البرهان في تفسير القرآن - ج ١

السيد هاشم الحسيني البحراني

البرهان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني البحراني


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٥٢

في يوم الغدير (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين فتشوشون عليهم دينهم ، وتحيرونهم في دينهم ومذاهبهم (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) لأنا لا نعتقد دين محمد ، ولا غير دين محمد ، ونحن في الدين متحيرون ، فنحن نرضى في الظاهر محمدا بإظهار قبول دينه وشريعته ، ونقضي في الباطن إلى شهواتنا ، فنتمتع ونترفه ونعتق أنفسنا من دين (١) محمد ، ونكفها من طاعة ابن عمه علي ، لكي إن أديل (٢) في الدنيا كنا قد توجهنا عنده ، وإن اضمحل أمره كنا قد سلمنا من سبي أعدائه.

قال الله عز وجل : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بما يفعلون من أمور أنفسهم ، لأن الله تعالى يعرف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفاقهم ، فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم ، ولا يثق بهم أيضا أعداء المؤمنين ، لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون أصحاب محمد ، فلا يرفع لهم عندهم منزلة ، ولا يحلون عندهم بمحل أهل الثقة».

قوله تعالى :

وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ

السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ [١٣]

٣٣٥ / ١ ـ قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : «إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة ـ قال لهم خيار المؤمنين كسلمان ، والمقداد ، وأبي ذر ، وعمار ـ : آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعلي عليه‌السلام الذي أوقفه موقفه ، وأقامه مقامه ، وأناط (١) مصالح الدين والدنيا كلها به ، آمنوا بهذا النبي ، وسلموا لهذا الإمام في ظاهر الأمر وباطنه (٢) ، كما آمن الناس المؤمنون كسلمان ، والمقداد ، وأبي ذر ، وعمار.

قالوا في الجواب لمن يفضون (٣) إليه ، لا هؤلاء المؤمنين ، لأنهم لا يجسرون (٤) على مكاشفتهم بهذا الحديث ، ولكنهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهليهم الذين يثقون بهم من المنافقين ، ومن المستضعفين ، ومن المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون يقولون لهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون سلمان وأصحابه ، لما

__________________

(١) في المصدر : رقّ.

(٢) الإدالة : الغلبة ، يقال : اللهمّ أدلني على فلان وانصرني عليه. «الصحاح ـ دول ـ ٤ : ١٧٠٠» ، وفي المصدر : لكيلا نزل.

سورة البقرة آية ـ ١٣ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١١٩ / ٦٢.

(١) ناط الشّيء ينوطه نوطا ، أي علّقه. «الصحاح ـ نوط ـ ٣ : ١١٦٥».

(٢) في «س» : وسلموا لظاهره وباطنه.

(٣) أفضى إلى فلان بالسّرّ : أعلمه به. «المعجم الوسيط ـ فضا ـ ٢ : ٦٩٣».

(٤) جسر على كذا يجسر جسارة ، أي أقدم. «الصحاح ـ جسر ـ ٢ : ٦١٤».

١٤١

أعطوا عليا عليه‌السلام خالص ودهم ، ومحض طاعتهم ، وكشفوا رؤوسهم لموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه ، حتى إذا اضمحل أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طحطحهم (٥) أعداؤه ، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أي فهم بهذا التعرض لأعداء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاهلون سفهاء. قال الله عز وجل : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) الأخفاء العقول والآراء ، الذين لم ينظروا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق النظر فيعرفوا نبوته ، ويعرفوا به صحة ما أناط بعلي عليه‌السلام من أمر الدين والدنيا ، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين ، وصاروا خائفين وجلين من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذويه (٦) ومن مخالفيهم ، لا يأمنون (٧) أنه يغلب فيهلكون معه ، فهم السفهاء حيث لم يسلم لهم بنفاقهم هذا لا محبة [محمد و] المؤمنين ، ولا محبة اليهود وسائر الكافرين ، وهم يظهرون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موالاته وموالاة أخيه على ومعاداة أعدائهم اليهود والنواصب ، كما يظهرون لهم من معاداة محمد وعلي صلوات الله عليهما».

قوله تعالى :

وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا

إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [١٤] اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي

طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [١٥]

٣٣٦ / ١ ـ قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : «وإذا لقى هؤلاء الناكثون البيعة ، المواطئون على مخالفة علي عليه‌السلام ودفع الأمر عنه (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) كإيمانكم ، إذا لقوا سلمان والمقداد وأبا ذر وعمار قالوا لهم : آمنا بمحمد وسلمنا له بيعة علي عليه‌السلام وفضله ، وانقدنا لأمره كما آمنتم.

إن أولهم ، وثانيهم ، وثالثهم ، إلى تاسعهم ربما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان وأصحابه ، فإذا لقوهم اشمأزوا منهم ، وقالوا : هؤلاء أصحاب الساحر والأهوج ـ يعنون محمدا وعليا عليهما‌السلام ـ ثم يقول بعضهم لبعض : احترزوا منهم لا يقفون من فلتات كلامكم على كفر محمد فيما قاله في علي فينموا (١) عليكم فيكون فيه هلاككم.

__________________

(٥) طحطح بهم : إذا بدّدهم ، وطحطحت الشّيء : كسّرته وفرّقته. «الصحاح ـ طحح ـ ١ : ٣٨٦».

(٦) في «ط» : وذرّيته.

(٧) في «س» و «ط» : لا يؤمنون.

سورة البقرة آية ـ ١٤ ـ ١٥ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٢٠ / ٦٣.

(١) نمّ الحديث : سعى به ليوقع فتنة أو وحشة. «مجمع البحرين ـ نمم ـ ٦ : ١٨٠» ، وفي «س» و «ط» : فيقفوا.

١٤٢

فيقول أولهم : انظروا إلي كيف أسخر منهم ، وأكف عاديتهم (٢) عنكم ، فإذا التقوا ، قال أولهم : مرحبا بسلمان ابن الإسلام ، الذي قال فيه محمد سيد الأنام : لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ، هذا أفضلهم ـ يعنيك ـ وقال فيه : سلمان منا أهل البيت ؛ فقرنه بجبرئيل عليه‌السلام الذي قال له يوم العباء ـ لما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا منكم؟ قال ـ : وأنت منا ، حتى ارتقى جبرئيل إلى الملكوت الأعلى ، يفتخر على أهله ويقول : بخ ، بخ ، وأنا من أهل بيت محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم يقول للمقداد : ومرحبا بك ـ يا مقداد ـ أنت الذي قال فيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : يا علي ، المقداد أخوك في الدين وقد قد منك ، فكأنه بعضك ؛ حبا لك ، وبغضا لأعدائك ، وموالاة لأوليائك ، لكن ملائكة السماوات والحجب أشد حبا لك منك لعلي عليه‌السلام ، وأشد بغضا على أعدائك منك على أعداء علي عليه‌السلام فطوباك ثم طوباك.

ثم يقول لأبي ذر : مرحبا بك ـ يا أبا ذر ـ أنت الذي قال فيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أقلت (٣) الغبراء ولا أظلت الخضراء (٤) على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.

قيل : بما ذا فضله الله تعالى بهذا وشرفه؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنه كان يفضل عليا أخي ، وله في كل الأحوال مداحا ، ولشانئيه وأعاديه شانئا ولأوليائه وأحبائه مواليا ، سوف يجعله الله عز وجل في الجنان من أفضل سكانها ، ويخدمه من لا يعرف عدده إلا الله من وصائفها (٥) وغلمانها وولدانها.

ثم يقول لعمار بن ياسر : أهلا وسهلا ـ يا عمار ـ نلت بموالاة أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنك وادع رافه (٦) ، لا تزيد على المكتوبات والمسنونات من سائر العبادات ـ ما لا يناله الكاد (٧) بدنه ليله ونهاره ـ يعني الليل قياما ، والنهار صياما ـ والباذل أمواله وإن كانت جميع أموال الدنيا له.

مرحبا بك ، فقد رضيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي أخيه مصافيا ، وعنه مناوئا ، حتى أخبر أنك ستقتل في محبته ، وتحشر يوم القيامة في خيار زمرته ، وفقني الله لمثل عملك وعمل أصحابك ، ممن توفر (٨) على خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخي محمد علي ولي الله ، ومعاداة أعدائهما بالعداوة ، ومصافاة أوليائهما بالموالاة والمشايعة ، سوف يسعدنا الله يومنا هذا إذا التقينا بكم ، فيقبل سلمان وأصحابه ظاهرهم كما أمر الله تعالى ، ويجوزون عنهم.

__________________

(٢) دفعت عنك عادية فلان : أي ظلمه وشرّه. «الصحاح ـ عدا ـ ٦ : ٢٤٢٢».

(٣) أقلّ فلان الشّيء : طاقه وحمله. «مجمع البحرين ـ قلل ـ ٥ : ٤٥٣».

(٤) المراد بالغبراء الأرض لأنّها تعطي الغبرة في لونها ، وبالخضراء السمّاء لأنّها تعطي الخضرة. «مجمع البحرين ـ خضر ـ ٣ : ٢٨٨».

(٥) الوصيفة : الجارية. «مجمع البحرين ـ وصف ـ ٥ : ١٢٩».

(٦) الوادع : الساكن. «مجمع البحرين ـ ودع ـ ٤ : ٤٠١». والرافة : المستريح المتنعّم. «القاموس المحيط ـ رفعه ـ ٤ : ٢٨٦».

(٧) كددت الشّيء : أتعبته ، والكدّ : الشدّة في العمل وطلب الكسب. «الصحاح ـ كدد ـ ٢ : ٥٣٠».

(٨) توفّر على الشّيء : صرف إليه همّته. «المعجم الوسيط ـ وفر ـ ٢ : ١٠٤٦».

١٤٣

فيقول الأول لأصحابه : كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء ، وكفي عاديتهم عني وعنكم؟

فيقولون له : لا نزال بخير ما عشت لنا.

فيقول لهم : فهكذا فلتكن معاملتكم لهم ، إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذه ، فإن اللبيب العاقل من تجرع على الغصة (٩) حتى ينال الفرصة.

ثم يعودون إلى أخدانهم المنافقين المتمردين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أداه إليهم عن الله عز وجل من ذكر وتفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام ونصبه إماما على كافة المكلفين (قالُوا ـ لهم ـ إِنَّا مَعَكُمْ) فيما واطأتكم عليه أنفسكم ، من دفع علي عن هذا الأمر ، إن كانت لمحمد كائنة ، فلا يغرنكم ولا يهولنكم ما تسمعونه مني من تقريظهم (١٠) ، وتروني أجترئ عليهم من مداراتهم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بهم.

فقال الله عز وجل : يا محمد (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا والآخرة (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يمهلهم فيتأنى بهم برفقه ، ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا تابوا المغفرة وهم (يَعْمَهُونَ) لا يرعوون (١١) عن قبيح ، ولا يتركون أذى لمحمد وعلي (صلوات الله عليهما) يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه.

قال العالم عليه‌السلام : فأما استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو أنه ـ مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين ، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة ، والموافقة ـ يأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتعريض لهم حتى لا يخفي على المخلصين من المراد بذلك التعريض ، ويأمر بلعنهم.

وأما استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أن الله عز وجل إذا أقرهم في دار اللعنة والهوان وعذبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب ، وأقر هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفي الملك الديان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين الذين كانوا يستهزءون بهم في الدنيا ، حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات ، فتكون لذتهم وسرورهم بشماتتهم بهم ، كما لذتهم وسرورهم بنعيمهم في جنات ربهم.

فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين والمنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، وهم على أصناف : منهم من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه وتفترسه ، ومنهم من هو تحت سياط زبانيتها (١٢) وأعمدتها ومرزباتها (١٣) ، تقع من أيديها عليه ما يشدد في عذابه ، ويعظم حزنه ونكاله ، ومنهم من هو في بحار حميمها يغرق ، ويسحب فيها ، ومنهم من هو في غسلينها (١٤) وغساقها (١٥) ، تزجره فيها زبانيتها. ومنهم من هو في سائر أصناف عذابها.

__________________

(٩) الغصّة : الشّجا في الحلق. «مجمع البحرين ـ غصص ـ ٤ : ١٧٦».

(١٠) التقريظ : مدح الإنسان وهو حيّ ، بباطل أو حقّ. «الصحاح ـ قرظ ـ ٣ : ١١٧٧».

(١١) ارعوى عنه : كفّ وارتدع. «المعجم الوسيط ـ رعا ـ ١ : ٣٥٥».

(١٢) الزبانية عند العرب : الشرط ، وسمّي بذلك بعض الملائكة لدفعهم أهل النّار إليها. «الصحاح ـ زبن ـ ٥ : ٢١٣٠».

(١٣) المرزبات : جمع مرزبة : وهي عصيّة من حديد ، وهي أيضا المطرقة الكبيرة التي تكون للحدّاد. «لسان العرب ـ رزب ـ ١ : ٤١٦ و ٤١٧».

(١٤) الغسلين : غسالة أجواف أهل النّار ، وكلّ جرح ودبر. «مجمع البحرين ـ غسل ـ ٥ : ٤٣٤».

١٤٤

والكافرون والمنافقون ينظرون ، فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا [يسخرون] ـ لما كانوا من موالاة محمد وعلي وآلهما (صلوات الله عليهم) يعتقدون ـ فيرونهم ، ومنهم من هو على فرشها يتقلب ، ومنهم من هو في فواكهها يرتع ، ومنهم من هو في غرفها ، أو بساتينها ومتنزهاتها يتبحبح ، والحور العين والوصفاء والولدان والجواري والغلمان قائمون بحضرتهم ، وطائفون بالخدمة حواليهم ، وملائكة الله عز وجل يأتونهم من عند ربهم بالحباء (١٦) والكرامات ، وعجائب التحف والهدايا والمبرات يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). (١٧) فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين والمنافقين : يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان ـ حتى ينادونهم بأسمائهم ـ ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟! هلموا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان لتخلصوا من عذابكم ، وتلحقوا بنا في نعيمها.

فيقولون : يا ويلنا أنى لنا هذا؟

فيقول المؤمنون : انظروا إلى الأبواب ، فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتحة يخيل إليهم أنها إلى جهنم التي فيها يعذبون ، ويقدرون أنهم يتمكنون أن يتخلصوا إليها ، فيأخذون في السباحة في بحار حميمها ، وعدوا من بين أيدي زبانيتها وهم يلحقونهم ويضربونهم بأعمدتهم ومرزباتهم وسياطهم ، فلا يزالون كذلك يسيرون هناك ، وهذه الأصناف من العذاب تمسهم ، حتى إذا قدروا أن يبلغوا تلك الأبواب وجدوها مردومة عنهم ، وتدهدههم (١٨) الزبانية بأعمدتها فتنكسهم إلى سواء الجحيم.

ويستلقي أولئك المنعمون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم مستهزئين بهم ، فذلك قول الله عز وجل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله عز وجل : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ). (١٩)

٣٣٧ / ٢ ـ ابن شهر آشوب : عن الباقر عليه‌السلام : «أنها نزلت في ثلاثة ـ لما قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام ـ أظهروا الإيمان والرضا بذلك ، فلما خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)».

٣٣٨ / ٣ ـ وعن (تفسير الهذيل ومقاتل) عن محمد بن الحنفية ـ في خبر طويل ـ (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)

__________________

= (١٥) الغسّاق : ما يغسق من صديد أهل النّار ، أي يسيل. «مجمع البحرين ـ غسق ـ ٥ : ٢٢٣».

(١٦) الحباء : العطاء. «الصحاح ـ حبا ـ ٦ : ٢٣٠٨».

(١٧) الرعد ١٣ : ٢٤.

(١٨) دهدقت الحجر : دحرجته. «الصحاح ـ دهده ـ ٦ : ٢٢٣١».

(١٩) المطفّفين ٨٣ : ٣٤ و ٣٥.

٢ ـ المناقب ٣ : ٩٤ «نحوه».

٣ ـ المناقب ٣ : ٩٤.

١٤٥

بعلي بن أبي طالب ، فقال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣٣٩ / ٤ ـ قال ابن عباس : وذلك أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى الخلق بالجواز على الصراط فيجوز المؤمنون إلى الجنة ، ويسقط المنافقون في جهنم ، فيقول الله : يا مالك ، استهزئ بالمنافقين في جهنم ؛ فيفتح مالك بابا من جهنم إلى الجنة ، ويناديهم : معاشر المنافقين ، ها هنا ، ها هنا ، فاصعدوا من جهنم إلى الجنة ؛ فيسبح المنافقون في بحار جهنم سبعين خريفا ، حتى إذا بلغوا إلى ذلك الباب وهموا بالخروج أغلقه دونهم ، وفتح لهم بابا إلى الجنة من موضع آخر ، فيناديهم : من هذا الباب فاخرجوا إلى الجنة ؛ فيسبحون مثل الأول ، فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم ، ويفتح من موضع آخر ، وهكذا أبد الآبدين.

٣٤٠ / ٥ ـ ابن بابويه ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد بن يونس المعاذي (١) ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الهمداني ، قال : حدثنا علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن قول الله عز وجل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). فقال : «إن الله تبارك وتعالى لا يستهزئ ، ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء».

٣٤١ / ٦ ـ قال علي بن إبراهيم : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي يدعهم.

قوله تعالى :

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما

كانُوا مُهْتَدِينَ [١٦]

٣٤٢ / ١ ـ قال الإمام العالم عليه‌السلام : «(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) باعوا دين الله واعتاضوا (١) منه الكفر بالله (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة ، لأنهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنة التي كانت معدة لهم ، لو آمنوا (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الحق والصواب».

__________________

٤ ـ المناقب ٣ : ٩٤.

٥ ـ التوحيد : ١٦٣ / ١.

(١) في «س» و «ط» : المعاري ، وهو تصحيف صوابه ما في المتن. راجع تنقيح المقال ٢ : ٦٦ ، معجم رجال الحديث ١٤ : ٢١٩.

٦ ـ تفسير القمّي ١ : ٣٤.

سورة البقرة آية ـ ١٦ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٢٥ / ٦٤.

(١) اعتاض : أي أخذ العوض «الصحاح ـ عوض ـ ٣ : ١٠٩٣».

١٤٦

٣٤٣ / ٢ ـ علي بن إبراهيم : الضلالة ها هنا : الحيرة ، والهدى : البيان ، فاختاروا الحيرة والضلالة على الهدى والبيان ، فضرب الله فيهم مثلا.

قوله تعالى :

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ ب

ِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [١٧] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ

لا يَرْجِعُونَ [١٨]

٣٤٤ / ١ ـ قال موسى بن جعفر عليه‌السلام : «مثل هؤلاء المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) أبصر بها ما حوله ، فلما أبصر ذهب الله بنورها (١) بريح أرسلها فأطفأها ، أو بمطر.

كذلك مثل هؤلاء المنافقين ، لما أخذ الله تعالى عليهم من البيعة لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام أعطوا ظاهرا شهادة : أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عليا وليه ووصيه ووارثه وخليفته في أمته ، وقاضي دينه ، ومنجز عداته (٢) ، والقائم بسياسة عباد الله مقامه ، فورث موارث المسلمين بها ، ونكح في المسلمين بها ، فوالوه من أجلها ، وأحسنوا عنه الدفاع بسببها ، واتخذوه أخا يصونونه مما يصونون عنه أنفسهم ، بسماعهم منه لها. (٣) فلما جاءه الموت وقع في حكم رب العالمين ، العالم بالأسرار ، الذي لا تخفي عليه خافية ، فأخذهم العذاب بباطن كفرهم ، فذلك حين ذهب نورهم ، وصاروا في ظلمات عذاب الله ، ظلمات أحكام الآخرة ، لا يرون منها خروجا ، ولا يجدون عنها محيصا.

ثم قال : (صُمٌ) يعني يصمون في الآخرة في عذابها (بُكْمٌ) يبكمون هناك بين أطباق نيرانها (عُمْيٌ) يعمون هناك ، وذلك نظير قوله عز وجل : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٤) وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ

__________________

٢ ـ تفسير القمي ١ : ٣٤.

سورة البقرة آية ـ ١٧ ـ ١٨ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٣٠ / ٦٥.

(١) في «س» و «ط» : بنورهم.

(٢) نجز عداته : قضاها. «مجمع البحرين ـ نجز ـ ٤ : ٣٧».

(٣) قال المجلسي رحمه‌الله : الضمير في (منه) راجع إلى أمير المؤمنين ، وفي (لها) الأنفس ، أي بأنهم كانوا يسمعون منه عليه‌السلام ما ينفع أنفسهم من المعارف والأحكام والمواعظ ، أو ضمير (سماعهم) راجع إلى المسلمين ، وضمير (منه) إلى المنافق ، وضمير (لها) إلى الشهادة ، أي اتخاذهم له أخا بسبب أنهم سمعوا منه الشهادة.

(٤) طه ٢٠ : ١٢٤.

١٤٧

الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)». (٥)

٣٤٥ / ٢ ـ قال العالم عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «ما من عبد ولا أمة أعطى بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الظاهر ، ونكثها في الباطن ، وأقام على نفاقه إلا وإذا جاء ملك الموت يقبض روحه تمثل له إبليس وأعوانه ، وتمثلت النيران وأصناف عقابها لعينه وقلبه ومقاعده من مضائقها (١) ، وتمثل له أيضا الجنان ومنازله فيها لو كان بقي على إيمانه ، ووفي ببيعته.

فيقول له ملك الموت : انظر فتلك الجنان التي لا يقدر قدر سرائها وبهجتها وسرورها إلا رب العالمين كانت معدة لك ، فلو كنت بقيت على ولايتك لأخي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إليها مصيرك يوم فصل القضاء ، فإذا نكثت وخالفت فتلك النيران وأصناف عذابها وزبانيتها بمرزباتها وأفاعيها الفاغرة أفواهها (٢) ، وعقاربها الناصبة أذنابها ، وسباعها الشائلة (٣) مخالبها ، وسائر أصناف عذابها هو لك ، وإليها مصيرك ، فعند ذلك يقول : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (٤) فقبلت ما أمرني والتزمت من موالاة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ما ألزمني».

٣٤٦ / ٣ ـ محمد بن يعقوب : عن ابن محمد (١) ، عن علي بن العباس ، عن علي بن حماد ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله عز وجل : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) يقول : «أضاءت الأرض بنور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تضيء الشمس ، فضرب الله مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشمس ، ومثل الوصي القمر ، وهو قوله عز وجل : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (٢). وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ). (٣) وقوله عز وجل : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يعني قبض محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت الظلمة ، فلم يبصروا فضل أهل بيته ، وهو قوله عز وجل : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)». (٤)

__________________

(٥) الاسراء ١٧ : ٩٧.

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٣١ / ٦٦.

(١) قال المجلسيّ رحمه‌الله : مقاعده عطف على النيران ، وضميره للناكث ، وضمير مضائقها للنيران. «البحار ٢٤ : ١٨ : ٣٠».

(٢) فاغر فاه : أي فاتح فاه. «مجمع البحرين ـ فغر ـ ٣ : ٤٤١».

(٣) شائلة : رافعة.

(٤) الفرقان ٢٥ : ٢٧.

٣ ـ الكافي ٨ : ٣٨٠ / ٥٧٤.

(١) في المصدر : عليّ بن محمّد.

(٢) يونس ١٠ : ٥.

(٣) يس ٣٦ : ٣٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١٩٨.

١٤٨

٣٤٧ / ٤ ـ ابن بابويه ، قال : حدثنا محمد بن أحمد السناني رضي‌الله‌عنه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن سهل بن زياد الآدمي ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي‌الله‌عنه ، عن إبراهيم بن أبي محمود ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فقال : «إن الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلالة منعهم المعاونة واللطف ، وخلى بينهم وبين اختيارهم».

٣٤٨ / ٥ ـ قال علي بن إبراهيم : وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الصم الذي لا يسمع ، والبكم الذي يولد من أمه أعمى ، والعمي الذي يكون بصيرا ثم يعمى.

قوله تعالى :

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ

فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ

[١٩] يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا

أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٢٠]

٣٤٩ / ١ ـ قال العالم عليه‌السلام : «ثم ضرب الله عز وجل مثلا آخر للمنافقين ، فقال : مثل ما خوطبوا به من هذا القرآن الذي أنزل عليك ـ يا محمد ـ مشتملا على بيان توحيدي ، وإيضاح حجة نبوتك ، والدليل الباهر على استحقاق أخيك [علي بن أبي طالب] للموقف الذي أوقفته ، والمحل الذي أحللته ، والرتبة التي رفعته إليها ، والسياسة التي قلدته إياها ، فهي (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).

قال : يا محمد ، كما أن في هذا المطر هذه الأشياء ، ومن ابتلي به خاف ، فكذلك هؤلاء في ردهم لبيعة علي ، وخوفهم أن تعثر أنت ـ يا محمد ـ على نفاقهم كمثل من هو في هذا المطر والرعد والبرق ، يخاف أن يخلع الرعد فؤاده ، أو ينزل البرق بالصاعقة عليه ، وكذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم ، فتوجب قتلهم واستئصالهم.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد

__________________

٤ ـ عيون أخبار الرّضا عليه‌السلام ١ : ١٢٣ / ١٦.

٥ ـ تفسير القمّي ١ : ٣٤.

سورة البقرة آية ـ ١٩ ـ ٢٠ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٣٢ / ٦٧.

١٤٩

والبرق أصابعهم في آذانهم لئلا يخلع صوت الرعد أفئدتهم ، فكذلك يجعلون أصابعهم في آذانهم] إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة ووعيدك لهم إذا علمت أحوالهم (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) لئلا يسمعوا لعنك ووعيدك فتغير ألوانهم ، فيستدل أصحابك أنهم المعنيون باللعن والوعيد ، لما قد ظهر من التغيير والاضطراب عليهم ، فتقوى التهمة عليهم ، فلا يأمنون هلاكهم بذلك على يدك وفي حكمك.

ثم قال : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) مقتدر عليهم ، لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم ، وأبدى لك أسرارهم ، وأمرك بقتلهم.

ثم قال : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) وهذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضوا عنه أبصارهم ، ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألئه ، ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلصوا فيه بضوء البرق ، ولكنهم نظروا إلى نفس البرق فكاد يخطف أبصارهم.

فكذلك هؤلاء المنافقون ، يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة ، الدالة على نبوتك ، الموضحة عن صدقك ، في نصب أخيك علي إماما ، ويكاد ما يشاهدونه منك ـ يا محمد ـ ومن أخيك علي من المعجزات ، الدالات على أن أمرك وأمره هو الحق الذي لا ريب فيه ، ثم هم ـ مع ذلك ـ لا ينظرون في دلائل ما يشاهدون من آيات القرآن ، وآياتك وآيات أخيك علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، يكاد ذهابهم عن الحق في حججك يبطل عليهم سائر ما قد عملوه من الأشياء التي يعرفونها ، لأن من جحد حقا واحدا ، أداه ذلك الجحود إلى أن يجحد كل حق ، فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه ، كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره.

ثم قال : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) إذا ظهر ما اعتقدوا أنه الحجة ، مشوا فيه : ثبتوا عليه ، وهؤلاء كانوا إذا أنتجت خيولهم (١) الإناث ، ونساؤهم الذكور ، وحملت نخيلهم ، وزكت (٢) زروعهم ، ونمت تجارتهم ، وكثرت الألبان في ضروعهم ، قالوا : يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعلي عليه‌السلام ، إنه مبخوت (٣) ، مدال (٤) فبذاك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة ، لنعيش في دولته.

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي إذا أنتجت خيولهم الذكور ، ونساؤهم الإناث ، ولم يربحوا في تجارتهم ، ولا حملت نخيلهم ، ولا زكت زروعهم ، وقفوا وقالوا : هذا بشؤم هذه البيعة التي بايعناها عليا ، والتصديق الذي صدقنا محمدا ، وهو نظير ما قال الله عز وجل : يا محمد ، (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) (٥). قال الله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٦) بحكمه النافذ وقضائه ، ليس ذلك لشؤمي ولا ليمني.

__________________

(١) أنتجت الفرس : إذا حان نتاجها ، وقيل : إذا استبان حملها. «الصحاح ـ نتج ـ ١ : ٣٤٣».

(٢) زكا الزرع : أي نما. «الصحاح ـ زكا ـ ٦ : ٢٣٦٨».

(٣) رجل بخيت : ذو جدّ ، قال ابن دريد : لا أحسبها فصيحة والمبخوت : المجدود. «لسان العرب ـ بخت ـ ٢ : ١٠».

(٤) أدال فلانا على فلان أو من فلان : نصره ، وغلبه عليه ، فالمدال : المنتصر ، الغالب الذي دالت له الدولة.

(٥ ، ٦) النّساء ٤ : ٧٨.

١٥٠

ثم قال الله عز وجل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم ، أنت وأصحابك المؤمنون ، وتوجب قتلهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء».

٣٥٠ / ١ ـ وقال علي بن إبراهيم : قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) أي كمطر ، وهو مثل الكفار ، قال : وقوله : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي يعمي.

قوله تعالى :

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ [٢١]

٣٥١ / ٢ ـ قال الإمام عليه‌السلام : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني سائر المكلفين من ولد آدم. (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أطيعوا ربكم من حيث أمركم ، أن تعتقدوا أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، ولا شبيه له ولا مثل ، عدل لا يجور ، جواد لا يبخل ، حليم لا يعجل ، حكيم لا يخطل (١) ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله ، وبأن آل محمد أفضل آل النبيين ، وأن عليا عليه‌السلام أفضل [آل محمد ، وأن أصحاب محمد المؤمنين منهم أفضل صحابة المرسلين ، وأن أمة محمد أفضل] أمم المرسلين.

ثم قال عز وجل : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) اعبدوا الذي خلقكم من نطفة من ماء مهين ، فجعله في قرار مكين ، إلى قدر معلوم ، فقدره فنعم القادر رب العالمين. (٢) قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي اعبدوا بتعظيم محمد وعلي بن أبي طالب عليهما‌السلام (الَّذِي خَلَقَكُمْ) نسما ، وسواكم من بعد ذلك ، وصوركم ، فأحسن صوركم.

ثم قال عز وجل : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : وخلق الله الذين من قبلكم من سائر أصناف الناس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : لها وجهان :

أحدهما : وخلق الذين من قبلكم لعلكم ـ كلكم ـ تتقون ، أي لتتقوا كما قال الله عز وجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٣).

والوجه الآخر : اعبدوا الذي خلقكم ، والذين من قبلكم ، لعلكم تتقون ، أي اعبدوه لعلكم تتقون النار ،

__________________

١ ـ تفسير القمّي ١ : ٣٤.

سورة البقرة آية ـ ٢١ ـ

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٣٩ / ٦٨ و ٦٩ و ٧١.

(١) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب ، وقد خطل في كلامه وأخطل ، أي أفحش. «الصحاح ـ خلل ـ ٤ : ١٦٨٥».

(٢) في «س» و «ط» : فقدّرنا فنعم القادرون العالمون.

(٣) الذّاريات ٥١ : ٥٦.

١٥١

و (لعل) من الله واجب ، لأنه أكرم من أن يعني (٤) عبده بلا منفعة ، ويطمعه في فضله ثم يخيبه ، ألا تراه كيف قبح من عبد من عباده ، إذا قال لرجل : اخدمني لعلك تنتفع بي ، ولعلي أنفعك بها ؛ فيخدمه ، ثم يخيبه ولا ينفعه ، فالله عز وجل أكرم في أفعاله ، وأبعد من القبيح في أعماله من عباده».

قوله تعالى :

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ

تَعْلَمُونَ [٢٢]

٣٥٢ / ١ ـ ابن بابويه ، قال : حدثنا محمد بن القاسم المفسر رضي‌الله‌عنه ، قال : حدثني يوسف بن محمد بن زياد ، وعلي بن محمد بن سيار ، عن أبويهما ، عن الحسن بن علي ، عن أبيه علي بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن موسى الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين عليهم‌السلام في قول الله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً).

قال : «جعلها ملائمة لطبائعكم ، موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم (١) ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم ، وأبنيتكم ، وقبور موتاكم. ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم ، وقبوركم ، وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثم قال عز وجل : (وَالسَّماءَ بِناءً) أي سقفا محفوظا ، يدير فيها شمسها وقمرها ، ونجومها لمنافعكم.

ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر ، [نزله] من أعلى ليبلغ قلل جبالكم ، وتلالكم ، وهضابكم وأوهادكم (٢) ، ثم فرقه رذاذا (٣) ، ووابلا (٤) ، وهطلا (٥) لتنشفه (٦) أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا

__________________

(٤) العناء : التعب والنصب. «مجمع البحرين ـ عنا ـ ١ : ٣٠٨.»

سورة البقرة آية ـ ٢٢ ـ

١ ـ التّوحيد : ٤٠٣ / ١١.

(١) العطب : الهلاك ، وأعطبه : أهلكه. «الصحاح ـ عطب ـ ١ : ١٨٤».

(٢) الوهدة : المكان المطمئنّ. «الصحاح ـ وهد ـ ٢ : ٥٥٤».

(٣) الرّذاذ : المطر الضعيف. «الصحاح ـ رذذ ـ ٢ : ٥٦٥».

(٤) الوابل : المطر الشديد. «الصحاح ـ وبل ـ ٥ : ١٨٤٠».

(٥) الهطل : تتابع المطر. «الصحاح ـ هطل ـ ٥ : ١٨٥٠».

١٥٢

عليكم قطعة واحدة ، فيفسد أرضيكم ، وأشجاركم ، وزروعكم ، وثماركم.

ثم قال عز وجل : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) يعني مما يخرجه من الأرض لكم (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تقدر على شيء (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى».

قوله تعالى :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [٢٣] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [٢٤] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [٢٥])

٣٥٣ / ١ ـ قال العالم عليه‌السلام : «فلما ضرب الله الأمثال للكافرين المجاهرين (١) ، الدافعين لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والناصبين المنافقين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الدافعين لما قاله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أخيه علي عليه‌السلام ، والدافعين أن يكون ما قاله عن الله تعالى ، وهي آيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعجزاته لمحمد ، مضافة إلى آياته التي بينها لعلي عليه‌السلام في مكة والمدينة ، ولم يزدادوا إلا عتوا وطغيانا.

قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول الله ، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي ، مع إظهاري عليه بمكة الآيات الباهرات ، كالغمامة التي يتظلل بها في أسفاره ، والجمادات التي كانت تسلم عليه من الجبال ، والصخور ، والأحجار ، والأشجار ، وكدفاعه قاصديه بالقتل عنه ، وقتله إياهم ، وكالشجرتين المتباعدتين اللتين تلاصقتا فقعد خلفهما لحاجته ، ثم تراجعتا إلى مكانيهما كما كانتا ، وكدعائه الشجرة فجاءته مجيبة خاضعة ذليلة ، ثم أمره لها بالرجوع فرجعت سامعة مطيعة.

__________________

= (٦) نشف الحوض الماء : شربه ، وتنشّفه كذلك. «الصحاح ـ نشف ـ ٤ : ١٤٣٢».

سورة البقرة آية ـ ٢٣ ـ ٢٥ ـ

١ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ١٥١ / ٧٦.

(١) جاهره بالعداوة : بادأه بها ، وجاهره بالأمر : عالنه به. «المعجم الوسيط ـ جهر ـ ١ : ١٤٢».

١٥٣

(فَأْتُوا) يا معشر قريش واليهود ، ويا معشر النواصب المنتحلين (٢) الإسلام ، الذين هم منه برآء ، ويا معشر العرب الفصحاء ، البلغاء ، ذوي الألسن (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٣) من مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يدرس كتابا ، ولا اختلف إلى عالم ، ولا تعلم من أحد ، وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره ، بقي كذلك أربعين سنة ، ثم أوتي جوامع العلم حتى علم الأولين والآخرين.

فإن كنتم في ريب من هذه الآيات ، فأتوا من مثل هذا الرجل بمثل هذا الكلام ، ليتبين أنه كاذب كما تزعمون ، لأن كل ما كان من عند غير الله فسيوجد له نظير في سائر خلق الله.

وإن كنتم ـ معاشر قراء الكتب من اليهود والنصارى ـ في شك مما جاءكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شرائعه ، ومن نصبه أخاه سيد الوصيين وصيا ، بعد أن قد أظهر لكم معجزاته ، التي منها : أن كلمته الذراع المسمومة ، وناطقه ذئب ، وحن إليه العود وهو على المنبر ، ودفع الله عنه السم الذي دسته اليهود في طعامهم ، وقلب عليهم البلاء وأهلكهم به ، وكثر القليل من الطعام (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) يعني من مثل القرآن من التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف إبراهيم ، والكتب الأربعة عشر (٤) فإنكم لا تجدون في سائر كتب الله تعالى سورة كسورة من هذا القرآن ، فكيف يكون كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقول (٥) أفضل من سائر كلام الله وكتبه ، يا معاشر اليهود والنصارى؟! ثم قال لجماعتهم : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ادعوا أصنامكم التي تعبدونها أيها المشركون ، وادعوا شياطينكم يا أيها النصارى واليهود ، وادعوا قرناءكم من الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيبين ، وسائر أعوانكم على إرادتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقول هذا القرآن من تلقاء نفسه ، لم ينزله الله عز وجل عليه ، وأن ما ذكره من فضل علي عليه‌السلام على جميع أمته وقلده سياستهم ليس بأمر أحكم الحاكمين.

ثم قال الله عز وجل : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي إن لم تأتوا ، يا أيها المقرعون بحجة رب العالمين (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي ولا يكون هذا منكم أبدا (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) حطبها الناس والحجارة ، توقد فتكون عذابا على أهلها (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) المكذبين بكلامه ونبيه ، الناصبين العداوة لوليه ووصيه.

قال : فاعلموا بعجزكم عن ذلك أنه من قبل الله تعالى ، ولو كان من قبل المخلوقين لقدرتم على معارضته ،

__________________

(٢) النّحلة : الدعوى ، وفلان ينتحل مذهب كذا : إذا انتسب إليه. «الصحاح ـ نحل ـ ٥ : ١٨٢٦».

(٣) قال المجلسي رحمه‌الله : اعلم أنّ هذا الخبر يدل على أنّ إرجاع الضمير في مثله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى القرآن كليهما ، مراد الله تعالى بحسب بطون الآية الكريمة. «بحار الأنوار ١٧ : ٢١٧».

(٤) كذا وردت في المخطوط والمصدر ، وعنه في البحار في موضعين : ٩ : ١٧٦ و ١٧ : ٢١٥ ، وفي موضع ثالث من البحار ٩٢ : ٢٩ : والكتب المائة والأربعة عشر ، ولعلّه هو الصواب ، انظر معاني الأخبار : ٣٣٢ / ١ (قطعة) ، والخصال : ٥٢٣ / ١٣ (قطعة) ، والاختصاص : ٢٦٤ ، وعنه في البحار ١١ : ٤٣ / ٤٨ (قطعة)

(٥) تقوّل قولا : ابتدعه كذبا. «القاموس المحيط ـ قول ـ ٤ : ٤٣».

١٥٤

فلما عجزوا بعد التقريع (٦) والتحدي ، قال الله عز وجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)» (٧).

٣٥٤ / ٢ ـ قال علي بن الحسين عليه‌السلام : «وذلك قوله عز وجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ) أيها المشركون واليهود ، وسائر النواصب من المكذبين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن ، وفي تفضيله أخاه عليا عليه‌السلام المبرز على الفاضلين ، الفاضل على المجاهدين ، الذي لا نظير له في نصرة المتقين ، وقمع الفاسقين ، وإهلاك الكافرين ، وبث دين الله في العالمين.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) في إبطال عبادة الأوثان من دون الله ، وفي النهي عن موالاة أعداء الله ، ومعاداة أولياء الله ، وفي الحث على الانقياد لأخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتخاذه إماما ، واعتقاده فاضلا راجحا ، لا يقبل الله عز وجل أمانا إلا به ، ولا طاعة إلا بموالاته ، وتظنون أن محمدا تقوله من عنده ، وينسبه إلى ربه [فإن كان كما تظنون] (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي مثل محمد ، أمي لم يختلف إلى أصحاب كتب قط ، ولا تتلمذ لأحد ، ولا تعلم منه ، وهو من قد عرفتموه في حضره وسفره ، ولم (١) يفارقكم قط إلى بلد وليس معه جماعة منكم يراعون أحواله ، ويعرفون أخباره.

ثم جاءكم بهذا الكتاب ، المشتمل على هذه العجائب ، فإن كان متقولا ـ كما تزعمون ـ فأنتم الفصحاء ، والبلغاء ، والشعراء ، والأدباء الذين لا نظير لكم في سائر الأديان ، ومن سائر الأمم ، وإن كان كاذبا فاللغة لغتكم ، وجنسه جنسكم ، وطبعه طبعكم ، وسيتفق لجماعتكم ـ أو لبعضكم ـ معارضة كلامه هذا بأفضل منه أو مثله.

لأن ما كان من قبل البشر ، لا عن الله عز وجل ، فلا يجوز إلا أن يكون في البشر من يتمكن من مثله ، فأتوا بذلك لتعرفوه ـ وسائر النظائر إليكم في أحوالكم ـ أنه مبطل كاذب على الله تعالى (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) الذين يشهدون بزعمكم أنكم محقون ، وأنما تجيئون به نظير لما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشهداؤكم الذين تزعمون أنهم شهداؤكم عند رب العالمين لعبادتكم لها ، وتشفع لكم إليه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوله.

ثم قال الله عز وجل : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) هذا الذي تحديتكم به (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي ولا يكون ذلك منكم ، ولا تقدرون عليه ، فاعلموا أنكم مبطلون ، وأن محمدا الصادق الأمين المخصوص برسالة رب العالمين ، المؤيد بالروح الأمين ، وبأخيه أمير المؤمنين وسيد الوصيين ، فصدقوه فيما يخبر به عن الله تعالى من أوامره ونواهيه ، وفيما يذكره من فضل علي وصيه وأخيه ، (فَاتَّقُوا) بذلك عذاب (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا ـ حطبها ـ النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) حجارة الكبريت ، أشد الأشياء حرا (أُعِدَّتْ) تلك النار (لِلْكافِرِينَ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) التقريع : التعنيف. «الصحاح ـ قرع ـ ٣ : ١٢٦٤».

(٢) الإسراء ١٧ : ٨٨.

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٠٠ / ٩٢.

(١) في «س» و «ط» : ولا.

١٥٥

والشاكين في نبوته ، والدافعين لحق أخيه علي عليه‌السلام ، والجاحدين لإمامته.

ثم قال : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ، وصدقوك في نبوتك فاتخذوك إماما ، وصدقوك في أقوالك ، وصوبوك في أفعالك ، واتخذوا أخاك عليا بعدك إماما ، ولك وصيا مرضيا ، وانقادوا لما يأمرهم به ، وصاروا إلى ما أصارهم إليه ، ورأوا له ما يرون لك إلا النبوة التي أفردت بها ، وأن الجنان لا تصير لهم إلا بموالاته ، وبموالاة من ينص لهم عليه من ذريته ، وبموالاة سائر أهل ولايته ، ومعاداة أهل مخالفته وعداوته ، وأن النيران لا تهدأ عنهم ، ولا تعدل بهم عن عذابها إلا بتنكبهم (٢) عن موالاة مخالفيهم ، ومؤازرة شانئيهم.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٣) من أداء الفرائض واجتناب المحارم ، ولم يكونوا كهؤلاء الكافرين بك ، بشرهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت شجرها ومساكنها (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) من تلك الجنان (مِنْ ثَمَرَةٍ) من ثمارها (رِزْقاً) طعاما يؤتون به (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا فاسماؤه كأسماء ما في الدنيا من تفاح ، وسفرجل ، ورمان ، وكذا وكذا ، وإن كان ما هناك مخالفا لما في الدنيا فإنه في غاية الطيب ، وإنه لا يستحيل إلى ما تستحيل إليه ثمار الدنيا من عذرة وسائر المكروهات ، من صفراء وسوداء ودم ، بل ما يتولد من مأكولهم ، إلا العرق ، الذي يجري من أعراضهم ، أطيب من رائحة المسك.

(وَأُتُوا بِهِ) بذلك الرزق من الثمار من تلك البساتين (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا ، بأنها كلها خيار لا رذل (٤) فيها ، وبأن كل صنف منها في غاية الطيب واللذة ، ليس كثمار الدنيا التي بعضها نيء (٥) ، وبعضها متجاوز لحد النضج والإدراك إلى الفساد من حموضة ومرارة وسائر ضروب المكاره ، ومتشابها أيضا متفقات الألوان مختلفات الطعوم.

(وَلَهُمْ فِيها) في تلك الجنان (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من أنواع الأقذار والمكاره ، مطهرات من الحيض والنفاس ، لا ولاجات ، ولا خراجات (٦) ، ولا دخالات ، ولا ختالات (٧) ، ولا متغايرات ، ولا لأزواجهن فاركات (٨) ولا صخابات (٩) ، ولا غيابات (١٠) ، ولا فحاشات ، ومن كل العيوب والمكاره بريات. (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) مقيمون في تلك البساتين والجنان».

__________________

(٢) تنكّب فلانا : أعرض عنه. «المعجم الوسيط ـ نكب ـ ٢ : ٩٥٠».

(٣) قال المجلسي رحمه‌الله : استدلّوا بالعطف على عدم دخول الأعمال في الايمان وهو كذلك ، لكنّه لا ينفي الاشتراط ، بل استدل في بعض الأخبار بالمقارنة عليه. «البحار ٦٧ : ١٩».

(٤) الرذل : الدون الخسيس ، أو الرديء من كل شيء. «القاموس المحيط ـ رذل ـ ٣ : ٣٩٥».

(٥) النّيء : الذي لم ينضّج. «القاموس المحيط ـ ناء ـ ١ : ٣٢».

(٦) يقال : فلان خرّاج ولاج : كثير الطواف والسعي. «المعجم الوسيط ـ ولج ـ ٢ : ١٠٥٥».

(٧) ختله : خدعه عن غفلة. «المعجم الوسيط ـ ختل ـ ١ : ٢١٨».

(٨) الفرك : البغض ، وفركت المرأة زوجها ، أي أبغضته ، فهي فروك وفارك. «الصحاح ـ فرك ـ ٤ : ١٦٠٣».

(٩) رجل صخب وصخّاب : كثيرة اللّغط والجلبة ، والمرأة صخباء وصخّابة. «مجمع البحرين ـ صخب ـ ٢ : ٩٩».

(١٠) في المصدر : ولا عيّابات.

١٥٦

٣٥٥ / ٣ ـ قال : «وقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : يا معشر شيعتنا ، اتقوا الله ، واحذروا أن تكونوا لتلك النار حطبا ، وإن [لم] تكونوا بالله كافرين ، فتوقوها بتوقي ظلم إخوانكم المؤمنين ، وإنه ليس من مؤمن ظلم أخاه المؤمن المشارك له في موالاتنا إلا ثقل الله في تلك النار سلاسله وأغلاله ، ولم يفكه منها إلا شفاعتنا ، ولن نشفع إلى الله إلا بعد أن نشفع له إلى أخيه المؤمن ، فإن عفا عنه شفعنا ، وإلا طال في النار مكثه».

٣٥٦ / ٤ ـ وقال علي بن الحسين عليه‌السلام : «معاشر شيعتنا ، أما الجنة فلن تفوتكم سريعا كان أو بطيئا ، ولكن تنافسوا في الدرجات ، واعلموا أن أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصورا ودورا وأبنية ، أحسنكم إيجابا لإخوانه (١) المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم.

إن الله عز وجل ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ألف عام بقدمه ، وإن كان من المعذبين بالنار ، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم الله تعالى حيث لا يقوم مقام ذلك غيره».

٣٥٧ / ٥ ـ محمد بن يعقوب : عن علي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن منخل ، عن جابر ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : «نزل جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ـ في علي ـ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)».

٣٥٨ / ٦ ـ وروى ابن بابويه مرسلا ، قال : سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله عز وجل : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) قال : «الأزواج المطهرة : اللاتي لا يحضن ولا يحدثن».

٣٥٩ / ٧ ـ ومن طريق المخالفين ، عن ابن عباس ، قال : فيما نزل من (١) القرآن خاصة في رسول الله وعلي عليهما‌السلام وأهل بيته دون الناس من سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ، نزلت في علي ، وحمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب.

قوله تعالى :

إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ

__________________

٣ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٠٤ / ٩٣.

٤ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٠٤ / ٩٤.

(١) في «س» و «ط» : إيجابا بإيجاب.

٥ ـ الكافي ١ : ٣٤٥ / ٢٦.

٦ ـ من لا يحضره الفقيه ١ : ٥٠ / ١٩٥.

٧ ـ تفسير الحبري : ٢٣٥ / ٤ ، شواهد التنزيل ١ : ٧٤ / ١١٣.

(١) في «س» و «ط» : في.

١٥٧

آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا

أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ

الْفاسِقِينَ [٢٦] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ

ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ

الْخاسِرُونَ [٢٧]

٣٦٠ / ١ ـ علي بن إبراهيم ، قال : حدثني أبي ، عن النضر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن المعلى بن خنيس ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام : «إن هذا المثل ضربه الله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فالبعوضة أمير المؤمنين عليه‌السلام وما فوقها رسول الله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل على ذلك قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الميثاق عليهم له.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فرد الله عليهم ، فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ـ في على ـ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يعني من صلة أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)».

٣٦١ / ٢ ـ تفسير الإمام أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، قال : «قال الباقر عليه‌السلام : فلما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (١) وذكر الذباب في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (٢) الآية ، ولما قال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣) وضرب المثل في هذه السورة بالذي استوقد نارا ، وبالصيب من السماء. قالت الكفار والنواصب : وما هذا من الأمثال فيضرب؟! يريدون به الطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال الله : يا محمد (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) لا يترك حياء (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) للحق (٤) ، يوضحه به عند

__________________

سورة البقرة آية ـ ٢٦ ـ ٢٧ ـ

١ ـ تفسير القمّي ١ : ٣٤.

(١) قال المجلسيّ رحمه‌الله : مثّل الله بهم : لذاته تعالى من قوله : اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وأمثاله ، لئلاّ يتوهّم أنّ لهم : في جنب عظمته تعالى قدرا ، أو لهم مشاركة له تعالى في كنه ذاته وصفاته ، أو الحلول أو الاتحاد ، تعالى الله عن جميع ذلك ، فنبّه الله تعالى بذلك على أنّهم ـ وإن كانوا أعظم المخلوقات وأشرفها ـ فهم في جنب عظمته تعالى كالبعوضة وأشباهها ، والله تعالى يعلم حقائق كلامه وحججه :. «بحار الأنوار ٢٤ : ٣٩٣».

٢ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٠٥ / ٩٥ و ٩٦.

(١ ، ٢) الحجّ ٢٢ : ٧٣.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ٤١.

(٤) في «س» : للخلق.

١٥٨

عباده المؤمنين (ما بَعُوضَةً) أي ما هو بعوضة المثل (٥) (فَما فَوْقَها) فوق البعوضة وهو الذباب ، يضرب به المثل إذا علم أن فيه صلاح عباده المؤمنين ونفعهم.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبولاية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وآلهما الطيبين ، وسلم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة أحكامهم وأخبارهم وأحوالهم ولم يقابلهم في أمورهم ، ولم يتعاط (٦) الدخول في أسرارهم ، ولم يفش شيئا مما يقف عليه منها إلا بإذنهم (فَيَعْلَمُونَ) يعلم هؤلاء المؤمنون الذين هذه صفتهم (أَنَّهُ) المثل المضروب (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أراد به الحق وإبانته ، والكشف عنه وإيضاحه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعارضتهم في علي بـ (لم وكيف) وتركهم الانقياد في سائر ما أمر به (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) يقول الذين كفروا : إن الله يضل بهذا المثل كثيرا ، ويهدي به كثيرا ، فلا معنى للمثل ، لأنه وإن نفع به من يهديه فهو يضربه من يضله به.

فرد الله تعالى عليهم قيلهم ، فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ) يعني ما يضل الله بالمثل (إِلاَّ الْفاسِقِينَ) الجانين على أنفسهم بترك تأمله ، وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه.

ثم وصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين الله وطاعته ، فقال عز وجل : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) المأخوذ عليهم بالربوبية ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوة ، ولعلي عليه‌السلام بالإمامة ، ولشيعتهما بالمحبة (٧) والكرامة (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) إحكامه وتغليظه (٨) (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم.

وأفضل رحم وأوجبه حقا رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن حقهم بمحمد كما أن حق قرابات الإنسان بأبيه وأمه ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم حقا من أبويه ، كذلك حق رحمه أعظم ، وقطيعته أفظع وأفضح.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالبراءة ممن فرض الله إمامته ، واعتقاد إمامة من قد فرض الله مخالفته (أُولئِكَ) أهل هذه الصفة (هُمُ الْخاسِرُونَ) قد خسروا أنفسهم وأهليهم لما صاروا إلى النيران ، وحرموا الجنان ، فيا لها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد ، وحرمتهم نعيم الأبد».

قال : «وقال الباقر عليه‌السلام : ألا ومن سلم لنا ما لا يدريه ثقة بأنا محقون عالمون لا نقف به إلا على أوضح

__________________

(٥) قوله عليه‌السلام : ما هو بعوضة المثل ، لعلّه كان في قراءتهم عليهم‌السلام (بعوضة) بالرفع ـ كما قرئ به في الشواذ ـ قال البيضاوي ـ بعد أن وجّه قراءة النصب بكون كلمة (ما) مزيدة للتنكير والإبهام أو للتأكيد : وقرئت بالرفع على أنّه خبر مبتدأ ، وعلى هذا تحتمل (ما) وجوها أخر : أن تكون موصولة حذف صدر صلتها ، أو موصوفة بصفة كذلك ومحلّها النصب بالبدليّة على الوجهين ، أو استفهامية هي المبتدأ. أنظر تفسير البيضاوي ١ : ٤٤ ، بحار الأنوار ٢٤ : ٣٩٢.

(٦) فلان يتعاطى كذا : أي يخوض فيه. «مختار الصحاح ـ عطا ـ ٤٤١»

(٧) في «ط» : بالجنّة.

(٨) غلّظ اليمين : قوّاها وأكّدها ، وغلّظ عليه في اليمين : شدّد عليه وأكّد. «المعجم الوسيط ـ غلظ ـ ٢ : ٦٥٩».

١٥٩

المحجات (٩) ، سلم الله تعالى إليه من قصور الجنة أيضا ما لا يعلم قدرها هو ، ولا يقدر (١٠) قدرها إلا خالقها أو واهبها.

ألا ومن ترك المراء والجدال واقتصر على التسليم لنا ، وترك الأذى ، حبسه الله على الصراط ، فإذا حبسه الله على الصراط ، فجاءته الملائكة تجادله على أعماله ، وتواقفه على ذنوبه ، فإذا النداء من قبل الله عز وجل : يا ملائكتي ، عبدي هذا لم يجادل ، وسلم الأمر لأئمته ، فلا تجادلوه ، وسلموه في جناني إلى أئمته يكون منيخا (١١) فيها بقربهم ، كما كان مسلما في الدنيا لهم.

وأما من عارض بـ (لم وكيف) ونقض الجملة بالتفصيل ، قالت له الملائكة على الصراط : واقفنا ـ يا عبدالله ـ وجادلنا على أعمالك ، كما جادلت أنت في الدنيا الحاكين لك عن أئمتك.

فيأتيهم النداء : صدقتم ، بما عامل فعاملوه ، ألا فواقفوه ، فيواقف ويطول حسابه ، ويشتد في ذلك الحساب عذابه ، فما أعظم هناك ندامته ، وأشد حسراته ، لا ينجيه هناك إلا رحمة الله ـ إن لم يكن فارق في الدنيا جملة دينه ـ وإلا فهو في النار أبد الأبدين.

قال الباقر عليه‌السلام : ويقال للموفي بعهوده في الدنيا ، في نذوره وأيمانه ومواعيده : يا أيها الملائكة ، وفي هذا العبد في الدنيا بعهوده ، فأوفوا له ها هنا بما وعدناه ، وسامحوه ، ولا تناقشوه ، فحينئذ تصيره الملائكة إلى الجنان.

وأما من قطع رحمه ، فإن كان وصل رحم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قطع رحمه ، شفع أرحام محمد إلى رحمه ، وقالوا : لك من حسناتنا وطاعتنا ما شئت ، فاعف عنه ؛ فيعطونه منها ما يشاء ، فيعفو عنه ، ويعطي الله المعطين ما ينفعهم [ولا ينقصهم].

وإن كان وصل أرحام نفسه ، وقطع أرحام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن جحد حقهم ، ودفعهم عن واجبهم ، وسمى غيرهم بأسمائهم ، ولقبهم بألقابهم ، ونبز بألقاب قبيحة مخالفيه من أهل ولايتهم ، قيل له : يا عبدالله ، اكتسبت عداوة آل محمد الطهر أئمتك لصداقة هؤلاء! فاستعن بهم الآن ليعينوك ، فلا يجد معينا ولا مغيثا ، ويصير إلى العذاب الأليم المهين.

قال الباقر عليه‌السلام : ومن سمانا بأسمائنا ، ولقبنا بألقابنا ، ولم يسم أضدادنا بأسمائنا ، ولم يلقبهم بألقابنا إلا عند الضرورة التي عند مثلها نسمي نحن ونلقب أعداءنا بأسمائنا وألقابنا ، فإن الله تعالى يقول لنا يوم القيامة : اقترحوا إلى أوليائكم هؤلاء ما تعينونهم به ، فنقترح لهم على الله عز وجل ما يكون قدر الدنيا كلها فيه كقدر خردلة في السماوات والأرض ، فيعطيهم الله تعالى إياه ، ويضاعفه لهم أضعافا مضاعفات.

فقيل للباقر عليه‌السلام : فإن بعض من ينتحل موالاتكم يزعم أن البعوضة علي عليه‌السلام وأن ما فوقها ـ وهو الذباب ـ محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

__________________

(٩) المحجّة : جادة الطريق. «مجمع البحرين ـ حجج ـ ٢ : ٢٨٨».

(١٠) في «ط» : يقادر.

(١١) أناخ فلان بالمكان : أقام. «المعجم الوسيط ـ ٢ : ٩٦١».

١٦٠