ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

رواية النوفلي عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «ذكرت الصوت عنده فقال : إنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كان يقرأ القرآن فربّما يمرّ به المارّ فصعق من صوته أنّ الإمام أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه» (١) الخ. وفي رواية عبد الله بن سنان عن رسول الله «لم يعط امّتي أقلّ من ثلث الجمال والصوت الحسن والحفظ» (٢). وفي رواية أبي بصير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن ونغمة الصوت الحسن» (٣) وفي رواية عبد الله بن سنان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لكلّ شي‌ء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن» (٤) وفي رواية اخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان السقّاءون يمرّون يستمعون قراءته» (٥). وفي رواية اخرى عن أبي جعفر عليه‌السلام «ترجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله عزوجل يحسب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً» (٦) وروى معاوية في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القرآن حتّى يرفع صوته ، فقال : لا بأس إنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن فكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار ، وأنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فقال : إذا قام الليل وقرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم فيقيمون فيستمعون إلى قراءته» (٧). إلى أن قال : وارتكاب التأويل في هذه الأخبار بحيث يجتمع مع القول بتحريم الغناء في القرآن يحتاج إلى تكلّف بيّن ... إلى أن قال : وحينئذٍ نقول : يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين ، أحدهما : تخصيص تلك الأخبار ما عدا القرآن ، وحمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه الفسّاق في غنائهم. وثانيهما : أن يقال

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢١١ / ١٢ ، ب ٢٤ قراءة القرآن ، الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٤.

(٢) البحار ٢٢ : ٤٤٣ / ٢. ب ١٤ فضائل امّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) روضة المتّقين ١٠ : ١٧٠ ، الكافي ٢ : ٦١٥ / ٨.

(٤) الوسائل ٦ : ٢١١ / ٣ ، ب ٢٤ فضائل امّة ، الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٩.

(٥) الوسائل ٦ : ٢١١ / ٤ ، ب ٢٤ فضائل امّة ، الكافي ٢ : ٤٥١ / ١١.

(٦) الكافي ٢ : ٦١٦ / ١٣.

(٧) الوسائل ٦ : ٢٠٩ / ٢ ، ب ٢٣ قراءة القرآن ، مستطرفات السرائر : ٩٧ / ١٧.

٢٢١

المذكور في تلك الأخبار الغناء والمفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم لغةً ، وعمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على إرادة الخاصّ ، وإرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة وسياق البيان والحكمة فلا بدّ من حمله على الاستغراق والعموم ، وهاهنا ليس كذلك لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري المغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور وغيرها. فحمل المفرد على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد. وفي عدّة من تلك الأخبار إشعار بكونه لهواً باطلاً ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة والمهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل. فإن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعاً وإلّا كان حكمه على أصل الإباحة ، وطريق الاحتياط واضح (١) انتهى.

ويندفع ما ذكره في الوجه الثاني بأنّ المفرد المعرّف باللام حقيقة في تعريف الجنس ، والشيوع الموجب لانصرافه إلى ما ادّعى شيوعه غير معلوم ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وتعليق التحريم إلى الطبيعة يقتضي حرمة جميع أفرادها إلّا ما خرج منها بالدليل ، فدعوى بقاء غير الغناء على سبيل اللهو تحت أصل الإباحة غير سديد.

على أنّا نقول ـ بناءً على ما تقدّم تحقيقه عند البحث في موضوع الغناء ـ إنّ الغناء ليس إلّا من جنس الصوت اللهويّ الّذي يرغب إليه أهل الفسق والطرب ، ومقتضى الأدلّة خصوصاً قوله في صحيحة محمّد بن مسلم «الغناء ما وعد الله عليه النار» كون الصوت اللهويّ بطبيعته مبغوضة للشارع ، وعلى هذا فمادّة القراءة بالغناء مبغوضة محرّمة ، وخصوصيّة الهيئة القرآنية الطارئة لها لا يخرجها عن المبغوضيّة والتحريم وإن لم يصدق على القراءة باعتبار عنوان القرآنيّة عنوان اللهويّة ، إذ من الواضح أنّه يصحّ القول بأنّ القرآن يقرأ بصوت لهويّ ، كما يقال : إنّه يقرأ بالغناء وإن لم يكن نفس القراءة لهواً.

وأمّا الوجه الأوّل : فيندفع أيضاً بمنع معارضة أخبار استحباب حسن الصوت وتحسينه في القرآن لأخبار تحريم الغناء وسائر أدلّته بوجه ، إذ لا دلالة فيها صراحة

__________________

(١) الكفاية : ٨٥ ـ ٨٦.

٢٢٢

ولا ظهوراً ولا خصوصاً ولا عموماً على شي‌ء من جواز الغناء ولا استحبابه في القرآن. ودعوى عدم انفكاك تحسين الصوت أو ترجيعه عن الغناء غير مسموعة ، بل ضرورة العيان والوجدان تشهد ببطلانها حيث لا يلازم شي‌ء منهما البلوغ حدّ الصوت اللهوي ولا التطريب اللذين أحدهما ضابط الغناء.

فإن قلت : الصوت الحسن على ما ذكرت بمفهومه أعمّ ممّا يتحقّق فيه الغناء وما لا يتحقّق فله فردان ، وعموم الجواز والاستحباب المستفاد من الأخبار المذكورة يشملهما ، غاية ما هنالك كون النسبة بين هذه الأخبار وأخبار تحريم الغناء عموم من وجه ، فتخصّص أخبار التحريم بغير القرآن لأصالة الإباحة فيه.

قلت : مع أنّ أصل الإباحة في تعارض العامّين من وجه لا يصلح شاهداً لإرجاع التخصيص إلى ما يخالفه وأنّ شواهد إرجاعه إلى أخبار الجواز والاستحباب من الأكثريّة وأظهريّة الدلالة والشهرة وموافقة الإجماع محصّلاً ومنقولاً وموافقة الكتاب وغير ذلك متكاثرة أصل التعارض مع فرض العموم على الوجه المذكور ممنوع.

وسند المنع أنّ أدلّة استحباب المستحبّات ـ كغسل الجمعة ، وإدخال السرور في قلب المؤمن ، وإجابة المؤمن ، وقضاء حاجته ، ونحو ذلك ـ وأدلّة إباحة المباحة كلحم الغنم وشرب الماء ، وأدلّة كراهة المكروهات كالطهارة بالماء المشمّس ونحو ذلك إنّما أفادت هذه الأحكام في مواردها من حيث خلوّها عن الجهات الملزمة للفعل أو الترك ، فما طرأه جهة ملزمة لفعله أو جهة ملزمة لتركه فهو خارج من هذه الموارد خروجاً موضوعيّاً ، فلا ينافي الوجوب أو الحرمة المستفاد من أدلّة هذه الجهات للأحكام الثلاث المذكورة التابعة لخلوّ مواردها عن تلك الجهات ، وهذا هو معنى عدم المعارضة بين أدلّة هذه الأحكام وأدلّة الوجوب أو الحرمة التابعين للجهات الطارئة لموارد هذه الأحكام ، ولذا قد يجب غسل الجمعة لأجل النذر ، وقد يحرم إذا تضمّن ضرراً أو مع مظنّة الضرر ، أو لمغصوبيّة الماء أو نجاسته مع الانحصار ، وقد يحرم إدخال السرور وإجابة المؤمن لجهة اللواط أو الزنا ، ويحرم أكل لحم الغنم وشرب الماء للضرر أو المغصوبيّة أو النجاسة ، وكذلك الطهارة بالماء المشمّس.

٢٢٣

ومن هذا القبيل حسن الصوت في القراءة بل ونفس القراءة فإنّ استحبابهما إنّما هو من حيث خلوّهما عن الجهات الملزمة لتركهما لأنّه الظاهر من أدلّة استحبابهما وطروّ جهة الغنائيّة أو اللهويّة يعطيهما الحرمة بلا إشكال لانتفاء التعارض. وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال بعمومات القراءة فإنّها لا تقاوم أدلّة حرمة الغناء ، فإنّ المستحبّ هو القراءة من حيث خلوّهما عمّا يوجب لزوم أحد طرفي الفعل أو الترك فلا ينافيه التحريم من جهة لحوق عنوان الغناء.

ومنها : الغناء في المراثي ، وعن جامع المقاصد (١) «أنّه حكي استثناؤه قولاً» ولم يسمّ قائله ، ودليله على ما قيل عمومات أدلّة الإبكاء والرثاء. وعن المحقّق الأردبيلي أنّه ـ بعد ما وجّه استثناءه في المراثي بأنّه لم يثبت الإجماع إلّا في غيرها والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً ـ أيّده بأنّ البكاء والتفجّع أمر مطلوب مرغوب وفيه ثواب عظيم والغناء معين على ذلك وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير ، ثمّ أيّده أيضاً بجواز النياحة وأخذ الاجرة عليها ، والظاهر أنّها لا تكون إلّا معه وبأنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر وليس في المراثي طرب بل ليس إلّا الحزن (٢) انتهى.

والجواب : عن العمومات قد ظهر ممّا مرّ من أنّها لا تقاوم لمعارضة أدلّة تحريم الغناء حتّى ما تحقّق منه في المراثي ، ومرجعه إلى منع قضاء عمومها بجواز جهة الغناء المتحقّقة فيها ولا استحبابها ، وإطلاق الإجماعات المنقولة يعمّها أيضاً إن لم نقل بسبق الإجماع المحصّل على حدوث الخلاف ، وفي الأخبار ما هو صحيح صريح في التحريم مطلقاً كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، وكون الغناء معيناً على البكاء والتفجّع أضعف شي‌ء ذكر في المقام ، ولا يثبت به استحباب الغناء ، لمنع الصغرى تارةً ومنع الكبرى اخرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الغناء إن اريد به الصوت اللهوي فهو حيثما تخلّل في أثناء القراءة يختلّ به حالة البكاء والتفجّع عن المستمع فهو ممّا يزيل تلك الحالة لا أنّه يعين عليها ،

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٣.

(٢) مجمع الفائدة ٨ : ٥٩.

٢٢٤

وإن اريد به الترجيع المطرب فالطرب الّذي يحصل به إن كان سروراً فهو لا يناسب البكاء والتفجّع ، وإن كان حزناً فهو كالحزن الحاصل منه في غير مجلس الرثاء فيكون حزناً على الآلام المركوزة في النفوس من عدم نيل المقاصد والآمال وفقد المشتهيات النفسانيّة ، لا على ما أصاب أئمّتنا وساداتنا من المصائب.

وأمّا الثاني : فلأنّ استحباب الغناء لكونه معيناً على المستحبّ ، إمّا من جهة المقدّمية بدعوى أنّه مقدّمة للبكاء الّذي هو مستحبّ فيستحبّ بضابطة أنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّة ، أو من جهة الإعانة على البرّ المستفاد حسنه من قوله تعالى : «تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» (١) نظراً إلى أنّ البكاء من البرّ فيندرج الإعانة عليه في عموم الآية. ولا سبيل إلى شي‌ء منهما :

أمّا الأوّل فلوجهين :

أحدهما : أنّ المقدّمة إنّما تكتسب الحكم وجوباً أو استحباباً من ذي المقدّمة إذا كانت فعلاً لفاعل ذي المقدّمة ، على معنى كون اتّحاد فاعليهما شرطاً لوجوب مقدّمة الواجب واستحباب مقدّمة المستحبّ ، ولذا لا يجب على إنسان إحضار الماء لمن وجب عليه غسل الجنابة أو الوضوء للصلاة ، ولا يستحبّ إحضاره أيضاً لمن يستحبّ له غسل الجمعة أو الوضوء لتلاوة القرآن.

وثانيهما : أنّ مقدّمة الواجب أو المستحبّ إذا كانت محرّمة فتحريمها يؤثّر إمّا في تخصيص الوجوب أو الاستحباب المقدّمي بأفرادها المباحة إن كانت ، أو في رفع الحكم وجوباً أو استحباباً عن ذي المقدّمة مع الانحصار لئلّا يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولذا انتقل تكليف من انحصر ماء وضوئه في المغصوب إلى التيمّم إلى أنّ وجوب ذي المقدّمة أو استحبابه يؤثّر في رفع الحرمة عن المقدّمة لتصير واجبة أو مندوبة من باب المقدّمة ، فالغناء مع قطع النظر عن مقدّميّته إن كان محرّماً فكيف يمكن أن يصير مستحبّاً لأجل كونه مقدّمة للمستحبّ.

وأمّا الثاني فلوجوه ثلاث :

__________________

(١) المائدة : ٢.

٢٢٥

الأوّل : أنّ مفاد الآية وجوب المعاونة على البرّ والتقوى وتحريم المعونة على الإثم والعدوان لا استحبابه ، فيراد من البرّ ما كان وجوبيّاً كفعل الواجبات وترك المحرّمات فلا يندرج فيها ما نحن فيه.

الثاني : أنّ الغناء فيما نحن فيه من الإعانة على الإثم والعدوان المنهيّ عنه في الآية ، نظراً إلى أنّه كما يحرّم فعله فكذلك يحرم استماعه.

الثالث : أنّ الإعانة على البرّ من حيث خلوّها عن الجهة الملزمة للترك مستحبّة ، ومع طروّ تلك الجهة تصير محرّمة ، ولا ينافي تحريمها حينئذٍ دليل استحبابها كما عرفت مراراً.

وأضعف من الوجه دعوى كونه متعارفاً في بلاد المسلمين فإنّه إن اريد به كونه متعارفاً في مجالس الجهّال والعوام المتسامحين في الدين ، فلا اعتبار بهذا التعارف ، لأنّه ليس إلّا كتعارف سائر الفسوق والمعاصي ومنها الغناء في غير مجالس الرثاء.

وإن اريد به تعارفه في مجالس العلماء والمتورّعين من العوام ، فأصل التعارف ممنوع أوّلاً بل نرى أنّ القارين والراثين عند حضور العلماء يتحفّظون عنه ، وعدم النكير ممنوع ثانياً حيث يقع أحياناً بل شاهدنا منع العلماء والمتورّعين وإنكارهم ، وربّما خرجوا من المجلس إنكاراً ، ومن لم ينكر فلعلّه لمصيره إلى هذا القول الضعيف أو لعلمه بعدم التأثير.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فالتعارف المذكور إن اريد به ما دون السيرة فلا عبرة به ، وإن اريد به السيرة الكاشفة عن تقرير المعصومين عليهم‌السلام ولا تكون كاشفة إلّا إذا كانت قديمة ثابتة في أعصارهم عليهم‌السلام ، وهذا غير معلوم بل خلافه معلوم ، حيث لم يكن إقامة مجلس العزاء في أعصارهم شائعة بل كانت في كمال الندرة ، وهذا النادر لشدّة التقيّة كان يقع في الخلوات ، ومن أين يعلم وقوع الغناء في مجالسهم وهم لم ينكروا على الفاعل؟ وعلى تقدير الوقوع من أين علم عدم إنكارهم؟ فهذه السيرة حادثة لا تكشف عن التقرير.

وأمّا جواز النياحة وجواز أخذ الاجرة عليها فلا تأييد فيهما ، لأنّها لا تلازم الغناء أصلاً. فقوله «والظاهر أنّها لا تكون إلّا معه» واضح المنع فلا يبقى إلّا إطلاق دليل ، وينصرف إلى ما لم يطرأه جهة منع والغناء منها. وقوله «وليس في المراثي طرب» فلعلّه

٢٢٦

مبنيّ على توهّم انحصار الطرب في السرور كما حكاه صاحب القاموس قولاً وزيّفه. وفيه : أوّلاً منع الانحصار وإن غلب إطلاقه في هذه الأعصار وغيرها في السرور ، وثانياً ما عرفت من أنّ الحزن الحاصل من الغناء ليس هو الحزن المطلوب في الرثاء.

ومنها : غناء المغنّية في الأعراس إذا لم يكن معه اللعب بآلات اللهو والتكلّم بالأباطيل ودخول الرجال ، وقيل : المشهور استثناؤه. وعن صريح الحلّي (١) والعلّامة في التذكرة (٢) وظاهر المفيد (٣) والحلبي (٤) والديلمي (٥) المنع منه.

ومستند المشهور ما تقدّم من روايتي أبي بصير الدالّتين على «إباحة أجر المغنّية الّتي تزفّ العرائس وليست بالّتي يدخل عليها الرجال» نظراً إلى الملازمة بين إباحة الأجر وإباحة الفعل. ومنع الملازمة غير سديد ، كما أنّ دعوى كون الأجر لمجرّد الزفّ لا للغناء غير سديد. وهذا القول جيّد لقوّة دليله.

وتوهّم القصور في سند الروايتين من جهة أبي بصير لاشتراكه بين الثقة وغير الثقة ـ مع أنّ إطلاقه كما حقّق في محلّه ينصرف إلى الثقة ، مضافاً إلى منع دخول غير الثقة في هذا الاسم كما عن بعضهم تعليلاً بأنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة وكلّهم أجلّاء ثقات ولا رابع لهم ـ يندفع بانجباره بالشهرة لو كانت مستندة إلى الروايتين. ومع هذا فطريق الاحتياط واضح.

وعلى الجواز فشرطه ـ كما صرّح به في الروايتين ـ عدم دخول الرجال عليهنّ لاستماع الغناء منهنّ ، وأمّا الشرطان الآخران فلم يصرّح بهما في الروايتين فاعتبارهما يحتاج إلى دليل ، وحرمة اللعب بالملاهي لا تستلزم حرمة ما اقترن بها ، وكذلك التكلّم بالباطل إن سلّمنا حرمته مطلقاً. إلّا أن يقال : إنّ العذر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم الغناء ومطلقاته ما اشتمل على الشروط الثلاث ، والباقي باقٍ تحت العموم والإطلاق ، هذا مضافاً إلى طريقة الاحتياط.

ومنها : الحُداء بالضمّ كدعاء ، وهو صوت ترجّع فيه للسير بالإبل ، وفي المسالك (٦)

__________________

(١) السرائر ٢ : ٢٢٢.

(٢) التذكرة ١ : ٥٨٢.

(٣) المقنعة : ٥٨٨.

(٤) الكافي في الفقه : ٢٨١.

(٥) المراسم : ١٧٠.

(٦) المسالك ٣ : ١٢٦.

٢٢٧

والرياض (١) أنّه سوق الإبل بالغناء. وفي الكفاية (٢) المشهور استثناؤه ، وعن الدروس (٣) وشهادات الشرائع (٤) والقواعد (٥) التصريح بذلك.

وفي الرياض (٦) ينبغي القطع بعدم استثنائه ، ومنعه أيضاً بعض مشايخنا قدس‌سره (٧) استضعافاً لدليله ، إذ ليس إلّا رواية (٨) نبويّة متضمّنة لتقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الله بن رواحه حيث حدى للإبل وكان حسن الصوت. وهو في محلّه ، لضعف الرواية وعدم ثبوت الشهرة الجابرة له ، بل قيل : لعلّ المحقّق خلافها ، مع تطرّق المنع من كون الحداء على صفة الغناء ، ولعلّه كيفيّة مخصوصة غير مندرجة فيه ، بل في كلام بعض مشايخنا (٩) «أنّه قسيم للغناء بشهادة العرف ، وحينئذٍ فهو خارج من الموضوع لا الحكم».

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٥٧.

(٢) الكفاية : ٨٦.

(٣) الدروس ٢ : ١٢٦.

(٤) الشرائع ٤ : ١٢٨.

(٥) القواعد ٢ : ٢٣٦.

(٦) الرياض ٨ : ٢٣٦.

(٧) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٣١٣.

(٨) سنن البيهقي ١٠ : ٢٢٧.

(٩) الجواهر ٢٢ : ٥١.

٢٢٨

النوع الثالث

في معونة الظلمة

وعن الأكثر تقييده بكونه في الظلم (١) وعن جماعة (٢) تقييده بكونه في المحرّم ، ولعلّه يوافق الأوّل بإرادة هذا النوع من المحرّم لا مطلقه لأنّ الإعانة عليه داخل في المعونة على الإثم المنصوص على حرمتها في الآية ، وهذا لا يختصّ بالمظلمة والأصحاب أفردوه بالذكر لخصوصيّة ، ولعلّه تبع منهم للنصوص المأخوذ فيها ذلك عنواناً. وعن نهاية (٣) الشيخ إطلاق العنوان من دون تقييد له بأحد القيدين ، ولعلّ المراد به المقيّد ، وربّما ادّعي الانصراف إليه ولعلّه لتعليق الحكم على الوصف ، ويحتمل كونه بناءً منه على إطلاق المنع من معونة الظلمة في ظلمهم والعمل لهم في المباحات والطاعات أيضاً.

وكيف كان فالعمل للظلمة على أقسام ثلاث :

الأوّل : معونتهم في ظلمهم.

الثاني : العمل لهم بحيث يعدّ العامل من أعوان الظلمة ورجالهم المنسوبين إليهم ـ بأن يقال : فلان كاتب السلطان أو خيّاطه أو معماره أو ناظره ـ وإن لم يكن أصل

__________________

(١) المكاسب ٢ : ٥٣ ، السرائر ٢ : ٢٢٢ ، التحرير ٢ : ٢٦٠ ، الدروس ٣ : ١٦٣ ، اللمعة : ١٠٨ ، جامع المقاصد ٤ : ٢٦.

(٢) حكاه الشيخ البهائي في الأربعين حديثاً : ٢٣٩ ، المقنعة : ٥٨٩ ، المراسم : ١٧ ، الشرائع ٢ : ١٠ ، الكفاية ١ : ٤٣٥ ، الإرشاد ١ : ٣٥٧.

(٣) النهاية : ٣٦٥.

٢٢٩

العمل محرّماً.

الثالث : العمل لهم من غير أن يعدّ من أعوانهم كخياطة ثيابهم والبناء لهم والكتابة لهم ونحو ذلك بأُجرة أو تبرّعاً.

أمّا القسم الأوّل : فحكمه التحريم بلا خلاف ، بالأدلّة الأربع من الإجماع بقسميه.

والعقل المستقلّ فإنّه كما يستقلّ بإدراك قبح الظلم فكذلك يستقلّ بإدراك قبح المعونة للظالم في ظلمه ، بل لك أن تقول : إنّه من الظلم نفسه ، كما حكي «أنّه قيل لبعض : إنّي رجل أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني بذلك داخلاً في أعوان الظلمة؟ قال : المعين من يبيعك الإبر والخيوط ، وأمّا أنت من الظلمة أنفسهم» (١).

والكتاب لعموم قوله عزّ من قائل : «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (٢) ونحو قوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» (٣) فإنّ محبّتهم أو الميل إليهم أو محبّة بقائهم إذا حرم فمعونتهم على الظلم أولى بالتحريم.

والسنّة كالمستفيضة الدالّة على ذمّ أعوان الظلمة ، مضافة إلى خصوص الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في حديث قال : «إيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين» (٤). ورواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العالم بالظلم ، والمعين له ، والراضي به ، شركاء ثلاثتهم» (٥). والمرويّ عن كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث قال : «من تولّى خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنه ونار جهنّم ، وبئس المصير» (٦).

والمرويّ عن كتاب ورّام بن أبي فراس قال : «قال عليه‌السلام : من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام ، قال : وقال عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة ، أين أعوان الظلمة ، أين أشباه الظلمة ، حتّى من برى لهم قلماً ، ولاق لهم

__________________

(١) المكاسب ٢ : ٥٨ ، التحفة السنيّة في شرح النخبة المحسنيّة : ٥٧.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) هود : ١١٣.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٧٧ / ١ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٨ : ١٤ / ٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٧٧ / ٢ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٢ : ٣٣٣ / ١٦.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٨١ / ١٤ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣٣١.

٢٣٠

دواة ، قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» (١). وفي الحديث المتقدّم عن كتاب عقاب الأعمال «ومن علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر ، جعلها الله حيّة طولها سبعون ألف ذراع ، فيسلّطه عليه في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً» (٢)

وأمّا القسم الثاني : فالظاهر أنّه أيضاً حرام وفاقاً لبعض مشايخنا (٣) ولم نقف على قول بخلاف الحرمة.

ويحتمل قويّاً أن يكون المراد من معونة الظلمة في عنواناتهم ما يعمّ ذلك أيضاً ، للنصوص الدالّة على ذمّ أعوان الظلمة :

مثل خبر محمّد بن عذافر عن أبيه قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟ قال : ففزع أبي ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام لمّا رأى ما أصابه : أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني الله عزوجل به ، فقال محمّد : فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتّى مات» (٤).

وخبر ابن أبي يعفور قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا ، فقال له : جعلت فداك أنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما احبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد» (٥).

والشاهد في التعليل وإن كان السؤال في مطلق العمل لهم صدر الجواب ظاهراً في الكراهة ، وتعليله بما ذكر تنبيه على أنّ وجه الكراهة أنّ العمل لهم مطلقاً ربّما يفضي إلى أنّ دخل المعامل في أعوان الظلمة ويعدّ من رجالهم وخواصّهم.

وخبر ابن بنت الوليد ابن صبيح الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيراً» (٦) سابع مقلوب عبّاس كما أنّ رمع

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٨٢ / ١٥ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، تنبيه الخواطر ١ : ٥٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٨١ / ١٤ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، عقاب الأعمال : ٣٣٥.

(٣) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٥٤ و ٥٩.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٧٨ / ٣ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ١٠٥ / ١.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٧٩ / ٦ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٠٧ / ٧.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٨٠ / ٩ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٣٢٩ / ٩١٣.

٢٣١

مقلوب عمر ، ومنه ما روي «أنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع» (١).

وخبر السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة ، أو ربط كيساً ، أو مدّ لهم مدّة قلم فاحشروهم معهم» (٢).

وخبره الآخر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من الله» (٣).

وخبره الآخر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها فإنّ أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله عزوجل» (٤).

وتقدّم في الحديث المنقول عن كتاب ورّام بن أبي فراس قوله عليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة ، وأعوان الظلمة ، وأشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلماً ، ولاق لهم دواة ، قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» (٥).

وأمّا القسم الثالث : فالمصرّح به في كلام جماعة (٦) عدم التحريم ، وفي كلام غير واحد نفي الخلاف ، وربّما يدّعى الإجماع عليه.

نعم في عدّة من الروايات ما يستظهر منه المنع أيضاً ، مثل خبر أبي بصير قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن أعمالهم؟ فقال لي : يا أبا محمّد لا ولا مدّة قلم ، إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله ، أو حتّى يصيبوا من دينه مثله» (٧).

وخبر ابن أبي يعفور المتقدّم ، وخبر يونس بن يعقوب قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تعنهم على بناء مسجد» (٨).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٦٧ / ٦ ، ب ١٤ كتاب القضاء ، الفقيه ٣ : ٦٣ / ٢١٣.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٨٠ / ١١ ، ب ٤٢ كتاب القضاء ، عقاب الأعمال : ٣٠٩ / ١.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٨١ / ١٢ ، ب ٤٢ كتاب القضاء ، عقاب الأعمال : ٣١٠ / ١.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٨١ / ١٣ ، ب ٤٢ كتاب القضاء ، عقاب الأعمال : ٣١٠ / ٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٨٢ / ١٦ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، تنبيه الخواطر ١ : ٥٤.

(٦) كما في السرائر ٢ : ٢٢٢ ، جامع المقاصد ٤ : ٢٦ ، الروضة ٣ : ٢١٣ ، الكفاية : ٨٦.

(٧) الوسائل ١٧ : ١٧٩ / ٥ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٠٦ / ٥.

(٨) الوسائل ١٧ : ١٨٠ / ٨ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٣٨ / ٩٤١.

٢٣٢

وخبر صفوان بن مهران الجمّال قال : «دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام فقال لي : يا صفوان كلّ شي‌ء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً ، قلت : جعلت فداك أيّ شي‌ء؟ قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون الرشيد ـ قلت : والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، فقال لي : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك ، قال : فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراءك؟ قلت : نعم ، قال : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار ، قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني ، فقال : يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك ، قلت : نعم ، قال : ولِمَ؟ قلت : أنا شيخ كبير ، وأنّ الغلمان لا يقومون بالأعمال ، فقال : هيهات هيهات إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر ، قلت : ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال : دع هذا عنك فو الله لو لا حسن صحبتك لقتلتك» (١).

وهذه الأخبار لعدم عامل بها وقصور أسانيدها مطروحة ، أو مؤوّلة فتارةً بالحمل على ما تضمّن من العمل المباح بالذات محرّماً من غصب أو استعمال آلة مغصوبة ونحو ذلك ، واخرى بالحمل على الكراهة كما يشهد له قوله عليه‌السلام : «ما احبّ» في خبر ابن أبي يعفور المتقدّم ، هذا مع تطرّق المنع إلى دلالة بعضها كخبر الجمّال لقضائه بأنّ المرجوح بل المذموم بل الممنوع هو محبّة بقائهم لا نفس العمل لهم ، إلّا أن يكون العمل مقدّمة للمحبّة فليتدبّر.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٨٢ / ١٧ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، رجال الكشّي ٢ : ٧٤٠ / ٨٢٨.

٢٣٣

النوع الرابع

النوح بالباطل

وأصل النوح ذكر الميّت بأوصاف ومدائح على وجه الندبة والتفجّع ، فإن لم يكن فيه هذه الأوصاف والمدائح كان نوحاً بالباطل ، ولذا فسّر الباطل هنا بالكذب ، وإن كانتا فيه كان نوحاً بالحقّ ، وموضوع المسألة هو الأوّل ، وهو محرّم في نفسه عند الأكثر ، وإنّما قيّدناه بالأكثر لأنّ من الأصحاب كالشيخ في ظاهر المبسوط (١) وابن حمزة في الوسيلة (٢) من منع من النوح على الميّت مطلقاً عملاً بظاهر روايات دالّة عليه بإطلاقها وعن الأوّل دعوى الإجماع عليه ، خلافاً للأكثر ففصّلوا بينهما بالمنع في الأوّل وعن المنتهى (٣) الإجماع عليه والجواز في الثاني ، وعن المنتهى الإجماع عليه أيضاً جمعاً بين الأخبار المختلفة بالمنع والتجوّز. والظاهر أنّ النياحة على أهل بيت العصمة من النبيّ والصدّيقة والأئمّة عليهم‌السلام لأنّ الجواز بل الاستحباب فيه معلوم بالضرورة من المذهب (٤) وعلى هذا فالاستدلال للجواز بالموثّق عن أبي عبد الله قال : «قال لي أبي : يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى» (٥) ليس على ما ينبغي لأنّ الجواز في مورد الموثّقة ليس من محلّ البحث.

وكيف كان فمن الأخبار المانعة ما في حديث المناهي «إنّه نهى عن النياحة

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٨٩.

(٢) الوسيلة : ٦٩.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠١٢.

(٤) كذا في الأصل.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٢٥ / ١ ، ب ٤٢ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٧ / ١.

٢٣٤

والاستماع إليها» (١) وفي المرويّ عن الخصال «إنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من حرب» (٢) وفي حديث «من اصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها» (٣) وعن المرويّ في معاني الأخبار في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة عليها‌السلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ النياحة» (٤).

ومن المجوّزة الصحيح المتضمّن لترخيص النبيّ وتقريره نياحة امّ السلمة على أخيها الوليد (٥) والصحيح الآخر «لا بأس بأجر النائحة الّتي تنوح على الميّت» (٦) والمرسل «وسئل الصادق عليه‌السلام عن أجر النائحة؟ فقال : لا بأس به قد نيح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٧) والآخر «لا بأس بكسب النائحة إذا قالت : صدقاً» (٨).

والأكثر حملوا الأوّلة على النوح بالباطل ، والاخرى على النوح بالحقّ ، ولعلّ الشاهد إجماع المنتهى أو المرسلة الأخيرة ، أو أنّ الأوّلة نصّ في الباطل وظاهر في الحقّ والاخرى نصّ في الحقّ وظاهر في الباطل ، فطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. وإجماع الشيخ موهون بمصير الأكثر إلى خلافه مع معارضته بأقوى منها وهو إجماع المنتهى.

وربّما حملت الأخبار المانعة على التقيّة ، أو على الكراهة ، وقد يستشهد له بالمرويّ عن كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن النوح على الميّت أيصلح؟ قال : يكره» (٩) والمرويّ عن قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن النوح؟ فكرهه» (١٠) وفيه نظر.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٢٨ / ١١ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الفقيه ٤ : ٣ / ١.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٢٨ / ١٢ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الخصال : ٢٢٦ / ٦٠.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٢٧ / ٥ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٢ / ١١.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٧٥ / ٥ ، ب ٨٣ أبواب الدفن ، معاني الأخبار : ٣٩٠ / ٣٣.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٢٥ / ٢ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٧ / ٢.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٢٧ / ٧ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٩ / ١٠٢٨.

(٧) الوسائل ١٧ : ١٢٨ / ١٠ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الفقيه ١ : ١١٦ / ٥٥١.

(٨) الوسائل ١٧ : ١٢٨ / ٩ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الفقيه ٣ : ٩٨ / ٣٧٨.

(٩) الوسائل ١٧ : ١٢٩ / ١٣ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٦ / ٢٢١.

(١٠) الوسائل ١٧ : ١٢٩ / ١٤ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، قرب الإسناد : ١٢١.

٢٣٥

نعم ربّما يستشمّ الكراهة من حديث «من اصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها» (١) ومن الخبر «من أقام النياحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه» ولكنّهما لا يقاومان أخبار المنع المصروفة إلى النوح بالباطل. نعم الكراهة في النوح بالحقّ عملاً بهما غير بعيدة ، وربّما يؤيّده نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ نياحة» ضرورة أنّ النياحة الّتي تقيمها فاطمة عليها‌السلام لا تكون بالباطل ، فيكون النهي مصروفاً إلى الكراهة جمعاً بينه وبين ما هو أقوى منه سنداً ودلالة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٢٧ / ٥ ، ب ١٧ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٢ / ١١.

٢٣٦

النوع الخامس

حفظ كتب الضلال

فإنّه حرام كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، وعن منتهى (١) العلّامة نفي الخلاف عنه ، كما هو المصرّح به أيضاً في التذكرة (٢). والمراد به على ما يستفاد من كلماتهم ما يعمّ صيانة نفس الكتاب عن التلف والاندراس ونسخه ، وحفظ المكتوب على ظهر القلب وتعليمه وتعلّمه.

ودليله من الروايات ما في رواية تحف العقول من قوله عليه‌السلام : «وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله عزوجل ، أو يقوّى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك».

وما أرسله في المستند من رواية الحذّاء «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به» (٣).

وجه الاستدلال بالرواية الاولى على ما قيل : إنّ المراد بـ «ما يتقرّب به لغير الله» إنّما هو الأصنام ونحوه ، وب «ما يقوّى به الكفر والشرك» إنّما هو بيع السلاح لأعداء الدين ، وب «باب يوهن به الحقّ» كتب الضلال ونحوه ممّا يوجب الإضلال وحصول الضلال.

والضلال قد يطلق على ما يرادف البطلان ، ومنه قوله تعالى : «وأضلّ أعمالهم» (٤)

__________________

(١) المنتهى ٢ : ١٠١٣.

(٢) التذكرة ١٢ : ١٤٤.

(٣) الوسائل ١٦ : ١٧٢ / ٢ ، ب ١٦ من أبواب الأمر والنهي ، الكافي ١ : ٣٥ / ٤.

(٤) محمّد (ص) : ١.

٢٣٧

فالمراد من كتبه حينئذٍ الكتب المشتملة على المطالب الباطلة.

وقد يطلق على ما يقابل الهداية وهذا شائع ، فالمراد من كتبه حينئذٍ ما قصد بوضعه الإضلال وحصول الضلالة ، أو ما يوجب الضلالة سواء قصد بوضعه ذلك أو لا؟ وسواء ترتّب الضلال على اسلوبه وتأليفه كما فيما ابتدعه الفرقة الضالّة المضلّة ، أو على مطالبه المندرجة فيه المنافية لدين الإسلام أو مذهب الفرقة المحقّة الناجية.

والظاهر أنّ موضوع المسألة هو هذا المعنى لا المعنى الأوّل ، لأنّه القدر المتيقّن من معقد نفي الخلاف وعليه ينطبق الرواية. وأمّا المعنى الأوّل فما كان من المطالب الباطلة مرتبطاً بالعقائد الّتي عليها مدار الهداية والضلالة فهو داخل في المعنى الثاني ، وما كان منها من قبيل الأباطيل والأكاذيب والإغراقات كما في بعض كتب السير والتواريخ. أو الغزليّات والهزليّات كجملة من كتب الشعراء فلا دليل على حرمة حفظها بشي‌ء من معنييه.

ويندرج في المعنى الثاني الّذي هو المبحوث عنه من كتب العامّة ما اشتمل على إثبات خلافة الثلاثة وتفضيلهم وإثبات الفضائل لهم ، وما اشتمل على إثبات الجبر أو التفويض أو التجسيم أو الرؤية ، وما اشتمل على أحاديثهم المجعولة في هذه المطالب المنكرة من كتب أحاديثهم. وأمّا كتب أحاديثهم المتعلّقة بالفروع فلا يندرج فيه ، وكذلك كتبهم في الفقه واصول الفقه والتفسير والنحو والصرف واللغة ، وغيرها من العلوم العربيّة ، لعدم الإضلال في شي‌ء من ذلك.

ويندرج فيه من الكتب الشيخيّة ما اشتمل على إثبات العلل الأربعة في شأن الأئمّة عليهم‌السلام أو خصوص التفويض لأمر الخلق والرزق والإحياء والإماتة إليهم ، وعلى إنكار المعاد والمعراج الجسمانيّين ، ومن كتب العرفاء والمتصوّفة ورسائلهم ما اشتمل على مطالب منكرة ولو بمقتضى ظواهر ألفاظها القابلة للتأويل قريباً أو بعيداً من إثبات الجبر ووحدة الوجود ودعوى الالوهيّة أو الولاية ، ومن كتب الفلاسفة ما اشتمل على وحدة الوجود أو غيرها من المنكرات.

ثمّ إنّ مرجع حرمة الحفظ إلى وجوب الإعدام والإتلاف ولو بمحو موضع الضلال

٢٣٨

أو حكّه أو قطع الصفحة أو الورقة الّتي هو فيها. فما كان من كتب الضلال ما يترتّب الضلال على مجرّد اسلوبه وتأليفه كبيان هؤلاء الفرقة الضالّة المضلّة ، أو كان جميع مطالبه المندرجة فيه ضلالاً فطريق إعدامه إزالة خطوطه بالماء ، أو دفنه في التراب حتّى يبلو ، أو رضّ كواغذه وإلقاء رضاضها في الماء أو الصحراء أو غير ذلك.

وما كان منها مع اشتماله على المطالب الضالّة مشتملاً على مطالب حقّة أيضاً فإن أمكن إفراد موضع الضلال بالإعدام بمحو أو قطع ورق أو نحو ذلك يقتصر عليه ولا يجب إعدام غيره بل لا يجوز لو كان له ماليّة أو كان مال الغير لكونه محترماً ، وإن لم يمكن إفراده بالإعدام بل يتوقّف على إعدام الجميع وإتلافه وجب ذلك حسماً لمادّة الفساد ، ولأنّ الشارع أسقط احترامه حينئذٍ ، ولو كان لجلده أو وعائه ماليّة اخذ صوناً للمال المحترم عن التلف والضياع ، ولو كان لغيره فلإتلافه تبعاً لإتلاف الكتاب يوجب الضمان.

ولا يندرج الكتب السماويّة الغير المحرّفة في الكتب الضالّة وإن كانت منسوخة فلا يلحقها حكّها ، وأمّا المحرّفة منها كالموجود في يد اليهود والنصارى اليوم المسمّى عندهم بالتوراة والإنجيل ففي اندراجها ولحوق الحكم بها وعدمه وجهان : من أنّها لا توجب للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة ، ومن أنّها توجبها لليهود والنصارى ، والأقرب الأوّل للأصل.

ثمّ يدخل في الحفظ المحرّم ، كلّ ما له دخل في بقاء المطالب المضلّة والوقوع في الضلالة من النسخ والحفظ على ظهر القلب والمذاكرة والمطالعة والمراجعة وغيرها.

واستثني عنه صور ، منها : الحفظ لنقض دليل أهلها من كلامهم ليكون المجادلة بالّتي هي أحسن ، أو الاحتجاج عليهم ، أو إلزامهم على الحقّ ، وقد يقال في ضبط هذه الثلاث : إنّ الأوّل إبطال لدليل الخصم بما هو من مذهبه ، والثاني إبطال لمذهبه بما هو من مذهبه ، والثالث إثبات حقّيّة مذهبك بما هو من مذهبه. والاطّلاع على مطالبهم ليحصل به التقيّة أو لمجرّد الاطّلاع على الآراء والمذاهب إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة ، ولذا قال في جامع المقاصد ـ على ما حكي ـ : «إنّ فوائده كثيرة» (١).

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٦.

٢٣٩

والدليل على الاستثناء بعد ظهور عدم الخلاف فيه قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : «إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك».

ويعتبر في مواضع الاستثناء الأهليّة لمن استثني في حقّه ، وضابطها أن يطمئنّ على نفسه من الضلالة بالإذعان والقبول للمطلب المضلّ ، فإنّ النفس سارقة «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١).

__________________

(١) يوسف : ٥٣.

٢٤٠