خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٩

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]

خاتمة مستدرك الوسائل - ج ٩

المؤلف:

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-84-1
ISBN الدورة:
964-5503-84-1

الصفحات: ٣٩١

والأئمة (صلوات الله عليهم) ، وأمّا الباطنة فالعقول » (١).

ثمّ قال : أقول : العقل يطلق في كلمات العلماء والحكماء على معانٍ كثيرة ، وبالتتبّع يعلم أنّه يطلق في الأحاديث على ثلاثة معان :

أحدها : قوّة إدراك الخير والشر ، والتمييز بينهما ، ومعرفة أسباب الأُمور ، ونحو ذلك ، وهذا هو مناط التكليف.

وثانيها : حالة وملكة تدعو إلى اختيار الخير والمنافع ، واجتناب الشرّ والمضارّ.

وثالثها : التعقّل ، بمعنى العلم ، ولذا يقابل بالجهل ، لا بالجنون.

وأحاديث هذا الباب وغيره أكثرها محمولة على المعنى الثاني والثالث (٢).

وقال في الفائدة التاسعة والسبعين من كتابه المسمّى بالفوائد الطوسيّة : قد تجدّد في هذا الزمان من بعض المائلين إلى العمل بالأدلّة العقلية الظنّية الاستدلال على ذلك بما ورد في الحديث من قولهم عليهم‌السلام : « صديق كلّ امرئ عقله ، وعدوّه جهله » (٣).

وقولهم عليهم‌السلام : « العقل دليل المؤمن » (٤).

وقولهم عليهم‌السلام : « الحجّة على الناس اليوم العقل » (٥).

وقولهم عليهم‌السلام : « إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ١٦١ ، قطعة من الحديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١١ : ١٦٣ ، ذيل الحديث ١١.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٨ / ٤ ، المحاسن : ١٩٤ / ١٢.

(٤) أُصول الكافي ١ : ١٩ / ٢٤.

(٥) أُصول الكافي ١ : ١٩ / ٢٠ ، بتفاوت يسير.

٣٢١

باطنة » (١). إلى آخره.

ثمّ أورد على هذا الاستدلال بوجوه كثيرة. إلى أن قال : الحادي عشر : بعد التنزّل عن جميع ذلك نقول : إنّها غير صريحة في حجّية الدليل العقلي الظنّي قطعاً ، ولا ظاهرة في العموم بالنسبة إليه ، فلا يجوز الاستدلال بها عليه ، ولو سلّمنا عمومها فإنّ المخصِّص لها موجود ، وهو الآيات (٢) الكثيرة ، والروايات (٣) المتواترة في النهي عن العمل بالظنّ ، فإذا خُصَّت بالدليل العقلي القطعي لم يبق لها فائدة ؛ لأنّ هذا القسم غير موجود في الفروع قطعاً ، وعلى تقدير وجوده في غيرها مثل بطلان تكليف ما لا يطاق ، ونحو ذلك فهو مسلّم ، لكن هناك دليل نقلي متواتر قطعاً ، والاستقراء شاهد بذلك (٤).

ثم ذكر للعقل المعاني الثلاثة السابقة ، وقال : وفي هذه الأخبار وسائر أخبار مدح العقل دليلٌ واضحٌ على أنّ المراد به العقل المقابل للجهل ، أعني العلم ، لا المقابل للجنون ، وهو من التعقّل. وقد أُطلق الجهل على الظنّ في الأخبار.

ثم ذكر أنّه لو كان المراد من العقل فيها المقابل للجنون فلا بدّ من تخصيصه بأنواع اثني عشر ، وساق الأنواع.

ثم قال : وهذه الأنواع ربّما تتداخل ، وأكثرها يمكن استفادته من

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ١٣ ، قطعة من الحديث ١٢.

(٢) انظر على سبيل المثال سورة يونس الآية ٣٦ ، والحجرات الآية ١٢.

(٣) راجع قرب الاسناد : ٢٩ / ٩٤.

(٤) الفوائد الطوسيّة : ٣٥٠ ٣٥٢.

٣٢٢

النقل ، أو من النقل والعقل ، ولا بدّ فيها كلّها من الوصول إلى حدّ العلم (١). إلى آخره.

وقال في الفائدة الثانية والتسعين في ردّ الرسالة التي كتبها بعض معاصريه في الاجتهاد ـ : قال المعاصر : لا دليل إلاّ كلام الله ورسوله والأئمّة (صلوات الله عليهم) وما قالوا بحجّيته وعملوا به ، وهو أُمور : العقل ، كما دلّ عليه الكتاب والسنة (٢). إلى آخره.

فقال في الجواب ، قوله : العقل كما دلّ عليه الكتاب والسنّة ... أقول : هذا الكلام مجمل لا يخلو من تسامح ، وقد صرّح في موضع آخر ممّا نقلناه بأنّ العقل عبارة عن فهم المعارف ، من إثبات الصانع ، وصفاته ، والتوحيد ، والعدل ، والتمييز بين الخطأ والصواب ، فعلى هذا لا يكون حجّة عنده إلاّ فيما يتوقّف عليه حجّية الدليل السمعي ، فإن أراد هذا سقط النزاع ، لأنّ الأخباريين قائلون بحجّية هذا القدر ، وأحاديث الأئمة عليهم‌السلام ناطقة به ، ولا خلاف فيه ؛ إذ لا يمكن حجّية الدليل السمعي بالدليل السمعي ، والحديث الذي أورده لا يدلّ على أكثر من ذلك.

وحينئذ فجعل العقل من جملة الأدلّة قليل الفائدة ؛ لأن الكلام في أدلّة الأحكام الشرعية الفرعية.

ولا يخفى أنّه قد استعمل بمعانٍ كثيرة في كلام العلماء تزيد على عشرة معان ، واستعمل في الأحاديث. وذَكَرَ المعاني الثلاثة المتقدّمة (٣).

__________________

(١) الفوائد الطوسيّة : ٣٥٢ ٣٥٤.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٤١٧.

(٣) انظر الفوائد الطوسيّة : ٤٢٦.

٣٢٣

ثمّ قال : ومعلوم أنّ أكثر الآيات والروايات الواردة في مدح العقل يراد بها المعنى الثالث ، ولا شبهة في وجوب العمل بالعلم واليقين ، ولا ريب أنّ العقل إنّما يحصل منه العلم واليقين ببعض مطالب الأُصول لا بجميعها ، ولا بشيء من مطالب الفروع ، ولا دليل على حجّية المقدمات العقلية الظنّية.

ومعلومٌ بالتتبّع أنّ كلّ مقدمة عقلية قطعية تتعلق بالأُصول والاعتقادات ففيها نصّ متواتر ، وهذا ظاهر لمن تتبّع. إلى أن قال : ومن المعلوم المتّفق عليه أنّه لا يوجد دليل عقلي قطعي في شيء من مسائل فروع الفقه ، والعقل الظنّي فيها ليس على حجّيته دليل يعتدّ به ، بل النهي عن الظنّ شامل له (١). إلى آخره.

وقال أيضاً في جملة كلام له : ولعلّ وجه ردّها أي الروايات الدالة على الرؤية مخالفتها للدليل العقلي القطعي ، والدليل النقلي المتواتر ، فلا يدلّ على أحدهما منفرداً ، وقد عرفت تلازمهما ، ومن تتبّع جزم بصحّة ما قلناه (٢).

إلى غير ذلك من كلماته التي تنادي بأعلى صوتها : أنّ ما نفوا حجّيته حُكْمَ العقل الظنّي ، وأنّه لا حكم قطعي له في الفروع ، وأنّه لو فرض وجوده نادراً فهو حجّة ، لا ينفكّ عنه صدور دليل نقلي قطعي بالتواتر.

وأمّا المحدّث البحراني ، فلا يخفى على من راجع مؤلفاته أنّه أيضاً تابعهم ، واستصوب مقالتهم ، ونفى ما نفوه ، فيحمل المجمل من كلامه على

__________________

(١) الفوائد الطوسيّة : ٤٢٦ ٤٢٧.

(٢) الفوائد الطوسيّة : ٤٢٨ ٤٢٩.

٣٢٤

ما نصّ عليه.

قال في مقدّمات الحدائق وفي الدرر النجفية (١) : قد اشتهر بين (٢) أصحابنا رحمهم‌الله الاعتماد على الأدلة العقلية في الأُصول والفروع ، وترجيحها على الأدلّة النقلية ، ولذا تراهم في الاصولين (٣) متى تعارض الدليل العقلي والسمعي قدّموا الأول ، واعتمدوا عليه ، وتأوّلوا الثاني بما يرجع إليه ، وإلاّ طرحوه بالكليّة.

وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع الفقهية أول ما يبدؤون في الاستدلال بالدليل العقلي ، وينقلون الدليل السمعي مؤيّداً له ، ومن ثمّ قدّم أكثرهم العمل بالبراءة الأصلية والاستصحاب ونحوها من الأدلة العقلية على الأخبار الضعيفة باصطلاحهم ، بل الموثّقة (٤).

ثم ذكر مثالاً وقال : وبالجملة فكلامهم تصريحاً في مواضع ، وتلويحاً في أُخرى متّفق الدلالة على ما نقلناه ، ولم أر من ردّ ذلك وطعن فيه سوى المحدّث المحقّق السيّد نعمة الله الجزائري في مواضع من مصنّفاته ، منها : في كتاب الأنوار النعمانية وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته ، وكثرة اطّلاعه على الأخبار ، وجودة تبحّره في العلوم والآثار حيث قال فيه ونعم ما قال ، فإنّه الحقّ الذي لا تعتريه غياهب الإشكال (٥). ثمّ نقل

__________________

(١) في الأصل والحجرية : الدرّة النجفية ، علماً ان كتاب الدرّة النجفية للسيد بحر العلوم وكتاب المحدّث البحراني هو ما أثبتناه.

(٢) وردت هنا زيادة في المصدر هي : أكثر.

(٣) المراد : أُصول الدين وأُصول الفقه.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٢٥.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ١٢٦ ، وانظر الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٩.

٣٢٥

كلامه بطوله ، وقد عرفت مراده من تصريحاته ، فيكون هو الحقّ الذي استحسنه واختاره.

ومع ذلك قال في جملة كلام له بعد نقل كلام السيّد : ولا ريب أنّ الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها توقيفية ، تحتاج إلى السماع من حافظ الشريعة ؛ ولهذا قد استفاضت الأخبار كما مرّ بك الإشارة إلى شطر منها في المقدّمة الثالثة بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم ، وعلم مأثور عنهم عليهم‌السلام (١) ووجوب التوقّف عن الفتوى والرجوع إلى الاحتياط في العمل متى انسدّ طريق العلم منهم ، ووجوب الردّ إليهم فيما خفي وجهه وأشكل أمره من الأحكام ، وما ذاك إلاّ لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع على أغوارها ، وإحجامه على التلجلج في لجج بحارها ، بل لو تمّ للعقل الاستقلال لبطل إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ؛ ومن ثم تواترت الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك (٢).

ثم ساق بعضها وقال : إلى غير ذلك من الأخبار (٣) المستفيضة الدالّة على كون الشريعة توقيفيّة لا مدخل للعقل في استنباط شيء من أحكامها بوجهٍ من الوجوه. نعم ، عليه القبول والانقياد والتسليم (٤). إلى آخره (٥).

وهو صريح في أنّه لا يرى للعقل استقلالاً وطريقاً إلى معرفة الأحكام بالقطع واليقين ، لا أنّه يستقلّ ولا يكون مع ذلك حجّة.

__________________

(١) زيادة من المصدر.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٣١.

(٣) في المصدر : الأخبار المتواترة معنى.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٣٢.

(٥) الدرر النجفية : ١٤٥ ١٤٨.

٣٢٦

إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة فيما ادّعينا ممّا لا حاجة إلى نقلها ، بعد التنصيص من هؤلاء الأعلام ، الذين هم عمد أصحابنا الأخباريين ، وعيونهم ووجوههم ، وكلّ من أتى بعدهم فقد حذا حذوهم ، واتّبع أقوالهم. فالمهم في هذا الباب إثبات الصغرى ، وبيان إمكان استقلال العقل في استنباط بعض الأحكام الفرعية بالقطع واليقين.

وما أشبه هذا النزاع بنزاعهم الآخر ، من دعواهم قطعيّة الأخبار لقرائن ذكروها ، وإنكار المجتهدين ذلك لقرائن اخرى تنفيها.

والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

٣٢٧
٣٢٨

الفائدة الثانية عشر

٣٢٩
٣٣٠

اعلم أنّ علم الحديث علم شريف ، بل هو أشرف العلوم ، فإنّ غايته الفوز بالسعادة الأبدية ، والتحلّي بالسنن النبوية ، والآداب العلوية ، وبه يدرك الفوز بالمعارف الحقّة ما لا يدرك من غيره ، ومنه يتبيّن الحلال والحرام ، والفرائض والسنن ، وطرق تهذيب النفس وصفائها.

قال الشهيد الثاني في منية المريد : أقسام العلوم الشرعية الأصلية أربعة : علم الكلام ، وعلم الكتاب العزيز ، وعلم الأحاديث النبوية ، وعلم الأحكام الشرعية المعبّر عنها : بالفقه (١). إلى أن قال :

وأمّا علم الحديث فهو أجلّ العلوم قدراً ، وأعلاها رتبة ، وأعظمها مثوبة بعد القرآن ، وهو ما أُضيف إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الأئمّة المعصومين (صلوات الله عليهم) قولاً ، أو فعلاً ، أو تقريراً ، أو صفةً ، حتى الحركات والسكنات ، واليقظة والنوم.

وهو ضربان : رواية ، ودراية.

فالأول : العلم بما ذكر.

والثاني : وهو المراد بعلم الحديث عند الإطلاق ، وهو علم يعرف به معاني ما ذكر ، ومتنه ، وطرقه ، وصحيحه وسقيمه ، وما يحتاج إليه من شروط الرواة ، وأصناف المرويات ، ليعرف المقبول منه والمردود ، ليعمل به أو يجتنب ، وهو أفضل العلمين ، فإنّ الغرض الذاتي منهما هو العمل ،

__________________

(١) منية المريد : ١٨٨.

٣٣١

والدراية هي السبب القريب له (١).

قال رحمه‌الله : وممّا جاء في فضل علم الحديث من الأخبار والآثار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليبلغ الشاهد الغائب ، فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نضّر (٣) الله امرأً سمع منّا حديثاً فحفظه ، حتى يبلّغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه وليس بفقيه » (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أدى حديثاً يقام به سُنّة ، أو يثلم به بدعة ، فله الجنّة » (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رحم الله خلفائي » قلنا : ومن خلفاؤك؟ قال : « الذين يأتون بعدي ، فيروون أحاديثي ، ويعلّمونها الناس » (٦).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حفظ على أُمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً ، وكنت له شافعاً وشهيداً » (٧).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من يعلم حديثين اثنين ينفع بهما نفسه ، أو يعلّمهما

__________________

(١) منية المريد : ١٩١.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٧.

(٣) نضّر : بتخفيف الضاد وتشديدها ، النضرة هي النعمة والبهاء على الوجه.

(٤) انظر سنن أبي داود ٣ : ٣٢٢ / ٣٦٦٠ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٤ / ٢٦٥٦ ، تحف العقول : ٣٠.

(٥) شرف أصحاب الحديث : ٨٠.

(٦) الفقيه ٤ : ٣٠٢ / ٩٥ ، معاني الأخبار : ٣٧٤ ٣٧٥.

(٧) الخصال ٢ : ٥٤١.

٣٣٢

غيره فينتفع بهما كان خيراً من عبادة ستين سنة » (١).

وساق جملة من الأخبار (٢) ، وقد مرّ أضعافها في كتاب القضاء (٣).

ولو لم يرد في فضله وشرافته إلاّ قول الحجّة (صلوات الله عليه) : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي » (٤). إلى آخره ، لكفاه شرافةً وفضلاً.

وأعجب ما ورد في المقام ما رواه الشيخ الجليل أبو جعفر الطبري في كتاب دلائل الإمامة مسنداً عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى فاطمة (سلام الله عليها) فقال : يا بنت رسول الله ، هل ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه؟ فقالت : « يا جارية هات تلك الجريدة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : « ويحك اطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً!! » فطلبتها فإذا هي قد قمّمتها في قمامتها فإذا فيها : قال محمّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره » (٥) الخبر.

ورواه في الكافي باختلاف يسير ، وليس فيه قولها : « فإنّها تعدل » (٦). إلى آخره.

وقال ولده المحقق صاحب المعالم في إجازته الكبيرة : إنّ إعطاء

__________________

(١) كنز العمال ١٠ : ١٦٣ ١٦٤ / ٢٨٨٤٩.

(٢) منية المريد : ١٩٢.

(٣) راجع الجزء السابع عشر من مستدرك الوسائل.

(٤) كمال الدين وتمام النعمة : ٤٨٤ / ٤ ، الغيبة للطوسي : ١٧٧.

(٥) دلائل الإمامة : ١.

(٦) أُصول الكافي ٢ : ٤٨٩ / ٦.

٣٣٣

الحديث حقّه من الرواية والدراية أمر مهم لمن أراد التفقّه في الدين ، إذ مدار أكثر الأحكام الشرعية عليه ، وقد كان للسلف الصالح (رضوان الله عليهم) مزيد اعتناء بشأنه ، وشدّة اهتمام بروايته وعرفانه ، فقام بوظيفته منهم في كلّ عصر من تلك الأعصار أقوام بذلوا في رعايته جهدهم ، وأكثروا في ملاحظته كدّهم ووكدهم ، فلله درهم إذ عرفوا من قدره ما عرفوا ، وصرفوا إليه من وجوه الهمم ما صرفوا ، ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا حقّه ، وجهلوا قدره ، فاقتصروا من روايته على أدنى مراتبها ، وألقوا حبل درايته على غاربها.

ثم أتاح الله سبحانه بمقتضى حكمته من عرف قدره ، وبذل في خدمته وسعه ، فعمّر منه الدارسة ، وجدّد معالمه الطامسة ، وأيقظ من مراقد الغفلة رجالاً فهمّهم إسراره ، وأراهم بعين البصيرة أنواره ، فرغبوا في سلوك سبيله ، وجهدوا على إحرازه وتحصيله ، لكنّهم حيث انقطعت عنهم بتلك الفترة طريق الرواية من غير جهة الإجازة قلّت حظوظهم من الدراية ، ولاحتياجه والحال هذه إلى طول الممارسة ، وإكثار المطالعة والمراجعة ، والمتحملون لهذه الكلفة أقلّ قليل ، والأكثرون إنّما يمرّون على معاهدة عابري سبيل (١) ، انتهى.

قلت : أمّا اهتمام السلف في هذا الفن الشريف ، فهو أمر معلوم لمن راجع التراجم والإجازات ، حتى قال فخر المحققين في آخر الإيضاح في مسألة عدم تحمّل العاقلة من الجراحات إلاّ الموضحة وما فوقها ما لفظه :

__________________

(١) حكاها عنه المجلسي في البحار ١٠٩ : ٣.

٣٣٤

ولما رواه الشيخ عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضّال ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي مريم ، عن الباقر عليه‌السلام قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن لا تحمل على العاقلة إلاّ الموضحة فصاعداً » (١).

وهذه الرواية هي التي أشار إليها المصنّف (٢) بقوله : فيها ضعف ، فإنّ في طريقها : ابن فضّال ، فإن كان الحسن فقد قيل : إنّه فطحي المذهب (٣).

وأمّا في المختلف فجعله في الموثّق (٤) ، ثم لمّا قرأت عليه التهذيب في المرّة الثانية في طريق الحجاز في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة سألته عن هذه الرواية لمّا بلغت إليها ، وقلت له : إنّك حكمت عليها في المختلف : أنّها من الموثّق ، وفي القواعد (٥) قلت : إنّ فيها ضعف؟ فقال لي : بل هي ضعيفة (٦) ، انتهى.

وعلى ذلك جرت سيرتهم ، ومضى ديدنهم قديماً وحديثاً ، فإنّهم على اختلاف مشاربهم وطريقتهم في كثير من الأُمور أُصولاً وفروعاً اتّفقوا على الاهتمام في البحث عن الأحاديث تدريساً وتعلّماً ، وقراءةً وسماعاً ، خصوصاً ما تضمّنته الكتب الأربعة الشريفة ، وكانوا يقرءون أحدها على المشايخ ، أو يملي عليهم ، ويتكلّمون في سندها ، ويبحثون في متنها ، ويستخرجون منها كنوز المعاني ، سواء تعلّق بالأُصول أو الفروع أو

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١٠ : ١٧٠ / ٦٦٩.

(٢) أيّ : العلاّمة الحلّي ، مصنّف كتاب قواعد الأحكام.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٣٤ / ٧٢.

(٤) مختلف الشيعة : ٧٨٧.

(٥) قواعد الأحكام ٢ : ٣٤٤.

(٦) إيضاح الفوائد ٤ : ٧٤٧.

٣٣٥

غيرهما ، ولذا ترى من نسخ الكتب الأربعة ما لا يحصى ممّا قرئ على المشايخ العظام ، وكتب الشيخ في آخرها ما معناه : قرأ عليّ فلان هذا الكتاب قراءة بحث وتدقيق. إلى آخره.

وقد عثرنا على نسخة من جامع الكافي قرئ على الشهيد الثاني من أوله إلى آخره ، موشح آخرَ كلّ كتاب منه بخطه الشريف ، ولو لا خوف الإطناب لذكرت جملة من ذلك.

وبلغ من عنايتهم بهذا الفن أنّهم كانوا يقرءون نهج البلاغة من أوله إلى آخره ، وكذا الصحيفة الكاملة على المشايخ على الدقة والتحقيق في ألفاظها وإعرابها ، واختلاف نسخها ، ورواتها ومعانيها ، كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بأحوالهم ومآثرهم.

وأمّا قول صاحب المعالم : ثم خلف من بعدهم (١). إلى آخره ، فلعمري إنّه لو كان في عصرنا لأقام على الحديث المآتم ، وبكى عليه بكاء الثكلى ، فإنّ أهله ألقوا حبل أدنى مراتب الرواية أيضاً على غاربها ؛ لاستغنائهم عن هذا الفن بالمرّة ، واكتفائهم من السنّة بما يتعلّق بحاجتهم في الفروع ، ممّا يوجد في الكتب الفقهية ، المأخوذ من المأخذ بواسطة أو وسائط ، مع ما يتطرق في هذه الأحاديث المأخوذة من النسخ الغير الصحيحة غالباً ، في هذه التنقلات والتطوّرات من التحريف ، والتصحيف ، والزيادة ، والنقصان ، ممّا يختلف به المعنى اختلافاً فاحشاً ما لا يحصى.

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ١٠٩ : ٤.

٣٣٦

بل ربّما ينقلونه بالمعنى ممّا هو مركوز في أذهانهم من ألفاظه ، ولذا كثرت الزّلات في هذا المقام ، وقد عثرنا على كثير منها من الأعاظم فضلاً عن غيرهم يوجب نقلها الدخول في حدود تشييع الفاحشة.

قال خرّيت صناعة الفقه ، صاحب كشف اللثام في آخر كشفه : ووصيّتي إلى علماء الدين وإخواني المجتهدين. إلى أن قال : ولا ينسبوا إلى أحد منهم قولاً إلاّ بعد وجدانه في كتابه ، أو سماع منه شفاهاً في خطابه.

ولا يتّكلوا على نقل النقلة ، ولا كلّ تعويل عليه ، وإن كانوا كملة ؛ فالسهو والغفلة والخطأ لوازم عادية للناس ، واختلاف النسخ واضح ليس به التباس.

ولا يعتمدوا في الأخبار إلاّ أخذها من الأُصول.

ولا يعوّلوا ما استطاعوا على ما عنها من النقول ، حتى إذا وجدوا في التهذيب عن محمّد بن يعقوب مثلاً خبراً ، فلا يقتصروا عليه ، بل ليجيلوا له في الكافي نظراً ، فربّما طغى فيه القلم أو زلّ ، فعن خلاف في المتن أو السند جلّ أو قلّ.

ولقد رأيت جماعة من الأصحاب أخلدوا إلى أخبار وجدوها فيه وفي غيره كما وجدوها ، وأسندوا إليه آراءهم من غير أن ينتقدوها ؛ ويظهر عند الرجوع إلى الكافي أو غيره أنّ الأقلام أسقطت منها ألفاظاً ، أو صحّفتها ، وأزالت كلمة أو كلماً عن مواضعها وحرّفتها ، وما هو إلاّ تقصيرٌ بالغ ، وزيغ عن الحقّ غير سائغ.

ولا يستندوا في تصحيح الطرق ، والتضعيف والترجيح لبعضها على

٣٣٧

بعض ، والتطفيف إلى بعض ما يوجد في بعض كتب الفروع ، من غير سبر السند برجاله ، والبحث عن كلّ رجل وحقيقة حاله ، فإنّه إهمال ، وعن الحقّ إغفال ، وربّما انكشف عن الكذب حال ، وانكسف البال ، وانقطع المقال (١). انتهى كلامه الشريف.

قلت : ولو راجعوا الأُصول أحياناً فإنّما يتفحّصون لِما راموا إثباته أو نفيه من الفروع من غير تدبّر وبحث عن سائر ما تضمّنه الخبر من الفوائد ، وهذا ليس بحثاً في فن الحديث ، بل يشترط في الغائص في بحاره أن لا يكون له مقصد يتجسّس بتحصيل ما يثبته أو ينفيه ، وإنّما يدخل فيه فارغاً ذهنه عن كلّ مقصود ، طالباً لما تضمّنه الخبر من الفوائد الشريفة ، والنكات اللطيفة ، والأسرار الخفيّة ، بقدر استعداده ووسعه ، بعد البحث عن سنده ، وحال رواته بقدر اطّلاعه وخبرته ، ثم يضع كلّ فائدة في محلّها ، أُصولاً أو فروعاً أو أخلاقاً.

ولنِعْمَ ما قال بعض العلماء : إنّ مسألة الاستصحاب مسألة شريفة ، لها فوائد كثيرة ، قد توجّه أنظار العلماء إليها ، وعكفت همهم عليها ، فكُتب فيها رسائل عديدة فيها فوائد جمّة ، إذا حقّقت النظر وجدت كلّها شرح حديث واحد ، تراكم عليه الأفكار ، وترادف إليها الأنظار ، فاستخرجوا منه هذه الفوائد الكثيرة ، والقواعد المتينة ، وكم لهذا الحديث من نظائر لا تحصى ، لو فعلوا بها ما فعلوا به لوجدوا منها ما حصلوا منه.

وقال العلاّمة الطباطبائي (طاب ثراه) في الدرّة ، في بحث ما يجوز

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٥٣٥.

٣٣٨

من المقارنات :

ومشى خير الخلق بابن طاب (١)

يفتح منه أكثر الأبواب (٢)

وأشار بذلك إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه رأى نخامة في المسجد ، فمشى إليها بعرجون من عراجين ابن طاب ، فحكّها ثم رجع القهقرى (٣).

فكتب السيد الأجل ، والعالم الأكمل ، السيد مهدي القزويني (طاب ثراه) رسالة (٤) في شرح هذا الحديث ، واستنبط منه بفكره الثاقب ثمانين فائدة ، أربعون منها في الأُصول ، وأربعون منها في الفروع.

وقال العلاّمة في الخلاصة ، في سياق ذكر مؤلفاته :

وكتاب استقصاء الاعتبار في تحرير معاني الأخبار ، ذكرنا فيه كلّ حديث وصل إلينا ، وبحثنا في كل حديث منه على صحّة السند ، أو إبطاله ، وكون متنه محكماً أو متشابهاً ، وما اشتمل عليه المتن من المباحث الأُصولية والأدبية ، وما يستنبط من المتن من الأحكام الشرعية وغيرها ، وهو كتاب لم يعمل مثله.

كتاب مصابيح الأنوار ، ذكرنا فيه كل أحاديث علمائنا ، وجعلنا كلّ حديث يتعلّق بفنّ في بابه ، ورتّبنا كلّ فنّ على أبواب ، ابتدأنا فيها بما روي

__________________

(١) ابن طاب : تمر في المدينة يقال له : عذق ابن طاب ، ورطب ابن طاب. انظر : الصحاح ١ : ١٧٣ (طيب)

(٢) الدرة النجفية : ١٦٣.

(٣) رواه الصدوق مرسلاً في الفقيه ١ : ١٨٠ / ٨٤٩.

(٤) نُشرت هذه الرسالة في مجلة تراثنا التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ، في العدد الثاني من السنة الاولى.

٣٣٩

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم من بعده بما روي عن علي عليه‌السلام وهكذا إلى آخر الأئمة عليهم‌السلام.

وكتاب الدرّ والمرجان في الأحاديث الصحاح والحسان (١). انتهى.

وقد قطع بهذه المؤلّفات عذر من يتوهم أنّ الاشتغال بالفقه والأُصول مانع عن التوغّل في فنّ الحديث ، فإنّه تاج الفقهاء ، ورأس الأُصوليين ، وكلّ من جاء بعده منهم فإنّما أناخ رحله بفناء كتبه ، ونال الدرجات العالية ببركات زبره ، هذا حاله فكيف بمن اقتصر بفنّ الحديث ، واشتغل بإصلاح سنده ، واستخراج فوائد متنه ، وهم جمّ غفير ، تعرّضوا لشرح كتب الحديث ، خصوصاً الكتب الأربعة ، فكتبوا لها شروحاً وحواشي ما لا يحصى ، كلّها مهجورة متروكة مستورة ، لا طالب لها ولا راغب فيها ، فأصبحت الديار عنها خاوية ، ومحافل العلم ومجالس العلماء عن ذكرها والبحث فيها خالية.

وأصبحنا في عصر لا يوجد فيه مجلس عالم يذاكر فيه من هذا العلم ساعة ، ولا من يُقرأ عليه من الكتب الأربعة باب أو صفحة ، ولا من يقرأها عليهم ، بل ولا من التفسير والرجال شيء ، كأنها صارت من العلوم الغريبة ، وفضول الفنون الغير النافعة.

ألهت بني تغلب عن كلّ مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم (٢) (٣)

__________________

(١) رجال العلاّمة : ٤٦ / ٥٢.

(٢) جاء في حاشية الأصل : إشارة إلى قضية مذكورة في السير.

(٣) ورد هذا البيت في موضعين من ديوان عمرو بن كلثوم : ١٧ ، ١٢٣ ، ونُسب إلى بعض شعراء بكر بن وائل ، وفي كلا الموضعين : (أَلْهى) بدل (أَلْهت)

٣٤٠