومنا هذا الكاشفة عن رضا المعصوم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه المعصومين عليهم‌السلام.

وثالثاً : تقرير أهل العصمة من النبيّ وأهل العصمة حيث إنّ أصحابهم كانوا يشهدون في حضرتهم الشريفة بنحو الامور المذكورة ، وهم يستمعون شهاداتهم من غير نكير ولا ردع ومنع تعليلاً بأنّها من الغيبة المحرّمة.

ورابعاً : الأخبار المتكاثرة المتواترة معنىً بل البالغة فوق حدّ التواتر بمراتب شتّى الواردة في أبواب الدعاوي والشهادات والحدود الدالّة على جواز نحو هذه الشهادات بل وجوبها في الجملة.

وخامساً : الأمر بإقامة الشهادة والنهي عن كتمانها الواردين في الكتاب العزيز كقوله تعالى : «وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ» (٢) وقوله أيضاً : «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (٣) وقوله أيضاً : «مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً» (٤) فإنّ إطلاقها يعمّ الشهادة بأنواع الفسوق الكبائر ، وخصوص قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٢٨.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) البقرة : ٢٨٣.

(٤) البقرة : ١٤٠.

٢٧٤

شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» (١) الآية يدلّ بالالتزام دلالة صريحة على جواز الشهادة بالزنى ونحوه قوله تعالى «لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» (٢).

وهل يعتبر في محلّ الاستثناء استدعاء الشهادة من الشاهد فلا يجوز التبرّع بها لكونها غيبة لم يثبت خروجها عن عموم التحريم أو لا؟ فالشهادة التبرّعيّة أيضاً جائزة ، ولم نقف على كلام لهم صريح في أحد الوجهين ، غير أنّه يمكن استظهار الإجماع على عدم اشتراط الاستدعاء وجواز التبرّع بها من كلماتهم في مواضع اخر ، مثل ما في الشهادات في مسألة أنّ التبرّع بالشهادة في حقوق الله تعالى هل يمنع القبول كما عن الشيخ في النهاية (٣) أو لا؟ كما هو المشهور شهرة عظيمة.

ومستند القول بالمنع تطرّق التهمة المانعة من القبول كما في حقوق الآدميّين ، وعن الصيمري (٤) دفعه «بأنّ العدالة تدفع التهمة» وردّه السيّد في الرياض بمنع دفع العدالة التهمة مستنداً إلى «أنّه قد أطبق هو وسائر الأصحاب على اجتماعها معها ، ولذا عدّوا التهمة من موانع قبول الشهادة زيادة على الفسق المقابل للعدالة ، فلو أوجبت التهمة فسقاً لما كان لعدّهم إيّاها من الموانع في مقابلة الفسق وجه» (٥) انتهى.

فإنّ مصير المعظم إلى عدم منع التبرّع القبول ، وكلام الصيمري في منع تطرّق التهمة تعليلاً بأنّ «العدالة المعتبرة في الشاهد تدفعها» وما عرفت من ردّه من عدم كون التهمة قادحة في العدالة وما نسب إليه وسائر الأصحاب من الإطباق على اجتماع العدالة معها يعطي إجماعهم على عدم كون أصل التبرّع بالشهادة على شرب الخمر وغيره من الفسوق الكبائر من غير جهة التهمة لا يوجب الفسق ولا يقدح في العدالة وإلّا لوجب ردّها من هذه الجهة لا من جهة التهمة ، ولا يتمّ ذلك إلّا على تقدير كون الشهادة التبرّعيّة مع كونها من الغيبة وإشاعة الفاحشة جائزة مخرجة من عموم أدلّة تحريمها هذا ، مضافاً إلى قضاء السيرة بذلك أيضاً.

__________________

(١) النور : ٤.

(٢) النور : ١٣.

(٣) النهاية : ٣٣٠.

(٤) غاية المرام ٤ : ٢٨٤.

(٥) الرياض ١٥ : ٣٢٥.

٢٧٥

وهل يعتبر سبق الدعوى عند الحاكم من مدّعي مخصوص ليشهد الشاهد على طبقها ولو تبرّعاً؟ الظاهر العدم ، لظهور الإجماع من كلامهم في المسألة المشار إليها ، حيث علّلوا المشهور في قبول الشهادة التبرّعيّة بأنّها في حقوق الله والمصالح العامّة لا مدّعي لها ، فلو لم تقبل فيها شهادة المتبرّع لأدّى ذلك إلى سقوطها.

واجيب بما يرجع حاصله إلى منع بطلان التالي ، وهذا يدلّ على أنّ جواز هذه الشهادة من دون سبق الدعوى مفروغ عنه عندهم متسالم فيه لديهم ، ولو علم بأنّ شهادته لا تقبل لفسقه أو عدم عدل آخر يستكمل به البيّنة أو تطرّق التهمة إليه أو جهة اخرى لم يجز له الشهادة حينئذٍ عملاً بعموم حرمة الغيبة وإشاعة الفاحشة من دليل مخرج مع عدم ترتّب الفائدة المقصودة من الشهادة.

وهل العلم بالقبول شرط أو العلم بعدمه مانع ويظهر الفائدة في صورة احتمال القبول لاحتمال حصول العلم للحاكم بشهادته مع فسقه أو بانفراده من جهة القرائن أو حصول ما يتمّ به البيّنة فيما بعد؟ وجهان : من الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا خرج من أدلّة الحرمة ، ومن الإجماع والسيرة في أداء الشهادة مع الاحتمال مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً. وهو الوجه ، ولكنّه فيما لم يجامع عنوان الغيبة حيثيّة اخرى كالقذف في الزنى مثلاً ، وإلّا وجب الاقتصار على صورة العلم بالقبول المتوقّف على استكمال عدد الأربع بشروطها المقرّرة في محلّه الّتي منها تواردهم دفعة واحدة ووحدة زمان المشهود به ومكانه وعدم نكول بعضهم ، فلو نقص العدد أو اختلّ بعض الشروط لم يجز الشهادة لكونه من القذف المحرّم ، ولذا يحدّ الشاهد حينئذٍ نظراً إلى أنّ الحدّ عقوبة وهي فرع على تحقّق المعصية.

ثمّ إنّه يلحق بالشهادة لإقامة الحدود الشهادة بشرب الخمر وغيره من الفسوق الكبائر لإقامة الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ممّن لا يتمكّن من القيام بهما بنفسه ، أو يخاف على نفسه الضرر ، أو يقطع بأنّ قوله لا يؤثّر في الارتداع والانتهاء ، فيظهر الواقعة لمن يتمكّن من ذلك ـ من حكّام الشرع أو حكّام الجور أو غيرهم من المقتدرين وأرباب الاستيلاء ـ للسيرة القطعيّة وعموم أدلّة وجوبهما ، نظراً إلى أنّه من

٢٧٦

جملة مراتبهما المختلفة على ما ستعرفه.

الثامن : ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تحقّق شرائطه ، من الأمن عن الضرر ووقوع الفتنة واحتمال التأثير وتوقّف انتهائه عمّا عليه من ترك الواجب أو ارتكاب المحرّم على اغتيابه وذكره بمعصيته في المجالس والمحافل على قدر ما يحصل به الغرض مع انحصار طريقه فيه ، فإنّه جائز بل واجب لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على معنى حمل تارك الواجب على فعله وردع فاعل الحرام عن فعله ، لا المعنى المعروف المصطلح الاصولي نظراً أنّ مصلحة ذلك أعظم من مصلحة احترام المؤمن ، وأنّ مفسدة اغتيابه بذكر منكره أهون من مفسدة بقائه على منكره.

كما أنّه قد يجوز بل يجب في موضع توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الانحصار بعض المحرّمات ، من إيذاء المؤمن بالقول الخشن أو ضربه أو جراحه أو قتله على القول بجواز كلّ منهما ، أو أوّلهما لحسم مادّة العصيان مع مراعاة الترتيب على وجه الأيسر فالأيسر ، نظراً إلى أنّها تتدرّج على حسب ما يحصل به الغرض ، ويعتبر في محلّ الاستثناء أن لا يكون قاطعاً بعدم التأثير ، سواء كان قاطعاً بالتأثير أو محتملاً له احتمالاً مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً.

التاسع : التفضيل ذكره الشيخ في شرحه للقواعد (١) والمراد به تفضيل بعض العلماء والمجتهدين على بعض ، نقول : إنّ فلاناً أعلم من فلان أو أفقه منه أو أفضل منه ، فإنّه يتضمّن ذكر المفضّل عليه بصفة المفضوليّة الّتي هي نوع عيب ومنقصة فيه ، ربّما يكره ذكره بهذا العيب وتلك المنقصة فيكون اغتياباً له ، فاندراج التفضيل في الغيبة باعتبار ما تضمّنه لا في نفسه.

والعمدة بيان الوجه في استثنائه وتفصيل القول فيه : أنّ التفضيل إمّا أن يكون في موضع الحاجة إليه ـ لتوقّف حقّ ديني أو دنيوي عليه ، ككونه لمن يريد التقليد ولا يعرف الأعلم من المجتهدين عن غيره ، بناءً منه على وجوب تقليد الأعلم أو على العمل بالاحتياط أخذاً بالقدر المتيقّن ممّا يوجب البراءة ، أو لمن يريد معرفة الموقوف

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٢٩.

٢٧٧

عليه أو المتولّي على الوقف أو الموصى له فيما وقف على المجتهدين الأعلم منهم فالأعلم ، أو جعل التولية لأعلم العلماء أو اوصي لهم ـ أو لا يكون في موضع الحاجة.

والأوّل : ممّا لا إشكال في جوازه بل قد يجب ممّن سئل عن الفاضل وهو من أهل الخبرة ، للسيرة ، ولأنّ مصلحة التفضيل في مقام الحاجة أعظم من مصلحة احترام المؤمن.

وأمّا الثاني : فلا دليل على جوازه فضلاً عن وجوبه إلّا إذا فرض بحيث خرج عن موضوع الغيبة ، ككون المفضول مشتهراً بين الناس بالمفضوليّة وهو أيضاً يعتقد المفضوليّة في حقّه ، ولا يبالي ذكره بصفة المفضوليّة ولا يكرهه ، فجوازه حينئذٍ لأجل عدم كونه اغتياباً. وكذا الكلام في التفضيل فيما لو كان المتفاضلان من غير أهل العلم من أرباب سائر الحرف والصنائع ، كتفضيل أحد الصائغين أو المعمارين أو النجّارين على الآخر.

العاشر : ذمّ المؤمن وذكر معائبه لحفظ دمه أو عرضه أو ماله إذا كان أحد هذه في معرض التلف ، وعن الشيخ في شرح (١) القواعد إطلاق القول بخروجه من حكم الغيبة.

وهذا في مقام حفظ الدم كذلك ترجيحاً لمصلحة حفظ النفس المحترمة على مصلحة احترام المؤمن وستر عيوبه ، وكذلك في صورة حفظ العرض خصوصاً إذا كان من الفروج ، ضرورة أنّ مصلحة حفظ الفروج أقوى من مصلحة ستر العيوب. وأمّا في صورة حفظ المال فإطلاق الحكم محلّ منع ، خصوصاً إذا كان المال المتوقّف حفظه على ذكر معائب صاحبه يسيراً. ولا يبعد التفصيل بين من لا يبالي ذهاب مال له ولو كثيراً ويبالي التعرّض لعيوبه فلا يجوز لكونه من الغيبة الّتي لا مخرج لها ، وبين من لا يبالي التعرّض لعيوبه ويبالي ذهاب مال له ولو قليلاً فيجوز. ودعوى أنّ مصلحة حفظ أموال الناس أعظم من مصلحة ستر معائبهم بقول مطلق ، ممّا لم نقف على دليل عامّ ، قضى بوجوب حفظ أموال الناس بحيث أوجب استباحة اغتيابهم والكشف عن معائبهم مع كون الأموال بأيدي أربابها.

الحادي عشر : نفي النسب عمّن يدّعي نسباً ليس له ، ذكره جماعة في المستثنيات. والكلام هنا تارةً في الموضوع ببيان وجه اندراج هذا العنوان في الغيبة ، واخرى في

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٢٨.

٢٧٨

الحكم ببيان مدركه.

أمّا الأوّل فكونه غيبة إمّا باعتبار ما تضمّنه من إثبات نسب آخر له غير المنفيّ لكونه نسباً وضيعاً إثباته له وقيعة فيه وكشف لمنقصته فلا يرضى به ويسوؤه ، أو باعتبار نفسه نظراً إلى أنّ نفي ما ادّعاه لنفسه على خلاف الواقع تكذيب له وإظهار لكذبه فيكون وقيعة فيه ، بناءً على أنّ الكذب هو الخبر الغير المطابق للواقع خالف الاعتقاد أو لا كما هو المشهور ، وأمّا على مذهب النظام والجاحظ فلا يكون كذباً إلّا إذا خالف الاعتقاد ، فنفيه فيمن ادّعاه وهو معتقد ثبوته له على خلاف الواقع ليس تكذيباً له نعم هو تخطئة له ، والخطأ في الاعتقاد أيضاً نوع نقص وعيب لا يرضى الإنسان إظهاره والكشف عنه لغيره فيكون غيبة. وقد يجتمع الاعتباران فيكون النفي غيبة باعتبار نفسه وباعتبار ما تضمّنه. والأوّل غير مطّرد لأنّ المدّعي للنسب قد يدّعي لنفسه نسباً شريفاً وأنت تنفيه وتثبت له نسباً وضيعاً أو متوسّطاً ، وقد يدّعي نسباً متوسّطاً وأنت تنفيه وتثبت له نسباً شريفاً أو وضيعاً ، وقد يدّعي نسباً وضيعاً وأنت تنفيه وتثبت له نسباً شريفاً أو متوسّطاً ، وقد يدّعي نسباً وأنت تنفيه وتثبت له ما يساويه ، ولا يكون باعتبار ما تضمّنه غيبة إلّا في بعض هذه الصور كما لا يخفى. بخلاف الثاني فإنّه مطّرد ، ولعلّ نظر الجماعة في إطلاق القول بكون نفي النسب غيبة إلى هذا الاعتبار وإن كان قد يجتمع معه الاعتبار الأوّل أيضاً.

وأمّا الثاني فاستدلّ على الجواز بالسيرة ، وبأنّ مراعاة مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة مصلحة الستر على المؤمن.

ويشكل الأوّل بأنّ السيرة مجملة وكونها بحيث تكشف عن رضا المعصوم باستغابة المؤمن وإشاعة سرّه للناس غير معلوم. والثاني بمنع الأولويّة إذ لم يثبت بدليل عامّ وجوب حفظ الأنساب على المكلّفين على وجه يكون مفسدة تركه بقول مطلق في نظر الشارع أقوى من مفسدة الوقيعة في المؤمن وإشاعة سرّه.

ولو استند في ذلك إلى كون صيانة الأنساب من المقاصد الخمس الباعثة على جعل الأحكام وتأسيس الشرائع من أنواع العبادات والمعاملات والحدود والديات وهي صيانة الأموال والنفوس والعقول والأديان والأنساب.

٢٧٩

لدفعه أنّ المقاصد الخمس ملحوظة على وجه الحكمة وهي عبارة عن علّة التشريع ولا يعتبر فيها الاطّراد فلا بدّ لإثبات وجوب حفظ الأنساب على المكلّفين على وجه يستباح به المحرّمات الّتي منها الغيبة من دليل وهو غير واضح ، فالأولويّة غير ثابتة ، وحينئذٍ فلا محيص لاستباحة الغيبة بنفي النسب من إدراجه في إحدى العناوين الاخر المستثناة كالتحذير أو نصح المستشير أو الجرح أو الشهادة لإقامة الحدود وحفظ الأموال أو النهي عن المنكر ، فلا يكون عنواناً مستقلّاً في باب المستثنيات.

الثاني عشر : ذمّ أولاده وعياله وأتباعه وغيرهم من الملتحقين به ببعض الأوصاف تأديباً لهم كما ذكره الشيخ في شرح القواعد ، وعلّله أوّلاً : «بأنّ المذكورين لهم حكم آخر في التأديب ، وثانياً : بقضاء الحكمة بذلك ، وثالثاً : بقضاء السيرة به ، ورابعاً : بخوف الوقوع فيما هو أعظم من ذلك» (١).

والكلّ منظور فيه ، أمّا الأوّل : فلأنّ ثبوت الولاية للإنسان في تأديب أولاده وأتباعه في الجملة ممّا لا كلام فيه كما في أولاده الأصاغر ومماليكه ولذا يجوز ضربهم تأديباً أيضاً ، وأمّا ولايته على التأديب بقول مطلق ـ حتّى في أولاده الكبار وزوجاته وسائر من يدخل في عيلولته وأتباعه من الخدم والأقارب المخصوصين به بحيث يستباح به المحرّمات الّتي منها اغتيابهم والكشف عن عيوبهم وأوصافهم الذميمة وأعمالهم الشنيئة ـ يحتاج إلى دليل.

وأمّا الثاني : فلأنّ كون التأديب من مصالح الأولاد والأهل والأتباع مسلّم لا كلام فيه ، بل الكلام في وجوبه وأقوائيّة مصلحته بحيث تزاحم مفسدة الغيبة وإشاعة الفاحشة ، وهو أوّل المسألة إذ لم نقف على دليل عامّ من العقل أو الشرع عليه ، وكون حسن التأديب ممّا يستقلّ بإدراكه العقل لا يسلّم في مقابلة استباحة الغيبة الّتي هي من الكبائر وورد فيها أنّها أشدّ من الزنى ، وغير ذلك من التوعيدات والتهديدات.

وبالجملة لا يسلّم في العقل إدراك حسن للغيبة الّتي ورد في قبحها من الشرع ما ورد لأجل كونها تأديباً أو للتوصّل بها إلى التأديب ، وغاية ما يسلّم من حسنه

__________________

(١) شرح القواعد ١ : ٢٣٠.

٢٨٠