ينابيع الأحكام - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-470-850-3
الصفحات: ٩٣٥
الجزء ١ الجزء ٥

لأنّا [نقول] : إنّ هذا يعارضه قوله عليه‌السلام : «وكلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ...» الخ فإنّه أيضاً يتناولها من حيث قصد بوضعها اللهو أو العبادة لغير الله عزوجل للنهي عنهما المقصودين من وضعها ، وبينهما عموم من وجه فيتعارضان في الهيئة المشتركة ، لقضاء الأوّل جواز البيع والشراء وغيرها من سائر التصرّفات ، والثاني تحريمهما وتحريم غيرهما من سائر التقلّبات حتّى الإمساك من غير استعمال في اللهو والعبادة ، ويقدّم الثاني لأظهريّة دلالته خصوصاً بملاحظة الاستثناء القاضي بدخول جميع ما عدا المستثنى في المستثنى [منه] ويؤكّده التصريح بتحريم الإمساك المنافي لتجويز البيع في الجهة المحلّلة بل ... تجويز الاستعمال في تلك الجهة لاستلزامهما الإمساك المحرّم ، وبذلك يمكن أن يستدلّ على وجوب هدم الهيئة مطلقاً وكونه فوريّاً. وبهذا كلّه يمكن أن يستدلّ على أنّ هذه الآلات بأسرها ليس فيها منفعة محلّلة يجوز بيعها أو استعمالها في تلك المنفعة.

فالحقّ أنّ هذه الفقرة من الرواية كالفقرة الاخرى المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ، ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات ...» الخ ظاهرة كالصريحة في تحريم جميع المنافع المقصودة من هذه الآلات والأدوات والفوائد الغير المقصودة من دون استثناء شي‌ء إلّا ما دعا إليه الضرورة.

ويدلّ عليه التشبيه بالميتة في خبر أبي بصير والمرسل المتقدّمين لأنّ هذا هو حكم المشبّه به ، ويؤيّده الوجه الاعتباري الّذي سنذكره في بعض فروع ما كان لمكسورته قيمة ، ولعلّه لذا أطلق الأصحاب المنع من بيعها ، وظاهر عبارة المسالك إجماعهم عليه حيث قال : «ومن ثمّ أطلقوا المنع من بيعها» (١) حتّى أنّه نفى البعد عن الجواز فيما أمكن الانتفاع بها في غير الوجه الحرام من غير جزم به ، ولعلّه للتشكيك في تحقّق هذا المفروض فيما بينها فليتدبّر.

المسألة الثانية : فيما لو كان لمكسورها قيمة كما لو كانت متّخذة من ذهب أو فضّة

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٢.

١٤١

أو صفر أو رصاص أو نحوه ، ففي جواز بيعها حينئذٍ والعدم قولان ، بل أقوال ثلاث : المنع مطلقاً نسبه في المسالك (١) إلى الأكثر ، والجواز وهو خيرة السيّد في الرياض (٢) وقبله صاحب الحدائق (٣) وقبلهما صاحب الكفاية (٤) على ما حكي عنهما ، والجواز بشرط زوال الصفة قوّاه في التذكرة (٥) حكاه في المسالك واستحسنه قال : «ولو كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة ليكسر وكان المشتري ممّن يوثق بديانته ، ففي جواز بيعها حينئذٍ وجهان ، وقوّى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن ، والأكثر أطلقوا المنع» (٦). انتهى.

وظاهر العبارة وفاقهم على المنع فيما لم يشرط البائع على المشتري كسرها ولا قصده والمشتري إيّاه حين العقد ، وهل المعتبر في محلّ الخلاف قصد الكسر منهما وان لم يصرّحا بالشرط والاشتراط ، أو شرط الكسر على المشتري ولا يكفي مجرّد القصد في الجواز؟ يحتملهما العبارة كعبارة غيره ، وإنّما اعتبروا كون المشتري موثوقاً بديانته لأنّ المسوّغ للبيع عند قائليه أو محتمليه ليس مطلق قصد الكسر أو شرطه بل ما يستتبع منهما حصول الكسر في الخارج ، والمشتري إذا كان موثوقاً بديانته فبمقتضى ديانته يكسرها لا محالة.

والمراد بالصفة في كلام العلّامة الشارط لزوالها في الجواز ليس هو الهيئة كما قد يتوهّم فيورد عليه بأنّ زوال الهيئة لا يتأتّى إلّا بالكسر والجواز معه واضح وخارج عن محلّ النزاع ، بل أمر معنوي يدور عليه ما يقصد من الهيئة من اللهو والمقامرة ، وكأنّ نظره في اعتبار هذا الشرط إلى أنّ قصد الكسر وشرطه مع بقاء الصفة لا يجوّز البيع وإن كان المشتري موثوقاً به ، بل المجوّز له هو زوال الصفة إذ معه لا يتمشّى منه الفعل المحرّم والمفسدة الّتي تعلّق غرض الشارع بحسم مادّتها ، وإنّما اعتبر في محلّ الجواز عند قائليه وجود القيمة لمكسورتها تخلّصاً عن لزوم كون البيع والشراء من المعاملة السفهيّة.

ثمّ السيّد في الرياض تمسّك للجواز «بالأصل وعدم دليل على المنع يشمل محلّ

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٢.

(٢) الرياض ٨ : ١٤٠.

(٣) الحدائق ١٨ : ٢٠١.

(٤) الكفاية : ٨٥.

(٥) التذكرة ١ : ٤٦٥.

(٦) المسالك ٣ : ١٢٢.

١٤٢

الفرض ، لندوره فلا يشمله العموم المتقدّم كإطلاق الأكثر» (١).

والظاهر أنّه أراد بالأصل الأصل الثانوي المستفاد من عمومات الجواز والصحّة الواردة في أبواب العقود أجناساً وأنواعاً. وأمّا ندور محلّ الفرض فليس بواضح بل موضع منع ، سواء أراد به ندرة المبيع وهو ما كان من هذه الآلات لمكسورته قيمة ، أو ندرة البيع وهو ما قصد فيه أو شرط في ضمنه الكسر ، أمّا الأوّل فلوضوح غلبة وجود القيمة لمكسورة هذه الآلات ، وأمّا الثاني فلوضوح الفرق بين ندرة الفرد وندرة الحالة العارضة له من باب العرض المفارق ، والموجود في محلّ الفرض من قبيل الثاني فلعدم كون هذه الحالة أعني القصد والشرط المذكورين من مشخّصات الفرد لا يوجب ندرتها ندرة في الفرد مانعة عن تناول العموم والإطلاق ، ولذا لو قطع النظر عنهما أو فرض عدم طروّهما لهذا الفرد من البيع لشمله العموم والإطلاق بلا شبهة ، فقد اختلط الأمر عليه قدس‌سره.

مع أنّ تأثير الندرة لو سلّمناها في منع تناول العموم الوضعي كما في أكثر عمومات المسألة محلّ منع ، فالأقوى ما عليه الأكثر من إطلاق المنع عملاً بالعموم المخرج عن الأصل المذكور ، ولا يجدي في منع شموله ولا ثبوت الجواز قصد الكسر ولا شرطه سواء كان المشتري موثوقاً بديانته أو لا. هذا كلّه فيما لو كان مورد العقد هو المادّة المتهيّئة بهذه الهيئة المخصوصة مع وجود الصفة المطلوبة منها بحيث كانت الهيئة جزءاً من المبيع وكان الثمن مبذولاً في مقابل المجموع كما هو معقد كلام الأكثر. وأمّا غير هذه الصورة فيندرج فيه امور ينبغي التعرّض لذكرها من باب التفريع :

الأوّل : ما لو باع المادّة فقط حال وجود الهيئة من دون اعتبار الكسر ولا اعتبار الهيئة جزءاً للمبيع ، بأن يكون المال مبذولاً ومأخوذاً في مقابل المادّة كأن يقول : بعتك رصاص هذا الصنم أو ذهبه أو خشبه ، ففي جواز البيع حينئذ وجهان : من عدم تناول شي‌ء من عمومات المسألة لعدم كون المبيع أمراً يكون فيه الفساد ، ولا شيئاً فيه وجه من وجوه الفساد ، ولا أنّه ملهوّ به ولا منهيّ عنه ، ولا أنّه الشطرنج وغيره من

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٤٠.

١٤٣

الأسماء ، ولا أنّه ممّا حرّمه الله ، ولا أنّه محرّم أصله ومنهيّ عنه. ومن أنّ تجويزه حينئذٍ ينافي الحكمة الباعثة على تشريع حرمة البيع وسائر التقلّبات وهو الامتناع عنه لحسم مادّة الفساد ، وإذا عرف الناس جواز بيع المادّة لتوصّلوا إلى تناول الهيئة واستعمالها في اللهو بهذه الحيلة. ولا يبعد الجواز مع كون المشتري موثوقاً بديانته لأنّه بموجب ديانته لا يستعملها في اللهو ، وغاية ما يلزم من البيع حينئذٍ هو ترك واجب وهو هدم الهيئة وهذا لا يؤثّر في تحريم البيع ولا بطلانه.

الثاني : ما لو باعها مع زوال الصفة وهي صفة الفساد ولو مع وجود الهيئة ، وقد عرفت أنّ العلّامة في التذكرة قوّى جوازه واستحسنه ثاني الشهيدين في المسالك ، فما قوّاه الأوّل واستحسنه الثاني حسن لأنّ الهيئة إنّما صارت محرّمة منهيّاً عن بيعها وشرائها لما يترتّب عليها من فساد اللهو والمفروض زوالها ، فلا يجري عمومات المنع ولا يكون أكل المال المبذول بازاء المجموع أكلاً للمال بالباطل.

الثالث : قال في جامع المقاصد على ما حكي : «لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها وكان المشتري موثوقاً به وأنّه يكسرها أمكن القول بصحّة البيع ، ومثله باقي الامور المحرّمة كأواني النقدين والصنم» (١) انتهى. والجواز والصحّة هنا مع الشرط المذكور أيضاً غير بعيد ، وجهه عدم كون الرضاض المبذول له المال قبل الكسر أمراً يكون فيه الفساد ، ولا شيئاً فيه وجه من وجوه الفساد ، ولا أنّه مبيع ملهوّ به ولا منهيّ عنه يتقرّب به لغير الله ، ولا أنّه الشطرنج فلا يتناوله شي‌ء من عمومات المسألة.

الرابع : ما لو باع مقداراً معيّناً من الجنس المتّخذ منه هذه الآلات على نحو الكلّي في الذمّة ـ كمنّ من رصاص أو صفر أو ذهب أو فضّة أو صاع من خشب ـ ثمّ سلّم إليه في مقام الردّ المعبّر عنه بالمعاملة الوفائيّة ما ينطبق على المبيع من هذه الآلات ، فالظاهر بل المقطوع جوازه وصحّته لأنّه ليس من بيع الآلات فلا يندرج في أدلّة المنع أصلاً ، ومثله ما لو باع صاعاً معيّناً من حطب مثلاً ، وقال : بعتكه بكذا ، فظهر فيه صنم أو صليب أو نحوه ممّا اتّخذ من الخشب. ومن مشايخنا من قال : بأنّ الحكم ببطلان البيع

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ١٥.

١٤٤

هنا مشكل ، لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد ، لأنّ المتيقّن من الأدلّة المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الامور.

الخامس : ما لو باع من هذه الآلات شيئاً مع الضميمة ممّا يجوز بيعه منفرداً فهل الضميمة يسوّغه كما تسوّغ بيع العبد الآبق وبيع الثمرة على الشجرة بعد الظهور وقبل البلوغ؟ فالوجه فيه المنع ، للعموم المعتضد بإطلاق فتاوي الأصحاب وإطلاق معاقد الإجماع خصوصاً عموم «وجميع التقلّب فيه».

السادس : في بقايا أحكام هذه الآلات من تحريم عملها على معنى صنعها ، وتحريم الانتفاع بها في اللهو والقمار والعبادة المبتدعة ، وتحريم إبقائها المستلزم لوجوب هدم هيئاتها المخصوصة المحرّمة بالكسر ونحوه ، وعدم ملكها ولو باعتبار عدم مملوكيّة الهيئة المتقوّمة بالمادّة.

ويدلّ على الأوّل ـ بعد ظهور عدم الخلاف فيه والإجماعات المنقولة المحكيّة عن جماعة كالمفيد (١) وابن زهرة (٢) والعلّامة (٣) على حرمة أخذ الاجرة عليها الظاهرة في أخذها على صنعتها والأولويّة بالإضافة إلى تحريم التكسّب بها ، وعموم تحريم المعاونة على الإثم ـ عموم قوله عليه‌السلام في رواية تحف العقول : «فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على جمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي‌ء أو حفظه ، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً ، أو قتل النفس بغير حقّ ، أو عمل التصاوير والأصنام والمزامير والبرابط والخمر والخنازير والميتة والدم ، أو شي‌ء من وجوه الفساد الّذي كان محرّماً عليه من غير جهة الإجارة فيه وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات ، فتحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شي‌ء منه أو له» الخ. وكذلك قوله عليه‌السلام فيما بعد ذلك وذلك «إنّما حرّم الله الصناعة الّتي هي حرام كلّها الّتي يجي‌ء منها الفساد محضاً ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ ملهوّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ولا يكون منه ولا فيه شي‌ء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلّمه

__________________

(١) المقنعة : ٥٨٧.

(٢) الغنية.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠١١.

١٤٥

والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» الخ.

ويدلّ على الثاني : أدلّة تحريم هذه المحرّمات والنواهي الواردة فيها ، والعقل المستقلّ بقبح الشرك بالله وتشريك غيره له في العبادة ، وعموم «جميع التقلّب فيه».

وعلى الثالث : قوله عليه‌السلام : «وإمساكه».

وعلى الرابع : قوله : «وملكه» بناءً على أنّ المراد به ترتيب آثار الملك ، والقدر المتيقّن من مورده المجموع من المادّة والهيئة ولو باعتبار عدم ملكيّة الهيئة المتقوّمة بالمادّة يقع الشك في أنّ عروضها المادّة يزيل ملكيّتها السابقة فيحكم بالبقاء استصحاباً للحالة السابقة ، فالقول بملك المادّة دون الهيئة أصحّ الأقوال ، وقيل بالملك فيهما ، وقيل بعدمه فيهما ، وهما ضعيفان.

وعلى المختار من كون المادّة ملكاً فلو أتلفها متلف وجب عليه ضمانها إن كان لهدم الهيئة وإعدامها طريق آخر غير إتلاف المادّة ، فلو توقّف إعدامها على إتلافها فلا ضمان لترخيص الشارع في إتلافها حينئذ باعتبار عموم إيجابه هدم الهيئة وإعدامها.

ثمّ إنّه قد يلحق بتلك الآلات في تحريم البيع والشراء والتكسّب بها والمعاوضة عليها أمران :

أحدهما : أواني الذهب والفضّة.

وثانيهما : الدراهم والدنانير المغشوشة أو المسكوكة بسكّة الخارج.

فهاهنا مسألتان :

المسألة الاولى : في الأواني قال في المسالك : «وهل الحكم في أواني الذهب والفضّة كذلك؟ يحتمله بناءً على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب ، وعدمه لجواز اقتنائها للادّخار وتزيين المجلس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب وهي منافع مقصودة ، وفي تحريم عملها مطلقاً نظر» (١) انتهى.

يظهر منه أنّ تحريم التكسّب بها مطلقاً بالبيع والشراء وغيرهما مبنيّ على تحريم جميع منافعها واستعمالاتها حتّى في غير الأكل والشرب بل اقتنائها للادّخار وتزيين

__________________

(١) المسالك ٣ : ١٢٣.

١٤٦

المجالس ، ولذا اختار جماعة (١) من مشايخنا قدّس الله أرواحهم التحريم هنا أيضاً لبنائهم على تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء ، كما هو الأقوى وفاقاً للمشهور بل عن كشف الرموز (٢) نفي الخلاف فيه وعن التذكرة (٣) وغيره الإجماع عليه ، خلافاً لجماعة منهم المسالك (٤) كما عرفت فخصّوا تحريم الاستعمال بالأكل والشرب.

ومن مشايخنا من بنى تحريم المعاوضة عليها على أحد الأمرين : من تحريم اقتنائها ، أو قصد المعاوضة على مجموع الهيئة والمادّة لا المادّة فقط (٥).

ويظهر منه أنّه لو قصدها مع عدم تحريم الاقتناء على المادّة فقط لم تكن محرّمة ، وحيث إنّ المختار تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء اتّجه تحريم المعاوضة عليها مطلقاً ، لعدّة من العمومات الواردة في رواية التحف ، وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبويّ : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً على تعليقه تحريم الثمن الملازم لتحريم المبايعة على تحريم جميع منافع الشي‌ء أو منافعه الغالبة ، ونحوه قوله عليه‌السلام في رواية الدعائم : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» وقضيّة حرمة جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء وجوب كسرها وإخراجها عن هيئة الإنائيّة فوراً.

المسألة الثانية : في الدراهم والدنانير المغشوشة ، ولها حالتان :

إحداهما : كونها معلومة الصرف ، وهو على ما فسّرها في المسالك وغيره «كونها متداولة بين الناس مع علمهم بحالها» (٦) على معنى كونها رائجة في معاملاتهم ومعاوضاتهم مع وضوح كونها مغشوشة لديهم ، وهذا ممّا لا إشكال في جواز إخراجها وإنفاقها والمعاوضة عليها سواء جعلت أعواضاً أو معوّضات بل لا خلاف فيه أجده.

وفي كلام بعض مشايخنا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه ، بل هو معلوم بالسيرة القطعيّة ، ومدلول عليه بالأخبار المستفيضة الّتي يقف عليها من يراجع مظانّها.

واخراهما : كونها مجهولة الصرف بالمعنى المذكور ، وهذا ممّا صرّحوا بعدم جواز

__________________

(١) كما في الجواهر ٢٢ : ٢٦.

(٢) كشف الرموز ١ : ١١٨.

(٣) التذكرة ٢ : ٢٢٦.

(٤) المسالك ٣ : ١٢٣.

(٥) المكاسب للشيخ الأنصاري ١ : ١١٨.

(٦) المسالك ٣ : ٣٣٨.

١٤٧

إنفاقها إلّا بعد إبانة حالها ، وفي كلام بعض المشايخ «بلا خلاف بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه» (١) والنصوص الدالّة عليه أيضاً كثيرة ، وفي بعضها كرواية الجعفي (٢) الأمر بكسرها تعليلاً بأنّه «لا يحلّ بيعه ولا إنفاقه» وفي رواية موسى ابن بكير «قطعه نصفين ، ثمّ قال : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بما فيه من الغشّ» (٣) وخبر فضل أبي العبّاس قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال : إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس ، وإن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا» (٤) والمستفاد من بعض الروايات جواز بيعها إذا بيّن حالها ، وهو المصرّح به في كلام جماعة ، كما أنّ المصرّح به في كلامهم أنّ المعتبر في محلّ المنع كون الغشّ كثيراً لا يتسامح فيه بحيث لو علم من صار إليه لم يقبله ، فلو كان قليلاً متسامحاً فيه لا بأس بإخراجه وإنفاقه.

ثمّ بقي امور :

الأوّل : هل يجب كسرها؟ وجهان : من الأصل المعتضد بعدم الوقوف على مصرّح من الأصحاب بوجوبه ، ومن الأمر به في رواية الجعفي وبتقطيعه نصفين وإلقائه في البالوعة في رواية ابن بكير. والأوجه الأوّل ، لعدم ظهور عامل بالخبرين ، مع خلوّ باقي النصوص عنه ، بل ينساق من ملاحظة مجموعها ولا سيّما ما دلّ منها على جواز الإنفاق في البيع مع إعلام الحال عدم وجوبه ، مع أنّ الأمر بالكسر في خبر الجعفي بمقتضى ظاهر التعليل غيري والغرض الأصلي منه التجنّب عن بيعها وإنفاقها في المعاملات. فمن قصد باقتنائها غرضاً آخر غير البيع وإنفاقها فيه كالزينة ونحوها لم يشمله الأمر بالكسر ، منها مفهوم صحيح محمّد بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره ثمّ يبيعها ، قال : إذا بيّن ذلك فلا بأس» (٥).

__________________

(١) الجواهر ٢٤ : ١٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٨٦ / ٥ ، ب ١٠ أبواب الصرف ، التهذيب ٧ : ١٠٩ / ٤٦٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٨٦ / ٥ ، ب ١٠ أبواب الصرف ، التهذيب ٧ : ١٠٩ / ٤٦٦.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٨٨ / ٩ ، ب ١٠ أبواب الصرف ، الكافي ٥ : ٢٥٣ / ٤.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٨٥ / ٢ ، ب ١٠ أبواب الصرف ، الكافي ٥ : ٢٥٣ / ٢.

١٤٨

الثاني : هل يجوز دفعها إلى العشّار وغيره ممّن يأخذ الأموال بغير حقّ من الظلمة وحكّام الجور؟ أقربه ذلك ، وأحوطه الترك.

الثالث : أنّ محلّ الحرمة على ما عرفت ما لو وقعت المعاوضة عليه من غير أن يبيّن الحال لمن صار إليه ، ولكن مع علم البائع أو المنفق له بالحال ، فأمّا لو جهلا فلا حرمة جزماً لقبح تكليف الغافل ، وهل تقع فاسدة مع الحرمة ومع انتفائها؟ وجهان : من ظاهر النهي الكاشف عن عدم صلاحية هذه الدراهم بحسب الشرع للعوضيّة والمعوّضيّة ، ومن ظاهر بعض النصوص في كون الحرمة تكليفاً صرفاً غير مؤثّر في الفساد ، كخبر جعفر بن عيسى قال : «كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام ما تقول جعلت فداك في الدراهم الّتي أعلم أنّها لا تجوز بين المسلمين إلّا بوضيعة تصير إليّ من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به ، وإنّما آخذه على أنّه جيّد أيجوز لي أن آخذه واخرجه من يدي على حدّ ما صار إليّ من قبلهم؟ فكتب : لا يحلّ ذلك ...» (١) الخ ، فإنّه لو فسدت المعاملة لأمره عليه‌السلام بردّ الدراهم الصائرة إليه على صاحبه ، فتأمّل.

وقد يفصّل بأنّه إن وقع المعاوضة عليه بعنوان الدرهم المفروض انصراف إطلاقه إلى الصحيح المسكوك سكّة السلطان بطل البيع ، وإن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة ، وإن كان مجرّد تفاوت السكّة فهو خيار التدليس انتهى.

ولعلّ وجهه استظهار الفساد من النهي مع جعل مورده بمقتضى انسياق إطلاق نصوصه ما لو أخذت هذه الدراهم في المعاملة عوضاً أو معوّضاً بعنوان الدراهم المعمولة في المعاملات لا من حيث الخصوصيّة على حدّ ما يؤخذ فيها من سائر الأموال الغير المندرجة في عنوان الدراهم ، والأقوى عدم الفرق مع الصحّة منعاً لاقتضاء النهي هنا الفساد لعدم كشفه عن عدم صلاحيته العوضيّة والمعوّضيّة وإلّا لم يفرّق بين صورتي الجهل والعلم ولا بين حالتي بيان الحال وعدمه ، كما في الأعيان النجسة وآلات اللهو والقمار وهياكل العبادة المبتدعة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٨٧ / ٨ ، ب ١٠ أبواب الصرف ، التهذيب ٧ : ١١٦ / ٥٠٦.

١٤٩

ثمّ اعلم أنّ ما يحرم المعاوضة عليه لتحريم ما قصد به ينقسم إلى ما قصد بوضعه واختراعه على النحو الخاصّ الحرام كآلات اللهو وهياكل العبادة وآلات القمار وما أشبه ذلك ، وما قصد المتعاقدان بالمعاوضة عليه المنفعة المحرّمة كبيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً أو آلة لهو أو قمار ونحوه.

وقد يذكر قسم ثالث وهو ما من شأنه أن يقصد به الحرام واندراجه في العنوان مبنيّ على تعميم ما قصد به بالنسبة إلى الفعل والشأن ليكون تقدير العبارة ما قصد به فعلاً أو شأناً.

وعبّر في الشرائع (١) عن القسمين بما أفضى إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين وإجارة المساكن والسفن للمحرّمات وبيع العنب ليعمل خمراً وبيع الخشب ليعمل صنماً ، بناءً على كونه عطفاً على سابقه من آلات اللهو وهياكل العبادة المبتدعة وآلات القمار ليكون قسماً من عنوان ما يحرم لتحريم ما قصد به ، لا على أصل العنوان ليكون قسيماً له كما هو الظاهر ، وإلّا لوجب إفراده بعنوان آخر. فذكره في عداد أقسام العنوان المذكور لا إفراده بعنوان آخر قرينة واضحة على أنّه من الأقسام. والمساعدة المأخوذة في هذا القسم عبارة عن المعاونة ، والإفضاء إليه هو الانتهاء إليه ، وقيل : الإفضاء إلى الشي‌ء الوصول إليه ، وهما متقابلان.

وقد يدخل في الوهم أنّ اعتبار الإفضاء وتوسيطه بين المعاوضة والمعاونة لا يجدي فائدة فيكون لغواً ، فإنّ بيع العنب ليعمل خمراً مثلاً والمعاوضة بقصد المنفعة المحرّمة بنفسه مساعدة على المحرّم فلا فائدة لتوسيط الإفضاء.

ويمكن دفعه بأنّ المعاونة على الشي‌ء عنوان يصدق على إيجاد مقدّمة حرام الغير بشرط أن يقصد به توصّل الغير إلى الحرام ، مع ترتّب التوصّل إليه في الخارج عليه ، وبدون الشرطين معاً أو بدون الشرط الثاني لا يصدق عليه المعاونة ، وأوّل الشرطين حيث يتحقّق وإن قارن تحقّقه لإيجاد المقدّمة إلّا أنّ ثانيهما حيث يتحقّق فإنّما يتحقّق متراخياً عن زمان إيجادها فيكون صدق عنوان المعاونة حينئذٍ من حين إيجادها مراعى لتحقّقه.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ١٠.

١٥٠

وقضيّة ذلك أن لا يكون البيع في نفسه معاونة بل مفضياً ومنتهياً إليه فتأمّل ، لتطرّق المنع إلى اعتبار الشرط الثاني بل يكفي قصد الإعانة بإيجاد المقدّمة أو قصد التوصّل به مع العلم ولو من جهة العادة ، أو كون الغير في شرف التشاغل بها بأنّه يتوصّل إليه فلا بدّ من أن يراد من الإفضاء إليها تحقيقها على معنى كون البيع محقّقاً لعنوان المساعدة ، وكيف كان ففي صدق ما يفضي إلى المساعدة على محرّم للقسم الأخير من الأقسام الثلاث المذكورة منع واضح.

وقد يقال : إنّ في المقام موضوعات للحكم بالتحريم :

منها : بيع ما من شأنه أن يفضي إلى المساعدة على المحرّم سواء أفضى فعلاً أو لا ، وسواء قصد ذلك أو لا.

ومنها : ما علم أنّه يفضي فعلاً وقصد ببيعه ذلك ، وهذا أظهر أفراد العنوان.

ومنها : ما قصد ببيعه الإفضاء إلى المساعدة من دون علم بأنّه يفضي فعلاً ، سواء ظنّ به أو شكّ فيه أو علم بالعدم.

ومنها : ما علم بكونه يفضي ولكن لم يقصد ببيعه ذلك. والأولى في ضبط الأقسام هو ما ذكرنا ، وأمّا أحكام هذه الأقسام فقد تقدّم الكلام في حكم القسم الأوّل منها مشروحاً.

وأمّا القسم الثاني فقد ذكروا له أمثلة يذكر أحكامها في طيّ مسائل المسألة الاولى : في بيع الخشب ليعمل صنماً وبيع العنب ليعمل خمراً ، وهذا يتضمّن صوراً خمس :

الاولى : أن يباع العنب أو الخشب على أن يخمّره المشتري أو يتّخذه صنماً ، بأن يشرطه البائع على المشتري ، وبعبارة اخرى بناء العقد على التخمير واتّخاذ الصنم.

الثانية : أن يتواطآ ويتوافقا عليه قبل إجراء العقد ثمّ يباع من غير تصريح بالشرط في ضمن العقد ، ويعبّر عنه بالشرط المضمر.

الثالثة : أن يقصده البائع والمشتري حين العقد من غير شرط في ضمنه ولا توافق قبله.

الرابعة : أن يقصده البائع خاصّة.

١٥١

الخامسة : أن يقصده المشتري كذلك.

ويمكن تحريمه في جميع الصور كما ربّما يستشمّ من إطلاق بعض فتاوي الأصحاب وإن كان دعوى انصرافه إلى بعض الصور أو ما عدا الصورة الأخيرة غير بعيدة ، وهو في الجملة ممّا لم يوجد فيه خلاف ، وعن مجمع البرهان (١) نسبته إلى ظاهر الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع ، بل صرّح به السيّد في الرياض (٢) حاكياً له عن المنتهى (٣).

ويدلّ عليه في الجملة عموماً قوله عليه‌السلام في رواية التحف : «أو شي‌ء فيه وجه من وجوه الفساد» بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المثال ، وأنّ المراد تحريم بيعه في وجه الفساد كما هو المتبادر ، أو أنّه معلوم بدليل من الخارج.

مضافاً إلى قاعدة حرمة الإعانة على الإثم ، لوضوح صدق الإعانة على البيع فيما عدا الصورة الأخيرة. والسرّ فيه أنّ الإعانة على الإثم عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية إعانته عليها أو أن يتوصّل إليها مع تعقّبه بحصول التوصّل في الخارج ومعناه حصول المعصية المعان عليها ، ويندرج فيه البيع في جميع الصور الأربع على تقدير حصول عمل الخمر والصنم من المشتري ، وأمّا شمول النهي للبائع وتعلّق الحرمة به فمنوط بعلمه حين البيع بتعقّبه للعمل المذكور.

وإلى قاعدة وجوب النهي عن المنكر ، بتقريب أنّه عبارة عن الردع عن المعصية وهو جهة جامعة بين رفعها في المتشاغل بها ودفعها في العازم على التشاغل ، والبيع المذكور في الصور المذكورة حتّى الأخيرة منها لو علم البائع بأنّ المشتري يعمل الحرام في المبيع وإن لم يقصده ترك للردع عن المعصية بمعنى دفعها فيكون محرّماً.

وإلى قاعدة تحريم الأمر بالمنكر كالنهي عن المعروف على ما يستفاد من أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بتقريب أنّ الأمر بالمنكر عبارة عن الحمل على المعصية ، والبيع المذكور حتّى في الصورة الأخيرة مع علم البائع بصدور العمل المحرّم من المشتري حمل له على المعصية فيكون محرّماً.

وإلى قاعدة وجوب اللطف بمعنى تقريب العبد إلى الطاعة وتبعيده عن المعصية ،

__________________

(١) مجمع البرهان ٨ : ٥١.

(٢) الرياض ٨ : ١٤٤.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠١١.

١٥٢

بتقريب أنّ من أقسامه ما يجب على العباد غير النبيّ والوصيّ ، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون التقريب إلى المعصية أو ترك التبعيد عنها قبيحاً وكلّ قبيح محرّم ، والبيع المذكور حتّى في الصورة الأخيرة تقريب إليها أو ترك للتبعيد عنها فيكون محرّماً.

وإلى القاعدة المستفادة من الأخبار الواردة في ذمّ أعوان بني اميّة ، فإنّ المستفاد منها ذمّهم على أفعال وأعمال لو تركوها لم يتحقّق معصية غصب حقّ أهل بيت العصمة من بني اميّة ، فتدلّ على أنّ المناط في الذمّ فعل مقدّماً تكون من أجزاء علّة وقوع المعصية من صاحبها سواء كان تركه علّة تامّة لعدم وقوعها منه أو لا.

ويدلّ عليه خصوصاً حسنة عمر بن اذينة بإبراهيم بن هاشم على المشهور بل صحيحه على الأصحّ قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال : لا بأس به ، وعن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً ، قال : لا» (١).

وخبر عمرو بن حريث قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب والصنم؟ قال : لا» (٢).

إطلاق الجواب فيهما بانضمام ترك الاستفصال يعمّ الصور الخمس بأجمعها. وضعف سند الثاني بجهالة أبان بن عيسى القمّي منجبر بعمل الأصحاب ، مضافاً إلى وجود الحسن بن محبوب المجمع على تصحيح ما يصحّ منه في السند.

نعم قد يناقش في دلالة الاولى على التحريم بمنع كون كلمة «لا» نهياً نظراً إلى ظهور «باعه» في السؤال في المضيّ فيكون سؤالاً عن الواقعة بعد وقوعها لا عنها على تقدير الوقوع ، والنهي عن البيع الواقع في الخارج بعد وقوعه غير معقول فتكون نفياً ، ولا يمكن توجيهه إلى الماهيّة لفرض وقوع البيع فلا بدّ وأن يوجّه إلى الصحّة ، فأقصاه حينئذٍ فساد البيع وهو لا يلازم التحريم ، وإن كان ولا بدّ من حملها على النهي ، فيجب إرجاعها إلى ما يمكن النهي عنه مثل التصرّف في الثمن ونحوه.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٦ / ١ ، ب ٤١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٦ / ٢ ، ب ٤١ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٥.

١٥٣

وتندفع بشيوع التعبير في أخبار أهل بيت العصمة ولا سيّما في أسئلتها عن الحال أو المستقبل بصيغة المضيّ ، وبوجود القرينة في خصوص المقام على إرادة السؤال عن الواقعة على فرض وقوعها ، وهو قوله : «ممّن يتّخذه» فإنّه أظهر في المستقبل من قوله : «فباعه» في المضيّ ، ومن ثمّ لم يتأمّل أحد فيها من هذه الجهة.

ولا يقدح في التمسّك بها تدافع ما بين موضع الدلالة وسابقه من حيث إنّ الأصحاب لا يفرّقون في المنع والتحريم في بيع الخشب بين بيعه ممّن يتّخذه برابط وبيعه ممّن يتّخذه صلباناً.

وقد صرّح بعدم البأس فيه مع إمكان التوفيق بينهما بأحد وجوه ، أجودها حمل نفي البأس على التقيّة ، نظراً إلى أنّها وردت في عهد خلفاء الجور المستحلّين للملاهي بالبرابط والعودان والمزامير وغيرها من آلات اللهو المنهمكين عليها ، فكان المنع من اتّخاذ الخشب لعملها وعن بيعه ممّن يتّخذه لعملها موضع خوف وتقيّة ، خصوصاً مع كون الرواية مكاتبة يسرع إليها الإشاعة ، بخلاف المنع من اتّخاذه للصليب والصنم والبيع لعمله فإنّه لم يكن بتلك المثابة.

وقد يحتمل للتوفيق عود ضمير «يتّخذه» إلى جنس الخشب على طريقة الاستخدام لا شخص المبيع أو كون البائع علم بكون المشتري إنّما اتّخذه لهذا العمل بعد البيع ، ووحدة السياق يبعّدهما جزماً.

ثمّ إنّ الخبرين كما ترى مختصّان ببيع الخشب ، والتعدّي عنه إلى بيع العنب بحيث يخرج عن القياس المحرّم مشكل.

وتوهّم : تنقيح المناط بدعوى أنّه يظهر من النصّ أنّ العلّة في منع البيع صرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة عن نظر الشارع ، ونقطع أنّ الفارق وهو خصوصيّة الخشبيّة ملغى في نظر الشارع ولا تأثير له في الحكم.

يدفعه : أنّ هذا المناط ممّا لا منقّح له ، والقطع بكون الفارق ملغى ممّا لا موجب له ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الغاية المطلوبة من اتّخاذ الصنم والصليب إنّما هو العبادة لغير الله ، وهو أشدّ قبحاً وأعظم مفسدة من الغاية المطلوبة من اتّخاذ الخمر وهو شربها ولعلّه

١٥٤

الفارق بين الأصل والفرع ، فدعوى تنقيح المناط في غاية البعد.

نعم لو استند للتعدّي إلى الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل نظراً إلى ظاهر عبارات جماعة حيث نراهم يذكرون المسألتين بعنوان واحد ويتمسّكون لهما بالخبرين ، لم يكن بذلك البعيد ، إلّا أنّ الإجماع على عدم الفرق ليس بمقطوع به ، وغايته الظنّ خصوصاً مع الالتفات إلى ما قد يحتمل في وجه الجمع بين الخبرين وغيرهما من الأخبار المصرّحة بجواز بيع العنب أو العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً من العمل بهما في بيع الخشب بالأخبار المجوّزة في بيع العنب.

ثمّ إنّه قد يمنع دلالة الخبرين على المنع والتحريم فيما عدا الصورة الأخيرة بل مطلقاً ، فإنّ حملها على صورة الاشتراط أو هو مع المواطاة أو هما مع القصد منهما أو من البائع فقط بعيد. بل في غاية البعد ، إذ لا غرض للمسلم في بيع ماله على هذا الوجه أصلاً خصوصاً إذا كان عدلاً أو ثقة فكيف يجوز على مسلم عدل أنّه أراد البيع على هذا الوجه ثمّ يجي‌ء إلى إمامه ليسأله عن حكمه جوازاً وتحريماً. ولو قيل بأنّ الخبرين يحملان حينئذٍ على الصورة الأخيرة ثمّ يستدلّ بهما على حكم ما عداها أيضاً باعتبار الفحوى.

وردّ عليه أنّه إنّما يستقيم لو سلّم دلالتهما على المنع والتحريم بالنسبة إلى هذه الصورة لأنّهما معارضان بما هو أقوى وأصرح دلالة منهما من الأخبار المجوّزة لبيع العنب أو العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو مسكراً ، وحملهما على الكراهة كما هو المشهور في حكم البيع ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً وهو الأقوى على ما ستعرف ففي نهوض الخبرين حينئذٍ بحكم مسألتنا غاية الإشكال ، إلّا أن يقال بأنّ المناقشة المذكورة مع أنّ مبناها على الاستبعاد مختصّة بمعتبرة عمرو بن حريث ولا تجري في صحيحة عمر بن اذينة كما لا يخفى ، وهذا كافٍ في إنهاض الدليل على حكم المسألة بالخصوص فتأمّل.

ثمّ إنّ حكم المسألة يجري في بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في المنفعة المحرّمة بإحدى الصور الأربع المذكورة ، لعموم القواعد المشار إليها ، مضافاً إلى القاعدة

١٥٥

الّتي أقعدناها في ذيل مسألة المسكرات الجامدة ، بل هذه القاعدة أيضاً تنهض مدركاً آخر للحكم في مسألتنا هذه أيضاً.

ثمّ إنّ البيع بالنسبة إلى الصور المذكورة حيث يحرم يفسد على معنى أنّ تحريمه يلازم الفساد لتعلّق النهي به باعتبار المعوّض الّذي هو من أركان عقد المعاوضة ، ومن المقرّر أنّه ممّا يقتضي الفساد حتّى أنّه لو قلنا في الصورة الأخيرة بالتحريم أيضاً لزمه الفساد ، كما أنّه كذلك في الصورة الرابعة أيضاً وإن اختصّ التحريم بالبائع لأنّ الفساد من جانب واحد يستلزمه من الجانب الآخر ، لأنّ تبعّض العقد في الصحّة والفساد بالنسبة إلى الجانبين غير معقول.

وممّا يمكن أن يحتجّ به على الفساد الإجماع حيث ثبت على التحريم لظهور عباراتهم بل صريح جملة منها في الملازمة بينهما ، فالإجماع على التحريم إجماع على الفساد ، ولعلّه لأجل قاعدة اقتضاء النهي حسبما بيّنّاه ، مضافاً إلى قوله : «أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» بناءً على عمومه لما نحن فيه كما سبق لدلالته على الحكم تكليفاً ووضعاً ، مضافاً إلى قوله عزّ من قائل : «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (١) بتقريب أنّ أخذ الثمن المبذول بإزاء المبيع المحصور في البيع في المنفعة المحرّمة المبغوضة للشارع الساقطة في نظره والتصرّف فيه ، أكل للمال بسبب الباطل ، ولا يكون إلّا من جهة عدم انتقاله بالعقد إلى البائع.

وتوهّم : أنّه داخل في المستثنى لكونه من التجارة عن تراضٍ فلا يتناول حكم المستثنى منه للثمن ، يدفعه : أنّ التراضي الموجب للصحّة في التجارة هو الّذي أمضاه الشارع لا مطلق التراضي ، ولذا لا يصحّ البيع الربوي وبيع الخمر والميتة وغيرها من الأعيان النجسة وغيرها ممّا يحرم التكسّب ، فهو فيما نحن فيه غير مجدٍ في الصحّة ، فيكون الثمن الصائر إلى البائع مندرجاً في حكم المستثنى منه.

ويؤيّد الجميع النصوص الواردة في بيع الجارية المغنّية وشرائها الدالّة على فساده باعتبار ما في بعضها من «أنّ ثمن المغنّية حرام» (٢) وفي البعض الآخر «ثمن الكلب

__________________

(١) البقرة : ١٨٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٢٣ / ٣ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، إكمال الدين : ٤٨٣ / ٤.

١٥٦

والمغنّية سحت» (١) وفي البعض الآخر أيضاً «ثمن المغنّية ثمن الكلب وثمن الكلب سحت والسحت في النار» (٢) نظراً إلى أنّ ما نحن فيه مع بيع المغنّية لأجل التغنّي بها من وادٍ واحد ، وإنّما لم نعتبره دليلاً خروجاً عن شبهة القياس.

تذنيب : فيما لو باع العنب أو الخشب ممّن يعملهما خمراً أو صنماً أو بربطاً أو عوداً أو نحو ذلك من دون شرط ولا توافق ولا قصد من البائع ، فله صور أربع أو خمس :

الاولى : أن يعلم البائع أنّ المشتري يعملهما.

الثانية : أن يظنّ به.

الثالثة : أن يشكّ فيه.

الرابعة : أن يظنّ عدمه.

الخامسة : أن يقطع بالعدم.

وفي جوازه مطلقاً ، أو عدمه كذلك ، أو جوازه فيما عدا صورة العلم والمنع فيها ، أو جوازه فيما عدا صورتي العلم والظنّ والمنع فيهما ، احتمالات ، وبحسبها أقوال للأصحاب ، إلّا الاحتمال الثاني لعدم الوقوف على قائله حتّى أنّ التتبّع في كلماتهم يعطي إجماعهم على الجواز والصحّة فيما عدا الصورتين الاوليين سيّما صورة القطع بالعدم.

نعم ذكر في الروضة (٣) أنّه قيل : يحرم ممّن يعمله مطلقاً ، والظاهر بل المقطوع به أنّه إن كان قولاً فالمراد به ما عدا صورة القطع. فالمحقّق من أقوالهم ثلاثة : الجواز مطلقاً ، وهو المشهور المحكيّ فيه الشهرة في كلام جماعة. والمنع في صورة العلم والجواز في غيرها ، وهو خيرة العلّامة في المختلف (٤) ولعلّ له موافقاً أيضاً كما نسب ذلك إلى ظاهر التهذيب (٥) وصريح النهاية (٦). والمنع في صورتي العلم والظنّ والجواز في البواقي كما اختاره ثاني الشهيدين في المسالك (٧) والروضة (٨).

وعن ابن المتوج (٩) القول بالحرمة مع الصحّة ، ولعلّ مراده صورة العلم.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٢٣ / ٤ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، قرب الإسناد : ١٢٥.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٢٤ / ٦ ، ب ١٦ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ١٢٠ / ٤.

(٣) الروضة ٣ : ٢١١.

(٤) المختلف ٥ : ٣٧٣.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٧٣.

(٦) النهاية ٢ : ١٠٥. (٧) المسالك ٣ : ١٠٥.

(٨) الروضة ٣ : ٢١١. (٩) نقله عنه في الجواهر ٢٢ : ٣٣.

١٥٧

ويظهر من السيّد في الرياض الوقف حيث قال : «فالمسألة لذلك محلّ إعضال ، فالاحتياط فيها لا يترك على حال» (١).

ومنشأ الاختلاف لعلّه اختلاف النصوص الواردة في الباب وتعارضها ، واختلاف الأنظار في علاج التعارض ووجه الجمع بينها.

فمن الدالّ منها على الجواز مطلقاً ما تقدّم نقله من صحيحة عمر بن اذينة ومعتبرة عمرو بن حريث.

ومن الدالّ منها على الجواز مطلقاً المستفيضة الواردة في بيع العصير أو العنب وغيرهما ، وفيها الصحاح وغيرها :

مثل صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً؟ فقال : بعه ممّن يطبخه ويصنعه خلاً أحبّ إليّ ولا أرى بالأوّل بأساً» (٢).

وما تقدّم في صحيح ابن اذينة «عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط ، فقال : لا بأس به» (٣).

وخبر أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بيع العصير فيصير خمراً قبل أن يقبض الثمن؟ فقال : لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراماً ـ وفي رواية اخرى ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً حراماً ـ لم يكن بذلك بأس ، فأمّا إذا كان عصيراً فلا يباع إلّا بالنقد» (٤).

وصحيح محمّد الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراماً؟ فقال : لا بأس به ، تبيعه حلالاً ويجعله حراماً فأبعده الله وأسحقه» (٥) أسحقه : أي أبعده عطف تفسير.

وصحيح ابن اذينة قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع

__________________

(١) الرياض ٨ : ١٤٧.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٣١ / ٩ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٧ / ٦٠٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ١٧٦ / ١ ، ب ٤١ ما يكتسب به ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٢.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٢٩ / ١ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٨ / ٦١١.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / ٤ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٦ / ٦٠٤.

١٥٨

العنب والتمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال : إنّما باعه حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه وأكله فلا بأس ببيعه» (١).

وخبر أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» (٢).

وخبر أبي كهمش قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن العصير ، فقال : لي كرم وأنا أعصره كلّ سنة وأجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي؟ قال : لا بأس وإن غلى فلا يحلّ بيعه ، ثمّ قال : هو ذا نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً» (٣).

وخبر رفاعة بن موسى قال : «سئل أبو عبد الله وأنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمّره؟ قال : حلال ، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً» (٤).

وخبر يزيد بن خليفة قال : «كره أبو عبد الله عليه‌السلام بيع العصير بتأخير» (٥).

وخبره الآخر أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سأله رجل وأنا حاضر ، قال : إنّ لي الكرم ، قال : تبيعه عنباً؟ قال : فإنّه يشتريه من يجعله خمراً ، قال : فبعه إذاً عصيراً ، قال : فإنّه يشتريه منّي عصيراً فيجعله خمراً في قربتي ، قال : بعته حلالاً فجعله حراماً فأبعده الله ، ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : لا تذرنّ ثمنه عليه حتّى يصير خمراً فتكون تأخذ ثمن الخمر» (٦).

والجمع بينها وبين الخبرين الدالّين على المنع في الخشب يتصوّر من وجوه :

أحدها : حمل النهي فيهما على الكراهة ، كما هو المشهور.

والآخر العمل بكلّ من المتعارضين في مورده فيقال بالمنع في بيع الخشب والجواز في بيع العنب والعصير والتمر ، كما احتمله بعض مشايخنا قدس‌سرهم وقال : «إنّه قول فصل إن لم يكن قولاً بالفصل» (٧).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / ٥ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ٢٣١ / ٨.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٢٩ / ٢ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٣١ / ٣.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / ٦ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، الكافي ٥ : ٢٣٢ / ١٢.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٣١ / ٨ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٦ / ٦٠٣.

(٥) الوسائل ١٧ : ٢٣٠ / ٣ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٧ / ٦٠٩.

(٦) الوسائل ١٧ : ٢٣١ / ١٠ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٨ / ٦١٠.

(٧) المكاسب ١ : ١٣٢.

١٥٩

والثالث : حملهما على صورة العلم وحملها على البواقي ، وعليه مبنى قول العلّامة وإن لم يصرّح به في المختلف.

والرابع : حملهما على صورتي العلم والظنّ وحملها على ما عداهما ، كما عليه مبنى خيرة المسالك والروضة.

والأقوى الأوّل وفاقاً للمشهور ، لاعتضاده بعمل المعظم ، مع أنّ له شاهداً في روايات الباب وهو صحيح الحلبي المتقدّم لمكان قوله عليه‌السلام : «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلّاً أحبّ إليّ ولا أرى بالأوّل بأساً» (١) ويضعّف البواقي بذلك ، مضافاً إلى عدم شاهد عليها ، مع أنّ الأوّل ممّا لا قائل به حتّى أنّ من ذكره فإنّما ذكره احتمالاً مع ما فيه من شبهة خرق الإجماع المركّب ، وأنّ الأخيرين يأباهما عدّة من النصوص المجوّزة لاختصاصها بصورة العلم المصرّح به فيها سؤالاً أو جواباً.

ولا مخالفة لما اخترناه من الجواز المطلق لعموم رواية تحف العقول ، لما بيّنّاه سابقاً من ظهورها بحكم التبادر أو غيره من الأدلّة الخارجيّة في بيع الشي‌ء في وجه الفساد ، ولا يكون إلّا مع قصد الغاية المحرّمة ومفروض المسألة انتفاؤه. وتوهّم : أنّ علم البائع بحصولها من المشتري لا ينفكّ عن قصدها ، يندفع بمنع الملازمة لأنّ العلم المذكور يجامع قصد غاية اخرى كنقد المال ونحوه.

ولا لقاعدة حرمة الإعانة على الإثم ، لانتفاء القصد أيضاً الّذي لا يصدق معه الإعانة على إيجاد مقدّمة معصية الغير كما ذكرناه مراراً.

ولا لقاعدة وجوب النهي عن المنكر ، لمنع وجوبه فيما نحن فيه.

أمّا فيما عدا صورة العلم بأنّه يعمل العنب والخشب خمراً وصنماً وما أشبهه فلكون أدلّة وجوبه مخصوصة بصورة العلم بالتشاغل بالمنكر أو العزم والتهيّؤ له ، فلا يجب النهي مع الظنّ به ولا مع الشكّ فيه ولا الظنّ بالعدم ولا القطع به إجماعاً بل ضرورة من الدين.

وأمّا في صورة العلم فلأنّ من شروط وجوبه احتمال التأثير في الارتداع ، وهذا

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٣١ / ٩ ، ب ٥٩ ما يكتسب به ، التهذيب ٧ : ١٣٧ / ٦٠٥.

١٦٠