البرهان في تفسير القرآن - المقدمة

البرهان في تفسير القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٥٢

١
٢

٣
٤

٥

٦

تقديم

بقلم الشيخ محمد مهدي الآصفي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

التفسير : تبيين وإيضاح المقصود من الكلام ، فإن من الكلام ما هو واضح وبين ، ولا يحتاج إلى توضيح ، ويتلقاه السامع والقارئ ويفهمه ، من دون شرح وإيضاح. ومن الكلام ما لا يفقهه السامع والقارئ إلا بعد شرح وإيضاح وبيان.

والقرآن الكريم من القسم الثاني من الكلام ، ولذلك تمس الحاجة إلى تقديم شرح وتفسير لكلام الله تعالى ليفهمه الناس حق الفهم.

وهذه الحاجة هي أساس (علم التفسير) الذي هو من أكثر العلوم الإسلامية عراقة وتقدما.

وليس من شك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يلقي هذا الكلام على الناس من دون شرح وتفسير فيفهمونه ويتفاعلون معه ، وتجذبهم جاذبية الكلام ، وتقهرهم قوته وسلطانه.

وليس من شك أن الناس يقرءون هذا القرآن عبر القرون فيفهمونه ويتفاعلون معه ، دون أن يقرء واله شرحا وتوضيحا ، فليس القرآن كتاب ألغاز ورموز ، وإنما هو بيان ونور للناس (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١).

ثلاثة آراء في التفسير

تعرض التفسير لضربين من الرأي في طرفي الإفراط والتفريط :

فقد تصور بعض العلماء أن النص القرآني لما كان نازلا بلغة العرب و «بلسان عربي مبين» ، وكان الصحابة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون بعده يتلقونه ويتلونه ويفهمونه بيسر ، ومن دون تعقيد ، فلا يحتاج النص القرآني للذين يتكلمون بلغة القرآن إلى تفسير وإيضاح.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٣٨.

٧

والرأي الآخر هو الذي تتبناه بعض الطوائف الإسلامية في إباء النص القرآني للتفسير وعدم حجية ظواهر القرآن ، واحتجوا على ذلك بجملة من الروايات والأحاديث ، لا تنهض بهذه الدعوى ، وانتهوا إلى أن النص القرآني لا يمكن فهمه بشكل دقيق ، إلا إذا اقترن هذا النص بتفسير دقيق من جانب المعصوم.

وهذا الاتجاه كالاتجاه الأول لم يقاوم الحركة العلمية التي قام بها علماء المسلمين من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الوقت الحاضر من تفسير القرآن.

وساد بين هذا التصور وذاك تصور ثالث وسط ، كان هو التصور الحاكم على الأوساط العلمية الإسلامية وهو الحاجة إلى التفسير لفهم النص القرآني أولا ، وقبول النص القرآني للتفسير ، وإمكان التدبر والتأمل في آيات كتاب الله لعامة العلماء ثانيا.

الحاجة إلى التفسير لفهم النص القرآني

لقد شاع بين المسلمين تفسير القرآن وتدريسه منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليوم ، ولو لا الحاجة إلى التفسير لفهم النص القرآني ، وتيسيره إلى الأذهان لم يشع بين المسلمين أمر التفسير منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الوقت الحاضر إلى هذه الدرجة.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من فسر القرآن ، وإلى هذه الحقيقة تشير النصوص التالية :

١ ـ سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السبيل في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الزاد والراحلة». (١)

٢ ـ وسألت عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكسوة الواجبة في كفارة الأيمان في قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) (٢) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عباءة لكل مسكين». (٣)

٣ ـ وسأله رجل من هذيل عن قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). (٤)

قال : يا رسول الله ، من تركه فقد كفر؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تركه لا يخاف عقوبته ، ولا يرجو ثوابه». (٥) وهو بمعنى الإنكار والجحود لهذه الفريضة الإسلامية التي هي من ضروريات الإسلام.

__________________

(١) الإتقان ٤ : ٢٥٠.

(٢) المائدة ٥ : ٨٩.

(٣) الإتقان ٤ : ٢٥٣.

(٤) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٥) الإتقان ٤ : ٢٥٠.

٨

٤ ـ وسئل عن قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (١) ما عضين؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «آمنوا ببعض وكفروا ببعض». (٢)

٥ ـ وسئل عن قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٣) كيف يشرح صدره؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نور يقذف به ، فينشرح له وينفسح».

قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت». (٤)

٦ ـ وروى البخاري عن عدي بن حاتم ، قال : حين نزل قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (٥) قال : قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو سواد الليل وبياض النهار». (٦)

وقد تضمنت جملة من الموسوعات الحديثية أبوابا خاصة بما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير القرآن.

واشتهر نفر من الصحابة بتفسير القرآن ، مثل : عبدالله بن عباس ، وابن مسعود ، وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام إمام المفسرين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإليه يرجع عبدالله بن عباس في التفسير وجملة واسعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

حجية ظواهر القرآن

نزل القرآن بلسان عربي مبين ليفهمه الناس ويعملوا به ، والقرآن يصرح بهذه الحقيقة (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). (٧) والقرآن نور وبرهان وموعظة من عند الله إلى عباده ، وكيف يكون القرآن نورا وبرهانا دون أن يتلقى الناس ظواهر القرآن بالتأمل والتدبر والفهم ، ودون أن تكون ظواهره حجة على الناس؟!

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩٠ و ٩١.

(٢) الإتقان ٤ : ٢٦٨.

(٣) الأنعام ٦ : ١٢٥.

(٤) الإتقان ٤ : ٢٥٤.

(٥) البقرة ٢ : ١٨٧.

(٦) صحيح البخاري ٦ : ٥٦ / ٣٧.

(٧) الشّعراء ٦٢ : ١٩٢ ـ ١٩٥.

٩

يقول الله تعالى : (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). (١)

ويقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً). (٢)

ويقول تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). (٣)

ويقول تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). (٤)

وكيف يكون القرآن للناس نورا ، وبرهانا ، وبيانا ، وبلاغا ، ونذيرا ، ومبشرا ، وهاديا ، ثم لا يتمكن الناس أن يتلقوا هذا القرآن بأنفسهم ويتأملوا فيه ، وقد حثنا الله تعالى على التدبر والتأمل في آياته؟! (٥)

يقول تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

الأسباب والوجوه التي تحوجنا إلى التفسير

الأسباب التي تحوجنا إلى تفسير النص القرآني عديدة ، نذكر أهمها في ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن القرآن أجمل الكثير من الأحكام والتصورات والمفاهيم ، ولا بد لهذا الإجمال من تفصيل وشرح وتبيان كي يمكن الاستفادة الكاملة من النص القرآني ، واستيعاب الصورة الكاملة للمفهوم أو التصور أو الحكم الذي يقدمه النص لنا.

ومن هذا القبيل آيات الأحكام ، وهي تستغرق مساحة واسعة من القرآن الكريم ، وقد أجمل القرآن هذه الأحكام ، بينما فصلتها السنة ، ولا يمكن فهم هذه الآيات فهما تفصيليا وكاملا من دون الشرح والتفسير.

عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزلت عليه الصلاة ولم يسم الله تعالى لهم ثلاثا ، ولا أربعا ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي فسر ذلك لهم». (٦)

وأمثلة ذلك في القرآن كثيرة ، فمن الأحكام التي أجملها القرآن ، وترك تفسيرها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحجج من بعده قوله تعالى : (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) (٧) ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). (٨)

__________________

(١) يونس ١٠ : ٥٧.

(٢) النّساء ٤ : ١٧٤.

(٣) إبراهيم ٤١ : ٥٢.

(٤) الإسراء ١٧ : ٩.

(٥) النّساء ٤ : ٨٢.

(٦) الكافي ١ : ٢٢٦ / ١.

(٧) الحجّ ٢٢ : ٤١.

(٨) آل عمران ٣ : ٩٧.

١٠

وترك تفاصيل أحكام الصلاة والزكاة والحج ، وهي تستغرق مجلدات ضخمة من الفقه في التفسير والتبيين والشرح من جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام الذين أورثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم الكتاب والشريعة من بعده كما في حديث الثقلين. (١)

كما أن القرآن ذكر طائفة من العمومات والمطلقات دون أن يذكر تخصيصا أو تقييدا لها ، وترك بيان التخصيص والتقييد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه من بعده عليهم‌السلام الذين ورثوا علمه.

ومن هذه العمومات قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٢) وهي تعم كل المطلقات ، وقد ورد في السنة الشريفة تخصيص هذا العام بالمدخول بهن فقط.

وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (٣) وهذا العموم يختص بالرجعيات ، أما غير الرجعيات من المطلقات فلا أولوية لبعولتهن بهن ، وهذا التخصيص وارد في التفسير.

ومن المطلقات التي ورد تقييدها في التفسير من الحديث الشريف قوله تعالى : (مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٤) وإطلاق هذه الآية الكريمة مقيد في الروايات بما إذا لم يتب وكأنه قد قتله لإيمانه.

عن سماعة ، قال : قلت له : قول الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ).

قال : «المتعمد الذي يقتله على دينه ، فذاك التعمد الذي ذكر الله».

قال : قلت : فرجل جاء إلى رجل فضربه بسيفه حتى قتله لغضب لا لعيب على دينه ، قتله وهو يقول بقوله؟

قال : «ليس هذا الذي ذكر في الكتاب ، ولكن يقاد به والدية إن قبلت».

قلت : فله توبة؟ قال : «نعم ، يعتق رقبة ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويطعم ستين مسكينا ، ويتوب ويتضرع فأرجو أن يتاب عليه». (٥)

الوجه الثاني : أن القرآن الكريم طرح أنظمة كاملة للتصورات والمفاهيم والأحكام ، وليس ما في القرآن أحكاما متناثرة ومختلفة ، بل إن هذه التصورات والمفاهيم عند ما ينتظم عقدها في سلسلة واحدة تشكل نظاما مترابطا ، منسجما ، متكاملا. كل حلقة منه تكمل الحلقة التي تليها ، وهي مجتمعة تقدم للإنسان نظاما كاملا للتفكير

__________________

(١) وذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي». أنظر مسند أحمد ٤ : ٣٦٧ و ٣٧١ و ٥ : ١٨٢ و ١٨٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٣١ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ / ٣٦ و: ٤٧٨١ / ٣٧ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٢ / ٣٧٨٦ و ٣٧٨٨ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٨ ، مصابيح السنة ٤ : ١٩٠ / ٤٨١٦.

(٢) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٣) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٤) النّساء ٤ : ٩٣.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٢٦٧ / ٢٣٦ ، وللتوسّع في هذا البحث راجع مجلة رسالة القرآن العدد (٦) ، التفسير نشأته وتطوّره للشيخ محمّد هادي معرفة.

١١

والتصور.

ومن هذا القبيل (التوحيد) و (القضاء والقدر) و (الاختيار) فإن آيات التوحيد الموزعة في مواضع كثيرة من القرآن عند ما تجتمع وينتظم عقدها تقدم لنا تصورا كاملا عن وحدة الخالق ، ووحدة السلطان والسيادة في حياة الإنسان ، وإلغاء أي سيادة وسلطان من دون سلطان الله ، وشرعية كل سيادة وسلطان في امتداد سلطان الله تعالى وسيادته وولايته على الإنسان.

وفي هذه المجموعة المنتظمة من الآيات يرتبط الإيمان بالولاء والبراءة وبسيادة الله تعالى وسلطانه على الإنسان ، وعبودية الإنسان وطاعته لله تعالى ، وتمرده وبراءته من الطاغوت ، وبمسألة الإمامة ، وبخلافة الإنسان على وجه الأرض لله تعالى ، وهي مجموعة منتظمة من المسائل وقضايا الفكر والعقيدة والعمل مرتبطة ومنسجمة ومتكاملة.

وكذلك قضية (الاختيار) و (القضاء والقدر) و (الخير والشر) و (الهداية والضلالة) مسائل مترابطة ومتكاملة تتوزع وتنتشر في مواضع كثيرة من القرآن ، ولا يمكن فهم هذه الآيات فهما سويا صحيحا ، ولا يمكن أن نفهم ما يريده الله تعالى في هذه الآيات إلا إذا جمعناها إلى جنب بعض ، ونظمناها في سلسلة واحدة مترابطة ، وخصصنا عمومات الآيات العامة بالتخصيصات الواردة في القرآن ، وقيدنا مطلقات الآيات بالقيود الواردة في آيات أخرى ، وضممنا الأفكار المتعددة بعضها إلى جنب بعض. عندئذ فقط يمكن فهم ما يريده الله تعالى في هذه الآيات ، ومن دون ذلك لا نكاد نستطيع أن نفهم حقائق هذا الكتاب حق الفهم.

فقد يتلقى المتلقي آية من كتاب الله فيتصور أنها تريد الجبر المطلق ، وتسلب الإنسان حريته وإرادته بشكل مطلق ، وقد يقرأ آية أخرى فيتصور أن القرآن يقرر الاختيار المطلق ، ويفصل الإنسان ومصيره بشكل كامل عن مشيئة الله تعالى وإرادته ، بينما لا يقرر القرآن الكريم أيا من المعنيين.

وفهم ما يريده القرآن لا يمكن إلا من خلال جهد علمي يقوم به المتخصصون في القرآن بتجميع هذه الآيات وتنظيم هذه الأفكار ، واستخراج وحدة فكرية وتصورية ، ونظام فكري شامل من خلالها وهذا هو الجهد الذي يقوم به العلماء المتخصصون في القرآن من خلال (التفسير الموضوعي) للقرآن الكريم.

لقد نزل القرآن نجوما في ثلاث وعشرين سنة ، وكان لنزول طائفة كبيرة من آيات القرآن أسباب وعلل يسميها العلماء بأسباب النزول ، ولا تكاد تفهم الآية إلا من خلالها.

ومن هذه الآيات ناسخ ومنسوخ ومجمل ومبين. ولا نتمكن أن نفهم هذه الآيات إلا إذا جمعنا بعضها إلى بعض ، ووضعنا بعضها إلى جنب بعض ، فإن القرآن يستخدم كثيرا طريقة الإطلاق في بيان حكم أو تصور أو سنة وفي آيات أخرى يذكر الشروط والقيود ، وما لم نجمع هذه الآيات ونجعل بعضها إلى جنب بعض ، ونفسر بعضها ببعض لا نستطيع أن نفهم كتاب الله وما فيه من أحكام وسنن وتصورات ومفاهيم. ومن الخطأ أن نستخلص حكما أو سنة أو تصورا من خلال آية واحدة من كتاب الله تعالى دون أن نعرضه على سائر الآيات.

أما لماذا يستخدم القرآن هذا الأسلوب في بيان الأحكام والسنن والتصورات؟ فهو أمر له علاقة بأسلوب

١٢

القرآن البياني ولسنا بصدد شرح أصول هذا الأسلوب وتأثيره الآن.

والطريقة العلمية الصحيحة لفهم آيات كتاب الله هي أن يقوم المفسر بجهد علمي في تجميع هذه الآيات وتنظيمها وتقييد المطلقات ، وتخصيص العمومات ، وتحديد الشروط منها ، ثم ضم هذه الأحكام والتصورات والأفكار بعضها إلى بعض ، واستخراج أنظمة شاملة ووحدات فكرية شاملة منها ، وهذا هو الجهد العلمي الذي ينهض به المفسر.

الوجه الثالث : أن للنص ظاهرا وأعماقا مختلفة ، وكل إنسان يتناول من النص القرآني بقدر ما أوتي من علم وفهم. وقدرة على فهم مراد الله تعالى ، فلا يفهم عامة الناس من كتاب الله تعالى إلا ظاهرا من آياته ، ومن العلماء من آتاه الله تعالى القدرة على الغوص في أعماق آياته ، فيأخذ من كتاب الله قدر ما آتاه الله من علم وبصيرة وفقه ، وليس العلماء كلهم سواء في فهم كتاب الله تعالى ، فإن لهذا القرآن أعماقا وبطونا مختلفة ، وكلما أمعن الإنسان في القرآن الكريم ، وأكثر فيه التأمل ، وثابر في فهمه وتذوقه أكثر بلغ من فهم القرآن ما لم يبلغه من قبل ، ولعل في ذلك بعض السر في غضاضة النص القرآني وخلوده.

ولسنا نقصد أن كتاب الله تعالى مجموعة من الألغاز والمعميات والرموز كما يقوله أهل الباطن ، فإن القرآن نور وبلاغ وهدى للناس جميعا ، ولا يمكن أن ينهض القرآن بهذه الرسالة في حياة البشرية جميعا إلا أن يكون منفتحا على الناس وبيانا لهم جميعا يخاطب الناس بلسانهم ، وبما يفهمون من خطاب ، وليس بالرموز والألغاز.

وإنما نقصد بالأعماق والبطون المختلفة للقرآن ، أبعادا مختلفة لحقيقة واحدة ومفهوم واحد ، فما يفهمه عامة الناس من ظاهر القرآن هو ما يفهمه العلماء القرآنيون من أعماق القرآن البعيدة ، إلا أن أولئك العلماء يبلغون أعماقا من وعي الحقيقة التي يبينها القرآن للناس لا يصل إليها عامة الناس ، دون أن تختلف الحقائق التي يتلقاها الناس من ظاهر القرآن عن الحقائق التي يتلقاها العلماء القرآنيون من أعماق القرآن ، ولكن شتان بين وعي ووعي وفهم وفهم ، وما يبلغه هؤلاء وأولئك.

ولسنا نريد أن نطيل الحديث في هذا الجانب ، فإن كتاب الله نور وهدى ومنهاج عمل في حياة البشر ، ولا بد لفهم هذا القرآن أن تتضافر جهود العلماء ليفتحوا للناس من آفاق هذا القرآن ، ما لا يمكن أن يصلوا إليه ، لو لا ذلك.

وقد أدرك العلماء المتخصصون في القرآن هذه الضرورة منذ أقدم العصور القرآنية ، وتنالوا كتاب الله تعالى بالتحليل والتفسير ، ونحن بفضل جهودهم تلك أصبحنا نعي بحمد الله من كتاب الله وآياته وآفاقه ما لم نكن لندركه لولاها.

ومن الآيات التي يمكن أن تكون مصداقا واضحا لاختلاف مستوى الفهم والتفسير من قبل العلماء في استكشاف أبعاد وأعماق مختلفة لها ، دون أن تتناقض وتختلف هذه الأبعاد فيما بينها :

١ ـ قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ

١٣

النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ). (١)

٢ ـ وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٢)

٣ ـ وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (٣) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة ، وهي من غرر الآيات ، كما يقول العلامة الطباطبائي رحمه‌الله ، وهي تحمل أبعادا وأعماقا مختلفة ولظاهرها معنى واضح ومفهوم ، وكلما أمعن الإنسان النظر وتأمل فيها ، فتح الله (تعالى) له من آفاق الفهم والتفسير ما لم ينفتح له من قبل. وهذه التفاسير والتصورات والأفهام غير متناقضة ولا متخالفة فيما بينها ، وقد تحدثت عن هذا الموضوع بتفصيل في كتاب (وعي القرآن).

وليس كل الناس يستطيع أن يغوص في أعماق القرآن ، وليس كل أحد يحسن ذلك ، إذا لم يستعن بالمتخصصين من علماء القرآن الكريم الذين رزقهم الله تعالى وعي كتابه.

تاريخ التفسير

مر علم التفسير عند الشيعة والسنة بثلاث مراحل ، وهذه المراحل تختلف عند الشيعة والسنة في طول الفترة الزمنية وقصرها إلا أنها تكاد تكون متشابهة عند الطائفتين.

المرحلة الأولى : تبدأ برواية الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند السنة ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام عند الشيعة في تفسير القرآن.

وقد اشتهر نفر من الصحابة والتابعين في رواية هذه الأحاديث من مثل : عبدالله بن عباس ، وابن مسعود ، وجابر بن عبدالله ، وأبو سعيد الخدري ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تناقل روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في التفسير نفر من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام خلال هذه الفترة.

وعلماء الشيعة الإمامية يعتقدون أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام يستقون أحاديثهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من قبيل الرأي والاجتهاد ، ويستنبطون هذا المعنى من حديث الثقلين الشهير الذي تضافر الفريقان على روايته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اعتماد أهل البيت مصدرا ثانيا لمعرفة أحكام الله تعالى وحدوده بعد القرآن بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبناء على هذا الفهم فإن الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام تكتسب صفة الحجية ويمكن الإحتجاج بها على فهم أحكام الله تعالى وآياته.

__________________

(١) الرّعد ١٣ : ١٧.

(٢) النّور ٢٤ : ٣٥.

(٣) الحجر ١٥ : ٢١.

١٤

وقد روى أصحاب أهل البيت عليهم‌السلام طائفة واسعة من الأحاديث في تفسير القرآن لم يتيسر لصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرووها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لقصر الفترة التي تمكن فيها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رواية الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطول الفترة الزمنية التي تمكن فيها أصحاب أهل البيت من رواية الحديث عنهم عليهم‌السلام.

وحديث أهل البيت عليهم‌السلام في القرآن مثل حديثهم في الأحكام ، ليس عن رأي واجتهاد ، وإنما هو حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلم رسول الله وميراثه أودعه عندهم يتوارثونه كابر عن كابر ، وحديث الثقلين : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

صريح في هذا المعنى ، وهذا الحديث مما اتفق عليه صحاح الفريقين في الحديث. (١) وكتب التفسير التي كتبها ودونها الأصحاب في هذه المرحلة كثيرة ، نشير إلى طائفة منها :

١ ـ تفسير ابن عباس ، المتوفى سنة ٦٨ ه‍.

٢ ـ تفسير أبان بن تغلب بن رباح ، من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ، توفي سنة ١٤١ ه‍ ، ذكره ابن النديم في (الفهرست). (٢)

٣ ـ تفسير ابن أورمة ، من أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام ، ذكره النجاشي في (الرجال). (٣)

٤ ـ تفسير ابن أسباط من أصحاب الإمام الرضا وأبي جعفر الجواد عليهما‌السلام ، ذكره النجاشي في (الرجال). (٤)

٥ ـ تفسير سعيد بن جبير ، الذي استشهد بيد الحجاج سنة ٩٥ ه‍ ، ذكره ابن النديم في (الفهرست). (٥)

٦ ـ تفسير ابن محبوب الزراد المتوفى سنة ٢٢٤ ه‍ ، من أصحاب الإمام الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام ، ذكره ابن النديم في (الفهرست). (٦)

٧ ـ تفسير علي بن مهزيار الدورقي الأهوازي ، المتوفي سنة ٢٢٩ ه‍ ، من أصحاب الإمام الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، ذكره النجاشي في (الرجال). (٧)

٨ ـ تفسير عبد الرزاق بن همام بن نافع ، من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام.

__________________

(١) مضافا إلى المصادر المتقدّمة أنظر : المنتخب من مسند عبد بن حميد ١٠٧ / ٢٤٠ ، طبقات ابن سعد ٢ : ١٩٤ ، الذرية الطاهرة : ١٦٨ / ٢٢٨ ، تفسير العياشي ١ : ٥ / ٩ ، عيون أخبار الرّضا ١ : ٥٧ / ٢٥ ، كمال الدين وتمام النعمة : ٢٤٠ / ٦٤ ، تفسير الرازي ٨ : ١٦٣ ، تفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢.

(٢) الفهرست : ٣٠٨.

(٣) رجال النجاشي : ٣٢٩ / ٨٩١.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٢ / ٦٦٣.

(٥) الفهرست : ٥١.

(٦) الفهرست : ٣٠٩.

(٧) رجال النجاشي : ٢٥٣ / ٦٦٤.

١٥

٩ ـ تفسير السدي المتوفى ١٢٧ ه‍.

١٠ ـ تفسير محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة ١٤٦ ه‍.

١١ ـ تفسير أبي بصير يحيى بن أبي القاسم الأسدي ، المتوفى سنة ١٥٠ ه‍ ، من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام.

١٢ ـ تفسير أبي الجارود ، زياد بن المنذر الهمداني ، المتوفى سنة ١٥٠ ه‍ من أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر الصادق عليهم‌السلام ، ذكره النجاشي في (الرجال). (١)

١٣ ـ تفسير أبي حمزة الثمالي ، المتوفى سنة ١٥٠ ه‍ من أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والكاظم عليهم‌السلام ، ذكره ابن النديم في (الفهرست) (٢) ، كما يروي عنه الثعلبي في (تفسيره) ، وذكره النجاشي في (الرجال). (٣)

المرحلة الثانية : مرحلة التدوين والتجميع ، وفي هذه المرحلة توفر العلماء من الفريقين على تجميع وتنظيم ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام ضمن كتب منظمة ومدونة ، من قبيل : كتاب (التفسير) لابن جرير الطبري من أئمة التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري ، من علماء السنة ، وفرات بن إبراهيم في القرن الثالث ، وأبي النضر محمد بن مسعود العياشي السمرقندي في أواخر القرن الثالث الهجري ، وعلي بن إبراهيم القمي في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري ، ومحمد بن إبراهيم النعماني في أوائل القرن الرابع الهجري ، وتفسير علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، المتوفى سنة ٣٢٩ ه‍ ، يروي النجاشي عنه بواسطة واحدة ، وتفسير الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، المتوفى سنة ٣٨١ ه‍ ، وتفسير ابن عقدة ، المتوفى سنة ٣٣٣ ه‍ ، ذكره النجاشي في (الرجال) (٤) كما ذكره السيد ابن طاوس ، وتفسير ابن الوليد محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد المتوفى سنة ٣٤٣ ه‍ ، ذكره النجاشي في (الرجال). (٥) وكل هؤلاء من أئمة التفسير عند الشيعة ، ولكل كتاب في التفسير ، وأكثره محفوظ إلى اليوم.

وعند ما نراجع المدونات الروائية التي جمعت روايات التفسير في هذه الفترة نجد أن المدونات السنية تجمع إلى جانب حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحيان آراء الصحابة والتابعين ، وتدرجها بعنوان (الأثر) كما أن المدونات السنية تحفل بطائفة واسعة من الإسرائيليات ، وفيها أحاديث منكرة وضعيفة ومتهافتة.

وقد تناقل التابعون هذه الروايات في المرحلة الأولى من تاريخ التفسير ، وأوردها أصحاب المدونات الروائية في التفسير ، كما رووها ونقلت إليهم ، دون أي دور يذكر في تصفية هذه الأحاديث.

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٧٠ / ٤٤٨.

(٢) الفهرست : ٥٠.

(٣) رجال النجاشي : ١١٥ / ٢٩٦.

(٤) رجال النجاشي : ٣٩١ / ١٠٤٩.

(٥) رجال النجاشي : ٣٨٣ / ١٠٤٢.

١٦

أما المدونات الشيعية ، فهي تختص بروايات المعصومين ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ـ لا يدخلون فيها غير روايات أهل البيت عليهم‌السلام من الآراء والآثار ، وهي تخلو نسبيا من الإسرائيليات التي يكثر نقلها في الطائفة الأولى من المدونات التفسيرية ، ولكن المدونات الشيعية تعاني من آفة أخرى في الرواية سوف نذكرها إن شاء الله.

المرحلة الثالثة : تبدأ تقريبا من القرن الخامس الهجري ، وفي هذه المرحلة يكتسب علم التفسير نضجا حقيقيا ، ويبدأ علماء التفسير بممارسة الاجتهاد والرأي في كتاب الله ، ويتجاوز التفسير مرحلة الرواية والنقل والتجميع إلى مرحلة الاجتهاد والنظر والرأي من قبيل : الواحدي في القرن الخامس الهجري ، والزمخشري في القرن الخامس والسادس الهجري ، وفخر الدين الرازي في القرن السادس الهجري ، من علماء السنة ومن علماء الشيعة السيد الرضي في (حقائق التأويل) في القرن الرابع والخامس الهجري ، وشيخ الطائفة الطوسي في القرن الخامس الهجري في تفسير (التبيان) وغيرهم.

ومنذ القرن الخامس الهجري دخل التفسير بصورة في العلوم الإسلامية الرئيسية والأساسية ، وبدأ ينمو ويتكامل وتكتمل عناصر نضجه بصورة مستمرة ، وفي حقول مختلفة ، ومن منطلقات مختلفة ، كالفقه والعرفان والفلسفة والأدب والرواية والأخلاق ، وغيرها.

وتضافرت جهود العلماء المتخصصين في القرآن في بلورة المفاهيم والأفكار والتصورات والأحكام القرآنية بصورة منظمة ، كما تكونت في هذه المرحلة (علوم القرآن) إلى جنب التفسير ، وهي سلسلة من المسائل الأساسية التي لا بد منها في البحث القرآني لأي باحث في القرآن الكريم ، من قبيل : الإعجاز ، الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، التفسير والتأويل.

وإذا أردنا أن نتابع الحركة العلمية في التفسير وعلوم القرآن من القرن الخامس الهجري إلى اليوم عند علماء الفريقين الشيعة والسنة ، نجد أن هذه المرحلة مرحلة خصبة في الفكر القرآني ، تمخضت عن كثير من الأفكار والتصورات ، وفتحت على البشرية آفاقا واسعة جديدة من القرآن ، واستنبطت الكثير من المسائل في مختلف أبواب المعرفة القرآنية.

ونستطيع أن نقول : إن الحركة العقلية في القرآن الكريم ابتدأت في هذه المرحلة ، ودخل العقل الإسلامي آفاق القرآن ، ولا زال يواصل جهده وحركته في آفاق كتاب الله.

وينبغي أن لا يغيب عنا ركام الأخطاء والانحرافات التي أخلفها هذا الجهد العقلي خلال هذه الفترة ، فقد حاولت المذاهب الفكرية والسياسية المختلفة إخضاع القرآن الكريم بالتأويل لصالح أفكارها وعقائدها ، لا إخضاع آرائها وأفكارها للقرآن ، وبالتالي حملوا القرآن الكريم ما لا يتحمل من توجهات فكرية مختلفة ، بعيدة عن روح القرآن الشفافة ، وبعيدة عن رسالة القرآن.

وكان للحركات الباطنية والصوفية قصب السبق في هذا المجال ، وبذلك حرموا من شفافية النص القرآني وأصالته ، ومن روح القرآن وهديه.

١٧

ونذكر فيما يلي شاهدا واحدا من كلماتهم على هذا الفهم المشبع بروح التصوف للقرآن :

يقول بعض كبار علماء هذه الطائفة وكبار العارفين ، في تفسير قوله تعالى :

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١) إن عتاب موسى عليه‌السلام لهارون لأنه أنكر على هارون إنكاره لعبادة العجل ، وعدم اتساع صدره لعبادة العجل ، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء. (٢) وكتب علماء الصوفية حافلة بمثل ذلك ، ولعل فيما خلفه الشيخ العارف بالله والصوفي الشهير ابن العربي في (التفسير) و (الفتوحات) و (الفصوص) وغير ذلك من كتبه ومؤلفاته بعض الشواهد على ذلك ، على أننا نقدر الجهد الفكري الكبير الذي بذله هذا العالم المحقق في معارف القرآن والتوحيد ، في الوقت الذي نشير إلى شطحاته في تفسير كتاب الله.

وهذه الآراء والتفاسير تعد بمجموعها ركاما كبيرا وثقيلا في تاريخ القرآن الكريم وله مردود سلبي على وعي القرآن وأسلوب التعامل معه.

هذا دون أن نقصد بهذا الكلام الانتقاص من الجهد العلمي الكبير الذي بذله هؤلاء العلماء والعارفون في استكشاف أعماق هذا الكتاب ، واستخراج أفكاره ومفاهيمه إلى الناس.

ونحن نحتاج إلى دراستين قرآنيتين لهذه المرحلة أشد ما تكون الحاجة :

الدراسة الأولى : تختص بتاريخ هذه المرحلة من مراحل تفسير القرآن ، وتقسيمها إلى عدد من الفصول والأدوار ، بموجب القفزات النوعية التي قام بها علماء التفسير في حقل التفسير ، والمستجدات القرآنية التي استجدوها خلال هذه الفترة التي تزيد على الألف سنة.

ولو استقرأنا الجهد العلمي والعقلي الذي قام به علماء المسلمين خلال هذه الفترة من الناحية الكمية لعرفنا ضخامة العمل والجهد الذي قام به هؤلاء العلماء ، ولا بد أن تكون الحصيلة النوعية والكيفية لهذا الكم الهائل من الجهد أمرا عظيما ، يستحق الاهتمام والمتابعة ، وعندئذ ندرك ماذا فتح الله على علماء المسلمين خلال هذه الفترة من وعي القرآن ، وماذا بقي على الخلف مما تركه السلف من آفاق ومساحات مجهولة لم تفتح بعد ، لتنظم الجهود وللحيلولة دون تكرار الأعمال.

الدراسة الثانية : تختص بالنقد العلمي للجهود التي بذلت خلال هذه الفترة من تاريخ القرآن.

وهذه الدراسة تفرز الأعمال الأصلية التي استفادت من القرآن عن الأعمال التي حاولت أن تحمل القرآن بمجموعة من التوجهات والمتبنيات الفكرية ، وبالتالي تفرز لنا الجهود التي خضعت للقرآن ، وكونت رأيا وفهما وذوقا خاضعا لكتاب الله ، عن الجهود التي حاولت إخضاع كتاب الله لأذواق ومتبنيات أصحابها ، كما تفرز لنا هذه

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٥٠.

(٢) شرح القيصري : ٤٣٧.

١٨

الدراسة الأعمال الجديدة في القرآن عن العمل الاجتراري والتكراري الذي حدث في مجال التفسير ، خلال هذه الفترة وهو ليس بقليل.

وهذا النقد ينبغي أن يقوم على أساس التمييز بين ما يعجب الإنسان أن يقول من رأي وفهم في تفسير كتاب الله تعالى ، وما يفهمه من كتاب الله حقا ، وإن كان لا يعجبه ، وآفة كثير من المفسرين والمتخصصين في القرآن أنهم يريدون أن يعطوا للقرآن ، لا أن يأخذوا من القرآن ، ولو صدقت المحاولة في أن يأخذ الإنسان من القرآن فقط ، دون أن يحمله ذوقه ورأيه ومزاجه وما يعجبه لفتح الله تعالى عليه آفاقا كثيرة من الوعي والبصيرة والهدى.

الخطوط والاتجاهات العامة للتفسير عند أهل البيت عليهم‌السلام

أهل البيت عليهم‌السلام هم عدل الكتاب في حديث الثقلين المعروف ، وقد سبقت الإشارة إليه ، قد آتاهم الله تعالى وعي الكتاب وخصهم به ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالرجوع إليهم في فهم كتاب الله.

عن الأصبغ بن نباتة ، قال : لما قدم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة صلى بهم أربعين صباحا ، يقرأ بهم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) قال : فقال المنافقون : لا والله ، ما يحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن ، لو أحسن أن يقرأ القرآن لقرأ بنا غير هذه السورة. قال : فبلغه ذلك ، فقال : «ويل لهم ، إني لأعرف ناسخه من منسوخه ، ومحكمه من متشابهه ، وفصله من فصاله ، وحروفه من معانيه ، والله ما من حرف نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أني أعرف فيمن نزل ، وفي أي يوم ، وفي أي موضع.

ويل لهم ، أما يقرءون : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٢) والله عندي ، ورثتهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أنهي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إبراهيم وموسى عليهما‌السلام.

ويل لهم ، والله أنا الذي أنزل الله في (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٣) فإنما كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه ، فإذا خرجنا قالوا : ماذا قال آنفا». (٤)

وعن مرازم بن حكيم وموسى بن بكير ، قالا : سمعنا أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : «إنا أهل بيت لم يزل الله يبعث منا من يعلم كتابه من أوله إلى آخره». (٥)

وعن سليم بن قيس الهلالي ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «ما نزلت آية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أقرأنيها ، وأملاها علي ، فأكتبها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ، ولا علما أملاه علي

__________________

(١) الأعلى ٨٧ : ١.

(٢) الأعلى ٨٧ : ١٨ و ١٩.

(٣) الحاقّة ٦٩ : ١٢.

(٤) تفسير العياشي ١ : ١٦ / ١.

(٥) مختصر بصائر الدرجات : ٥٩.

١٩

فكتبته منذ دعا لي ما دعا ، وما ترك شيئا علمه الله تعالى من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس منه حرفا واحدا ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا ، فلم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه.

فقلت : يا رسول الله ، أو تخوفت النسيان فيما بعد؟

فقال : لست أتخوف عليك نسيانا ولا جهلا ، وقد أخبرني ربي أنه قد استجاب فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك.

فقلت : يا رسول الله ، ومن شركائي من بعدي؟

فقال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي ، فقال ، الأوصياء مني إلى أن يردوا علي الحوض كلهم هاد مهتد ، لا يضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم». (١)

وعن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «كان علي عليه‌السلام صاحب حلال وحرام وعلم بالقرآن ، ونحن على منهاجه.» (٢)

ولذلك فإن أهل البيت عليهم‌السلام هم من المصادر الأساسية لتفسير وفهم كتاب الله ، ومن دون أن نأخذ من علمهم الذي هو علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نستطيع أن نفهم القرآن حق الفهم ، كما أنزله الله تعالى.

يقول الشهرستاني صاحب الملل والنحل : فالقرآن هدى للناس عامة ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون خاصة ، وهدى وذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقومه أخص من الأول والثاني : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). (٣) ولقد كان الصحابة متفقين على أن علم القرآن مخصوص بأهل البيت عليهم‌السلام ، إذ كانوا يسألون علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ فكان يقول : «لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا بما في قراب سيفي» فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأن القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم. (٤)

أما لماذا خص الله تعالى أهل البيت عليهم‌السلام بهذا العلم وبهذه السعة والشمول دون سائر الناس؟ فهو شأن من شأن الله تعالى ، ويكفينا في ذلك النصوص الصحيحة والصريحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما أطبق المسلمون على صحتها نحو حديث (الثقلين) و (السفينة) (٥) و (مدينة العلم) (١) وغير ذلك من النصوص المتفق

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ١٤ / ٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٥ / ٥.

(٣) الزّخرف ٤٣ : ٤٤.

(٤) تفسير مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار للشهرستاني بنقل مجموعة باقر العلوم الثقافية (رسائل المؤتمر الرابع للقرآن في قم سنة ١٤١٢ ه‍).

(٥) وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق». أنظر : عيون أخبار الرّضا ٢ : ٢٧ / ١٠ ، كمال الدين وتمام النعمة ٢٣٨ / ٥٩ ، حلية الأولياء ٤ : ٣٠٦ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٣٤٣ و ٣ : ١٥٠ ، أمالي الطوسي ١ : ٥٩ و ٣٥٩ و ٢ : ٧٤ و ٩٦ و ١٢٦ و ٢٤٦ و ٣٤٣ ، تاريخ بغداد ١٢ : ٩١ ، تفسير ابن كثير ٤ : ١٢٣ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨ ، الصواعق المحرقة : ١٥٢ ، الجامع الصغير ٢ :

٢٠