ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

وقد استدلّ في الرياض بعد الاستناد إلى الإجماع بوجهين آخرين :

أحدهما : عموم أدلّة منع المعاملة مع السفيه.

ولا خفاء في ضعفه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ المستفاد من الأدلّة المشار إليها فساد المعاملة مع السفيه ، نظراً إلى عدم نفوذ تصرّفاته الماليّة فتقع المعاملة من طرفه فاسدة ، فتفسد من الطرف الآخر لا منعها إن أراد به الحرمة.

وأمّا ثانياً : فلأنّ مورد هذه الأدلّة إنّما هو السفيه الملكي ، وهو أن تكون السفاهة حالة نفسانيّة له ولم يعتبر في موضوع المسألة كون طرف المعاملة سفيهاً بهذا المعنى ، غاية ما هنالك كون فعله من البيع أو الشراء أو بذل الماء بإزاء هذه الأشياء لخسّتها فعلاً سفهيّاً ، والأفعال السفهيّة لا يلزمها التحريم بل غاية ما فيها كونها من منافيات المروّة ، ولم يؤخذ فيها كونها من المعاصي الصغيرة وإن كانت قد تكون منها كالتطفيف بحبّة مثلاً وسرقة الحبّة كذلك ، ولا دليل على كون هذا الفعل السفهي الخاصّ معصية صغيرة إلّا حيث يندرج في عنوان التبذير.

وأضعف من هذا الوجه ثانيهما وهو ما محصّله «أنّ تصرّفات السفيه محرّمة فالمعاملة معه إعانة على الإثم فتحرم» (١).

وفيه : منع كلّ من الصغرى والكبرى ، أمّا الأوّل :

فأوّلاً : لمنع التحريم في تصرّفات السفيه ، بل أقصاها عدم نفوذها إذا كانت ماليّة.

وثانياً : ما مرّ من عدم كون البحث في السفيه الملكي بل في البالغ الكامل إذا صدر منه المعاملة على ما لا ينتفع به من الأشياء ، ولا يلزم من صدور الفعل السفهي من الكامل كونه سفيهاً ملكيّاً فلا يشمله ما دلّ على حرمة تصرّفات السفيه.

وأمّا الثاني : فلمنع صدق الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها.

وقد يستدلّ أيضاً بكون أكل المال المأخوذ في مقابل هذه الأشياء أكلاً للمال بالباطل فيحرم بنصّ الآية ، كما حكي عن القطيفي في إيضاح النافع (٢).

ويشكل ذلك : بإمكان المنع لأنّ كونه أكلاً للمال بالسبب الباطل نظير القمار

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٤٧.

(٢) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٤ : ١٣٣.

١٨١

والسرقة والغصب والظلم والعقد الفاسد أوّل المسألة ، فيندرج المقام في مستثنى الآية لا في المستثنى منه.

ودعوى : أنّ اندراجه في المستثنى موقوف على كون التراضي المتحقّق فيه ممّا أمضاه الشارع ، وهو موضع منع ، فيندرج في عموم المستثنى منه كما في البيع الربوي والبيع للميتة وبيع الخمر وما أشبه ذلك.

يدفعها : بأنّا إنّما التزمنا عدم إمضاء الشارع للتراضي في الأمثلة المذكورة ونظائرها لأدلّتها الدالّة على منع الشارع لها من النصّ والإجماع ، وليس في المقام دليل على المنع والتحريم بالخصوص من نصّ ولا غيره ، فيندرج في إطلاق المستثنى وهذا كافٍ في الدلالة على الإمضاء ، إلّا أن يتشبّث في إحراز صغرى الأكل بالباطل بالإجماع المتقدّم محصّلاً ومنقولاً ويقال : إنّه لدلالته على فساد المعاملة يستلزم كون المال المأخوذ بسببها أكلاً للمال بالباطل ، أو يتمسّك بانتفاء الماليّة في نظر العقلاء فيكون أخذها عوضاً في عقود المعاوضة أكلاً للمال بالباطل.

وبالتأمّل في ذلك يندفع أيضاً ما قد يستشكل فيما ذكره العلّامة من «أنّه لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» (١) بأنّه إذا اطّلع العرف على خاصيّة في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها ، فأيّ فرق بينه وبين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصيّة ، وحينئذٍ فعدم جواز بيعه وأخذ المال في مقابله بملاحظة تلك الخاصيّة يحتاج إلى دليل لأنّه حينئذٍ ليس أكلاً للمال بالباطل ، ويؤيّد ذلك ما في رواية التحف من «أنّ كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات ، فذلك حلال بيعه وشراؤه» الخ.

ووجه الاندفاع وضوح الفرق بين المقامين والفارق كون الخاصيّة في النباتات مقصودة للعقلاء على معنى اعتنائهم بها ، بدليل أنّهم يتملّكونها لأجلها بالحيازة ونحوها ويجرون عليها أحكام الملك من الحفظ والضبط والقنية والتقويم وكونها عندهم تعدّ مالاً بخلافها في الحشرات ، وهذا هو معنى التعليل بما في عبارة التذكرة. وقضيّة انتفاء

__________________

(١) التذكرة ١٠ : ٣٥.

١٨٢

الماليّة كون أخذ الثمن أكلاً للمال بالباطل ، ولا ينافيه ما قد يبذل العقلاء مالاً لتحصيل ذي الخاصيّة من الحشرات بصورة الاشتراء ونحوه لأنّه لرفع يد المتصرّف عنه وإسقاط حقّه. وأمّا التأييد بالرواية ففيه المنع ، لظهور الصلاح لهم في المصلحة المقصودة للعباد بدليل ضمير الجمع الظاهر في جميعهم.

كما يندفع أيضاً ما قد ينقض تعليل المنع في ذوات المنافع النادرة من الحشرات وغيرها بندرة منافعها بالعقاقير وغيرها من الأدوية للاشتراك في الندرة ، لما بيّنّاه سابقاً من ضابط غلبة النفع وندرته ، فالخاصيّة وإن كانت متّحدة بحسب النوع فيهما إلّا أنّها في العقاقير مقصودة للعقلاء وفي الحشرات غير مقصودة لهم.

تذنيبات :

أحدها : انّ عدم الانتفاع بالشي‌ء فيما لا ينتفع به قد يكون لعدم وجود منفعة مقصودة للعقلاء في نوع ذلك الشي‌ء لخسّته كالحشرات على ما تقدّم ، وقد يكون لعدم حصول المنفعة المقصودة من النوع فيه لقلّته كالحبّة من الحنطة والعودة من الحطب وما يقرب منهما ، وهما سيّان في منع التكسّب كما صرّح به جماعة (١) وهو ظاهر آخرين ، إمّا لإطلاق ما لا ينتفع به في معاقد فتاويهم وإجماعاتهم ، أو تعليلاتهم للحكم بعدم القيمة وانتفاء الماليّة ، ومن ذلك ما سمعت من التذكرة من تعليل الحكم «بعدم التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم» نظراً إلى أنّ المراد به عدم قيمة لها التفت إليها الشارع كما يكشف عن إرادة ذلك ما في ذيل العبارة من قوله : «فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» ونحوه ما تقدّم في عبارة المبسوط من تعليل عدم جواز بيع ما ينفصل من الإنسان من الفضلات المدّعى عليه الإجماع «بأن لا ثمن له أي لا قيمة له» (٢) في العرف والعادة. وهذه التعليلات كما ترى تجري في نحو الحبّة والعودة.

فإن قلت : جريان التعليلات هنا محلّ منع ، لوضوح الفرق بين ما لا ينتفع به لقلّته والحشرات ، فإنّ الأوّل له قيمة في الواقع وإن لم يكن لقيمته مصداق في الخارج وذلك

__________________

(١) كما في الغنية : ٢١٣ ، السرائر ٢ : ٣٣٢ ، الإرشاد ١ : ٣٥٧ ، مجمع البرهان ٨ : ٥٣ ، المسالك ١ : ١٦٥.

(٢) المبسوط ٢ : ١٦٧.

١٨٣

لأنّ الحبّة والعودة بعض من الكلّ وهو عبارة عن الهيئة الحاصلة من انضمام الأبعاض بعضها إلى بعض وله قيمة متقوّمة بتلك الهيئة ، فيكون لكلّ من أبعاضه قيمة بنسبة قيمة الكلّ ، غاية الأمر أنّه قد يبلغ البعض في القلّة إلى ما لا وجود لقيمته ، وعلى هذا فلكلّ من الحبّة والعودة قيمة بخلاف الحشرات الّتي لا قيمة لأصل نوعها حتّى في ضمن الكثير.

قلت : المقصود من التعليلات التنبيه على انتفاء الماليّة وعليها مدار الصحّة ، ولا ريب أنّ الحبّة والعودة لا تعدّ مالاً في نظر العقلاء ولا تقابل بالمال وإن فرض لها قيمة بحسب الواقع.

لا يقال : إنّ من العقود الصحيحة بالنصّ والإجماع بيع المحاباة وصلح المحاباة ، ومن المعلوم أنّ المحاباة كما تجري في جانب البائع وهو أن يبيع عينه بأقلّ من ثمن المثل ، فكذلك تجري من جانب المشتري وهو أن يشتري العين بأزيد من ثمن المثل ، ومن الجائز أن يبذل المشتري في الحبّة والعودة في مقابلها من الثمن ما يمكن (١) عنه ويوجد في الخارج ، غاية الأمر كونه أزيد من قيمة المثل ولا ضير فيه لكونه حينئذٍ من بيع المحاباة أو صلح المحاباة من طرف المشتري أو المتصالح وهو صحيح.

لأنّا نقول : إنّ العقد في محلّ المحاباة بيعاً أو صلحاً إنّما يصحّ لكون العين ممّا يحصل فيه المنفعة المقصودة من النوع ، وضابطه عدم كون المعاملة سفهيّة بعدم كون بذل المال بإزائها فعلاً سفهيّاً ، ومفروض المقام عدم حصول المنفعة المقصودة من النوع في الشخص فيكون بذل المال في مقابل العين حينئذٍ سفهاً.

ثانيها : قد يلحق بما لا قيمة له لخسّته أو لقلّته ما ليس له قيمة لكثرته كالقربة من الماء في شاطئ النهر أو ساحل البحر ، والمنّ من الحطب مثلاً في الغابات ، وباقة من الحشيش في صحراء ذات حشيش ، وباقة قصب في الآجام ، فإنّ هذه الأشياء أيضاً لا تقابل بالمال لكثرة أمثالها ، فينبغي أن لا يصحّ فيها البيع ولا غيره من أنواع التكسّب.

وفيه : نظر ، لمنع إطلاق الحكم واطّراده ، فإنّ الجهة المقتضية للمنع في المقام إمّا الإجماع محصّلاً ومنقولاً ، أو انتفاء المقصودة للعقلاء ، أو عدم الملكيّة ، أو عدم الماليّة ،

__________________

(١) هنا كلمة غير مقروءة.

١٨٤

أو سفهيّة المعاملة. والأوّل لا يتمشّى في المقام لأنّ معقد الإجماع بقسميه إنّما هو ما لا ينتفع به ، وهذا ممّا ينتفع به لأنّ المنفعة المقصودة من النوع حاصلة بعينها في الشخص. ومن ذلك علم عدم تمشّي الثاني أيضاً. والثالث أيضاً لا يتمشّى لضرورة أنّه يتملّك بالحيازة. وكذلك الرابع فإنّه مال عند العقلاء وله قيمة ، غاية ما هنالك عدم بذلهم المال في الغالب لتحصيله لتيسّر بالحيازة والأخذ من النهر أو البحر أو الآجام أو حشاش الأرض أو نحو ذلك ، لا أنّه في نفسه ليس. والخامس يتفاوت بحسب اختلاف الأشخاص وحالات شخص واحد بحسب الأزمنة والأوقات ، فالحكم منعاً وجوازاً يدور على سفهيّة بذل المال في مقابله وجوداً وعدماً ، فإطلاق المنع غير جيّد جدّاً.

وثالثها : قال في التذكرة : «أمّا العلق ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدم إشكال ، وأظهر وجهي الشافعي وأحمد الجواز (١) وكذا ديدان القزّ تُترك في الشصّ (٢) فيصاد بها السمك ، والأقرب عندي المنع وهو أحد الوجهين لهما ، لندور الانتفاع فأشبه ما لا منفعة فيه ، إذ كلّ شي‌ء فله نفع ما» (٣).

أقول : استقراب المنع في العلق غير جيّد ، لأنّ مصّ الدم لاستعلاج جملة من الأمراض الدمويّة الصعبة منفعة يقصدها العقلاء ويعتنون بها ويقابلونه لأجلها بالمال بل يعدّونه مالاً ويتملّكونه بالأخذ من الماء من غير نكير ولا تسفيه لفاعله ، ومن أقوى الشاهد عدم كون المعاملة لأجلها وبذل المال في مقابله سفهيّة ، فيندرج في عمومات الجواز والصحّة.

المقام الثاني : فيما يرجع الكلام فيه إلى الصغرى أعني الأشياء المختلف في كونها ممّا لا ينتفع به كالمسوخ والسباع ، وفيه مقصدان :

المقصد الأوّل في المسوخ : فاعلم أنّ هذا اللفظ بضمّ أوّله على زنة فعول جمع المسخ بفتح أوّله ، نظير درس ودروس ، وحرب وحروب ، ودرب ودروب ، وبحر وبحور ، وما أشبه ذلك. والمسخ ورد مصدراً واسماً.

__________________

(١) المجموع ٩ : ٢٤١ ، المغني ٤ : ٣٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ١٠.

(٢) الشصّ : شي‌ء يصاد به السمك (الصحاح ٣ : ١٠٤٣).

(٣) التذكرة ١٠ : ٣٦.

١٨٥

والمصدر منه لغة تحويل الشي‌ء من صورة إلى ما هو أقبح منها ، يقال : مسخه الله قرداً. ومحلّ البحث منه تحويله من الصورة الإنسانيّة إلى غيرها من صور الحيوانات.

والمراد بالأقبح الأقبحيّة الإضافيّة أعني كون الصورة المحوّل إليها أقبح من الصورة المحوّل منها وإن كانت بالقياس إلى سائر أنواع الصور المحوّل إليها أحسنها.

فلا يرد النقض بالطاوس الّذي هو من أحسن صور الطيور وهو من المسوخ كما ورد به رواية ، كالمرويّ عن الكافي بإسناده عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «الطاوس مسخ ، كان رجلاً جميلاً فكابر امرأة رجل مؤمن تحبّه فوقع بها ثمّ راسلته بعد ، فمسخهما الله طاوسين انثى وذكراً ، فلا يؤكل لحمه ولا بيضه» (١) فإنّ الصورة الطاووسيّة أقبح من الصورة الإنسانيّة وإن كانت فيما بين صور الطيور بل سائر المسوخ أيضاً لا قبح فيها بل كانت أحسنها.

والاسم منه يطلق على المسوخات ولعلّه من باب النقل من المصدريّة إلى معنى اسم المفعول. ويقال : إنّ المسوخ جميعها لم تبق أكثر من ثلاثة أيّام ثمّ ماتت ولم تتوالد ، وهذه الحيوانات على صورها سمّيت مسوخاً على الاستعارة.

وأمّا مصاديق المسوخ المتحقّقة في الخارج فهي كثيرة جدّاً ، بل على ما في بعض الروايات أكثر من أن تحصى ولا يعرف أكثرها إلّا الله ومن أوقفه الله من أوليائه ، ففي حديث (٢) «إنّ الله تبارك وتعالى مسخ سبعمائة امّة عصوا الأوصياء بعد الرسول فأخذ أربعمائة امّة منهم برّاً وثلاثمائة بحراً ، ثمّ تلا هذه الآية «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» (٣) الخ.

والمحقّق المجلسي في جلد سماء العالم من البحار ـ بعد ما أورد روايات كثيرة واردة في ضبط المسوخ وبيان علل مسخها ـ قال : «اعلم أنّ أنواع المسوخ غير مضبوطة في كلام أكثر الأصحاب بل أحالوها على هذه الروايات وإن كان في أكثرها ضعف على مصطلحهم ، فالّذي يحصل من جميعها ثلاثون صنفاً : الفيل والدبّ والأرنب

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٠٦ / ٦ ، ب ٢ الأطعمة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٢٤٧ / ١٦.

(٢) الوسائل ٢٤ : ١٠٧ / ٩ ، ب ٢ الأطعمة المحرّمة ، الكافي ٦ : ٢٤٣ / ١.

(٣) سبأ : ١٩.

١٨٦

والعقرب والضبّ والوزغ والعظاية والعنكبوت والدعموص والجرّي والوطواط والقرد والخنزير والكلب والزهرة وسهيل والطاووس والزنبور والبعوض والخفّاش [والفأر] والقمّلة والعنقاء والقنفذ والحيّة والخنفساء والزمير والمارماهي والوبر والورل لكن يرجع بعضها إلى بعض» (١) انتهى.

وذكر في المجمع أنواعاً اخر غيرها «كالذئب والثعلب واليربوع والسرطان والسلحفاة والنقعاء بالنون والقاف والعين المهملة» (٢).

وفي الشرائع (٣) والتذكرة (٤) وغيرهما ذكر أشياء اخر كالضفادع والطافي والتمساح والدباء وهو نوع من الجراد إلّا أنّه من الممسوخ.

وقد رأينا التكلّم في هذه الأصناف والتعرّض لذكر الروايات المتعلّقة بها وبيان صفاتها وخواصّها هنا قليل الجدوى تطويلاً بلا طائل ، مع خروجه من وظيفة الفقه ، والمقصود الأصلي بيان ما يتعلّق بها من الأحكام المعلّقة على ما ينتفع به وما لا ينتفع به.

فنقول : إنّ جميع المسوخ قسمان :

أحدهما : غير ذوات اللحوم كالعقرب والزنبور والخنفساء والعنكبوت والبعوض والقمّلة ، وهذه ملحقة بما تقدّم من الحشرات في عدم نفع فيها أصلاً ، وما قد يحصل منه النفع كالخنفساء لما قيل من أنّ شحمها يجعل في دواء يتداوى به العين فهو نفع نادر لا يعتني به العقلاء ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز التكسّب بها ولا عدم إجراء ساير العقود عليها.

وثانيهما : ذوات اللحوم وهذه أيضاً قسمان:

أحدهما : ما ليس لها جلود ولا عظام ولا شحوم يمكن الانتفاع بها كالحيّة والخفّاش والضبّ والوزغ والعظاية والوبر والورل والطاووس ، وهذه أيضاً ملحقة بالحشرات لانتفاء النفع ، إذ ليس فيها إلّا اللحم وهو محرّم الأكل. وإطعامه الكلاب المعلّمة وجوارح الطيور من الصقور والبازي والشاهين والعقاب وإن أمكن وكان محلّلاً إلّا أنّه

__________________

(١) البحار ٦٥ : ٢٣٠.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٢٠١.

(٣) الشرائع ٢ : ٩ ـ ١٠.

(٤) التذكرة ١٠ : ٣٤.

١٨٧

غير مقصود للعقلاء كما هو واضح. فمحلّ البحث البواقي إلّا الكلب والخنزير لكونهما من الأعيان النجسة المتقدّم أحكامها مشروحة ، فهما أيضاً خارجان عن محلّ البحث.

ومن هنا علم أنّه لو قلنا بنجاسة ما عداهما من المسوخ كما نسب إلى الشيخ (١) والديلمي (٢) وابن حمزة (٣) كانت مندرجة في الأعيان النجسة ولا حاجة معه إلى التكلّم فيها بالخصوص لاتّضاح أحكامها فيما تقدّم ، إلّا أنّ هذا القول مهجور قد استقرّ إجماع من تأخّر بخلافه. وربّما قيل : أنّه يخالف ضروريّ المذهب بل الدين من طهارة المسوخ.

فنحن إنّما نتكلّم على طهارتها. ولقد عدّها في الشرائع (٤) ممّا لا ينتفع به بل لم يذكر فيه وفي النافع (٥) له أمثلة إلّا المسوخ والسباع ، ووافقه أكثر المتأخّرين (٦) على ما قيل حيث بنوا في المسوخ على منع التكسّب بها. خلافاً لأكثر المتقدّمين (٧) لمصيرهم فيها إلى الجواز ، وربّما عزي ذلك إلى أكثر أصحابنا تعليلاً بالانتفاع بها ، وهو ظاهر عبارة التذكرة (٨).

ويحتمل في كلام من جعلها ممّا لا ينتفع به وجوه : عدم نفع فيها أصلاً ، كون جميع منافعها ساقطة في نظر العقلاء غير معتنى بها ولا ملتفت إليها لديهم ، وكون منافعها بأجمعها ساقطة في نظر الشارع على معنى كونها محرّمة وكون منافعها الغالبة محرّمة ساقطة في نظر الشارع.

ويتطرّق المنع إلى كلّيّة جميع هذه الوجوه ، فإنّها غير مسلّمة في شي‌ء منها.

وتوضيح المقام أنّ المنافع الملحوظة في هذه الحيوانات ولو بعضها ، منها ما هي ملحوظة فيها حيّاً ، ومنها ما هي ملحوظة ميّتاً.

والاولى أنواع ، منها : ما هو محرّم كاللعب بالقرد أو الدبّ يعلّمان ويلعب بهما.

ومنها : ما هو محلّل ، ولكنّه نادر غير ملتفت إليه عند غالب العقلاء ، كحفظ المتاع الّذي يتأتّى من القردة المعلّمة أو الخياطة أو الصياغة ونحوها على ما حكي في صفتها

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٦٦ ، الخلاف ٣ : ١٨٤.

(٢) المراسم : ١٧٠.

(٣) الوسيلة : ٢٤٨.

(٤) الشرائع ٢ : ١٠.

(٥) النافع : ١١٦.

(٦) كما في الإيضاح ١ : ٤٠٤ ، التنقيح الرائع ٢ : ١٠ ، جامع المقاصد ٤ : ١٩.

(٧) كما في النهاية : ٣٦٤ ، الخلاف ٣ : ١٨٤ المسألة ٣٠٧ ، المراسم : ١٧٠.

(٨) التذكرة ١٠ : ٣٥.

١٨٨

من أنّها ذكيّة سريعة الفهم ، وقد أهدى ملك النوبة إلى المتوكّل قرداً خيّاطاً وآخر صائغاً ، وأهل اليمن يعلّمون القردة القيام بحوائجهم حتّى أنّ البقّال والقصّاب يعلّم حفظ الدكّان حتّى يعود صاحبه ويعلّم السرقة فيسرق.

ومنها : ما هو محلّل أيضاً ، ولكنّه مشتبه حاله من حيث كونه نادراً أو غالباً مقصوداً للعقلاء ، كالحمل في الفيل إذ لا يدرى غلبة تداوله بين أهالي بلاد الفيلة أو أنّه يتّفق نادراً.

والثانية أيضاً أنواع ، منها : ما يلاحظ في لحومها ، وهذا منه ما هو محرّم كأكل الآدمي ، ومنه ما هو نادر غير مقصود للعقلاء كإطعام الكلاب المعلّمة وجوارح المعلّمة وجوارح الطيور.

ومنها : ما يلاحظ في شحومها ولا سيّما من السموك منها كالجري والزمّير والمارماهي لإمكان الانتفاع بها بالإسراج وطلي السفن وما أشبه ذلك ، وهذا أيضاً ربّما يشتبه حاله من حيث الندرة والغلبة. وأنّ دعوى الغلبة في أدهان السموكة غير بعيدة.

ومنها : ما يلاحظ في جلودها يتّخذ منها الفرّاء أو الدلاء وما أشبه ذلك ، ولا يبعد كونه من بعض هذه الحيوانات كالثعلب نفعاً غالباً.

ومنها : ما يلاحظ في عظامها ، وهذا مخصوص بالفيل ، ويسمّى عظمه بالعاج ويتّخذ منه الأمشاط ونحوها. وقد ورد بجواز التمشّط بعظمه روايات ، ويستفاد من صراحتها أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يتمشّطون بها. وفي المجمع «أنّ العاج عظم أنياب الفيل ، وعن بعض أهل اللغة لا يسمّى غير الناب عاجاً» (١) وهذا لا ينافي كون مطلق عظمه ما ينتفع به في المشط وغيره.

وإذا أحطت خبراً بما شرحنا عرفت سند المنع من كلّيّة الوجوه المحتملة في معنى ما لا ينتفع به بالقياس إلى المسوخ ، لمكان الانتفاع بها ولو في الجملة حيّاً أو ميّتاً منفعة محلّلة غالبة أو نادرة أو مردّدة بينهما ، فكيف يقال : إنّه لا نفع فيها أصلاً ، أو أنّ جميع منافعها ساقطة في نظر العقلاء ، أو أنّ جميعها أو منافعها الغالبة ساقطة في نظر الشارع لكونها محرّمة.

__________________

(١) مجمع البحرين ٣ : ٢٧١ (ع وج).

١٨٩

وعلى هذا فيجوز التكسّب بالفيل منها بالخصوص توصّلاً إلى منفعة الحمل المقصودة منه حيّاً إن كان ممّا يتداوله نوع العقلاء في نوعه من دون توقّف له على قبول التذكية أو إلى منافع عظمها المقصودة للعقلاء المحلّلة شرعاً المطلوبة منه ميّتاً من دون توقّف له أيضاً على قبوله التذكية ، وبغيره أيضاً توصّلاً إلى منافع شحومها أو جلودها المطلوبة منها ميّتاً المتوقّفة على قبولها التذكية.

ولعلّ ما في كلام جماعة (١) من المتأخّرين تبعاً لثاني الشهيدين في المسالك (٢) من بناء الجواز على قبولها التذكية ناظر إلى ذلك أعني التكسّب بها تبعاً لمنافع جلودها أو شحومها ، لا مطلقاً حتّى ما لو كان المقصود منفعة حملها على تقدير كونه منفعة غالبة عقلائيّة أو تبعاً لمنافع عظمها إذ لا مدخليّة للتذكية في حلّ الانتفاع بتلك المنافع.

ولنا على الجواز عمومات الصحّة السليمة عمّا يوجب الخروج منها نظراً إلى عدم صدق الأكل بالباطل على أكل المال المأخوذ في مقابلها لأجل المنافع المذكورة وعدم منافاته للنبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» لظهور قوله : «إذا حرّم شيئاً» على ما بيّنّاه مراراً في باب الأعيان النجسة في تحريم جميع منافع الشي‌ء أو منافعه الغالبة المقصودة للعقلاء ، وضابطه ما لو قال بقول مطلق : الشي‌ء الفلاني حرام ، كما قال : الخمر حرام ، وحرّمت عليكم الميتة مثلاً. وهذا كما ترى غير متحقّق في الحيوانات المذكورة.

ويؤيّدها إن لم نقل بالدلالة على المطلب ما في رواية التحف من قوله عليه‌السلام : «وكلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه وشراؤه» الخ.

مضافاً إلى ما تقدّم الإشارة إليه من نصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل وبيعه وشرائه ، مثل خبر موسى بن بكر قال : «رأيت أبا الحسنعليه‌السلاميتمشّط بمشط عاج ، واشتريته له» (٣).

وخبر عبد الحميد بن سعد قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شرائه الّذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : لا بأس ، قد كان لأبي عليه‌السلام منه مشطا وأمشاط» (٤).

وخبر الحسن بن عاصم عن أبيه قال : «دخلت على أبي إبراهيم عليه‌السلام وفي يده مشط

__________________

(١) كما في الإيضاح ١ : ٤٠٤ ، التنقيح ٢ : ١٠ ، جامع المقاصد ٤ : ١٩. (٢) المسالك ٣ : ١٢٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٧١ / ٣ ، ب ٣٧ ما يكتسب به ، الكافي ٦ : ٤٨٩ / ٤.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٧١ / ٢ ، ب ٣٧ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٢٦ / ١.

١٩٠

عاج يتمشّط به ، فقلت : له جعلت فداك إنّ عندنا بالعراق من يزعم أنّه لا يحلّ التمشّط بالعاج ، قال : ولِمَ فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان ، ثمّ قال : تمشّطوا بالعاج فإنّ العاج يذهب بالوباء» (١).

وخبر عبد الله بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن العاج؟ فقال : لا بأس به وإنّ لي مشطاً منه» (٢).

لا يقال : غاية ما ينساق من هذه النصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل وجواز بيعه وشرائه ، والكلام في بيع الفيل بجملته والتعدّي من عنوان عظم الفيل إلى الفيل بجملته لعلّه قياس ، ونحوه يرد فيما لو ورد نصّ بجواز بيع جلود المسوخ مثلاً. لأنّه ينتقل من جواز بيع عظم الحيوان أو جلده في متفاهم العرف إلى جواز بيع ذلك الحيوان تبعاً لمنافع عظمه أو جلده ، ومرجعه إلى دلالة النصوص الواردة في العظم والجلد عليه بالالتزام العرفي. ثمّ يبقى الكلام في مسألتين :

المسألة الاولى : فيما لو اتّفق من المسوخ أو غيرها ما اشتبه حاله من حيث اشتماله على منفعة عقلائيّة وعدمه ، أو من حيث كون المنفعة الموجودة فيه منفعة غالبة مقصودة للعقلاء أو منفعة نادرة غير مقصودة لهم ، كحمل الفيل مثلاً على ما أشرنا من الشكّ في كونه متعارفاً بين النوع في النوع ، ففي مثل ذلك لا بدّ لاستعلام الحال والخروج عن الشبهة من مراجعة العرف وأهالي الخبرة من العقلاء ثمّ العمل بما يتبيّن من أحد طرفي الشبهة من تجويز التكسّب به ومنعه ، وإن لم يتبيّن شي‌ء من طرفي الشبهة يعرض المعاملة عليه على العقلاء هل تعدّ عندهم من المعاملة السفهيّة فيحكم بالمنع أو لا فيبني على الجواز. وإن لم يتبيّن شي‌ء من ذلك أيضاً ففي جواز التكسّب به وصحّته والعدم وجهان : من عموم عمومات الصحّة أجناساً وأنواعاً ، ومن الأصل الأوّلي في المعاملات وهو الفساد. وهذا أوجه ، لما ظهر من كلمات الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم وغيرها من الأدلّة من كون وجود المنفعة العقلائيّة من شروط صحّة البيع

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٢٢ / ١ ، ب ٧٢ آداب الحمّام ، الكافي ٦ : ٤٨٨ / ٣.

(٢) الوسائل ٢ : ١٢٣ / ٤ ، ب ٧٢ آداب الحمّام ، الكافي ٦ : ٤٨٩ / ٥.

١٩١

وغيرها من عقود المعاوضة بل غيرها أيضاً.

بل يستفاد من إجماع الشيخ في المبسوط على عدم جواز بيع ما ينفصل من الإنسان من فضلاته تعليلاً بعدم المنفعة فيه كون شرطيّة وجودها للجواز والصحّة إجماعيّة ، بناءً على ما تقدّم الإشارة إليه من كون الإجماع المذكور إجماعاً على الحكم والعلّة ، فموضوع عمومات الصحّة حينئذٍ ما وجد فيه المنفعة العقلائيّة ولا بدّ لإجرائها من إحرازه وهو في محلّ الفرض غير محرز ، فلا معنى للتمسّك بالعموم حينئذٍ ، إن شئت قلت : إنّ الشكّ في الشرط يفضي إلى الشكّ في المشروط فيرجع إلى الأصل المقتضي للفساد.

المسألة الثانية : في أنّ المسوخ هل يقع عليها الذكاة ـ وهو الذبح بمعنى قطع الأوداج بشرائطه المقرّرة في محلّه على وجه أثّرت في طهارة ما يتوقّف الانتفاع به على طهارته كالجلود والشحوم ليتفرّع عليها جواز بيعها تبعاً لمنافع جلودها أو شحومها ـ أو لا؟ خلاف على قولين ، فقيل (١) لا وهو المشهور على ما قيل ، وقيل : نعم ونسب إلى السيّد (٢) والشهيد (٣) وعن غاية المراد (٤) نسبته إلى ظاهر الأكثر ، وعن كاشف اللثام (٥) نسبته إلى المشهور.

مستند الأوّلين الأصل ، وقرّر بأنّ من صفة الحيوان أنّه إذا زهق روحه يصير ميتة ويترتّب عليه أحكامها ، والشكّ في قبول التذكية راجع إلى الشكّ في قدح العارض وهو أنّ الذكاة الواقعة على هذا الحيوان هل ترفع هذه الصفة الّتي مرجعها إلى كون الحيوان منهيّاً ومستعدّاً لصيرورته ميتة أو لا؟ والاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح حجّة ، فهو يقتضي بقاء التهيّؤ والاستعداد وعدم ارتفاعه فيحكم به إلى أن يعلم ارتفاعه بالدليل كما في الحيوانات المأكول لحومها.

ومستند الآخرين أيضاً الأصل ، وقرّر تارةً باستصحاب الطهارة الأصليّة الثابتة في

__________________

(١) كما في المقنعة : ٥٧٨ ، والخلاف ٦ : ٧٣ ، والمراسم : ٢٠٨ ، والوسيلة : ٢٤٨.

(٢) الناصريّات : ٩٩.

(٣) المسالك ٣ : ١٢٤.

(٤) غاية المراد ٢ : ٦٠.

(٥) كشف اللثام ٩ : ٢٢٠.

١٩٢

هذا الحيوان قبل الذبح بشرائطه المقرّرة. وتوهّم : عدم بقاء الموضوع لأنّ الطهارة كانت ثابتة للحيّ وقد صار الآن ميّتاً. يدفعه : منع كون الحياة وصفاً مقوّماً لموضوع الحكم ولا جزءاً فيه بل الحكم ثابت لهذا الجسم المشتمل على الجلد واللحم والشحم في حال الحياة ، نظير نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة. وتوضيح ذلك : أنّ التزكية فيما يقبلها كالحيوان المأكول لحمه من حكمها طهارة المذكّى وحلّيّة أكل لحمه ونحو ذلك ، وهي بالنسبة إلى الطهارة علّة مبقية لا أنّها علّة محدثة بأن يزول الطهارة الاولى بالموت ويحدث بها طهارة اخرى فإنّه ممّا لا معنى له ، وبالنسبة إلى حلّيّة اللحم يمكن كونها علّة محدثة إن قلنا بحرمة أكل لحم الحيوان حيّاً وكونها علّة مبقية لها أيضاً إن لم نقل بالحرمة ، لعدم الدليل عليه ، غاية الأمر لا يؤكل حيّاً بل لا يمكن أكله كذلك وهذا لا يلازم الحرمة.

واخرى بأصالة الطهارة في الأشياء على معنى قاعدتها المستفادة من قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١).

ويمكن المناقشة في مستند الأوّلين بالتقرير المذكور بمنع رجوع الشكّ في قبول التذكية إلى الشكّ في قدح العارض ، بل هو من الشكّ في عروض القادح.

وتوضيحه : أنّ المذكّى والميتة متقابلان ، وفي كون تقابلهما بالتضادّ بأن يقال : إنّ الحيوان بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند زهوق روحه إلى التذكية بشرائطه المقرّرة ، ولأن يصير ميتة إذا استند زهوق روحه إلى ما عدا التذكية بشرائطها.

أو عدم الملكة إمّا بأن يقال : إنّ الميتة عبارة عن عدم المذكّى ممّا من شأنه أن يكون مذكّى ، بدعوى أنّه بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند موته إلى التذكية بشرائطها إلّا ما خرج بالدليل كالآدمي. أو بأن يقال : إنّ المذكّى عبارة عن عدم الميتة ممّا من شأنه أن يكون ميتة ، بدعوى أنّه بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير ميتة بزهوق روحه بأيّ طريق اتّفق إلّا ما خرج بالدليل كالحيوان المأكول لحمه.

ورجوع الشكّ في قبول التذكية في المسوخ إلى الشكّ في قدح العارض إنّما

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / ٤ ، ب ٣٧ النجاسات ، التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

١٩٣

يستقيم على هذا التقدير.

وهذا محلّ منع ، لجواز كلّ من الوجهين الأوّلين لرجوع الشكّ إلى أنّه تعالى هل جعل هذا الاستعداد والتهيّؤ للمسوخ؟ والأصل عدمه ، فالشكّ في الجعل وهو أمر حادث يشكّ في حدوثه ، وليس المراد به الجعل التشريعي على معنى كون التهيّؤ والاستعداد المذكورين من قبيل الأحكام الوضعيّة ، وقد جعله الشارع في المسوخ حتّى يرد علينا عدم كون الأحكام الوضعيّة مجعولة ، بل هي مفاهيم انتزاعيّة تتبع الأحكام التكليفيّة. بل المراد به الجعل التكويني الراجع إلى لحاظ خلق الحيوان وإيجاده ، على معنى أنّه تعالى في هذا اللحاظ له ذلك التهيّؤ والاستعداد ، وهذا الجعل أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل عدمه. وهذا الأصل لكونه موضوعيّاً وارد على الأصل الّذي هو مستند الأخيرين بكلا تقريريه ، وعليه فالأصل إن اريد به ما هو من الاصول العمليّة عدم وقوع الذكاة على المسوخ هذا.

ولكنّ الإنصاف أنّ هاهنا أصلاً ثانويّاً وارداً على الأصل المذكور مستفاداً من صحيحة عبد الله بن بكير قال : «سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شي‌ء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله ، ثمّ قال : يا زرارة هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحفظ ذلك يا زرارة ، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذابح ، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسد ، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه» (١) وفي نسخة مكان «الذابح» في الموضعين «الذبح» مصدراً.

ووجه الدلالة أنّ قوله : «ممّا قد نهيت» في تفسير غير ذلك عامّ في جميع ما نهي عن أكله ، وقوله : «ذكّاه الذابح» يعني به أنّ تذكية الذابح لكلّ ما نهي عنه لا تجدي نفعاً في صحّة الصلاة فيه ، وإنّما ذكر ذلك رفعاً لتوهّم السائل أنّها تبيح الصلاة ، وهذا التوهّم

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / ١ ، ب ٢ لباس المصلّي ، الكافي ٣ : ٣٩٧ / ١.

١٩٤

منه مبنيّ على اعتقاده وقوع الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله ، والإمام عليه‌السلام قرّره على معتقده ورفع توهّمه لإباحة الصلاة بالتذكية ، ولو لا المقصود به رفع التوهّم يلغو ذكره.

أو يقال : إنّه عليه‌السلام قصد بذلك تعميم الحكم ـ أعني فساد الصلاة ـ في كلّ ما نهي عن أكله بحسب ما تحقّق منه في الخارج بالقياس إلى قسميه ممّا هو مذكّى وما ليس بمذكّى ، ومحصّله أنّ كلّ ما نهي عن أكله بحسب الخارج منه ما هو مذكّى ومنه ما ليس بمذكّى ، ولا فرق بينهما في فساد الصلاة فيه. وهذا يدلّ بأوضح دلالة على وقوع الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله ، وهذا كما ترى يعمّ المسوخ أيضاً.

لا يقال : إنّ الصحيحة يعارضها رواية عليّ بن أبي حمزة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام وأبا الحسن عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال : لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً ، قال : أوَليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ قال : نعم إذا كان ممّا يؤكل لحمه ، قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ فقال : لا بأس بالسنجاب فإنّه دابّة لا يؤكل اللحم وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب» (١) وجه المعارضة أنّ قوله عليه‌السلام : «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» عقيب قوله «نعم» في جواب السائل «أليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد» من باب تخصيص العامّ بالشرط فيفيد خروج ما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه من الذكيّ بمعنى المذكّى ، فتكون مفاده في حاصل المعنى أنّ كلّ ما ذكّي بالحديد فهو مذكّى إلّا أن يكون ممّا لا يؤكل لحمه فإنّه ليس بمذكّى ، فإذا لم يكن مذكّى كان ميتة إذ لا واسطة بينهما.

لأنّا نقول : هذا الرواية لا تقاوم لمعارضة الصحيحة :

أمّا أوّلاً : فلضعف السند بعليّ بن أبي حمزة الّذي حاله معلوم حيث ضعّفه علماء الرجال قولاً واحداً ، ولعنوه ، وكان من عمد الواقفة.

وثانياً : أنّ ما ادّعي استفادته من الشرط من كلّيّة «أنّ كلّما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ليس بمذكّى» منقوض بالسباع على ما سنقرّره من قبولها التذكية بقول مطلق.

وأمّا ثالثاً : فلمنع الدلالة ، بل هي على مختارنا أدلّ ، لمنع كون ما ذكر مخرجاً من

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / ٢ ، ب ٢ لباس المصلّي ، الكافي ٣ : ٣٩٧ / ٣.

١٩٥

اسم المذكّى ، بل مخرج من حكمه الّذي علم من قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً» وهو كون المذكّى الّذي هو عبارة عمّا ذكّي بالحديد ما يجوز الصلاة فيه ، فيفيد أنّ ما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ليس من المذكّى الّذي يجوز الصلاة فيه ـ يعني لا يجوز الصلاة فيه ـ لا أنّه ليس بمذكّى ، كيف ولو لا إرادة ذلك لزم خلاف وضع التخصيص الّذي هو عبارة عن قصر العامّ على بعض ما يتناوله ، فإنّ إخراجه من الاسم يقضي بخروجه عن موضوع المذكّى من أصله ، لا أنّه داخل في الموضوع ويخرج منه بالتخصيص ، فيكون الشرط المذكور حينئذٍ أشبه شي‌ء بالاستثناء المنقطع ، وهو خلاف الظاهر.

وممّا يرشد إلى ما ذكرناه أيضاً قوله : «لا بأس بالسنجاب» أي لا بأس بالصلاة فيه بعد قول السائل : «وما لا يؤكل لحمه» فإنّه يدلّ على أنّ السائل إنّما سأل بذلك عن كلّيّة نفي جواز الصلاة فيما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ، على معنى عدم جواز الصلاة في شي‌ء من أفراد ما لا يؤكل لحمه إذا ذكّي بالحديد ، فأجاب عليه‌السلام بالإيجاب الجزئي أعني جواز الصلاة في السنجاب.

ويرشد إليه أيضاً التعليل بأنّه دابّة لا يؤكل اللحم وليس ممّا نهى عنه رسول الله إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب ، أي ليس ممّا نهى عن الصلاة فيه إذ نهى عن الصلاة في كلّ ذي ناب ومخلب ، فإنّ هذا كلّه يقضي بأنّ النظر في أسئلة الرواية وأجوبته إلى حيث الصلاة فيما ذكّي بالحديد الّذي هو المذكّى جوازاً ومنعاً ، فالرواية حينئذٍ دليل لنا لا علينا.

المقام الثاني (١) : في السباع وحوشها كالأسد والذئب والنمر والفهد ، وطيورها كالبازي والصقر والعقاب والشاهين ، وهي جمع السبع بالضمّ أو الفتح أو السكون ، هو كلّ حيوان ذي ناب أو مخلب يفترس الحيوان للأكل والافتراس الاصطياد ، وقد يحتمل إرادة كلّ ذي ناب ومخلب سواء كان ممّا يفترس للأكل أو ممّا يتغذّى باللحم.

وقد اختلف الأصحاب في جواز التكسّب بها وعدمه لاختلافهم في كونها ممّا ينتفع به وعدمه ، كما يستفاد من كلماتهم الّتي منها عبارة الشيخ في الخلاف (٢) على ما حكي من أنّه يحرم التكسّب بما لا نفع فيه كالأسد والنمر والفهد بلا خلاف ، فقيل

__________________

(١) تقدّم عدله في ص ١٨٥ بعنوان «المقصد الأوّل».

(٢) الخلاف ٣ : ١٨٤.

١٩٦

كما عن العمّاني (١) وسلّار (٢) إنّها لا يجوز بيعها بقول مطلق ، وقيل كما عن ابن البرّاج (٣) وابن إدريس (٤) إنّه يجوز بيع السباع كلّها تبعاً لجلدها وريشها ، وبينهما أقوال متوسطة كالقول بجواز بيع سباع الطير والفهود والهرّ ، وقيل بجوازه في سباع الطير والفهود خاصّة ، وقيل بالجواز في الفهود (٥) وقيل بالجواز في الفهود فقط ، وقيل في الهرّة إلّا أنّه يظهر من كلماتهم عدم الخلاف في الهرّة ، بل نسب الجواز فيها إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه.

والأقوى هو القول الثاني ـ أعني جواز التكسّب بها ـ ففي جملة منها تبعاً لمنفعة الاصطياد بها كالفهد من الوحوش وجوارح الطيور ، وفي اخرى تبعاً للانتفاع بجلدها وريشها ، للعمومات السالمة عن معارضة المعاملة السفهيّة وأكل المال بالباطل المعتضدة بما عرفت من الإجماع في الهرّة ، والصحيح فيها أيضاً «لا بأس بثمن الهرّة» (٦) والصحيحين «عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال : نعم» (٧).

مضافاً إلى أنّها تقبل التذكية بقول مطلق وفاقاً للمشهور على ما حكي ، بل عن غاية المراد (٨) لا نعلم مخالفاً ، وعن بعض دعوى الاتّفاق عليه ، وعن الحلّي (٩) في السرائر الإجماع عليه ، ولم يسند الخلاف إلّا إلى المفيد (١٠) وسلّار (١١) وابن حمزة (١٢) للصحيحة المتقدّمة (١٣) في المسوخ المتأيّدة برواية عليّ بن أبي حمزة (١٤).

مضافاً إلى المرويّ عن قرب الإسناد «عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك ، قال : لا بأس ما لم يسجد عليها» (١٥) وموثّقي سماعة ففي أحدهما «سألته عن

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ٥ : ١٠.

(٢) المراسم : ١٧٠.

(٣) المهذّب ٢ : ٤٤٢.

(٤) السرائر ٢ : ٢٢١.

(٥) كذا في الأصل ، والظاهر أنّها زائدة.

(٦) الوسائل ١٧ : ١١٩ / ٣ ، ب ١٤ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٥٦ / ١٠٤٧.

(٧) الوسائل ١٧ : ١٧٠ / ١ ، ب ٣٧ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٨٦ / ١٠٤٨.

(٨) غاية المراد ٢ : ٦. (٩) السرائر ٢ : ٢٢٠.

(١٠) المقنعة : ٥٨٩. (١١) المراسم : ١٧٠.

(١٢) الوسيلة : ٢٤٨. (١٣) تقدّم في الصفحة ١٩٤.

(١٤) تقدّم في الصفحة ١٩٥.

(١٥) الوسائل ٤ : ٣٥٣ / ٥ ، ب ٥ لباس المصلّي ، قرب الإسناد : ٢٦١ / ١٠٣٢.

١٩٧

جلود السباع ينتفع بها؟ قال : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده» (١) وفي الآخر «سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : أمّا لحوم السباع والسباع من الطير فإنّا نكرهه ، وأمّا الجلود فاركبوا عليها ، ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه» (٢).

والأوّل صريح في قبول التذكية بالاصطياد ، ويتمّ في غيره بالإجماع على عدم الفصل ، والثاني يدلّ عليه بالالتزام إذ لولاه لم يجز الانتفاع بها في الركوب واللبس في غير الصلاة لحرمة جميع الانتفاعات بالميتة في غير الضرورة.

وقد يستدلّ بالسيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار على استعمال جلودها ، وبما ورد من النصوص في جواز استعمال جلد السنّور والثعالب ، والمرويّ عن قرب الإسناد مع دلالته على قبول التذكية بالالتزام يدلّ على جواز البيع بالمطابقة ، وقصورها بالإضمار وغيره منجبر بما عرفت من الشهرة ومنقول الإجماع ، مع ما قيل من كون الموثّق الثاني في محكيّ الفقيه مسنداً وهو حجّة في نفسه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٩ / ٢ ، ب ٤٩ النجاسات ، التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٥٣ / ٣ ، ب ٥ لباس المصلّي.

١٩٨

الباب الرابع

في التكسّب بما يحرم في نفسه

أعني ما يلحقه التحريم في حدّ ذاته ، لا باعتبار ما يتعلّق به كالأعمال المحرّمة سواء كانت ممّا قوبل بالمال أو لا ، فخرج به الأعيان المحرّمة الّتي لحوق التحريم بها باعتبار ما يتعلّق بها من الأفعال المقصودة منها من أكل كالميتة أو شرب كالخمر ، أو لعب ومقامرة كآلات اللهو والقمار ، أو عبادة لغير الله كالأصنام والصلبان ، لأنّ التحريم وغيره من الأحكام التكليفيّة لا يضاف إلى غير فعل المكلّف على وجه الحقيقة ، فما خرج بالقيد المذكور بالتوجيه المزبور الأعيان النجسة والأعيان المحرّمة لتحريم ما قصد منها وغيرها من عناوين الأبواب الثلاث المتقدّمة.

فما في كلام بعض مشايخنا (١) تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد من جعله لإخراج ما هو محرّم لنجاسته أو لغايته أو للعبث ، ليس بسديد ، وإن كان مفاده أيضاً إخراج ما ذكر من عناوين الأبواب المتقدّمة.

وأضعف من ذلك حمل القيد على إرادة الحرمة النفسيّة احترازاً عن المحرّمات الغيريّة كمقدّمات المحرّمات النفسيّة ، فإنّ من يحرّم التكسّب بالمحرّمات يحرّمه بمقدّماتها أيضاً. وكيف كان فبعد ما عرفت أنّ موضوع هذا الباب هو الأعمال المحرّمة يظهر أنّ التكسّب بها لا يتأتّى بنحو عقد البيع وغيره ممّا يختصّ بالأعيان ، بل إنّما

__________________

(١) الجواهر ٢٢ : ٤١.

١٩٩

يتأتّى بعقد الإجارة والجعالة والصلح ، لاشتراكه بين الأعيان والمنافع والأمهار في عقد النكاح بناءً على صحّة إمهار الأفعال والمنافع كالكتابة والخياطة وتعليم القرآن.

ثمّ إنّ الأعمال المحرّمة في الشريعة كثيرة بل في غاية الكثرة إلّا أنّ الأصحاب في هذا الباب اقتصروا منها على أنواع مخصوصة ، ونحن أيضاً نقتفي أثرهم فنقتصر على الأنواع المذكورة ونتكلّم فيها :

النوع الأوّل : في عمل الصور المجسّمة ، أي تصوير الصورة ، وكونها مجسّمة ، معناه كونها ذات ظلّ كنفس المصوّر أعني ذي الصورة. وكيف كان فالصورة إمّا مجسّمة ، أو غير مجسّمة كالمنقوشة على الجدار أو الوسادة أو البساط أو الورق أو غيره ، وعلى التقديرين إمّا من ذوات الأرواح الّتي قد يعبّر عنها بالحيوانيّة كصورة الإنسان والفرس والأسد والفيل والطاووس وغيرها من البهائم والسباع والمسوخ والحشرات والطيور وغيرها ، أو من غير ذوات الأرواح كالشجر والنخل والرياحين وغيرها ، فالأقسام أربع. وفي إطلاق موضوع الحكم بكلا الاعتبار أو تقييده بكليهما أو إطلاقه بالاعتبار الأوّل وتقييده بالاعتبار الثاني أو العكس احتمالات ، بحسبها اختلفت كلمات الأصحاب على وجه استظهر منها لهم أقوال أربع :

أحدها : تحريم عمل الصور مجسّمة أو غيرها من ذوات الأرواح وغيرها ، نسبه في المسالك (١) إلى جماعة.

وثانيها : تحريم عمل الصور المجسّمة من ذوات الأرواح ، نسبه أيضاً إلى جماعة.

وثالثها : تحريم عمل الصور المجسّمة ، وهو أيضاً لجماعة منهم المحقّق في الشرائع (٢) والنافع (٣).

ورابعها : تحريم عمل الصور من ذوات الروح ، اختاره في المسالك والروض (٤) والروضة (٥) والرياض (٦) ونسب إلى حاشية الإرشاد للكركي وحاشية الشرائع للميسي والشيخ إبراهيم القطيفي في إيضاح النافع (٧) ونسبه في الرياض إلى الأكثر بل عامّة من تأخّر.

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٦. (٢) الشرائع ٢ : ١٠.

(٣) النافع : ١١٦.

(٤) الروض ٢ : ٥٦٨.

(٥) الروضة ٣ : ٢١٢.

(٦) الرياض ٨ : ١٥١ ـ ١٥٢.

(٧) نقله عنه في مفتاح الكرامة ١٢ : ١٥٨.

٢٠٠