ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

وربّما نزّل إطلاق من أطلق بالنسبة إلى غير ذي روح وغيره على المقيّدة بذي الروح استناداً إلى التبادر.

وربّما نسب إلى جماعة دعوى اختصاص الصورة بذي الروح خلافاً للمجلسي (١) على ما حكي لتعميمه لها بالنسبة إلى القسمين ناسباً له إلى ظاهر الأصحاب.

ولا ينبغي أن يرجع هذا الاختلاف إلى وضع الصورة بحسب العرف أو اللغة ، إذ الظاهر من كلام أئمّة اللغة كونها لغة للأعمّ ، ولذا فسّرها في القاموس (٢) بـ «الشكل» وفسّر الشكل : «بالشبه والمثل ، ثمّ قال : وواحد الأشكال للُامور المختلفة المشكلة وصورة الشي‌ء المحسوسة والمتوهّمة» (٣).

وقال الطريحي في المجمع «والصورة : عامّة في كلّ ما يصوّر مشبهاً بخلق الله من ذوات الروح وغيرها ، قاله في المغرب» (٤).

ولا يصحّ سلبها عرفاً عن صور الشجر وغيرها من الصور الغير الحيوانيّة ، نعم لا نضايق غلبة إطلاقها على الصور الحيوانيّة والتبادر المدّعى فيه نشأ من ذلك ، فلا ينافي الوضع للأعمّ.

فلا بدّ وأن يرجع إلى تشخيص موضوع الحكم إطلاقاً وتقييداً ، ولعلّ من يدّعي الاختصاص فهم ذلك من أدلّة الحكم ، أو أخذ بموجب التبادر الإطلاقي.

وعلى أيّ حال كان فنحن نتكلّم أوّلاً في حكم أخصّ الصور ـ وهو عمل الصورة المجسّمة من ذوات الروح ـ فنقول : لا إشكال في تحريمه بلا خلاف يظهر فتوى ونصّاً ، وقيل (٥) الإجماع بقسميه بل المنقول منه مستفيض ، للروايات المستفيضة.

كقوله في رواية تحف العقول : «وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني ... إلى أن قال : فحلال فعله وتعليمه والعمل به لنفسه أو لغيره» دلّ بمفهوم القيد على عدم الحلّ في عمل ما كان مثال الروحاني.

__________________

(١) البحار ٨٣ : ٢٤٣ ـ ٢٤٥ كتاب الصلاة في النهي عن الصلاة في الحرير.

(٢) القاموس ٢ : ٧٣. (صور).

(٣) القاموس ٣ : ٤٠١. (شكل).

(٤) مجمع البحرين ٢ : ٦٤٤. (صور).

(٥) كما في الجواهر ٢٢ : ٤١.

٢٠١

والموثّق كالصحيح بأبان بن عثمان المجمع على تصحيح ما يصحّ منه عن أبي العبّاس عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» (١) فقال : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه» (٢) يدلّ إنكاره عليه‌السلام المؤكّد بالقسم على المنع من عمل تماثيل الرجال والنساء بل على عدم اختصاصه بشرع هذه الامّة.

وصحيح محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان» (٣) يدلّ على ثبوت البأس الظاهر في المنع ، خصوصاً مع ملاحظة وروده في مقام توهّم الحظر في تمثال الحيوان.

وقوله عليه‌السلام في حديث المناهي المرويّ عن الفقيه : «نهى رسول الله عن التصاوير ، وقال : من صوّر صورة كلّفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها ، وليس بنافخ ...» (٤) الخ.

والموثّق كالصحيح أيضاً بعبد الله بن مسكان المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : ثلاثة يعذّبون يوم القيامة من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها» (٥) الخ.

والخبر المرويّ عن الخصال باسناده عن ابن عبّاس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بفاعل ...» (٦) الخ.

وقد يستشكل فيما تضمّنته هذه الثلاث الأخيرة من تكيف المصوّر في دار الآخرة بنفخ الروح فإنّه من التكليف بغير المقدور. والاعتذار له بأنّه إنّما يقبح في دار التكليف لا مطلقاً ، يدفعه عدم قبول الأحكام العقليّة للتخصيص. ويمكن دفعه ـ مع أنّ العقوبات الاخرويّة كلّها خارجة عن حدّ الوسع والطاقة ولا يتحمّلها النفوس الضعيفة ـ بأنّ

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٩٥ / ١ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٥٢٧ / ٧.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٩٦ / ٣ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، المحاسن : ٦١٩ / ٥٤.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٩٧ / ٦ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، الفقيه ٤ : ٥٠٣ / ١.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٩٧ / ٧ ، ب ٤٩ ما يكتسب به ، الخصال : ١٠٨ / ٧٦.

(٦) الوسائل ١٧ : ٢٩٧ / ٩ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، الخصال : ١٠٩ / ٧٧.

٢٠٢

التكليف المذكور ليس تكليفاً حقيقيّاً بل هو نحو من التكليف الابتلائي ، ويقصد به توجيه العذاب والعقاب إلى المصوّر على ترك النفخ ومخالفته ، ولو كان لعدم القدرة على الفعل والإطاعة والعرض الأصلي منه تشديد العذاب وتغليظ العقاب حيث علّق رفعه على أمر غير مقدور فيدوم دوام عدم القدرة عليه ، وكلّ ذلك من آثار العصيان الاختياري الصادر منه في دار الدنيا فيكون من آثار الاختيار فلا قبح فيه.

وقد يدفع الإشكال بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وردّ بأنّ مورد هذه القضيّة هو الممتنع بالامتناع العرضي الّذي كان عروض الامتناع مسبّباً عن اختيار المكلّف كالوضوء ممّن قطع مواضع وضوئه ، وهو فيما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ امتناع نفخ الروح ذاتي.

ويدفعه منع اختصاص هذه القاعدة عند قائلها بالممتنع العرضي بل يجرونها في غيره ، ومرادهم بها أنّ التكليف بالممتنع الّذي تسبّب ذلك التكليف من اختيار المكلّف لا قبح فيه ، من غير فرق فيه بين الممتنع العرضي الّذي عروض الامتناع كان من اختيار المكلّف وغيره. ولذا تراهم يجرونها فيمن توسّط دار قوم غصباً وعدواناً فقالوا : إنّه مأمور بالخروج ومنهيّ عنه ، مع أنّ الجمع بين الخروج وعدمه جمع بين المتناقضين وهو ممتنع ذاتاً ، واعتذروا له بأنّ المكلّف صار نفسه سبباً للتكليف بالممتنع حيث دخل الدار عصياناً باختياره.

والّذي يسهل الخطب في دفع الكلام المذكور هو أنّ التكليف بالنفخ ليس على حقيقة التكليف ، بل هو كناية عن تشديد العذاب وتغليظ العقاب حسبما بيّنّاه ، ولذا ذكر في رواية ابن مروان «يعذّب حتّى ينفخ فيها» وفي رواية الخصال «عذّب وكلّف أن ينفخ فيها» (١) ولو تحقّق معه صورة تكليف فهو نحو من التكليف الابتلاء في الّذي لا يقصد منه إلّا تشديد العذاب وتغليظ العقاب.

وهل الحكم يتعدّى إلى صور غير ذات الروح ـ كالشجر والنخلة والرياحين والشمس والقمر وغيرها ـ أو لا؟ قولان ، نسب ثانيهما في الرياض (٢) إلى جماعة

__________________

(١) الخصال : ١٠٩ / ٧٧.

(٢) الرياض ٨ : ١٥٢.

٢٠٣

كالشيخين (١) والمتأخّرين (٢) كافّة. وهو الأقوى ، للأصل ، وعدم دليل على المنع في غير ذات الروح خصوصاً ولا عموماً ، بل الدليل على الجواز من جهة الأخبار موجود كصريح ما عرفت عن تحف العقول ، ويقرب منه في الصراحة ما في الموثّق كالصحيح المتقدّم في قوله تعالى : «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» (٣) إلى آخره وصريح صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، مضافاً إلى الصحيح أيضاً عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا بأس بتماثيل الشجر» (٤) وإلى أخبار التكليف بنفخ الروح ، لأنّه من خصائص الحيوان فلا يتمشّى في الصور الغير الحيوانيّة.

وهل يتعدّى الحكم إلى المنقوشة من الصور الحيوانيّة أو لا؟ قولان ، أقواهما الأوّل وإن كان قد يستظهر من الأمر بنفخ الروح اختصاصه بالمجسّمة ، لأنّ نفخ الروح لا يكون إلّا في الجسم.

وردّ بأنّ النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه أو بملاحظة اللون الّذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ ، أو بدون اعتبار الجسميّة كما في أمر الإمام عليه‌السلام الصورة الأسديّة المنقوشة على البساط بأخذ الساحر في مجلس الخليفة ، ويمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرناه في توجيه التكليف بنفخ الروح مع كونه ممتنعاً فإنّه لا ينوط بالمقدوريّة ، وإذا كان نوعاً من التكليف الابتلائي يقصد به تشديد العذاب وتغليظ العقاب فلا ريب أنّه في غير المجسّمة أبلغ وآكد.

وبالجملة الأمر بنفخ الروح لا ينهض قرينة على الاختصاص ، ولو سلّم فغاية ما قضت به القرينة هو اختصاص التكليف بنفخ الروح بالمجسّمة ، وهذا لا ينافي كون المنقوشة أيضاً يعاقب على عملها ولا لتحريم عملها إذا قضت به نصوص المنع عموماً من جهة الإطلاق. ولا يجري هنا قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، لعدم جريانها في المنفيّين من جهة عدم التنافي فيعمل بهما معاً.

__________________

(١) كما في المقنعة : ٥٨٧ ، النهاية ٢ : ٩٧.

(٢) كما في جامع المقاصد ٤ : ٢٣ ، مجمع البرهان ٨ : ٥٤ ، التنقيح ٢ : ١١ ، الكفاية : ٨٥.

(٣) سبأ : ١٣.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٩٦ / ٢ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، المحاسن : ٦١٩ / ٥٥.

٢٠٤

فلنا على عموم المنع ما في رواية التحف من قوله عليه‌السلام : «ما لم يكن مثال الروحاني» فإنّه مطلق في المجسّمة والمنقوشة معاً ، ونحوه قوله عليه‌السلام : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء» فإنّه أيضاً يعمّ المنقوشة ، مضافاً إلى ما في صحيح محمّد بن مسلم «سألت أبا عبد الله عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان» (١) فإنّه يعمّ المنقوش أيضاً.

بل قد يقال : إنّ ذكر الشمس والقمر هنا قرينة على أنّ مورد الرواية سؤالاً وجواباً التماثيل المنقوشة هذا ، مضافاً إلى ما في حديث المناهي من قوله : «ونهى أن ينقش شي‌ء من الحيوان على الخاتم» (٢) ويتمّ في غير الخاتم بعدم القول بالفصل.

وليس للقول بعدم المنع في المنقوش إلّا الأصل ، ويدفعه : ما عرفت من وجود الدليل على المنع عموماً وخصوصاً. والنصوص الدالّة فعلاً وقولاً على جواز الجلوس والوطء على البساط أو الوسادة عليه التماثيل ، ويدفعه ـ مع قصور بعضها سنداً ومعارضتها بالموثّق كالصحيح الظاهر في المنع ـ من منع الدلالة إذ لا صراحة لها في تماثيل الحيوان فيحمل على غيرها جمعاً. ولو سلّم الصراحة في الحيوان أو الحمل على إرادة العموم فالرخصة في الجلوس على الصورة المنقوشة لا تلازم الرخصة في تصويرها ، ولا تنافي تحريمه كما هو واضح. والإجماع على عدم الفصل غير ثابت.

ثمّ إنّ المرجع في الصورة الّتي يحرم تصويرها وفي معرفة مصاديقها العرف كما هو الأصل في موضوعات الأحكام ، فهاهنا فروع :

الأوّل : لا فرق في تحريم عمل الصورة بين هيئاتها كهيئة القائم والجالس والمضطجع والراكب وغيرها ، لعموم الأدلّة وصدق الصورة في الجميع.

الثاني : نقص الصورة ببعض أجزائها لا ينفع في رفع تحريم عملها كما لو كانت بلا عين أو بدون اليد أو مقطوعة الرأس أو نحو ذلك ، لصدق الاسم عرفاً على الناقصة ، بل مورد الأدلّة ليس إلّا الناقصة لاستحالة تصوير التامّة بحيث يشتمل على جميع الأعضاء والجوارح المخلوقة في الممثّل. وما ورد في رجحان تغييرها بقلع عينها أو

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٩٦ / ٣ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، المحاسن : ٦١٩ / ٥٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٩٧ / ٦ ، ب ٩٤ ما يكتسب به ، الفقيه ٤ : ٣ / ١.

٢٠٥

كسر رأسها فهو حكم آخر لا يلازم جواز تصوير الناقصة.

الثالث : لا يحرم عمل بعض أجزاء الحيوان كيد أو رجل بل رأس لعدم صدق الصورة والمثال ، بل ولو شكّ في الصدق لكفى في نفي التحريم للأصل.

الرابع : لو صوّر نصفاً من الحيوان بأن يصوّر من رأسه إلى وسطه فإن قدّر نصفه الآخر كما لو قصده جالساً فقد اتّضح حكمه في الفرع الأوّل ، وإن قصد ابتداءً تصوير الناقص إلى النصف ففي لحوقه بالتامّ إشكال : من صدق المثال الروحاني والصورة عليه ، وعدمه. وعلى تقدير الاشتباه بحسب العرف فالأصل يقتضي الجواز ، ولكنّ الاحتياط واضح. وأولى منه بعدم المنع النصف الآخر من الوسط إلى أصابع الرجلين.

الخامس : لو شرع بالتصوير بقصد التمام فإذا بلغ النصف أو أقلّ بدا له في عدم الإتمام ، فحرمة ما فعله بناءً في الفرع السابق على عدم تحريم تصوير النصف وأقلّ مبتنية على مسألة التجرّي وكونه موجباً لقبح الفعل المتجرّى به ، والأقوى على ما حقّقناه في محلّه خلافه ، وعلى هذا فلا حرمة على البناء المذكور.

السادس : لو بدأ بالتصوير قاصداً للناقصة وإذا بلغ منتهى ما قصده فبدا له الإتمام ، فالوجه تعلّق الحرمة لصدق تصوير الصورة حينئذٍ ، وهل قصده الإتمام علّة كاشفة عن سبق التحريم من أوّل الأمر أو علّة محدثة له من حينه؟ الأقرب الثاني للأصل ، وحينئذ فلو شهد حال الاشتغال قبل ما بدا له الإتمام قبل شهادته لتأخّر وقوع القادح في العدالة المانع من قبول الشهادة عن أدائها.

السابع : الظاهر لحوق تصوير صورة الملك والجنّ بتصوير صورة الحيوان في التحريم ، لعموم مثال الروحاني و «من صوّر صورة كلّفه الله تعالى ... الخ» ويؤيّده ما قيل من أنّ الحكمة المقتضية لتحريم عمل الصور مبغوضيّة التشبّه بالخالق في اختراع ما أبدعه بصنعه اللطيف.

الثامن : لو صوّر صورة تخيّلها صورة حيوانيّة ولا مماثل لها فيما بين أنواع الحيوانات ، ففي لحوقها بصور الحيوانات الموجودة احتمال غير بعيد إن لم نقل بكونه قويّاً ، لقوّة احتمال العموم في مثل «من صوّر صورة» وأقوى منه قوله : «نهى النبيّ عن التصاوير».

التاسع : لو اشترك اثنان في تصوير الصورة ، فإن اشتغلا من البداية إلى الإكمال

٢٠٦

شملهما التحريم لعموم الأدلّة ، وإن كان بحيث صوّر أحدهما إلى النصف مثلاً ثمّ أكمله الآخر ففي شمول التحريم لهما ، أو اختصاصه بالأوّل لأنّه المبدع ، أو بالثاني لأنّه الموجد للصورة بإتمامها ، وعدم تحريم بالنسبة إليهما لعدم صدق تصوير صورة في حقّ واحد منهما؟ احتمالات ، ثالثها لا يخلو عن قوّة ، والاحتياط منهما إذا كان الأوّل حين شروعه قاصداً إلى تصوير صورة تامّة ولو باشتراك غيره لا يترك ، بل التحريم بالنسبة إليه حينئذ قويّ.

تذنيب : يجوز اقتناء الصورة بعد ما صوّرت واستعمالها وبيعها وشراؤها والتزيين بها في البيت ، ومرجعه إلى أنّه لا يحرم إبقاؤها ولا يجب إعدامها بكسر المجسّمة منها ومحو المنقوشة ، فلا تكون كآلات اللهو وأواني الذهب والفضّة اللتين تقدّم حرمة إبقائهما ووجوب كسرهما ، وفاقاً لغير واحد من مشايخنا (١) العظام قدّس الله تعالى أرواحهم بل عن المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد (٢) أنّه المستفاد من الأخبار الصحيحة وأقوال الأصحاب ، بل في كلام بعض مشايخنا إمكان دعوى الإجماع عليه ، للأصل المعتضد بما عرفت مع عدم دليل معتبر صارف عنه ، مضافاً إلى النصوص المعتبرة الدالّة على الجواز ، سيّما المستفيضة القريبة من التواتر الواردة في لباس المصلّي فيه التماثيل والصور وفي بيته الّذي فيه التماثيل والصور الدالّة على كراهة الصلاة ، مع دلالة جملة منها على علاج الكراهة في الصلاة بقلع عينها أو كسر رأسها أو سترها ، وقد تقدّمت في كتاب الصلاة مشروحة.

خلافاً للشيخين (٣) والحلّي (٤) لما يظهر من عبائرهم المحكيّة عن المقنعة والنهاية والسرائر من المنع. وربّما استدلّ لهم بروايات أكثرها ضعاف الأسانيد غير واضحة الدلالات ، مع معارضتها بما هو أقوى منها من جهات شتّى ، مع احتمالها الكراهة فليحمل عليها جمعاً.

ولقد تصدّى لذكرها والجواب عنها مشروحة شيخنا قدس‌سره (٥) في متاجره.

__________________

(١) ١ و ٥ الجواهر ٢٢ : ٤٤.

(٢) مجمع البرهان ٨ : ٥٨.

(٣) المقنعة : ٥٨٧ ، النهاية ٢ : ٩٧.

(٤) السرائر ٢ : ٣٢٨.

٢٠٧

النوع الثاني

الغناء

وينبغي أولاً التعرّض لمعناه لتشخيص موضوع الحكم فنقول : قد اختلفت كلمات الفقهاء وأهل اللغة في تفسيره ، فعن المصباح المنير «أنّه الصوت» (١) وعن الحلّي في السرائر (٢) والشيخ القطيفي في إيضاح النافع «أنّه الصوت المطرب» (٣).

وفي معناه ما عن القاموس من «أنّ الغناء : ككساء من الصوت ما طُرِّب به» (٤) وعن بعضهم «أنّه الصوت المشتمل على الترجيع» (٥).

وفي المجمع وشرح النافع الصغير للسيّد «أنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب» (٦) وعن الغزالي «أنّه الصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب» (٧) وعن الشافعي «أنّه تحسين الصوت وترقيقه» وعن نهاية ابن الأثير «أنّ كلّ من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء» (٨) وعن بعض «أنّه مدّ الصوت» (٩) وعن آخر «أنّه ترجيع الصوت» (١٠) وعن ثالث «أنّه إطراب الصوت» (١١) وعن بعض كتب اللغة كما عن

__________________

(١) المصباح المنير : ١٠٩.

(٢) السرائر ٢ : ١٢٠.

(٣) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ١٦٩.

(٤) القاموس المحيط ٤ : ٣٧٢.

(٥) نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن ، المستند ١٤ : ١٢٥.

(٦) مجمع البحرين ٤ : ٣٣٥.

(٧) إحياء علوم الدين ٢ : ٢٧٠.

(٨) النهاية ابن الأثير ٣ : ٣٩١.

(٩) نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن ، المستند ١٤ : ١٢٥.

(١٠) نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن ، المستند ١٤ : ١٢٥.

(١١) نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن ، المستند ١٤ : ١٢٥.

٢٠٨

شهادات القواعد «أنّه ترجيع الصوت ومدّه» (١) وعن بعض «أنّه ترجيع الصوت وتطريبه» (٢) وفي كلام جماعة من الأصحاب المنسوب إلى المشهور «أنّه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب» (٣).

وينبغي القطع بأنّه ليس مطلق الصوت ، وما سمعته عن المصباح المنير لعلّه قصد به بيان أنّه من جنس الصوت على حدّ ما في قولهم «السعدانة نبت» ولا مدخليّة للحسن في كون الصوت غناء لإجماعهم ظاهراً على عدم كون الصوت الحسن من الغناء ، ولا يكفي في تحقّقه مجرّد مدّ الصوت ورفعه ولا موالاته كما يستفاد من النهاية ، بل يعتبر فيه مع المدّ والرفع شي‌ء آخر من الترجيع أو الإطراب أو كليهما.

وهل هو صوت مكيّفة بكيفيّة مخصوصة أو كيفيّة مخصوصة في الصوت ، ومرجعه إلى أنّ ما اعتبر فيه من الصفات هل هي فصول الغناء أو أجناسه؟ احتمالان ، ولا يبعد كونهما قولين كما يومئ إليه اختلاف عباراتهم المذكورة.

ويمكن الجمع بين العبارات المذكورة بدعوى أنّه لا خلاف لأحد في كون الغناء بحسب أصل اللغة عبارة عن الصوت المخصوص ، ولا ينافيه إضافة التحسين أو المدّ أو الترجيع أو الإطراب أو غير ذلك إليه كما في كلام جماعة ، لأنّ مقصودهم بذلك بيان الموضوع على الوجه الّذي يصحّ أن يتعلّق به الحكم الشرعي وهو التحريم ، فإنّ الصوت في معنى الغناء في أصله عرض من مقولة الكيف لأنّه عبارة عن الكيفيّة القائمة بالهواء المعتمد على مقطع الفم ، وهو بهذا الاعتبار لا يصلح متعلّقاً للتحريم الّذي لا يتعلّق إلّا بفعل المكلّف فلا بدّ وأن يضاف إليه في تعلّق التحريم ما يكون من مقولة الفعل كالرفع أو التحسين أو الترجيع أو الإطراب أو الردّ فأضاف من هذه الأفعال كلّ من ترجّح في نظره شي‌ء منها فلا نزاع في معنى الغناء وأنّه عبارة عن صوت مخصوص.

ويمكن على تقدير النزاع في معناه حسبما بيّنّاه ترجيح قول من جعله عبارة عن كيفيّة مخصوصة في الصوت ، بتقريب أنّ الغناء بحسب أصل وضع اللغة وإن احتمل

__________________

(١) القواعد ٣ : ٤٩٥.

(٢) كما في الإرشاد ٢ : ١٥٦ ، التحرير ٥ : ٢٥١.

(٣) كما في الرياض ٨ : ١٥٥ ، المفاتيح ٢ : ٢٠ ، المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٢٩١.

٢٠٩

كونه اسماً مطلقاً موضوعاً للصوت الّذي هو عرض من مقولة الكيف أو اسم مصدر بمعنى التغنّي كالوضوء للتوضّؤ والغسل للاغتسال والسلام للتسليم والكلام للتكليم ، أو مصدراً وإن لم يأت من جنسه فعل بل الفعل من هذه المادّة إنّما أتى من باب التفعّل ومن باب التفعيل كما ضبطه صاحب القاموس ، إلّا أنّ أرجح الاحتمالات هو الأخير نظراً إلى قاعدة الاشتقاق فإنّ بابي التفعّل أو التفعيل من هذه المادّة لا بدّ وأن يؤخذ من مصدر مجرّد ، ولا بدّ وأن يكون لهما مبدأ حدثي يكون من المصادر المجرّدة ولا يصلح له إلّا لفظ الغناء فيكون مصدراً ، فلا بدّ وأن يكون قد اخذ في معناه معنى حدثي يكون من مقولة الفعل ، وهو لا يخلو عن أحد الامور المذكورة.

ويؤيّد كونه مصدراً أيضاً صحّة تعلّق التحريم وغيره من الأحكام التكليفيّة ، فإنّها وإن احتمل كونها منوطة بتقدير فعل إلّا أنّ الأصل عدم التقدير.

ويؤيّده أيضاً أنّه عبّر عنه في عدّة آيات من الكتاب العزيز بما هو ظاهر في الفعل كقول الزور في قوله : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (١) و لَهْوَ الْحَدِيثِ في قوله تعالى : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (٢) الآية ، واللغو في قوله تعالى : «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» (٣) لما ورد في الروايات من تفسير هذه الألفاظ بالغناء ، وهي ظاهرة المعاني الحدثيّة المصدريّة فيكون الغناء أيضاً مصدراً فتأمّل.

وكيف كان ففي كلام جماعة من الأصحاب إحالة معرفة حقيقة الغناء واستعلام ما اخذ في مفهومه من الخصوصيّات كرفع الصوت ومدّه وحسنه وترجيعه والتطريب به إلى العرف ، لمكان قولهم «أو ما يسمّى في العرف غناء» كما في المسالك (٤) والروضة (٥) والرياض (٦) وغيرها (٧).

وهذا في خصوص هذا اللفظ لا يخلو في بادئ النظر عن إشكال ، لعدم إمكان التوصّل إلى عرف العرب القحّ وهم الممحضون في العربيّة ولم يخالطهم العجميّة ، وعدم

__________________

(١) الحجّ : ٣٠.

(٢) لقمان : ٦.

(٣) المؤمنون : ٣.

(٤) المسالك ٣ : ١٢٦.

(٥) الروضة ٣ : ٢١٢.

(٦) الرياض ٨ : ١٥٥. (٧) كما في التنقيح ٢ : ١١.

٢١٠

الاعتداد بعرف السواد من العرب كأهل العراق ومن ضارعهم لشوب العجميّة فيهم مع اضطراب عرفهم في هذا اللفظ بالخصوص ، وعدم وجود مرادف من لغة الفرس وغيرها من لغات الاعجام لهذا اللفظ حتّى يستعلم حقيقته بمعرفة حقيقة مرادفه بالرجوع إلى عرف الفرس وغيره.

وما في المستند من «أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما يقال له بالفارسيّة سرود» (١) وعن الصحاح «أنّه ما يسمّيه العجم بدو بيتي» لا يجدي نفعاً في المقام ، لعدم كون هذين اللفظين معمولين في أعصارنا هذه ، فلو فرضنا كونهما معمولين في الفرس القديم فهما مهجوران في عرف أعصارنا فلا نستفيد منهما ، نعم كثيراً ما يستعملون في مظانّ الغناء لفظ «آوازه خواني وخوانندگي» وهذا أيضاً لا يخلو عن إجمال.

بل ربّما يطلق مع حسن الصوت الّذي نقطع بعدم كونه غناءً ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ أهل العرف يطلقون الغناء على ما يعدّ من ألحان أهل الطرب فإنّ الطرب على ما عن الصحاح وغيره «خفّة تعتري الإنسان لشدّة حزن وعلامته أن يحسّ الإنسان من نفسه الميل إلى البكاء ، أو شدّة سرور وعلامته أن يحسّ من نفسه الميل إلى الرقص ، وهذه الحالة قد تحدث من آلات اللهو كالعود والمزمار والناي وغير ذلك ، وقد تحدث من الصوت الحسن المشتمل على الترجيع البالغ حدّ الإطراب وهو إيجاد الطرب وإحداثه ، ويندرج فيه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب فإنّ ألحان أهل الطرب نغمة وتصانيف أهل الفسوق وترقيق الصوت مع تحسينه المسمّى في العجميّة بزمزمة ولفظ الغناء إمّا يساوقها فيعمّ الأنواع الثلاث ، أو أنّه أخصّ منها فلا يعمّ التصانيف والزمزمة ، والاحتمال الأوّل وإن كان يبعّده عنوان «آوازه خواني وخوانندگي» في الفارسيّة لظهورهما في النوع الأوّل ، وعدم ظهور إطلاقهما على النوعين الآخرين ، ولكن يقربه التغنّي لصحّة أن يقال على المتشاغل بالتصنيف أو الزمزمة إنّه يتغنّى إلّا أنّه ليس بحيث يقطع لعدم الاطّلاع على عرف العرب (٢).

وعلى كلا التقديرين فالغناء ما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز تارةً باللهو كما في

__________________

(١) المستند ١٤ : ١٢٥.

(٢) الصحاح ١ : ١٧١ ، (طرب).

٢١١

آية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» (١) واخرى بالباطل كما في آيات «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» (٢) «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (٣) «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» (٤) بناءً على إرادة الباطل من اللغو والزور.

وقد ورد في أخبار مستفيضة تفسير «لهو الحديث» في الآية الاولى بالغناء كالأخبار المستفيضة أيضاً في تفسير كلّ من «اللغو» و «قول الزور ، والزور» بالغناء. وقضيّة وصفه باللهو ـ وهو ما يلهيك عن ذكر الله ـ كون الغناء من جملة الملاهي وأن يكون تحريمه لعنوان اللهو الصادق عليه وعلى غيره ، كما أنّ قضيّة وصفه بالباطل أن يكون تحريمه لأجل هذا العنوان الّذي هو أعمّ من اللهو كما أنّ اللهو أعمّ من الغناء.

وفي حديث أيضاً «إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه‌السلام فسأله عن الغناء ، فقال له : إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل ، قال : قد حكمت» (٥).

والمراد بالباطل إمّا ما يقابل الحقّ وهو الشي‌ء الثابت المرخّص فيه فالباطل الغير الثابت باعتبار منع الشرع ، أو الشي‌ء الخالي عن الفائدة العقلائيّة ، ومنه الغناء لأنّ طالبيه والراغبين إليه ليسوا إلّا السفهاء من الناس وهم أهل الفسوق.

فتحريم الغناء حينئذٍ إمّا لعنوانه الخاصّ إن استفدناه من الأدلّة الخاصّة به ، أو لعنوان اللهو إن استفدناه من آية لهو الحديث ، أو لعنوان الباطل إن استفدناه من الآيات الاخر.

فصحّ أن يقال : إنّ كلّ صوت لهويّ يعدّ من ألحان أهل الطرب وترجيعاتهم المطربة محرّم سواء صدق عليه بجميع أنواعه الغناء أو لا ، بأن لم يصدق إلّا على أحد أنواعه ، وقد وقع في بعض الروايات أيضاً إشارة إلى الضابط المذكور كقوله : «اقرءوا القرآن بألحان العرب وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر ...» (٦) الخ ، فإنّ لحون أهل الفسوق والكبائر هي ألحان أهل الطرب المرتكبين لفسوق التطريبات بالآلات والأصوات الّتي هي من المعاصي الكبائر.

وهل يعتبر قيامه باللفظ وتقوّمه بالكلام نثراً أو نظماً أو لا؟ بمعنى أنّه لا مدخليّة

__________________

(١) لقمان : ٦.

(٢) المؤمنون : ٣.

(٣) الحجّ : ٣٠.

(٤) الفرقان : ٧٢.

(٥) الوسائل ١٧ : ٣٠٦ / ١٣ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٥ / ٢٥.

(٦) الوسائل ٦ : ٢١ / ١ ، ب ٢٤ قراءة القرآن.

٢١٢

للكلام فيه بل هو تابع لجوهر الصوت تحقّق معه كلام نثراً أو نظماً أو لم يتحقّق وجهان : من إمكان دعوى ظهور آيتي لهو الحديث وقول الزور لأنّ الحديث بحسب العرف هو الكلام فيكون المراد باعتبار كون إضافة اللهو من إضافة الصفة على الموصوف الكلام الملهوّ به والقول واضح ، ومن ظهور الآيتين الاخريين اللّتين عبّر عنه فيهما باللغو والزور الصادقين على الجوهر المعتضدتين بصدق لحن أهل الطرب على ما لم تكن معه لفظ ولا كلام. وإذا لم يكن له مدخليّة في صدق اسم الغناء ولا الصوت اللهويّ وجوداً وعدماً فخصوصيّة كلام دون كلام فيما اشتمل عليه لا تؤثّر في خروجه من الاسم.

وعلى هذا فمن يدّعي استثناء المراثي أو قراءة القرآن لا يمكنه دعوى الخروج عن الاسم من باب التخصّص ، بل لا بدّ وأن يدّعي الخروج من الحكم من باب التخصيص ، وحينئذٍ فنطالب بدليله.

وكيف كان فالكلام في المقام تارةً في أصل حكم الغناء قبالاً لمن سبقه شبهة إنكار تحريمه في نفسه ، واخرى في مقداره تعميماً وتخصيصاً قبالاً لمن سبقه شبهة استثنائه في المراثي وفي تلاوة القرآن.

أمّا الأوّل : فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف معتدّ به تحريم الغناء بقول مطلق بل عليه إجماعهم محصّلاً ومنقولاً ، وقيل بكون الإجماعات المنقولة عليه مستفيضة ، وربّما ادّعى فيه ضرورة المذهب ، بل ولعلّه المشهور عند العامّة حيث لم يخالف فيه إلّا الغزالي ومتصوّفوهم ، وقد يظهر عمّن نقل فيه إجماع العلماء كونه إجماعاً من العامّة أيضاً. خلافاً للمحدّث الكاشاني فنفى تحريمه في نفسه وخصّه بما اشتمل منه على المحرّمات الخارجة من اللعب بآلات اللهو والكلام بالباطل ودخول الرجال حيث قال ـ في الوافي بعد ذكر جملة من الأخبار المتعلّقة بالباب على ما حكي ـ : «الّذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر والتعليم والاستمتاع والبيع والشراء كلّها بما كان على النحو المتعارف في زمن الخلفاء من دخول الرجال عليهنّ وتكلّمهنّ بالباطل ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقصب وغيرهما دون ما سوى ذلك من أنواعه كما يشعر به قوله : ليست بالّتي تدخل عليها

٢١٣

الرجال ... إلى أن قال : وعلى هذا فلا بأس بالتغنّي بالأشعار المتضمّنة لذكر الجنّة والنار والتشويق إلى دار القرار ، ووصف نعم الملك الجبّار ، وذكر العبادات والرغبات في الخيرات والزهد في الفانيات ... إلى أن قال : وبالجملة فلا يخفى على أهل الحجج بعد سماع هذه الأخبار تميّز حقّ الغناء عن باطله ، وأنّ أكثر ما يتغنّى به الصوفيّة في محافلهم من قبيل الباطل» (١) انتهى.

وقيل : إنّ هذا القول تبع منه للغزالي. وربّما يظهر الموافقة له من صاحب الكفاية (٢) في أحد الوجهين اللذين ذكرهما في وجه الجمع بين الأخبار الّتي توهّم بينها التعارض وستعرف عبارته.

وأورد عليه بعض مشايخنا بأنّ الغناء على ما استفدناه من الأخبار بل فتاوي الأصحاب ، وقول أهل اللغة هو من الملاهي ، نظير ضرب الأوتار والنفخ في القصب والمزمار ، وقد تقدّم التصريح بذلك في رواية الأعمش الواردة في الكبائر ، وهي قوله عليه‌السلام : «والملاهي الّتي تصدّ عن ذكر الله كالغناء وضرب الأوتار» (٣) فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرّمات الاخر (٤).

أقول : ويرد عليه مضافاً إلى ذلك أنّه لو لم يكن الغناء في نفسه محرّماً فاقترانه بالمحرّمات أيضاً لا يوجب تحريمه إذ لا ملازمة أصلاً ، وربّما يحتمل كون بناء كلامهما على تفسير الغناء بالصوت الحسن كما يظهر القول به من الشافعي حيث فسّره بتحسين الصوت وترقيقه ، وربّما يومئ إليه أيضاً ما عن الصحاح في تفسير التطريب من أنّ التطريب في الصوت تحسينه ومدّه.

ويزيّفه أيضاً ما أشرنا إليه سابقاً ، من أنّ مطلق الصوت الحسن لا يسمّى غناءً ، وأنّ مجرّد الحسن لا يكفي في تحقّقه ، وأنّه لا قائل بحرمة مطلق الصوت الحسن كيف وهو في الشرع من صفات المدح ، والأخبار في مدحه ومدح صاحبه وأنّه من أجمل الجمال

__________________

(١) الوافي ١٧ : ٢١٨ ـ ٢٢٣.

(٢) الكفاية : ٨٦.

(٣) الوسائل ١٥ : ٣٣١ / ٣٦ ، ب ٤٦ جهاد النفس ، الخصال : ٦١٠.

(٤) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ٣٠٢.

٢١٤

متكاثرة ، بل ورد النصوص باستحبابه في الأذان وفي قراءة القرآن والدعاء ، وأنّه من صفات الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام هذا. مضافاً إلى منع استلزام المحرّمات المتحقّقة معه حرمته.

فهذا القول أحرى بالإعراض عنه إلى ما هو مقصود المقام ، فنقول : يدلّ على حرمة الغناء الإجماع بقسميه والكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (١) وقوله تعالى : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...» (٢) الآية مع انضمام الأخبار المفسّرة لهما بالغناء ، فمن الأوّل :

صحيحة زيد الشحّام قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : قول الزور الغناء» (٣).

ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قول الله عزوجل : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : قول الزور الغناء» (٤).

وموثّقة أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (٥) قال : الغناء» (٦).

ورواية عبد الأعلى قال : «سألت جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء ، قلت : قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال : منه الغناء» (٧).

وصحيحة هشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قوله تعالى «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء» (٨).

ومن الثاني : مضافاً إلى ما في ذيل رواية عبد الأعلى المتقدّمة :

صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : الغناء ممّا وعد الله

__________________

(١) الحجّ : ٣٠. (٢) لقمان : ٦.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / ٢ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٥ / ٢.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٠٥ / ٨ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٦ / ٧.

(٥) الحجّ : ٣.

(٦) الوسائل ١٧ : ٣٠٥ / ٩ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣١ / ٢.

(٧) الوسائل ١٧ : ٣٠٨ / ٢٠ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٣٤٩ / ١.

(٨) الوسائل ١٧ : ٣١٠ / ٢٦ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، تفسير القمّي ٢ : ٨٤.

٢١٥

عليه النار ، وتلا هذه الآية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١) (٢).

ورواية مهران بن محمّد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول الغناء ممّا قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٣).

ورواية الوشاء قال : «سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الغناء ، فقال : هو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٤).

ورواية الحسن بن هارون قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله ، وهو ممّا قال الله عزوجل : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» (٥).

وقد يستدلّ بآيتي «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» (٦) «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» (٧) بانضمام الأخبار المفسّرة لهما بالغناء. وفي دلالتهما على التحريم نظر ، إذ غاية ما فيهما الدلالة على مدح المجتنب عن الغناء وحسن اجتنابه ، وهذا لا يلازم المنع من فعله أو استماعه لاحتمال الكراهة.

وقد يناقش في آية لهو الحديث بأنّ مفادها حرمة الغناء الّذي يشتري ليضلّ عن سبيل الله ويتّخذها هزواً وهو ممّا لا شكّ فيه ، ولا يدلّ على حرمة غير ذلك ممّا يتّخذ لترقيق القلب ويذكر الجنّة ويهيج الشوق إلى العالم الأعلى ويؤثّر القرآن والدعاء في القلوب ، بل في قوله «لَهْوَ الْحَدِيثِ» إشعار بذلك أيضاً. هكذا ذكر في المستند (٨).

وفيه : أنّ الاشتراء هنا إمّا بمعنى الاختيار أو صرف المال لعقد مجلس الغناء واللام في «ليضلّ» للعاقبة ، ومعناها أنّ الغناء من خواصّه أنّه يضلّ عن سبيل أي يخرج صاحبه عن حدود الله تعالى ويميله إلى الفسوق والفجور الاخر ، كما يدلّ عليه ما في

__________________

(١) لقمان : ٦.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣٠٤ / ٦ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣١ / ٤.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٠٥ / ٧ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣١ / ٥.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٠٦ / ١١ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٢ / ٨.

(٥) الوسائل ١٧ : ٣٠٧ / ١٦ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٣ / ١٦.

(٦) المؤمنون : ٣. (٧) الفرقان : ٧٢.

(٨) المستند ١٤ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

٢١٦

بعض الروايات من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الغناء رقية الزنا» (١) كما في كتاب جامع الأخبار أي يجرّه إليه ويوقعه فيه كما يرشد إليه المشاهدة.

وأمّا السنّة : فقيل : إنّها متواترة ، إلّا أنّ العمدة منها سنداً ودلالة صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة (٢) المصرّحة بأنّ «الغناء ممّا وعد الله عليه النار» فإنّها مع دلالتها على حرمته تدلّ على كونها من الكبائر.

ومثلها دلالة رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإيّاكم ولحون أهل الفسوق وأهل الكبائر ، فإنّه سيجي‌ء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء ...» (٣) الخ.

فإنّ قرينة المقابلة تقضي بكون المراد من ألحان العرب وأصواتها تحسين الصوت وتحزينه أو النغمة الحسنة الغير البالغة حدّ ترجيع الغناء ، وبلحون أهل الفسق والكبائر الترجيعات المطرحة على حدّ ما يعمله أهل الطرب الّذين هم أهل الفسق والكبائر ، ويرشد إليه التعليل أيضاً ، لمكان قوله : «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء» فلو لم يكن ترجيع الغناء وهو الترجيعات المطربة محرّماً لما صحّ تعليل «وإيّاكم» المفيد للتحريم بما ذكر.

ودلالة هذه الرواية في موضعين أحدهما قوله : «إيّاكم» والآخر الذمّ المستفاد من التعليل. واختصاص المورد غير ضائر لمكان قوله : «ترجيع الغناء» فإنّه يدلّ على أنّ ترجيع الغناء بنوعه وطبيعته مذموم ومحرّم ، مع أنّ العبرة في قوله : «وإيّاكم ...» الخ بعموم اللفظ لا خصوص المورد.

وفي جامع الأخبار مرسلاً قال : «رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة وهو أسود الوجه وبيده طنبور من نار وفوق رأسه سبعون الف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه ووجهه ، ويحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم ... إلى أن قال : وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الغناء رقيه الزنا» (٤).

__________________

(١) جامع الأخبار : ١٥٤.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٢١٥.

(٣) الوسائل ٦ : ٢١١ / ١ ، ب ٢٤ قراءة القرآن.

(٤) مستدرك الوسائل ١٣ : ٢١٩ / ١٧ ، ب ٧٩ ، ما يكتسب به ، جامع الأخبار : ١٥٤.

٢١٧

وعن المقنع مرسلاً قال الصادق عليه‌السلام : «شرّ الأصوات الغناء» (١).

وعن إرشاد الحسن بن محمّد الديلمي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يظهر في امّته الخسف والقذف ، قالوا متى ذلك؟ قال : إذا ظهرت المعازف والقينات وشربت الخمور والله ليبيتنّ اناس من امّتي على أشر وبطر ولعب فيصبحون قردة وخنازير لاستحلالهم الحرام واتّخاذهم القينات ... إلى أن قال : وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا عملت امّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء ... إلى أن قال : واتّخذوا القينات والمعازف وشربوا الخمور وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدوّ عليكم ثمّ لا تنصرون» (٢) والقينات جمع القين وهي الأمة المغنّية ، والمعازف آلات اللهو ، وقيل جمع المعزف وهو نوع من الطنابير.

وفي المرسل عن أبي عبد الله قال : «سئل عن الغناء وأنا حاضر؟ فقال : لا تدخلوا بيوتاً الله معرض عن أهلها» (٣).

وفي حديث قال راويه : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : الغناء اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا قول الزور ، فما زال يقول : اجتنبوا الغناء اجتنبوا ، فضاق بي المجلس وعلمت أنّه يعنيني» (٤).

وفي رواية الأعمش الواردة في تعداد الكبائر قال : «والملاهي الّتي تصدّ عن ذكر الله كالغناء وضرب الأوتار» (٥).

والمستفيضة الدالّة على «حرمة ثمن الجارية المغنية وأنّه سحت وأنّه كثمن الكلب» (٦).

ورواية يونس قال : «سألت الخراساني عن الغناء ، وقلت : إنّ العبّاسي زعم أنّك ترخّص في الغناء ، فقال : كذب الزنديق ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء قلت له : إنّ

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٠٩ / ٢٢ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، المنقع : ١٥٤.

(٢) الوسائل ١٧ : ٣١١ / ٣٠ و ٣١ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، المقنع : ١٥٤.

(٣) الوسائل ١٧ : ٣٠٦ / ١٢ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٤ / ١٨.

(٤) الوسائل ١٧ : ٣٠٩ / ٢٤ ، ب ٩٩ ما يكتسب به.

(٥) تقدّم في الصفحة : ٢١٤.

(٦) الوسائل ١٧ : ١٢٣ / ٣ و ٦ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٠ / ٤.

٢١٨

رجلاً أتى أبا جعفر عليه‌السلام فسأله عن الغناء فقال له : إذا ميّز الله بين الحقّ والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل ، قال : قد حكمت» (١) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ولم نقف في النصوص على ما ينافي روايات التحريم إلّا عدّة روايات ربّما توهّم موافقتها لمذهب المحدّث الكاشاني ومن وافقه ، مثل ما رواه في الوسائل من خبر عليّ ابن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام قال : «سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح؟ قال : لا بأس ما لم يعص به» (٢) وفي نسخة اخرى «ما لم يزمر به» قال في الكفاية : «والمراد به ظاهراً ما لم يصر الغناء سبباً للمعصية ولا مقدّمة للمعاصي المقارنة له ، وقال في تفسير النسخة الاخرى : والظاهر أنّ المراد بقوله «ما لم يزمر به * أي لم يلعب معه بالمزمار أو ما لم يكن الغناء بالمزمار ونحوه من آلات الأغاني» (٣).

ورواية أبي بصير عن كسب المغنّيات «فقال : الّتي يدخل عليهنّ الرجال حرام والّتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عزوجل : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» (٤) الآية وروايته الاخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أجر المغنّية الّتي تزفّ العرائس ليس به بأس ليست بالّتي تدخل عليها الرجال» (٥).

والجواب : عدم مقاومة هذه لمعارضة ما مرّ من جهات عديدة ، مع عدم وضوح دلالتها ، فيراد بالغناء في خبر عليّ بن جعفر قراءة الأشعار المفرّحة المناسبة ليومي العيدين بالصوت الحسن المرجع فيه الغير البالغ حدّ الترجيع المطرب ، وهو المراد من قوله «ما لم يعص به» وكذلك قوله «ما لم يزمر به» في نسخة اخرى أي ما لم يبلغ حدّ صوت المزمار وهو الصوت اللهويّ المشتمل على الترجيع المطرب.

وغاية ما في روايتي أبي بصير بعد الإغماض عمّا في سنديهما الدلالة على جواز التغنّي الخالي عن دخول الرجال واستماعهم في الأعراس ، ولعلّنا نقول به فيكون ذلك مستثنى كما عليه جماعة وسيأتي الكلام في استثنائه.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٣٠٦ / ١٣ ، ب ٩٩ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٣٤ / ١٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٢٢ / ٥ ، ب ١٥ ما يكتسب به ، قرب الإسناد : ١٢١.

(٣) كفاية الفقه ١ : ٤٣٣ ، والتفسير موجود في مكاسب الشيخ الأنصاري ١ : ٣٠٤.

(٤) لقمان : ٦.

(٥) الوسائل ١٧ : ١٢٠ / ١ و ٣ ، ب ١٥ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١١٩ / ١ و ٣.

٢١٩

وأمّا ما رواه في الفقيه مرسلاً قال : «سأل رجل عليّ بن الحسين عليه‌السلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل الّتي ليست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور» (١). فعدم منافاته واضح لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ مطلق الصوت لا يلازم الغناء ، ولذا ذكر الصدوق أو الراوي في تفسيره ما ذكر بناءً على كونه من أحدهما كما هو الظاهر.

وأمّا الثاني : فقد استثني من تحريم الغناء امور:

منها : الغناء في قراءة القرآن ، استثناه في الكفاية حيث جعله أحد وجهي الجمع بين ما دلّ من الروايات على التحريم بقول مطلق وما توهّم دلالته منها على جوازه بل استحبابه في القرآن ، فذكر الروايات الدالّة على مدح الصوت الحسن واستحبابه في القرآن حيث قال

وصرّح المحقّق (٢) وجماعة (٣) ممّن تأخّر عنه بتحريم الغناء ولو كان في القرآن ، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه بل استحبابه في القرآن بناءً على دلالة الروايات على حسن الصوت والتحزين والترجيع في القرآن بل استحبابه ، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم وفصّلناه في بعض رسائلنا. ففي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن» (٤) وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين» (٥) وعن حفص قال : «ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر ، ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً» (٦). وفي رواية عبد الله بن سنان «اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها» (٧) وفي

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٢٢ / ٢ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، الفقيه ٤ : ٤٢ / ١٣٩.

(٢) الشرائع ٢ : ١٠.

(٣) كما في المسالك ٣ : ١٢٦ ، وجامع المقاصد ٤ : ٢٣ ، والمكاسب ١ : ٣١٠.

(٤) الوسائل ٦ : ٢٠٨ / ١ ، ب ٢٢ قراءة القرآن ، الكافي ٢ : ٤٤٩ / ٢.

(٥) الوسائل ٦ : ٢٠٨ / ٢ ، ب ٢٢ قراءة القرآن ، الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٦.

(٦) الوسائل ٦ : ٢٠٨ / ٣ ، ب ٢٢ قراءة القرآن ، الكافي ٢ : ٤٤٣ / ١٠.

(٧) الوسائل ٦ : ٢١٠ / ١ ، ب ٢٤ قراءة القرآن ، الكافي ٢ : ٤٥٠ / ٣.

٢٢٠