البرهان في تفسير القرآن - ج ١

السيد هاشم الحسيني البحراني

البرهان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني البحراني


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٥٢

مُوسى بِالْبَيِّناتِ) الدالات على نبوته ، وعلى ما وصفه من فضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرفه على الخلائق ، وأبان عنه من خلافة علي ووصيته ، وأمر خلفائه بعده (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها (مِنْ بَعْدِهِ) بعد انطلاقه إلى الجبل ، وخالفتم خليفته الذي نص عليه وتركه عليكم ، وهو هارون عليه‌السلام (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) كافرون بما فعلتم من ذلك».

قوله تعالى :

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ

وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ

بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٩٣]

٥٦١ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الله عز وجل : واذكروا إذ فعلنا ذلك بأسلافكم لما أبوا قبول ما جاءهم به موسى عليه‌السلام من دين الله وأحكامه ، ومن الأمر بتفضيل محمد وعلي (صلوات الله عليهما) وخلفائهما على سائر الخلق.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم من هذه الفرائض (بِقُوَّةٍ) قد جعلناها لكم ، ومكناكم بها ، وأزحنا عللكم (١) في تركيبها فيكم (وَاسْمَعُوا) ما يقال لكم ، وتؤمرون به (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك ، أي إنهم عصوا بعد ، وأضمروا في الحال أيضا العصيان (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أمروا بشرب العجل الذي كان قد ذريت سحالته (٢) في الماء الذي أمروا بشربه ، ليتبين من عبده ممن لم يعبده (بِكُفْرِهِمْ) لأجل كفرهم ، أمروا بذلك.

(قُلْ) يا محمد (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بموسى كفركم بمحمد وعلي وأولياء الله من آلهما (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بتوراة موسى ، ولكن معاذ الله ، لا يأمركم إيمانكم بالتوراة الكفر بمحمد وعلي عليهما‌السلام».

قال الإمام عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن الله تعالى ذكر بني إسرائيل في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحوال آبائهم الذين كانوا في أيام موسى عليه‌السلام ، كيف أخذ عليهم العهد والميثاق لمحمد وعلي وآلهما الطيبين المنتجبين للخلافة على الخلائق ، ولأصحابهما وشيعتهما وسائر أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

سورة البقرة آية ـ ٩٣ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٢٤ / ٢٩٠ و ٢٩١.

(١) في «ط» نسخة بدل : وأرحنا عليكم.

(٢) السّحالة : ما سقط من الذهب والفضّة ونحوهما كالبرادة. «الصحاح ـ سحل ـ ٥ : ١٧٢٧».

٢٨١

فقال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) اذكروا لما أخذنا ميثاق آبائكم (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) الجبل ، لما أبوا قبول ما أريد منهم والاعتراف به (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أعطيناكم (بِقُوَّةٍ) يعني بالقوة التي أعطيناكم تصلح لذلك (وَاسْمَعُوا) أي أطيعوا فيه.

(قالُوا سَمِعْنا) بآذاننا (وَعَصَيْنا) بقلوبنا ، فأما في الظاهر فأعطوا كلهم الطاعة داخرين صاغرين ، ثم قال : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) عرضوا لشرب العجل الذي عبدوه حتى وصل ما شربوه [من] ذلك إلى قلوبهم».

وقال : «إن بني إسرائيل لما رجع إليهم موسى وقد عبدوا العجل تلقوه بالرجوع عن ذلك ، فقال لهم موسى : من الذي عبده منكم حتى أنفذ فيه حكم الله؟ خافوا من حكم الله الذي ينفذه فيهم ، فجحدوا أن يكونوا عبدوه ، وجعل كل واحد منهم يقول : أنا لم أعبده وإنما عبده غيري ، ووشى (٣) بعضهم ببعض ؛ فذلك (٤) ما حكى الله عز وجل عن موسى من قوله للسامري : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٥) فأمره الله ، فبرده بالمبارد ، وأخذ سحالته فذرأها في البحر العذب ، ثم قال لهم : اشربوا منه ؛ فشربوا ، فكل من كان عبده اسودت شفتاه وأنفه ممن كان أبيض اللون ، ومن كان منهم أسود اللون ابيضت شفتاه وأنفه ، فعند ذلك أنفذ فيهم حكم الله».

٥٦٢ / ٢ ـ العياشي : عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في قول الله عز وجل : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

قال : «لما ناجى موسى عليه‌السلام ، ربه أوحى إليه : أن يا موسى ، قد فتنت قومك. قال : وبماذا ، يا رب؟ قال : بالسامري. قال : وما [فعل] السامري؟ قال : صاغ لهم من حليهم عجلا.

قال : يا رب ، إن حليهم لتحتمل [أن يصاغ] منها غزال أو تمثال أو عجل ، فكيف يفتنهم (١)؟ قال : إنه صاغ لهم عجلا فخار (٢). قال : يا رب ، ومن أخاره؟ قال : أنا. فقال عندها موسى : (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) (٣) ـ قال ـ : فلما انتهى موسى إلى قومه ورءاهم يعبدون العجل ، ألقى الألواح من يده فتكسرت».

__________________

(٣) وشى به : أي سعى. «الصحاح ـ وشى ـ ٦ : ٢٥٢٤».

(٤) في المصدر : فكذلك.

(٥) طه ٢٠ : ٩٧.

٢ ـ تفسير العيّاشي ١ : ٥١ / ٧٣.

(١) في المصدر : فتنتهم.

(٢) خار الثور : صاح. «الصحاح ـ ٢ : ٦٥١».

(٣) الأعراف ٧ : ١٥٥.

٢٨٢

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «كان ينبغي أن يكون ذلك عند إخبار الله إياه ـ قال ـ : فعمد موسى فبرد (٤) العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ، ثم أحرقه بالنار فذره (٥) في اليم ، فكان أحدهم ليقع في الماء وما به إليه من حاجة ، فيتعرض بذلك للرماد فيشربه ، وهو قول الله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)».

قوله تعالى :

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [٩٤] وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ

أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [٩٥] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ

عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما

هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ [٩٦]

٥٦٣ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام : إن الله تعالى لما وبخ هؤلاء اليهود على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقطع معاذيرهم ، وأقام عليهم الحجج الواضحة بأن محمدا سيد النبيين (١) ، وخير الخلائق أجمعين ، وأن عليا سيد الوصيين ، وخير من يخلفه بعده في المسلمين وأن الطيبين من آله هم القوام بدين الله ، والأئمة لعباد الله عز وجل ، وانقطعت معاذيرهم ، وهم لا يمكنهم إيراد حجة ولا شبهة ، فجاءوا إلى أن تكاثروا (٢) ؛ فقالوا : ما ندري ما نقول ، ولكنا نقول : إن الجنة خالصة لنا من دونك ـ يا محمد ـ ودون علي ، ودون أهل دينك وأمتك ، وإنا بكم مبتلون ممتحنون ، ونحن أولياء الله المخلصون ، وعباده الخيرون ، ومستجاب دعاؤنا ، غير مردود علينا شيء (٣) من سؤالنا ربنا.

فلما قالوا ذلك ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل : يا محمد ، لهؤلاء اليهود : (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الجنة ونعيمها (خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) محمد وعلي والأئمة ، وسائر الأصحاب ومؤمني الأمة ، وأنكم بمحمد وذريته ممتحنون ، وأن دعاءكم مستجاب غير مردود (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) للكاذبين منكم ومن

__________________

(٤) بردة : سحله أو نحته بالمبرد ، أي براه وسحقه.

(٥) في «ط» نسخة بدل : فقذفه.

سورة البقرة آية ـ ٩٤ ـ ٩٦ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٤٢ / ٢٩٤.

(١) في «ط» نسخة بدل : سيّد الأولين.

(٢) في المصدر : كابروا.

(٣) في المصدر : بشيء.

٢٨٣

مخالفيكم.

فإن محمدا وعليا وذريتهما (٤) يقولون : إنهم هم أولياء الله عز وجل من دون الناس الذين يخالفونهم في دينهم ، وهم المجاب دعاؤهم ؛ فإن كنتم ـ يا معشر اليهود ـ كما تزعمون (٥) ، فتمنوا الموت للكاذبين منكم ومن مخالفيكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنكم أنتم المحقون المجاب دعاؤكم على مخالفيكم ، فقولوا : اللهم أمت الكاذب منا ومن مخالفينا ؛ ليستريح منه الصادقون ، ولتزداد حجتكم وضوحا بعد أن (٦) صحت ووجبت.

ثم قال لهم رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما عرض هذا عليهم : لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فمات مكانه ؛ وكانت اليهود علماء بأنهم هم الكاذبون ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليا عليه‌السلام ومصدقيهما هم الصادقون ، فلم يجسروا (٧) أن يدعوا بذلك ، لعلمهم بأنهم إن دعوا فهم الميتون.

فقال الله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني اليهود ، لن يتمنوا الموت بما قدمت أيديهم من الكفر (٨) بالله ، وبمحمد رسوله ونبيه وصفيه ، وبعلي أخي نبيه ووصيه ، وبالطاهرين من الأئمة المنتجبين.

قال الله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) اليهود ، أنهم لا يجسرون أن يتمنوا الموت للكاذب ، لعلمهم أنهم هم الكاذبون ، ولذلك آمرك أن تبهرهم بحجتك ، وتأمرهم أن يدعوا على الكاذب ، ليمتنعوا من الدعاء ، ويبين (٩) للضعفاء أنهم هم الكاذبون.

ثم قال : يا محمد (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعني تجد هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وذلك ليأسهم من نعيم الآخرة ، لانهماكهم في كفرهم ، الذين يعلمون أنهم لا حظ لهم معه في شيء من خيرات الجنة.

(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) قال تعالى : هؤلاء اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وأحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على حياة ـ يعني المجوس ـ لأنهم لا يرون النعيم إلا في الدنيا ، ولا يأملون خيرا في الآخرة ، فلذلك هم أشد الناس حرصا على حياة.

ثم وصف اليهود فقال : (يَوَدُّ) يتمنى (أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ) التعمير ألف سنة (بِمُزَحْزِحِهِ) بمباعده (مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) تعميره.

وإنما قال : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ولم يقل : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) فقط ، لأنه لو قال : وما هو بمزحزحه من العذاب والله بصير ، لكان يحتمل أن يكون (وَما هُوَ) يعني وده وتمنيه

__________________

(٤) في «ط» والمصدر : وذويهما.

(٥) في المصدر : تدّعون.

(٦) في المصدر زيادة : قد.

(٧) في «ط» نسخة بدل : لا يجرءون.

(٨) في المصدر : كفرهم.

(٩) في المصدر : يتبيّن.

٢٨٤

(بِمُزَحْزِحِهِ) فلما أراد وما تعميره ، قال : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) (١٠) ثم قال : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فعلى حسبه يجازيهم ، ويعدل فيهم ولا يظلمهم».

٥٦٤ / ٢ ـ قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «لما كاعت (١) اليهود عن هذا التمني ، وقطع الله معاذيرهم ، قالت طائفة منهم ، وهم بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كاعوا وعجزوا : يا محمد ، فأنت والمؤمنون المخلصون لك مجاب دعاؤكم ، وعلي أخوك ووصيك أفضلهم وسيدهم؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بلى.

قالوا : يا محمد ، فإن كان هذا كما زعمت ، فقل لعلي يدعو (٢) لابن رئيسنا هذا ، فقد كان من الشباب جميلا نبيلا وسيما قسيما (٣) ، لحقه برص وجذام ، وقد صار حمى (٤) لا يقرب ، ومهجورا لا يعاشر ، يتناول الخبز على أسنة الرماح.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائتوني به. فأتي به ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه منه إلى منظر فظيع ، سمج (٥) ، قبيح ، كريه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا حسن ، ادع الله له بالعافية ، فإن الله تعالى يجيبك فيه. فدعا له. فلما كان عند (٦) فراغه من دعائه إذا (٧) الفتى قد زال عنه كل مكروه ، وعاد إلى أفضل ما كان عليه من النبل والجمال والوسامة والحسن في المنظر.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للفتى : يا فتى آمن بالذي أغاثك من بلائك. قال الفتى : قد آمنت ، وحسن إيمانه.

فقال أبوه : يا محمد ، ظلمتني وذهبت مني بابني ، ليته كان أجذم وأبرص كما كان ولم يدخل في دينك ، فإن ذلك كان أحب إلي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكن الله عز وجل قد خلصه من هذه الآفة ، وأوجب له نعيم الجنة.

قال أبوه : يا محمد ، ما كان هذا لك ولا لصاحبك ، إنما جاء وقت عافيته فعوفي ، وإن كان صاحبك هذا ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ مجابا في الخير ، فهو أيضا مجاب في الشر ، فقل له يدعو علي بالجذام والبرص ، فإني أعلم

__________________

(١٠) هو : كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره. أن يعمّر : في موضع رفع بأنّه فاعل تقديره : وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. كما يقال : مررت برجل معجب قيامه. أنظر «مجمع البيان للطبرسي ١ : ٣٢٢».

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٤٤ / ٢٩٥.

(١) كعت عن الشّيء : لغة في كععت عنه ، إذا عبته وجبنت عنه. «لسان العرب ـ كوع ـ ٨ : ٣١٧».

(٢) في المصدر زيادة : الله.

(٣) القسام : الحسن ، وفلان قسيم الوجه ، ومقسّم الوجه. «الصحاح ـ قسم ـ ٥ : ٢٠١١».

(٤) يقال : هذا الشيء حمى : أي محظور لا يقرب. «الصحاح ـ حمى ـ ٦ : ٢٣١٩».

(٥) سمج : قبح. الصحاح ـ سمج ـ ١ : ٣٢٢».

(٦) في المصدر : بعد.

(٧) في المصدر : إذ.

٢٨٥

أنه لا يصيبني ، ليتبين لهؤلاء الضعفاء الذين قد اغتروا بك أن زواله عن ابني لم يكن بدعائه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا يهودي ، اتق الله ، وتهنأ بعافية الله إياك ، ولا تتعرض للبلاء ولما لا تطيقه ، وقابل النعمة بالشكر ، فإن من كفرها سلبها ، ومن شكرها امترى (٨) مزيدها.

فقال اليهودي : من شكر نعم الله تكذيب عدو الله المفتري عليه ، وإنما أريد بهذا أن أعرف ولدي أنه ليس مما قلت له وأدعيته قليل ولا كثير ، وأن الذي أصابه من خير لم يكن بدعاء علي صاحبك. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : يا يهودي ، هبك قلت أن عافية ابنك لم تكن بدعاء علي ، وإنما صادف دعاؤه وقت مجيء عافيته ، أرأيت لو دعا عليك علي بهذا البلاء الذي اقترحته فأصابك ، أتقول : إن ما أصابني لم يكن بدعائه ، ولكن لأنه صادف دعاؤه وقت بلائي؟

فقال : لا أقول هذا ، لأن هذا احتجاج مني على عدو الله في دين الله ، واحتجاج منه علي ، والله أحكم من أن يجيب إلى مثل هذا ؛ فيكون قد فتن عباده ، ودعاهم إلى تصديق الكاذبين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهذا في دعاء علي لابنك كهو في دعائه عليك ، لا يفعل الله تعالى ما يلبس به على عباده دينه ، ويصدق به الكاذب عليه.

فتحير اليهودي لما أبطلت عليه (٩) شبهته ، وقال : يا محمد ، ليفعل علي هذا بي إن كنت صادقا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، قد أبى الكافر إلا عتوا وطغيانا وتمردا ، فادع عليه بما اقترح ، وقل : اللهم ابتله ببلاء ابنه من قبل. فقالها ، فأصاب اليهودي داء ذلك الغلام ، مثل ما كان فيه الغلام من الجذام والبرص ، واستولى عليه الألم والبلاء ، وجعل يصرخ ويستغيث ، ويقول : يا محمد ، قد عرفت صدقك فأقلني (١٠).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو علم الله تعالى صدقك لنجاك ، ولكنه عالم بأنك لا تخرج عن هذا الحال إلا ازددت كفرا ، ولو علم أنه إن نجاك آمنت به لجاد عليك بالنجاة ، فإنه الجواد الكريم».

ثم قال : «فبقي اليهودي في ذلك الداء والبرص أربعين سنة آية للناظرين ، وعبرة للمعتبرين (١١) ، وعلامة وحجة بينة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقية في الغابرين ، وبقي ابنه كذلك معافى صحيح الأعضاء والجوارح ثمانين سنة عبرة للمعتبرين ، وترغيبا للكافرين في الإيمان ، وتزهيدا لهم في الكفر والعصيان.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين حل ذلك البلاء باليهودي بعد زوال البلاء عن ابنه : عباد الله ، إياكم والكفر بنعم الله ، فإنه مشؤوم على صاحبه ، ألا وتقربوا إلى الله بالطاعات يجزل لكم المثوبات ، وقصروا أعماركم في الدنيا

__________________

(٨) الريح تمري السّحاب : أي تستدرّه. «الصحاح ـ مرا ـ ٦ : ٢٤٩١».

(٩) في المصدر : لما أبطل ٦

(١٠) أقال الله فلانا عثرته : بمعنى الصفح عنه. «لسان العرب ـ قيل ـ ١١ : ٥٨٠» ، وفي «ط» نسخة بدل : فاقبلني.

(١١) في المصدر : للمتفكّرين.

٢٨٦

بالتعرض لأعداء الله في الجهاد ، لتنالوا طول الأعمار في (١٢) الآخرة ، في النعيم الدائم الخالد ، وابذلوا أموالكم في الحقوق اللازمة ليطول غناكم في الجنة.

فقام أناس ، فقالوا : يا رسول الله ، نحن ضعفاء الأبدان ، قليلو الأموال ، لا نفي بمجاهدة الأعداء ، ولا تفضل أموالنا عن نفقات العيالات ، فما ذا نصنع؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا فلتكن صدقاتكم من قلوبكم وألسنتكم.

قالوا : كيف يكون ذلك ، يا رسول الله؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما القلوب فتقطعونها على حب الله ، وحب محمد رسول الله ، وحب علي ولي الله ووصي رسول الله ، وحب المنتجبين للقيام بدين الله ، وحب شيعتهم ومحبيهم ، وحب إخوانكم المؤمنين ، والكف عن اعتقادات العداوة والشحناء والبغضاء ، وأما الألسنة فتطلقونها بذكر الله تعالى بما هو أهله ، والصلاة على نبيه محمد وعلى آله الطيبين ، فإن الله تعالى بذلك يبلغكم أفضل الدرجات ، وينيلكم به المراتب العاليات».

قوله تعالى :

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما

بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [٩٧] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ

وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [٩٨]

٥٦٥ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الحسن بن علي (١) عليهما‌السلام : إن الله تعالى ذم اليهود في بغضهم لجبرئيل عليه‌السلام الذي كان ينفذ قضاء الله تعالى فيهم بما يكرهون ، وذمهم أيضا وذم النواصب في بغضهم لجبرئيل وميكائيل وملائكة الله النازلين لتأييد علي بن أبي طالب عليه‌السلام على الكافرين حتى أذلهم بسيفه الصارم.

فقال : قل : يا محمد (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) من اليهود ، لدفعه عن بخت نصر أن يقتله دانيال ، من غير ذنب كان جناه بخت نصر ، حتى بلغ كتاب الله في اليهود أجله ، وحل بهم ما جرى في سابق علمه. ومن كان أيضا عدوا لجبرئيل من سائر الكافرين وأعداء محمد وعلي الناصبين (٢) ، لأن الله تعالى بعث جبرئيل لعلي عليه‌السلام مؤيدا ، وله على أعدائه ناصرا ، ومن كان عدوا لجبرئيل لمظاهرته محمدا وعليا عليهما‌السلام ، ومعاونته لهما ،

__________________

(١٢) في المصدر : طول أعمار.

سورة البقرة آية ـ ٩٧ ـ ٩٨ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٤٨ / ٢٩٦ ـ ٢٩٨.

(١) في «س» : الحسين بن عليّ بن أبي طالب.

(٢) في المصدر : المناصبين.

٢٨٧

وانقياده (٣) لقضاء ربه عز وجل في إهلاك أعدائه على يد من يشاء من عباده. (فَإِنَّهُ) يعني جبرئيل (نَزَّلَهُ) يعني نزل هذا القرآن (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد (بِإِذْنِ اللهِ) بأمر الله ، وهو كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٤).

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) موافقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور ، وصحف إبراهيم ، وكتب شيث وغيرهم من الأنبياء.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوره الله ، ومن عقد به أموره (٥) عصمه الله ، ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن جعله شعاره ودثاره (٦) أسعده الله ، ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ، ومعوله الذي ينتهي إليه ، آواه (٧) الله إلى جنات النعيم ، والعيش السليم.

فلذلك قال : (وَهُدىً) يعني هذا القرآن هدى (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يعني بشارة لهم في الآخرة ، وذلك أن القرآن يأتي يوم القيامة بالرجل الشاحب ، يقول لربه عز وجل : يا رب ، هذا أظمأت نهاره ، وأسهرت ليله ، وقويت في رحمتك طمعه ، وفسحت في مغفرتك أمله ، فكن عند ظني فيك وظنه.

يقول الله تعالى : أعطوه الملك بيمينه ، والخلد بشماله ، وأقرنوه بأزواجه من الحور العين ، واكسوا والديه حلة لا تقوم لها الدنيا بما فيها. فتنظر إليهما الخلائق فيغبطونهما (٨) ، وينظران إلى أنفسهما فيعجبان منها ، ويقولان : يا ربنا ، أنى لنا هذه ولم تبلغهما أعمالنا؟! فيقول الله عز وجل : ومع هذا تاج الكرامة ، لم ير مثله الراءون ، ولا يسمع بمثله السامعون ، ولا يتفكر في مثله المتفكرون.

فيقال : هذا بتعليمكما ولدكما القرآن ، وتبصيركما إياه بدين الإسلام ، ورياضتكما (٩) إياه على حب رسول الله ، وعلي ولي الله ، وتفقيهكما إياه بفقههما. لأنهما اللذان لا يقبل الله لأحد عملا إلا بولايتهما ، ومعاداة أعدائهما ، وإن كان ملء ما بين الثرى إلى العرش ذهبا يتصدق (١٠) به في سبيل الله ، فتلك من البشارات التي يبشرون بها ،

__________________

(٣) في المصدر : وإنفاذه.

(٤) الشّعراء ٢٦ : ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٥) في المصدر و «ط» نسخة بدل : ومن اعتقد به في أموره.

(٦) الشّعار : الثوب الذي يلي الجسد ، والدّثار : الثياب التي فوق الشّعار. والمراد هنا : ممارسته ومزاولته والمداومة عليه ظاهرا وباطنا.

(٧) يقال : أنت معوّلي : أي ثقتي ومعتمدي. «مجمع البحرين ـ عول ـ ٥ : ٤٣٢» ، وفي «ط» نسخة بدل : ومعاده الذي ينتهي إليه أراه.

(٨) الغبطة : أن تتمنّى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه ، وليس بحسد. «الصحاح ـ غبط ـ ٣ : ١١٤٦» ، وفي المصدر و «ط» : فيعظمونهما.

(٩) في «ط» نسخة بدل : رياضاتكما.

(١٠) في المصدر : تصدق.

٢٨٨

وذلك قوله عز وجل : (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) شيعة محمد وعلي ومن تبعهم من أخلافهم وذراريهم.

ثم قال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) لإنعامه على محمد وعلي ، وعلى آلهما الطيبين ، وهؤلاء الذين بلغ من جهلهم أن قالوا : نحن نبغض الله الذي أكرم محمدا وعليا بما يدعيان.

(وَجِبْرِيلَ) ومن كان عدوا لجبرئيل ، لأن الله تعالى جعله ظهيرا لمحمد وعلي عليهما‌السلام على أعداء الله ، وظهيرا لسائر الأنبياء والمرسلين كذلك.

(وَمَلائِكَتِهِ) يعني ومن كان عدوا لملائكة الله المبعوثين لنصرة دين الله ، وتأييد أولياء الله ، وذلك قول بعض النصاب المعاندين : برئت من جبرئيل الناصر لعلي.

وقوله تعالى : (وَرُسُلِهِ) ومن كان عدوا لرسل الله موسى وعيسى ، وسائر الأنبياء الذين دعوا إلى نبوة محمد وإمامة علي ، وذلك قول النواصب : برئنا من هؤلاء الرسل الذين دعوا إلى إمامة علي.

ثم قال : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) أي ومن كان عدوا لجبرئيل وميكائيل ، وذلك كقول من قال من النصاب ، لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي عليه‌السلام : جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وإسرافيل من خلفه ، وملك الموت أمامه ، والله تعالى من فوق عرشه ناظر بالرضوان إليه وناصره.

قال بعض النواصب : فأنا أبرأ من الله ومن جبرئيل وميكائيل والملائكة الذين حالهم مع علي على ما قاله محمد.

فقال : من كان عدوا لهؤلاء تعصبا على علي بن أبي طالب عليه‌السلام (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) فاعل بهم ما يفعل العدو بالعدو من إحلال النقمات ، وتشديد العقوبات.

وكان سبب نزول هاتين الآيتين ما كان من اليهود أعداء الله من قول سيء في الله تبارك وتعالى وفي جبرئيل وميكائيل وسائر ملائكة الله ، وما كان من أعداء الله النصاب من قول أسوء منه في الله تبارك وتعالى وفي جبرئيل وميكائيل وسائر ملائكة الله.

أما ما كان من النصاب ، فهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كان لا يزال يقول في علي عليه‌السلام الفضائل التي خصه الله عز وجل بها ، والشرف الذي أهله الله تعالى له ، وكان في كل ذلك يقول : أخبرني به جبرئيل عن الله.

ويقول في بعض ذلك : جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ؛ ويفتخر جبرئيل على ميكائيل في أنه عن يمين علي عليه‌السلام الذي هو أفضل من اليسار ، كما يفتخر نديم ملك عظيم في الدنيا يجلسه الملك عن يمينه على النديم الآخر الذي يجلسه على يساره ، ويفتخران على إسرافيل الذي خلفه بالخدمة ، وملك الموت الذي أمامه بالخدمة ، وأن اليمين والشمال أشرف من ذلك ، كافتخار حاشية الملك على زيادة قرب محلهم من ملكهم.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في بعض أحاديثه : إن الملائكة أشرفها عند الله أشدها لعلي بن أبي طالب حبا ، وإن قسم الملائكة فيما بينهم : والذي شرف عليا على جميع الورى بعد محمد المصطفى.

ويقول مرة [أخرى] : إن ملائكة السماوات والحجب ليشتاقون إلى رؤية علي بن أبي طالب كما تشتاق الوالدة الشفيقة إلى ولدها البار الشفيق ، آخر من بقي عليها بعد عشرة دفنتهم.

٢٨٩

فكان هؤلاء النصاب يقولون : إلى متى يقول محمد : جبرئيل وميكائيل والملائكة ؛ كل ذلك تفخيم لعلي وتعظيم لشأنه؟ ويقول الله تعالى لعلي خاص من دون سائر الخلق؟ برئنا من رب ومن ملائكة (١١) ومن جبرئيل وميكائيل هم لعلي بعد محمد مفضلون ، وبرئنا من رسل الله الذين هم لعلي بن أبي طالب بعد محمد مفضلون.

وأما ما قاله اليهود ، فهو أن اليهود أعداء الله لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة أتوه بعبد الله بن صوريا (١٢) ، فقال : يا محمد ، كيف نومك ، فإنا قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تنام عيني وقلبي يقظان.

قال : صدقت ، يا محمد. قال : فأخبرني ـ يا محمد ـ الولد يكون من الرجل ، أو من المرأة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والشعر فمن المرأة.

قال : صدقت ، يا محمد. ثم قال : فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شيء ، ويشبه أخواله ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له.

قال : صدقت ـ يا محمد ـ فأخبرني عمن لا يولد له ، ومن يولد له؟ فقال : إذا مغرت النطفة لم يولد له ـ أي إذا احمرت وكدرت ـ فإذا كانت صافية ولد له.

قال : فأخبرني عن ربك ، ما هو؟ فنزلت (١٣) : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١٤) إلى آخرها.

قال ابن صوريا : صدقت ـ يا محمد ـ وبقيت واحدة إن (١٥) قلتها آمنت بك واتبعتك (١٦) ، أي ملك يأتيك بما تقوله عن الله؟ قال : جبرئيل.

قال ابن صوريا : ذلك عدونا من بين الملائكة ، ينزل بالقتال والشدة والحرب ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالسرور والرخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك ، لأن ميكائيل كان يشدد ملكنا ، وجبرئيل كان يهلك ملكنا ، فهو عدونا لذلك».

ثم ذكر احتجاج سلمان على ابن صوريا : «ثم قال سلمان : فإني أشهد أن من كان عدوا لجبرئيل ، فإنه عدو لميكائيل ، وإنهما جميعا عدوان لمن عاداهما ، سلمان لمن سالمهما ، فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان (رحمه‌الله) : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) في مظاهرته لأولياء الله على أعداء الله ، ونزوله بفضائل علي ولي

__________________

(١١) في «ط» نسخة بدل : وملائكته.

(١٢) عبد الله بن صوريا الأعور : من بني ثعلبة بن الفيطون ، ولم يكن في الحجاز أحد أعلم بالتوراة منه ، وكان شديد الاحتجاج على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزل قوله تعالى : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى ـ إلى قوله ـ : وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ سورة البقرة ٢ : ١٣٥ ـ ١٤١ عند ما قال ابن صوريا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما الهدى إلاّ ما نحن عليه ، فاتّبعنا يا محمّد تهتد ، وقالت النّصارى مثل ذلك. «سيرة ابن هشام ٢ : ١٦١ و ١٩٨ ، طبقات ابن سعد ١ : ١٨٠».

(١٣) كما في الاحتجاج للطبرسي : ٤٣.

(١٤) الإخلاص ١١٢ : ١.

(١٥) في المصدر : يا محمّد خصلة بقيت إن.

(١٦) في «ط» نسخة بدل : واتبعك.

٢٩٠

الله من عند الله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) فإن جبرئيل نزل هذا القرآن من عند الله (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) بأمره (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من سائر كتب الله (وَهُدىً) من الضلالة (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بنبوة محمد وولاية علي ومن بعده الأئمة بأنهم أولياء الله حقا ، إذا ماتوا على موالاتهم لمحمد وعلي وآلهما الطيبين. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان ، إن الله صدق قيلك ووثق رأيك».

ثم ذكر حديثا طويلا يؤخذ من تفسير مولانا الإمام العسكري عليه‌السلام.

قوله تعالى :

وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ [٩٩]

٥٦٦ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (آياتٍ) دالات على صدقك في نبوتك (بَيِّناتٍ) عن إمامة علي أخيك ووصيك وصفيك ، موضحات عن كفر من يشك فيك أو في أخيك ، أو قابل أمر كل واحد منكما بخلاف القبول والتسليم ، ثم قال : (وَما يَكْفُرُ بِها) بهذه الآيات الدالات على تفضيلك ، وتفضيل علي بعدك على جميع الورى (إِلاَّ الْفاسِقُونَ) عن دين الله وطاعته ، من اليهود الكاذبين ، والنواصب المتشبهين (١) بالمسلمين».

قوله تعالى :

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [١٠٠])

٥٦٧ / ٢ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الباقر عليه‌السلام : قال الله عز وجل ، وهو يوبخ هؤلاء اليهود الذين تقدم ذكر عنادهم ، وهؤلاء النصاب الذين نكثوا ما أخذ من العهد عليهم ، فقال : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) واثقوا وعاقدوا ليكونوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طائعين ، ولعلي عليه‌السلام بعده مؤتمرين ، وإلى أمره صائرين (نَبَذَهُ) نبذ العهد (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وخالفه.

قال الله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أكثر هؤلاء اليهود والنواصب (لا يُؤْمِنُونَ) أي في مستقبل أعمارهم لا يراعون (١) ، ولا يتوبون مع مشاهدتهم للآيات ، ومعاينتهم للدلالات».

__________________

سورة البقرة آية ـ ٩٩ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٥٩ / ٣٠٠.

(١) في المصدر : المتسمّين.

سورة البقرة آية ـ ١٠٠ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٦٤ / ٣٠٢.

(١) راعيت الأمر : نظرت إلى أين يصير. «الصحاح ـ رعى ـ ٦ : ٢٣٥٨».

٢٩١

قوله تعالى :

وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ

أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [١٠١]

٥٦٨ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال الصادق عليه‌السلام : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) هؤلاء اليهود ، ومن يليهم من النواصب (رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) القرآن مشتملا على وصف فضل محمد وعلي ، وإيجاب ولايتهما ، وولاية أوليائهما ، وعداوة أعدائهما (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كتاب اليهود التوراة ، وكتب أنبياء الله عليهم‌السلام (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) تركوا العمل بما فيها ، وحسدوا محمدا على نبوته ، وعليا على وصيته ، وجحدوا (١) ما وقفوا عليه من فضائلهما (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فعلوا فعل من جحد ذلك والرد له فعل من لا يعلم ، مع علمهم بأنه حق».

قوله تعالى :

وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ

وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى

الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا

إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ

وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما

يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ

خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [١٠٢] وَلَوْ أَنَّهُمْ

آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [١٠٣]

٥٦٩ / ٢ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام في (تفسيره) : «قال الصادق عليه‌السلام : (وَاتَّبَعُوا) هؤلاء اليهود

__________________

سورة البقرة آية ـ ١٠١ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٧١ / ٣٠٤.

(١) في المصدر زيادة : على.

سورة البقرة آية ـ ١٠٢ ـ ١٠٣ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٧١٩ / ٣٠٤.

٢٩٢

والنواصب (ما تَتْلُوا) ما تقرأ (الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) وزعموا أن سليمان بذلك السحر والتدبير والنيرنجات (١) ، نال ما ناله من الملك العظيم ، فصدوهم به عن كتاب الله.

وذلك أن اليهود الملحدين والنواصب المشاركين لهم في إلحادهم لما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وشاهدوا منه ومن علي عليهما‌السلام المعجزات التي أظهرها الله تعالى لهم على أيديهما ، أفضى بعض اليهود والنصاب إلى بعض ، وقالوا : ما محمد إلا طالب الدنيا بحيل ومخاريق وسحر ونيرنجات تعلمها ، وعلم عليا بعضها ، فهو يريد أن يتملك علينا في حياته ، ويعقد الملك لعلي بعده ، وليس ما يقوله عن الله بشيء ، إنما هو قوله ، فيعقد علينا وعلى ضعفاء عباد الله بالسحر والنيرنجات التي يستعملها.

وأوفر الناس كان حظا من هذا السحر سليمان بن داود ، الذي ملك بسحره الدنيا كلها من الجن والإنس والشياطين ، ونحن إذا تعلمنا بعض ما كان تعلمه سليمان بن داود ، تمكنا من إظهار مثل ما يظهره محمد وعلي ، وادعينا لأنفسنا بما يجعله محمد لعلي ، وقد استغنينا عن الانقياد لعلي.

فحينئذ ذم الله تعالى الجميع من اليهود والنواصب ، فقال الله عز وجل : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ) الآمر بولاية محمد وعلي (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) (٢) فلم يعملوا به (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا) كفرة (الشَّياطِينُ) من السحر والنيرنجات (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الذين يزعمون أن سليمان به ملك ، ونحن أيضا به نظهر العجائب حتى ينقاد لنا الناس ، ونستغني عن الانقياد لعلي.

قالوا : وكان سليمان كافرا ساحرا ماهرا ، بسحره ملك ما ملك ، وقدر على ما قدر ، فرد الله تعالى عليهم ، وقال : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ولا استعمل السحر ، كما قال هؤلاء الكافرون (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أي بتعليمهم الناس السحر الذي نسبوه إلى سليمان كفروا.

ثم قال عز وجل : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) قال : كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر ، وبتعليمهم إياهم بما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، اسم الملكين.

قال الصادق عليه‌السلام : وكان بعد نوح عليه‌السلام قد كثر السحرة والمموهون ، فبعث الله تعالى ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة ، وذكر ما يبطل به سحرهم ، ويرد به كيدهم ، فتلقاه النبي عن الملكين ، وأداه إلى عباد الله بأمر الله ، وأمرهم أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه ، ونهاهم أن يسحروا به الناس ، وهذا كما يدل على السم ما هو ، وعلى ما يدفع به غائلة (٣) السم ، ثم يقال لمتعلم ذلك : هذا السم فمن رأيته سم فادفع غائلته بكذا ، وإياك أن تقتل بالسم أحدا.

ثم قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) وهو أن ذلك النبي أمر الملكين أن يظهرا للناس بصورة بشرين ، ويعلماهم

__________________

(١) النّيرنج : أخذ كالسحر وليس به ، أي ليس ، بحقيقته ولا كالسحر ، إنّما هو تشبيه وتلبيس. «تاج العروس ـ نرج ـ ٢ : ١٠٥».

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٠١.

(٣) الغائلة : الشر ، والمراد هنا : المضرّة.

٢٩٣

ما علمهما الله تعالى من ذلك ويعظاهم ؛ فقال الله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) ذلك السحر وإبطاله (حَتَّى يَقُولا) للمتعلم : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) امتحان للعباد ؛ ليطيعوا الله تعالى فيما يتعلمون من هذا ، ويبطلوا به كيد السحرة ، فلا يسحرونهم (٤).

قوله تعالى : (فَلا تَكْفُرْ) باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا به أنك تحيي وتميت ، وتفعل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فإن ذلك كفر.

قال الله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ) يعني طالبي السحر (مِنْهُما) يعني مما كتبت الشياطين على ملك سليمان من النيرنجات ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، فيتعلمون من هذين الصنفين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) هذا يتعلم للإضرار بالناس ، يتعلمون التفريق بضروب من الحيل والتمائم (٥) ، والإيهام أنه قد دفن كذا وعمل كذا ، ليغضب (٦) قلب المرأة على (٧) الرجل ، وقلب الرجل على (٨) المرأة ، ويؤدي إلى الفراق بينهما.

ثم قال الله عز وجل : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) أي ما المتعلمون لذلك بضارين به من أحد إلا بإذن الله ، بتخلية (٩) الله وعلمه ، فإنه لو شاء لمنعهم بالجبر والقهر.

ثم قال : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به ويضروا ، فقد تعلموا ما يضرهم في دينهم ولا ينفعهم فيه ، بل ينسلخون عن دين الله بذلك (وَلَقَدْ عَلِمُوا) هؤلاء المتعلمون (لَمَنِ اشْتَراهُ) بدينه الذي ينسلخ عنه بتعلمه (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب (١٠) في ثواب الجنة.

(وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) رهنوها بالعذاب (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أنهم قد باعوا الآخرة ، وتركوا نصيبهم من الجنة ، لأن المتعلمين لهذا السحر هم الذين يعتقدون أن لا رسول ، ولا إله ، ولا بعث ، ولا نشور.

فقال : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) لأنهم يعتقدون أن لا آخرة ، وهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم في دار بعد الدنيا ، وإن كانت آخرة فهم مع كفرهم بها لا خلاق لهم فيها.

ثم قال : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) باعوا به أنفسهم ، إذ (١١) باعوا الآخرة بالدنيا ، ورهنوا بالعذاب (١٢) أنفسهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنهم قد باعوا أنفسهم بالعذاب ، ولكن لا يعلمون ذلك لكفرهم به ، لما تركوا (١٣)

__________________

(٤) في المصدر : كيد الساحر ولا يسحروا لهم ، وفي «ط» نسخة بدل : كيد السحر ولا يسحروا لهم.

(٥) التمائم : جمع تميمة ، وهي عوذة تعلّق على الإنسان. «الصحاح ـ تمم ـ ٥ : ١٨٧٨».

(٦) في المصدر : ليجلب.

(٧ ، ٨) في المصدر : عن.

(٩) التخلية : الترك. «مجمع البحرين ـ خلا ـ ١ : ١٢٩».

(١٠) في المصدر : من نصيب.

(١١) في المصدر : أنفسهم بالعذاب إذا.

(١٢) في المصدر زيادة : الدائم.

(١٣) في «ط» نسخة بدل : وقلما تركوا.

٢٩٤

النظر في حجج الله تعالى حتى يعلموا ، عذبهم على اعتقادهم الباطل ، وجحدهم الحق».

قال أبو يعقوب وأبو الحسن : قلنا للحسن أبي القائم عليهم‌السلام : فإن عندنا قوما يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم ، وأنزلهما الله تعالى مع ثالث لهما إلى الدنيا ، وأنهما افتتنا بالزهرة ، وأرادا الزنا بها ، وشربا الخمر ، وقتلا النفس المحرمة ، وأن الله يعذبهما ببابل ، وأن السحرة منهما يتعلمون السحر ، وأن الله تعالى مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة.

فقال الإمام عليه‌السلام : «معاذ الله من ذلك ، إن الملائكة معصومون من الخطأ محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى ، فقال الله عز وجل فيهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٤) وقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١٥).

وقال في الملائكة : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (١٦)».

ثم قال عليه‌السلام : لو كان كما يقولون كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاء (١٧) على الأرض ، فكانوا كالأنبياء في الدنيا أو كالأئمة (١٨) ، أفيكون من الأنبياء والأئمة قتل النفس وفعل الزنا؟!».

ثم قال : «أولست تعلم أن الله تعالى لم يخل الدنيا قط من نبي أو إمام من البشر؟ أو ليس الله تعالى يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يعني إلى الخلق (إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١٩) فأخبر الله أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة وحكاما ، وإنما أرسلوا إلى أنبياء الله».

قالا : قلنا له عليه‌السلام : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟

فقال : «لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان أن الله تعالى يقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٢٠) فأخبر أنه كان من الجن ، وهو الذي قال الله تعالى : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢١)».

ثم قال الإمام عليه‌السلام : «حدثني أبي ، عن جدي ، عن الرضا عليهم‌السلام ، عن آبائه (صلوات الله عليهم) ، عن

__________________

(١٤) التحريم ٦٦ : ٦.

(١٥) الأنبياء ٢١ : ١٩ و ٢٠.

(١٦) الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٨.

(١٧) في المصدر : خلفاءه.

(١٨) في المصدر : وكالأئمّة.

(١٩) يوسف ١٢ : ١٠٩.

(٢٠) الكهف ١٨ : ٥٠.

(٢١) الحجر ١٥ : ٢٧.

٢٩٥

علي عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن الله اختارنا معاشر آل محمد ، واختار النبيين ، واختار الملائكة المقربين ، وما اختارهم إلا على علم منه بهم أنهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته ، وينقطعون به عن عصمته ، وينضمون به إلى المستحقين لعذابه ونقمته».

قالا : فقلنا : لقد روي لنا أن عليا عليه‌السلام لما نص عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالولاية والإمامة عرض الله في السماوات ولايته على فئام (٢٢) وفئام وفئام من الملائكة ، فأبوها فمسخهم الله تعالى ضفادع.

فقال : «معاذ الله ، هؤلاء المكذبون علينا ، الملائكة هم رسل الله ، فهم كسائر أنبياء الله إلى الخلق ، أفيكون منهم الكفر بالله؟» قلنا : لا. قال : «فكذلك الملائكة ، إن شأن الملائكة عظيم ، وإن خطبهم جليل».

٥٧٠ / ٢ ـ ابن بابويه ، قال : حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي‌الله‌عنه ، قال : حدثني أبي ، عن أحمد ابن علي الأنصاري ، عن علي بن محمد بن الجهم ، قال : سمعت المأمون يسأل الرضا علي بن موسى عليه‌السلام عما يرويه الناس من أمر الزهرة ، وأنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت ، وما يروونه من أمر سهيل ، وأنه كان عشارا (١) باليمن.

فقال الرضا عليه‌السلام : «كذبوا في قولهم : إنهما كوكبان ، وإنما كانتا دابتين من دواب البحر ، وغلط الناس [وظنوا] أنهما كوكبان ، وما كان الله تعالى ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ، ثم يبقيهما ما بقيت السماء والأرض ، وإن المسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيام حتى تموت ، وما تناسل منها شيء ، وما على وجه الأرض اليوم مسخ ، وإن التي وقع عليها اسم المسوخية مثل القرة والخنزير والدب وأشباهها ، إنما هي مثل ما مسخ الله على صورها قوما غضب الله عليهم ولعنهم بإنكارهم توحيد الله ، وتكذيبهم رسله.

وأما هاروت وماروت ، فكانا ملكين علما الناس السحر ، ليحترزوا به من سحر السحرة ، ويبطلوا به كيدهم ، وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرقون بما تعلموه بين المرء وزوجه ، قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه».

٥٧١ / ٣ ـ علي بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إن سليمان بن داود عليهما‌السلام أمر الجن أن يبنوا (١) له بيتا من قوارير ـ قال ـ : فبينا هو متكئ على عصاه ينظر إلى الشياطين كيف يعملون ، وينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة ، فإذا هو برجل معه في القبة ففزع منه ، وقال : من أنت؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك ، أنا ملك الموت ، فقبضه وهو متكئ على

__________________

(٢٢) الفئام : الجماعة الكثيرة. «مجمع البحرين ـ فأم ـ ٦ : ١٣٠».

٢ ـ عيون أخبار الرّضا عليه‌السلام ١ : ٢٧١ / ٢.

(١) العشّار : قابض العشر. «لسان العرب ـ عشر ـ ٤ : ٥٧٠».

٣ ـ تفسير القمّي ١ : ٥٤.

(١) في المصدر : الجنّ والإنس فبنوا له.

٢٩٦

عصاه.

فمكثوا سنة يبنون وينظرون إليه ، ويدانون له ، ويعملون حتى بعث الله الأرضة ، فأكلت منسأته ـ وهي العصا ـ فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ، ما لبثوا سنة في العذاب المهين ، فالجن تشكر الأرضة بما عملت بعصا سليمان ، فلا تكاد تراها في مكان إلا وجد عندها ماء وطين.

فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ، ثم طواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ، ومن أراد كذا وكذا فليفعل (٢) كذا وكذا ، ثم دفنه تحت السرير ، ثم استثاره لهم فقرأه ؛ فقال الكافرون : ما كان سليمان يغلبنا إلا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيه ، فقال الله جل ذكره : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ـ إلى قوله ـ : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ)».

العياشي : عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وذكر الحديث بعينه (٣).

قوله تعالى :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا

وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [١٠٤]

٥٧٢ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال موسى بن جعفر عليهما‌السلام : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم المدينة كثر حوله المهاجرون والأنصار ، وكثرت عليه المسائل ، وكانوا يخاطبونه بالخطاب الشريف العظيم الذي يليق به ، وذلك أن الله تعالى كان قال لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم رحيما ، وعليهم عطوفا ، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهدا ، حتى أنه كان ينظر إلى كل من كان يخاطبه فيعمد (٢) على أن يكون صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتفعا على صوته ، ليزيل عنه ما توعده الله به من إحباط أعماله ، حتى أن رجلا أعرابيا ناداه يوما وهو خلف حائط بصوت له جهوري : يا محمد ، فأجابه بأرفع من

__________________

(٢) في «ط» نسخة بدل : فليعمل.

(٣) تفسير العيّاشي ١ : ٥٢ / ٧٤.

سورة البقرة آية ـ ١٠٤ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٧٧ / ٣٠٥.

(١) الحجرات ٤٩ : ٢.

(٢) في المصدر : فيعمل.

٢٩٧

صوته ، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع صوته.

فقال له الأعرابي : أخبرني عن التوبة إلى متى تقبل؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أخا العرب ، إن بابها مفتوح لابن آدم ، لا ينسد حتى تطلع الشمس من مغربها ؛ وذلك قوله عز وجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وهو طلوع الشمس من مغربها (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٣).

وقال موسى بن جعفر عليهما‌السلام : وكانت هذه اللفظة (راعِنا) من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقولون : راعنا ، أي ارع أحوالنا ، واسمع منا كما نسمع منك ، وكان في لغة اليهود معناها : اسمع ، لا سمعت.

فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : راعنا ، ويخاطبون بها ، قالوا (٤) : كنا نشتم محمدا إلى الآن سرا ، فتعالوا الآن نشتمه جهرا ، وكانوا يخاطبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : راعنا ، يريدون شتمه.

ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري (٥) ، فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، أراكم تريدون سب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، توهمونا أنكم تجرون في مخاطبته مجرانا ، والله ، لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه ، ولولا أني أكره أن أقدم عليكم قبل التقدم والاستئذان له ولأخيه ووصيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، القيم بأمور الأمة نائبا عنه فيها ، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا.

فأنزل الله : يا محمد (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦).

وأنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) فإنها لفظة يتوصل بها أعداؤكم من اليهود إلى سب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبكم (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي قولوا بهذه اللفظة ، لا بلفظة راعنا ، فإنه ليس فيها ما في قولكم :

__________________

(٣) الأنعام ٦ : ١٥٨.

(٤) في المصدر زيادة : إنّا.

(٥) سعد بن معاذ بن النّعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج. أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير ، وشهد بدرا وأحدا والخندق ، ورمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهرا ثمّ مات على أثر الجرح ، والذي رماه بالسهم حبان بن العرقة ، وقال : خذها وأنا ابن العرقة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عرق الله وجهه في النّار». تهذيب الكمال ١٠ : ٣٠٠ ، سير أعلام النبلاء ١ : ٢٧٩.

(٦) النّساء ٤ : ٤٦.

٢٩٨

راعنا ، ولا يمكنهم أن يتوصلوا بها إلى الشتم ، كما يمكنهم بقولكم (٧) : راعنا. (وَاسْمَعُوا) إذا قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا ، وأطيعوا.

(وَلِلْكافِرِينَ) يعني اليهود الشاتمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم ، وفي الآخرة بالخلود في النار».

قوله تعالى :

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ

مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

الْعَظِيمِ [١٠٥]

٥٧٣ / ١ ـ قال الإمام العسكري عليه‌السلام : «قال علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : إن الله تعالى ذم اليهود [والنصارى] والمشركين والنواصب فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ولا من المشركين الذين هم نواصب ، يغتاظون لذكر الله وذكر محمد وفضائل علي عليهما‌السلام ، وإبانته عن شريف فضله ومحله (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ) لا يودون أن ينزل عليكم (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) من الآيات الزائدات في شرف محمد وعلي وآلهما الطيبين عليهم‌السلام ، ولا يودون أن ينزل دليل معجز من السماء يبين عن محمد وعلي وآلهما.

فهم لأجل ذلك يمنعون أهل دينهم من أن يحاجوك ، مخافة أن تبهرهم حجتك ، وتفحمهم معجزتك ، فيؤمن بك عوامهم ، أو يضطربون على رؤسائهم ، فلذلك يصدون من يريد لقاءك ـ يا محمد ـ ليعرف أمرك ، بأنه لطيف خلاق ساحر اللسان ، لا تراه ولا يراك خير لك ، وأسلم لدينك ودنياك ، فهم بمثل هذا يصدون العوام عنك.

ثم قال الله عز وجل : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) وتوفيقه لدين الإسلام ، وموالاة محمد وعلي عليهما‌السلام (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على من يوفقه لدينه ، ويهديه لموالاتك وموالاة علي بن أبي طالب عليه‌السلام».

قال : «فلما قرعهم (١) بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حضره منهم جماعة فعاندوه ، وقالوا : يا محمد ، إنك تدعي على قلوبنا خلاف ما فيها ، ما نكره أن تنزل عليك حجة تلزم الانقياد لها فننقاد.

__________________

(٧) في المصدر : بقولهم.

سورة البقرة آية ـ ١٠٥ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٨٨ / ٣١٠.

(١) قرّعت الرجل : إذا وتخته وعذلته. «لسان العرب ـ قرع ـ ٨ : ٢٦٦».

٢٩٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لئن عاندتم ها هنا محمدا ، فستعاندون رب العالمين إذا (٢) أنطق صحائفكم بأعمالكم ، وتقولون : ظلمتنا الحفظة ، فكتبوا علينا ما لم نفعل ، فعند ذلك يستشهد جوارحكم ، فتشهد عليكم.

فقالوا : لا تبعد شاهدك ، فإنه فعل الكذابين ، بيننا وبين القيامة بعد ، أرنا في أنفسنا ما تدعي لنعلم صدقك ، ولن تفعله لأنك من الكذابين.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : استشهد جوارحهم. فاستشهدها علي عليه‌السلام فشهدت كلها عليهم أنهم لا يودون أن ينزل على أمة محمد ، على لسان محمد خير من عند ربكم آية بينة ، وحجة معجزة لنبوته ، وإمامة أخيه علي عليه‌السلام ، مخافة أن تبهرهم حجته ، ويؤمن به عوامهم ، ويضطرب عليهم كثير منهم.

فقالوا : يا محمد ، لسنا نسمع هذه الشهادة التي تدعي أن جوارحنا تشهد بها.

فقال : يا علي ، هؤلاء من الذين قال الله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) (٣) ادع عليهم بالهلاك ، فدعا عليهم علي عليه‌السلام بالهلاك ، فكل جارحة نطقت بالشهادة على صاحبها انفتقت (٤) حتى مات مكانه.

فقال قوم آخرون حضروا من اليهود : ما أقساك ـ يا محمد ـ قتلتهم أجمعين! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كنت لألين على من اشتد عليه غضب الله تعالى ، أما إنهم لو سألوا الله تعالى بمحمد وعلي وآلهما الطيبين أن يمهلهم ويقيلهم لفعل بهم ، كما كان فعل بمن كان من قبل من عبدة العجل لما سألوا الله بمحمد وعلي وآلهما الطيبين ، وقال الله لهم على لسان موسى : لو كان دعا بذلك على من قد قتل لأعفاه الله من القتل كرامة لمحمد وعلي وآلهما الطيبين».

٥٧٤ / ٢ ـ الحسن بن أبي الحسن الديلمي : عمن رواه ، بإسناده عن أبي صالح ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي الحسن الرضا ، عن أبيه موسى ، عن أبيه جعفر (صلوات الله عليهم أجمعين) ، في قوله تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

قال : «المختصون (١) بالرحمة نبي الله ووصيه وعترتهما ، إن الله تعالى خلق مائة رحمة ، فتسع وتسعون رحمة عنده مذخورة لمحمد وعلي وعترتهما ، ورحمة واحدة مبسوطة على سائر الموجودين».

قوله تعالى :

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ

__________________

(٢) في المصدر : إذ.

(٣) يونس ١٠ : ٩٦ و ٩٧.

(٤) في المصدر : انفتّت.

٢ ـ تأويل الآيات ١ : ٧٧ / ٥٥.

(١) في المصدر : المختص.

٣٠٠