آية الولاية

السيّد علي الحسيني الميلاني

آية الولاية

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-250-4
الصفحات: ٣٧

الجوار ، مثلاً الحليف كذلك ، مثلاً الناصر أو الاخ ، هذه كلّها ولايات ، لكن المعنىٰ الوحداني الموجود في جميع هذه الموارد هو القيام بالأمر.

هذا بناء علىٰ أن تكون الولاية مشتركاً معنويّاً.

وأمّا إذا جعلنا الولاية مشتركاً لفظيّاً ، فمعنىٰ ذلك أن يكون هناك مصاديق متعدّدة ومعاني متعدّدة للّفظ الواحد ، مثل كلمة العين ، كلمة العين مشترك لفظي ، ويشترك في هذا : العين الجارية ، والعين الباصرة ، وعين الشمس ، وغير ذلك كما قرأتم في الكتب الأُصوليّة.

فالاشتراك ينقسم إلىٰ اشتراك معنوي واشتراك لفظي ، في الدرجة الأُولىٰ نستظهر أن تكون الولاية مشتركاً معنويّاً ، وعلىٰ فرض كون المراد من الولاية المعنىٰ المشترك بالاشتراك اللفظي ، فيكون من معاني لفظ الولاية : الأحقية بالأمر ، الأولويّة بالأمر ، فهذا يكون من جملة معاني لفظ الولاية ، وحينئذ لتعيين هذا المعنىٰ نحتاج إلىٰ قرينة معيّنة ، كسائر الألفاظ المشتركة بالاشتراك اللفظي.

وحينئذ لو رجعنا إلىٰ القرائن الموجودة في مثل هذا المورد ، لرأينا أنّ القرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة ، وبعبارة أُخرىٰ القرائن

٢١

المقاميّة والقرائن اللفظيّة كلّها تدلّ علىٰ أنّ المراد من الولاية في هذه الآية المعنىٰ الذي تقصده الإماميّة ، وهو الأولويّة والأحقيّة بالأمر.

ومن جملة القرائن اللفظيّة نفس الروايات الواردة في هذا المورد.

يقول الفضل ابن روزبهان في ردّه (١) على العلاّمة الحلّي رحمة الله عليه : إنّ القرائن تدلّ علىٰ أنّ المراد من الولاية هنا النصرة ، ف‍ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة إلىٰ آخر الآية المباركة.

فابن روزبهان يجعل الولاية بمعنىٰ النصرة ، والنصرة أحد معاني لفظ الولاية كما في الكتب اللغويّة ، لكن الروايات أنفسها ونفس الروايات الواردة في القضيّة تنفي أن يكون المراد من الولاية هنا النصرة.

مثلاً هذه الرواية ـ وهي موجودة في تفسير الفخر الرازي ، موجودة في تفسير الثعلبي ، موجودة في كتب أُخرىٰ (١) ـ : أنّ

__________________

(١) إحقاق الحقّ ٢ / ٤٠٨.

(٢) تفسير الرازي١١ / ٢٥ ، تفسير الثعلبي ـ مخطوط.

٢٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا علم بأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه للسائل ، تضرّع إلى الله وقال : « اللهمّ إنّ أخي موسىٰ سألك قال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) فأوحيت إليه : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ) (١) ، اللهمّ وإنّي عبدك ونبيّك فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أُشدد به ظهري ... » قال أبو ذر : فوالله ما استتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتّىٰ هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) إلىٰ آخر الآية.

فهل يعقل وهل يرتضي عاقل فاهم له أدنىٰ إلمام بالقضايا ، وباللغة ، وبأُسلوب القرآن ، وبالقضايا الواردة عن رسول الله ، هل يعقل حمل الولاية في هذه الآية مع هذه القرائن على النصرة ؟ بأن يكون رسول الله يطلب من الله سبحانه وتعالىٰ أن يعلن إلىٰ الملأ ، إلىٰ الناس ، بأنّ عليّاً ناصركم ، فيتضرّع رسول الله بهذا التضرّع إلىٰ الله سبحانه وتعالىٰ في هذا المورد ، فيطلب من الله نزول آية تفيد

__________________

(١) سورة طه : ٢٥ ـ ٣٦.

٢٣

بأنّ عليّاً ناصر المؤمنين ؟ وهل كان من شك في كون عليّاً ناصراً للمؤمنين حتّىٰ يتضرّع رسول الله في مثل هذا المورد ، مع هذه القرائن ، وبهذا الشكل من التضرّع إلىٰ الله سبحانه وتعالىٰ ، وقبل أن يستتمّ رسول الله كلامه تنزل الآية من قبل الله ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا إلىٰ آخر الآية ؟ هل يعقل أن يكون المراد من ( وَلِيُّكُمُ ) أي ناصركم في هذه الآية مع هذه القرائن ؟

إذن ، لو أصبحت « الولاية » مشتركاً لفظيّاً ، وكنّا نحتاج إلىٰ القرائن المعيّنة للمعنىٰ المراد ، فالقرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة كلّها تعيّن المعنىٰ ، وتكون كلمة « الولاية » بمعنىٰ : الأولويّة ، فالأولويّة الثابتة لله وللرسول ثابتة للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

إذن ، عرفنا معنىٰ « إنّما » ومعنىٰ « الولاية » في هذه الآية.

ثمّ الواو في ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) هذه الواو عاطفة ، وأمّا الواو التي تأتي قبل ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هذه الواو الحاليّة ـ وهم راكعون ـ أي في حال الركوع.

حينئذ يتمّ الإستدلال ، إنّما وليّكم أي إنّما الأولىٰ بكم : الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال

٢٤

الركوع ، والروايات قد عيّنت المراد من الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

فهذا وجه الإستدلال بهذه الآية وإلىٰ هذه المرحلة وصلنا.

إذن تمّ بيان شأن نزول الآية المباركة ، وتمّ بيان وجه الإستدلال بالآية المباركة بالنظر إلىٰ مفرداتها واحدة واحدة.

٢٥
٢٦

الجهة الثالثة :

الاعتراضات والمناقشات

وحينئذ ، يأتي دور الإعتراضات :

أمّا اعتراض شيخ الإسلام ابن تيميّة ، فقد عرفتم أنّه ليس باعتراض وإنّما هو افتراء ، لا علىٰ الإماميّة فقط ، وإنّما افتراء علىٰ عموم المفسّرين والمحدّثين من أهل السنّة أيضاً ، افتراء علىٰ المتكلّمين من كبار علماء طائفته ، وهذا ديدن هذا الرجل في كتابه ، وقد تتبّعت كتابه من أوّله إلىٰ آخره ، واستخرجت منه النقاط التي لو اطّلعتم عليها لأيّدتم من قال بكفر هذا الرجل ، لا بكفره بل بكفر من سمّاه بشيخ الإسلام.

تبقىٰ الإعتراضات الأُخرىٰ :

الاعتراض الأوّل :

هو الاعتراض في معنىٰ الولاية ، وقد ذكرناه.

٢٧

وذكرنا أنّ قائله هو الفضل ابن روزبهان الذي ردّ على العلاّمة الحلّي بكتابه إبطال الباطل ، وردّ عليه السيّد القاضي نور الله التستري بكتاب إحقاق الحق ، وأيضاً ردّ عليه الشيخ المظفر في كتاب دلائل الصدق.

الاعتراض الثاني :

احتمال أن تكون الواو في ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) واو عاطفة لا واو حاليّة ، وحينئذ يسقط الإستدلال ، لأنّا ـ نحن الطلبة ـ نقول : إذا جاء الإحتمال بطل الإستدلال ، الإستدلال يتوقّف علىٰ أن تكون الواو هذه حاليّة ، فالذي أعطىٰ الخاتم ، إعطاؤه كان حال كونه راكعاً ، وهو علي عليه‌السلام ، أمّا لو كانت الواو عاطفة يكون المعنىٰ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) أي هم يركعون ، يؤتون الزكاة ويصلّون ويركعون ، إذن لا علاقة للآية المباركة بالقضيّة ، فهذا الإحتمال إنْ تمّ سقط الإستدلال.

لكنّ هذا الإحتمال يندفع بمجرّد نظرة سريعة إلىٰ الروايات الواردة في القضيّة ، تلك الروايات التي تجدونها بأقل تقدير لو ترجعون إلىٰ الدر المنثور ، لوجدتم الروايات هناك ، وهي صريحة

٢٨

في كون الواو هذه حاليّة ...

ففي هذا الكتاب وغيره من المصادر عدّة روايات وردت تقول : تصدّق علي وهو راكع (١) ، حتّىٰ في رواية تجدونها في الدر المنثور أيضاً هذه الرواية هكذا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل السائل ، سأل ذلك المسكين الذي أعطاه الامام خاتمه ، سأله قائلاً : « علىٰ أيّ حال أعطاكه » ـ أي الخاتم ـ ؟ قال : أعطاني وهو راكع (٢).

فالرسول نفسه يسأله : علىٰ أيّ حال أعطاكه ؟ يقول : أعطاني وهو راكع ، فالواو حاليّة ، ولا مجال لهذا الإشكال.

الاعتراض الثالث :

هذا الإعتراض فيه أُمور :

الأمر الأوّل : من أين كان لعلي ذلك الخاتم ؟ من أين حصل عليه ؟

الأمر الثاني : ما قيمة هذا الخاتم وبأيّ ثمن كان يسوىٰ في ذلك الوقت ؟ ولا يستحقّ شيء من هذا القبيل من الإعتراض أن ينظر إليه ويبحث عنه.

__________________

(١) تفسير ابن أبي حاتم ٤ / ١١٦٢.

(٢) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ٣ / ١٠٥.

٢٩

نعم يبقىٰ :

الأمر الثالث : وله وجه ما ، وهو أنّه يفترض أن يكون علي عليه‌السلام في حال الصلاة منشغلاً بالله سبحانه وتعالىٰ ، منصرفاً عن هذا العالم ، ولذا عندنا في بعض الروايات أنّه لمّا أُصيب في بعض الحروب بسهم في رجله وأُريد إخراج ذلك السهم من رجله ، قيل انتظروا ليقف إلىٰ الصلاة ، وأخرجوا السهم من رجله وهو في حال الصلاة ، لأنه حينئذ لا يشعر بالالم ، المفترض أن يكون أمير المؤمنين هكذا ، ففي أثناء الصلاة وهو مشغول بالله سبحانه وتعالىٰ كيف يسمع صوت السائل ؟ وكيف يلتفت إلىٰ السائل ؟ وكيف يشير إليه ويومي بالتقدم نحوه ، ثمّ يرسل يده ليخرج الخاتم من أصبعه ؟ وهذا كلّه انشغال بأُمور دنيويّة ، عدول عن التكلّم مع الله سبحانه وتعالىٰ ، والإشتغال بذلك العالم.

هذا الإشكال قد يسمّىٰ بإشكال عرفاني ، لأن الإشكال السابق مثلاً حيث أرادوا جعل الواو عاطفة لا حاليّة إشكال نحوي ، وليكن الإشكال السابق عليه في الولاية إشكالاً لغوياً ، فلنسمّ هذا الإشكال بالإشكال العرفاني ، فالله سبحانه وتعالىٰ عندما يخاطب أمير المؤمنين في الصلاة وعلي يخاطبه ، وهما يتخاطبان ، وهو منشغل بالله سبحانه وتعالىٰ ، كيف يلتفت إلىٰ هذا العالم ؟

٣٠

والجواب :

أوّلاً : لقد عُدّت هذه القضيّة عند الله ورسوله وسائر المؤمنين من مناقب أمير المؤمنين ، فلو كان لهذا الإشكال أدنىٰ مجال لمّا عدّ فعله من مناقبه.

وثانياً : هذا الإلتفات لم يكن من أمير المؤمنين إلىٰ أمر دنيوي ، وإنّما كانت عبادة في ضمن عبادة.

ولعلّ الأفضل والأولىٰ أنْ نرجع إلىٰ أهل السنّة أنفسهم ، الذين لهم ذوق عرفاني ، في نفس الوقت الذي هم من أهل السنّة ، ومن كبار أهل السنّة :

يقول الآلوسي (١) : قد سئل ابن الجوزي (٢) هذا السؤال ، فأجاب بشعر ، وقد سجّلت الشعر ، والجواب أيضاً جواب عرفاني في نفس ذلك العالم ، يقول :

يسقي ويشربُ لا تلهيه سكرتهُ

عن النديم ولا يلهو عن الناسِ

__________________

(١) روح المعاني ٦ / ١٦٩.

(٢) ابن الجوزي هذا جدّ سبط ابن الجوزي ، وإنّما نبّهنا على هذا ، لأنّه قد يقع اشتباه بين ابن الجوزي وسبط ابن الجوزي ، فالمراد هنا : أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي الحافظ ، صاحب المؤلّفات الكثيرة ، المتوفى سنة ٥٩٧ ه‍.

٣١

أطاعَهُ سُكرُهُ حتّىٰ تمكّن من

فعلِ الصحاةِ فهذا واحدُ الناسِ

هذا شعر ابن الجوزي الحنبلي ، الذي نعتقد بأنّه متعصّب ، لأنّه في كثير من الموارد نرىٰ أمثال ابن تيميّة والفضل ابن روزبهان وأمثالهما يعتمدون علىٰ كتب هذا الشخص في ردّ فضائل أمير المؤمنين ومناقبه ، أمّا في مثل هذا المورد يجيب عن السؤال بالشعر المذكور.

أمير المؤمنين عليه‌السلام جمع في صفاته الاضداد ، هذا موجود في حال أمير المؤمنين ، وإلاّ لم يكن واحد الناس ، وإلاّ لم يكن متفرّداً بفضائله ومناقبه ، وإلاّ لم يكن وصيّاً لرسول الله ، وإلاّ لم يكن كفواً للزهراء البتول بضعة رسول الله ، وإلىٰ آخره.

فحينئذ هذا الاشكال أيضاً ممّا لا يرتضيه أحدٌ في حقّ أمير المؤمنين ، بأن يقال : إنّ عليّاً انصرف في أثناء صلاته إلىٰ الدنيا ، انصرف إلىٰ أمر دنيوي.

نعم وجدت في كتب أصحابنا ـ ولم أجد حتّىٰ الآن هذه الرواية في كتب غير أصحابنا ـ : عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : تصدّقت بخاتمي أربعين مرّة ولم تنزل في حقّي آية.

إذن هذا الاعتراض أيضاً لا مجال له.

٣٢

الاعتراض الرابع :

وهو الإعتراض المهم الذي له وجه علميّ ، قالوا : بأنّ عليّاً مفرد ، ولماذا جاءت الألفاظ بصيغة الجمع : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ).

هذا الإشكال له وجه ، ولا يختصّ هذا الإشكال والاعتراض بهذه الآية ، عندنا آيات أُخرىٰ أيضاً ، وآية المباهلة نفسها التي قرأناها أيضاً بصيغة الجمع ، إلاّ أنّ رسول الله جاء بعلي ، مع أنّ اللفظ لفظ جمع ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) وجاء بفاطمة والحال أنّ اللفظ لفظ جمع « النساء » ، هذا الإعتراض يأتي في كثير من الموارد التي تقع مورد الإستدلال ، وفي سائر البحوث العلمية المختلفة لا في بحث الإمامة فقط.

الزمخشري الذي هو من كبار علماء العامّة ، وليس من أصحابنا الإماميّة ، صاحب الكشّاف وغير الكشّاف من الكتب الكثيرة في العلوم المختلفة ، يجيب عن هذا الإشكال ، وتعلمون أنّ الزمخشري تفسيره تفسير للقرآن من الناحيّة الأدبيّة والبلاغيّة ، هذه ميزة تفسير الكشّاف للزمخشري ، وهذا شيء معروف عن تفسير الزمخشري ، وأهل الخبرة يعلمون بهذا.

٣٣

يجيب الزمخشري عن هذا ما ملخّصه : بأنّ الفائدة في مجيء اللفظ بصيغة الجمع في مثل هذه الموارد هو ترغيب الناس في مثل فعل أمير المؤمنين ، لينبّه أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون علىٰ هذا الحد من الحرص علىٰ الإحسان إلىٰ الفقراء والمساكين ، يكونون حريصين علىٰ مساعدة الفقراء وإعانة المساكين ، حتّىٰ في أثناء الصلاة ، وهذا شيء مطلوب من عموم المؤمنين ، ولذا جاءت الآية بصيغة الجمع. هذا جواب الزمخشري (١).

فإذن ، لا يوافق الزمخشري علىٰ هذا الاعتراض ، بل يجيب عنه بوجه يرتضيه هو ويرتضيه كثير من العلماء الآخرين.

ولكن لو لم نرتض هذا الوجه ولم نوافق عليه ، فقد وجدنا في القرآن الكريم وفي السنّة النبويّة الثابتة الصحيحة ، وفي الاستعمالات العربيّة الصحيحة الفصيحة : أنّ اللفظ يأتي بصيغة الجمع والمقصود شخص واحد ، كثير من هذا الإستعمال موجود في القرآن وفي السنّة وفي الموارد الأُخرىٰ ، وهذا شيء موجود.

مضافاً إلىٰ جواب يجيب به بعض علمائنا وعلمائهم : أنّه في مثل هذا المورد أراد الله سبحانه وتعالىٰ أن يعظّم هذه الفضيلة أو

__________________

(١) تفسير الكشّاف ١ / ٦٤٩.

٣٤

هذا الفعل من علي ، وجاء بلفظ الجمع إكراماً لعلي ولما فعله في هذه القضيّة.

وتبقىٰ نظرية أُخرىٰ ، أتذكّر أنّ السيّد شرف الدين رحمة الله عليه يذكر هذه النظرية وهذا الجواب ويقول : لو أنّ الآية جاءت بصيغة المفرد ، لبادر أعداء أمير المؤمنين من المنافقين إلىٰ التصرّف في القرآن الكريم وتحريف آياته المباركات عداءً لأمير المؤمنين ، إذ ليست هذه الآية وحدها بل هناك آيات أُخرىٰ أيضاً جاءت بصيغة الجمع ، والمراد فيها علي فقط ، فلو أنّه جاء بصيغة المفرد لبادر أُولئك وانبروا إلىٰ التصرّف في القرآن الكريم.

إنّه في مثل هذه الحالة يكون الكناية ، صيغة الجمع ، أبلغ من التصريح ـ بأن يأتي اللفظ بصيغة المفرد ، والذي آمن وصلّىٰ وتصدّق بخاتمه في الصلاة في الركوع أو آتىٰ الزكاة وهو راكع ـ والروايات تقول هو علي ، فيكون اللفظ وإن لم يكن صريحاً باسمه إلاّ أنّه أدل علىٰ التصريح ، أدل علىٰ المطلب من التصريح ، من باب الكناية أبلغ من التصريح. يختار السيد شرف الدين هذا الوجه (١).

ويؤيّد هذا الوجه رواية واردة عن إمامنا الصادق عليه‌السلام بسند

__________________

(١) المراجعات : ٢٦٣.

٣٥

معتبر ، يقول الراوي للإمام : لماذا لم يأت اسم علي في القرآن بصراحة بتعبيري أنا ، لماذا لم يصرّح الله سبحانه وتعالىٰ باسم علي في القرآن الكريم ؟ فأجاب الإمام عليه‌السلام : لو جاء اسمه بصراحة وبكلّ وضوح في القرآن الكريم لحذف المنافقون اسمه ووقع التصرّف في القرآن ، وقد شاء الله سبحانه وتعالىٰ أن يحفظ القرآن ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).

وهذه وجوه تذكر جواباً عن السؤال : لماذا جاءت الكلمة أو الكلمات بصيغة الجمع ؟

ولعلّ أوفق الوجوه في أنظار عموم الناس وأقربها إلىٰ الفهم : أنّ هذا الإستعمال له نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، وفي السنّة النبويّة ، وفي الإستعمالات الصحيحة الفصيحة ، ثم إن الروايات المعتبرة المتّفق عليها دلّت علىٰ أنّ المراد هنا خصوص علي عليه‌السلام.

إذن ، مجيء اللفظ بصيغة الجمع لا بدّ وأن يكون لنكتة ، تلك النكتة ذكرها الزمخشري بشكل ، والطبرسي بنحو آخر ، والسيد شرف الدين بنحو ثالث ، وهكذا.

وإذا راجعتم كتاب الغدير لوجدتم الشيخ الأميني رحمة الله عليه يذكر قسماً من الايات التي جاءت بصيغة الجمع وأُريد منها الشخص الواحد ، ويذكر الروايات والمصادر التي يُستند إليها في

٣٦

شأن نزول تلك الآيات الواردة بصيغة الجمع والمراد منها المفرد.

فإذن ، لا غرابة في هذه الجهة.

هذه عمدة الاعتراضات المطروحة حول هذه الآية المباركة.

إذن ، بيّنّا شأن نزول الآية ، وبيّنّا وجه الإستدلال بالآية ، وتعرّضنا لعمدة المناقشات في هذا الاستدلال ، وحينئذ لا يبقىٰ شيء آخر نحتاج إلىٰ ذكره.

نعم ، هناك بعض الأحاديث أيضاً ـ كما أشرت من قبل ـ هي مؤيّدة لإستدلالنا بهذه الآية المباركة علىٰ إمامة أمير المؤمنين ، منها حديث الغدير ، ومنها حديث الولاية الذي أشرت إليه من قبل.

فحينئذ ، لا أظنّ أنّ الباحث الحر المنصف يبقىٰ متردّداً في قبول استدلال أصحابنا بهذه الآية المباركة علىٰ إمامة أمير المؤمنين ، فتكون الآية من جملة أدلّة إمامته عن طريق ثبوت الأولويّة له ، تلك الأولويّة الثابتة لله ولرسوله ، فيكون علي وليّاً للمؤمنين ، كما أنّ النبي وليّ المؤمنين ، وهذه المنقبة والفضيلة لم تثبت لغير علي ، وقد ذكرنا منذ اليوم الأوّل أنّ طرف النزاع أبو بكر ، وليس لأبي بكر مثل هذه المنقبة والمنزلة عند الله ورسوله.

وصلّىٰ الله علىٰ محمّد وآله الطاهرين.

٣٧