من وحي الإسلام - ج ٢

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

تواضع الإمام علي ( ع )

ومن الصفات الكمالية التي ترفع مقام صاحبها ـ التواضع وكان الإمام علي من المتصفين بها بل من السابقين الى هذا الاتصاف وقد ذكر المرحوم السيد محمد كاظم القزويني في كتابه النفيس ( علي من المهد الى اللحد ) قصة تبرز اتصافه بهذه الصفة بشكل واضح وباسلوب رائع وحاصلها انه ورد عليه عليه‌السلام اخوان له مؤمنان ( اب وابن ) فقام اليهما واكرمهما واجلسهما في صدر المجلس وجلس بين ايديهما ثم امر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل وجاء ليصب على يد الرجل فوثب الإمام علي عليه‌السلام واخذ الابريق وصب على يد الاب باصرار منه على ذلك رغم عدم رضا هذا الضيف بهذا العمل وطلب من ابنه محمد بن الحنفية ان يصب الماء على يد الضيف الابن.

وقال الإمام العسكري عليه‌السلام معلقا على هذه القصة بقوله :

فمن تبع عليا على ذلك فهو الشيعي حقا بعد ان كان قد قال عليه‌السلام : اعرف الناس بحقوق اخوانه واشدهم قضاء لها اعظمهم عند الله شأنا ومن تواضع في الدنيا لاخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن ابي طالب عليه‌السلام حقا هذا من حيث السيرة والعمل واما من حيث القول فقد روي عنه عليه‌السلام قوله : « ما تواضع الا رفيع وما تكبر الا وضيع » قال الشاعر :

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر

على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه

الى طبقات الجو وهو وضـيع

١٨١

زهد الإمام علي ( ع )

وقد فسر لنا الزهد بقوله عليه‌السلام : « ليس الزهد ان لا تملك شيئاً ولكن الزهد ان لا يملك شيء ».

هذا هو الزهد في نظر الإسلام وقد فسره الإمام علي عليه‌السلام بعبارة مختصرة لفظاً ولكنها واسعة معنى حيث توحي بأن الإنسان اذا سعى في سبيل تحصيل الثراء الواسع من المصدر الحلال وللهدف المشروع والمصرف المباح بالمعنى العام للاباحة في مقابل المصرف الحرام مع الالتزام بإخراج الحق المعلوم للسائل والمحروم ـ فإنه بذلك يكون زاهداً ولو ملك مال قارون او ظفر بملك النبي سليمان على نبينا وعليه افضل التحية وازكى السلام ـ كما يكون عابداً لله سبحانه بذلك كله بالعبادة المقربة من الله زلفى بعد ملاحظة ان المراد من العبادة التي جعلها الله سبحانه السبب الداعي والعلة الغائية الباعثة على الخلق والايجاد للإنسان والكون كله ـ هو الخضوع المطلق والانقياد الكلي لارادة الله سبحانه بكل تصرف اختياري يصدر من الإنسان بارادته واختياره.

وحيث ان الله سبحانه امر بالسعي في سبيل تحصيل المال من المصدر الحلال وجوبا او استحبابا كما أمر بأخراج الحق الشرعي وجوباً وبما يزيد عليه استحبابا ـ وبالانفاق اللازم على النفس وسائر افراد الاسرة الذين تجب نفقتهم على المكلف ـ وجوبا وبما يزيد على النفقة الواجبة ـ استحبابا ـ.

أجل : حيث ان الله سبحانه امر بذلك وجوبا واستحبابا فإن المكلف الذي يمتثل هذا الامر الوجوبي او الاستحبابي ـ يكون عابدا لله سبحانه ومحصلاً بهذه العبادة الثواب العظيم الذي يستحق به ما يرغب فيه ويحلم به

١٨٢

من النعيم الخالد والسعادة الدائمة مضافا الى ما يحصله في هذه الحياة من النعيم الروحي والمادي بما وفقه الله له أيضا من الثروة المادية وما توفق له من القيام بالواجب او المستحب الذي يبعث في قلبه السرور والابتهاج نتيجة شعوره واحساسه بتأدية ما طلبه منه مولاه الحقيقي وهو الله سبحانه من تأدية وظيفة العبودية التي تعود عليه بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

وعلى ضوء ما ذكرناه من المعنى الواعي الموضوعي للزهد حسبما يفهم من كلام الإمام عليه‌السلام ندرك ان تمتع الإنسان المؤمن بما احل الله له من المتع المادية والروحية ـ لا ينافي الزهد بل يكون كما ذكرنا عابدا ـ مضافا الى كونه زاهدا.

ويظهر ذلك جليا من الآيات المباركة والرويات المشهورة التي تحث على العمل لكلتا الدارين معا ـ الدنيا والاخرة ـ في اطار الشروط المذكورة للتصرفات المادية كسبا وصرفا وتصرفا ـ بمعنى ان يكون المصدر حلالا والمصرف حلالا ـ مع الالتزام بإخراج الحق الشرعي الواجب كما تقدم وذلك لان الإسلام دين الفطرة الذي جاء لينعشها وينطلق معها في سبيل تحقيق غاية الخلق والايجاد ولا يمنع الا من المحرمات فهي وحدها التي طلب من الملكف ان يزهد فيها ويتجنب ممارستها نظرا لما يترتب عليها من المفاسد المادية والمعنوية الفردية والاجتماعية واما غيرها من المتع المباحة فهو يرغبه فيها ويشجعه على التمتع بها ما دامت لا توجب ضررا للإنسان فردا ومجتمعا ـ كما هو واضح من طبيعة التشريع الإسلامي السمحاء.

قال سبحانه :

( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) (١).

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٣٢.

١٨٣

وقال سبحانه :

( وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا ) (١).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « ليس منا من ترك اخرته لدنياه ولا من ترك دنياه لاخرته » كما روي عن الإمام الحسن عليه‌السلام قوله : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لاخرتك كانك تموت غدا ».

واما ما روي عن الإمام علي عليه‌السلام من تقشفه في طعامه ولباسه ومسكنه ونحو ذلك وروي عنه قوله : « ولقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها » فليس ذلك لان الزهد بطبعه يقتضي هذا الوضع الخاص من التقشف ـ بل لحالة استثنائية طارئة اقتضت ان يبرز الإمام عليه‌السلام بهذه الحالة وذلك لان الوضع الاقتصادي العام كان صعبا في عهده الامر الذي ادى الى انتشار ظاهرة التقشف في اوساط المجتمع بصورة غير اختيارية فإضطر الإمام عليه‌السلام لان يبرز على الحالة السائدة يوم ذاك وبدرجة اصعب من الوضع العام ـ من اجل ان يساوي نفسه بالطبقة المحتاجة ليكون ذلك مخففا من الم التقشف عندما يرى اكثر الشعب امامهم مساويا لهم بل اصعب وضعا منهم.

وقد صرح الإمام عليه‌السلام بذلك لبعض الاشخاص الذي التبس عليه الامر وتوهم ان الابتعاد عن الدنيا ومتعها يكون محبوبا لله ومقربا منه ـ ولو كانت من الحلال ـ فأدى ذلك لان يلبس الملابس المتواضعة جدا ويبتعد عن اهل بيته فأخبر اخوه الإمام بذلك فاستدعاه بواسطة اخيه هذا ونصحه بترك تلك الحالة من التقشف والعود الى وضعه الطبيعي من حيث التمتع بما احل الله سبحانه من المتع فقال للامام عليه‌السلام ما مضونه : ها انت في خشونة ملابسك وجشوبة طعامك فأجابه الإمام عليه‌السلام بأن هذا وضع مختص به بصفته القائد والإمام للمجتمع فيطلب منه ان يساوي الطبقة الفقيرة حتى تكون

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٧٧.

١٨٤

مواساته لهم مخفقة من الم الحاجة والفقر.

ويؤكد هذه الحقيقة بروز الإمام الحسن عليه‌السلام بالظاهرة الطبيعية التي يريد الإسلام ان يعيشها الإنسان في حياته وهي ظاهرة الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح وحاجات البدن وبذلك يتحقق التوازن تلقائيا بين حاجات الدنيا ومطالب الاخرة لان نفس هذا التوازن المتمثل باعطاء البدن حاجته المادية مطلب اخروي وتكليف شرعي وجوبي بالقدر اللازم واستحبابي بالنسبة الى الزائد.

١٨٥

الإمام علي عليه‌السلام رمز الحق والعدالة

الحديث عن عدالة الإمام علي عليه‌السلام والتزامه منهج الحق ـ لا يراد به الكشف عن مجهول بالنسبة الى اي شخص له معرفة ولو اجمالا بشخصية هذا الإنسان العظيم ولذلك اكتفي في المقام بالاشارة الاجمالية الى واقع هذه الشخصية الرسالية المثالية والعقل السليم والفهم المستقيم يتحرك من هذه الصورة الاجمالية الى الكثير من الصور التفصيلية المشرقة.

وتوضيح ذلك باختصار اننا ندرك على ضوء آية المباهلة ان الإمام علياً هو نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو مجمع المثل السامية وملتقى القيم الرفيعة ـ بدليل وصف الله له بأنه على خلق عظيم مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حق لانه معصوم لا ينطق عن الهوى :

« إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق » وذلك لا يكون الا اذا كان متصفا بها كلها وبدرجة رفيعة مميزة.

أجل : ان ملاحظة مجموع ذلك ينتج ان الإمام علياً متجمل بجميع الاخلاق الفاضلة والمكارم السامية التي حث عليها الإسلام وتجمل بها كلها نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد الانام ولذلك يكون التعرض لذكر بعض المحامد الرفيعة والرافعة ـ من باب ذكر النماذج الفذة والشواهد الحية المؤكدة لحقيقة تجمل الإمام بمكارم اخلاق الإسلام ـ وقد ذكرت بعضا من هذه المزايا الحميدة وفيما يلي بعض آخر منها اذكره لا لمجرد التبرك ونيل الثواب بالتحدث بفضائله عليه‌السلام بل من اجل استيحاء الكثير من العبر والدروس كما

١٨٦

مرت الاشارة اليه في السابق ـ مضافا الى تحصيل الثواب العظيم المترتب على ذكر فضائل اهل البيت عليهم‌السلام بصورة عامة والإمام علي بصورة خاصة ـ على ضوء بعض الروايات الناصة على ذلك في كتب الفريقين ومما ورد في كتب السنة ما رواه اخطب خوارزم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقله عنه المرحوم المقدس الشيخ المظفر في الجزء الثاني من دلائل الصدق ص ٣٢٠.

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله جعل لاخي علي فضائل لا تحصى كثرة فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ومن استمع الى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ومن نظر الى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر.

ثم قال : النظر الى عليّ عبادة وذكره عبادة ولا يقبل الله ايمان عبد الا بولايته والبراءة من اعدائه.

واذا كان الإمام علي عليه‌السلام لا يترك فعل مستحب من الافعال ولا التجمل بما هو مستحب من الخصال فبالطريق الاولى ان لا يترك واجبا من ذلك كله ـ ومن اوضح الواجبات واهمها صفة العدل والعمل بمقتضاها.

ومما روي عنه في هذا المجال ان عمرو بن العاص دخل على أمير المؤمنين ليلة وهو في بيت المال وكان الإمام عليه‌السلام ينظر في اموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضيء بنوره الضيئل وقد اشترى زيت السراج من بيت المال فلما دخل ابن العاص واراد ان يتحدث مع الإمام عليه‌السلام في بعض الشؤون الخاصة اطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل ان يستعمل السراج المضاء بمال المسلمين في غير مصلحتهم والقصص الواردة في عدله كثيرة اقتصرت على ذكر هذه القصة كنموذج لهذه الصفة بسبب ضيق المجال ووضوح اتصافه بها الذي يغني عن المزيد من البيان حيث يكون من توضيح الواضحات وخصوصا بالنسبة الى هذه الصفة التي يعتبر الاتصاف بها من اهم الواجبات كما سبق.

١٨٧

كرم الإمام علي ( ع )

واتصافه بهذه المزية واضح ايضا بعد ملاحظة انه عليه‌السلام هو القرآن الناطق والإسلام العملي المتحرك ويؤكد ذلك دعوته الاخرين الى الاتصاف بهذه الصفة النبيلة ولا يعقل في حقه وهو الإمام المعصوم ان يدعو غيره الى فعل الخير ثم ينسى نفسه ومما نقل عنه عليه‌السلام من الكلام الذي دعا به الى البذل والعطاء قوله عليه‌السلام : « من ايقن بالخلف جاد بالعطية » وقوله : « البخل بالموجود سوء ظن بالمعبود » ومن المشهور عنه عليه‌السلام قوله :

« لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقينا » (١) فإن هذا القول الصادق الصادر عن المعصوم الصادق يدل على قوة يقينه بالخلف والعوض الذي يقدمه الله سبحانه للكرماء المحسنين ومع قوة يقينه بذلك لا يحتمل في حقه ان يكون لديه شيء من سوء الظن بالمعبود ولو بنسبة ضيئلة لا تذكر لامتناع اجتماع ذلك مع قوة اليقين ومما يذكر كنموذج ومثال فقط لكرمه النادر ما جاء في كتاب البحار من ان اعرابيا جاء الى الإمام علي عليه‌السلام فقال :

يا أمير المؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل فأجابه الإمام عليه‌السلام وقال : يا اخا العرب : علة النفس تعرض على الطبيب وعلة الجهل تعرض على العالم وعلة الفقر تعرض على الكريم فقال الاعرابي انت الكريم وانت العالم وانت الطبيب فأمر أمير المؤمنين بأن يعطى من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال ) تنفق الفا في علة النفس والفا في علة الجهل والفا في علة الفقر.

__________________

(١) قد وردت هذه الجملة في الجزء الاول ص ٧٢ سطر ١٦ بقلم بعض المشرفين على التصحيح هكذا : ( لو كشف لي الغطاء لما ازددت الا يقينا ) والاقرب ذكرها بدون الا.

١٨٨

وسأله اعرابي شيئا فأمر له بألف فقال الوكيل من ذهب او فضة فقال عليه‌السلام : كلاهما عندي حجر فأعط الاعرابي انفعهما له.

وقال له ابن الزبير : اني وجدت في حساب ابي ان له على ابيك ثمانين الف درهم فقال له : « ان اباك صادق فقضى ذلك ثم جاءه فقال : غلطت فيما قلت انما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك فقال : والدك في حل والذي قبضته هو لك ـ وروي ان رجلا جاء الى الإمام علي عليه‌السلام فقال : « يا امير المؤمنين ان لي اليك حاجة » فقال : « اكتبها في الارض فإني ارى الضر فيك بيناً » فقال عليه‌السلام : « يا قنبر اكسه حلتين فأنشأ الرجل يقول :

كسوتني حلة تبلـى محـــاسنها

فسوف اكسوك من حسن الثنا حللا

ان نلت حسن ثنائي نلت مـكرمة

ولست تبغى بما قد نلته بـــدلا

ان الثناء ليـحي ذكر صــاحبة

كالغيث يحيي نداه السـهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به

فـكل عبد سيجزى بالــذي فعلا

فقال عليه‌السلام : « اعطوه مائة دينار فقيل يا أمير المؤمنين لقد اغنيته فقال : اني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « انزل الناس منازلهم » ثم قال عليه‌السلام : « اني لاعجب من اقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الاحرار بمعروفهم ».

١٨٩

شجاعة الإمام علي ( ع )

اذا تأملنا في المصدر الفياض الذي تتدفق منه كل معاني الخير وصفات النبل وافعال البر ومواقف الاباء والصدق والوفاء فإننا نجد انه الايمان الصادق والعقيدة الراسخة لانها هي التي تشد المخلوق الى خالقه العظيم الكريم والرحمن الرحيم ليستلهم من صفات كماله وجلاله نفحة عاطرة من ازهار كماله المطلق وقبسة زاهرة من فجر هذا الكمال ـ تجاوبا مع الحديث المشهور القائل : « تجملوا بأخلاق الله تعالى » واذا تأملنا في روح هذا التجمل وجوهره نجد انه العبادة الحقيقية المقربة من الله سبحانه بعد ملاحظة ان المراد من القرب والتقرب منه سبحانه الذي اعتبر قصده شرطا في صحة العبادات الخاصة المعهودة ـ هو القرب المعنوي المؤل بالقرب من رحمته سبحانه ورضوانه ـ لان اخلاقه تعالى تمثل الكمال المطلق وهو سبحانه لم يأمرنا بالعبادة لذاته العظيمة والانقياد لارادته الحكيمة الا من اجل ان ندنو من هذا الكمال فنقتبس من نوره ما يضيء لنا درب السعادة والخير في جميع المجالات ومن جميع الجهات باعتبار انه النور المشرق والخير المطلق والحق المتأملق والعدل الشامل والفضل الكامل والعزة العزيزة والقوة المطلقة والقدرة الخارقة وهكذا الى آخر الصفات الكمالية والإنسان الرسالي المستقيم في خط العبودية الخالصة والمخلصة لله سبحانه عندما يدنو من هذا الكمال بعبادة الله سبحانه وبالتجمل بصفاته الكمالية فهو يبتعد عن الصفات المضادة والافعال المبعدة عن رحمة الله ورضوانه بمعنى انه يبتعد عن الضلال والظلام المعنوي بقدر قربه من الحق وعن الظلم بقدر قربه من العدل وعن الذلة بقدر

١٩٠

قربه من العزة وعن الضعف والوهن بقدر قربه من مصدر القدرة المطلقة والقوة الخارقة ـ وحيث ان كل واحد من اهل البيت عليهم‌السلام ابتداء بالنبي وانتهاء بالمهدي عجل الله تعالى فرجه ـ قد ذابوا في الله حبا وزادوا بذلك قربا كانوا متفوقين بكل الصفات الكمالية ومن اهل هذا البيت الطاهر علي عليه‌السلام ومن الصفات الكمالية صفة الشجاعة والبطولة الايمانية وبما ذكرنا ظهر الوجه في بروزه بهذه الصفة وتفوقه على غيره باستثناء النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نحتاج الى المزيد من البيان لتوضيح هذه الحقيقة وتأكيد ثبوتها في حقه عليه‌السلام اولا للوجه الاجمالي العام الدال على سبب تفوقه بكل المزايا الحميدة وثانيا لشهادة الواقع والحوادث التاريخية بواقعية كل ما نسب اليه ووصف به من الخصال السامية وخصوصا صفة البطولة والشجاعة فقد عرف بها واشرقت في شخصيته الفذة من ايام طفولته عندما كان يطرد الاطفال الذين يتعرضون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالايذاء باغراء من آبائهم وعندما عرف علي الطفل ـ بذلك طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يصحبه معه اذا اراد الخروج الى اي مكان ولبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبه وصحبه معه وتوجه الاطفال نحوه ليقوموا بعملية الايذاء والاعتداء واذا بعلي الشبل ينطلق نحوهم بقوة وينقض على احدهم انقضاض النسر الكبير على العصفور الصغير ويأخذه بأذنه ليحس بالالم الشديد وكأنها انقلعت بيده وادى ذلك الى تخوفهم منه وتهيبهم من التصدي للنبي حال حضوره معه وأصبحوا بعد ذلك يشردون منه بمجرد رؤيتهم له ويقولون جاء قالع الاذان ـ واتفق يوما من ايام طفولته البطلة ـ ان كان ماشيا بصحبة طفل آخر وشاء القدر ان يسقط هذا الطفل في باب بئر محفور في طريق عبورهما واذا بعلي البطل يسرع اليه ليأخذ برجله وينقذه من السقوط في ذلك البئر رغم ان هذا الطفل كان اكبر منه سنا بسنة.

وقد برزت هذه الشجاعة الايمانية والبطولة الحيدرية بأوضح صورها ليلة مبيته مكانه في فراشه تمهيدا لهجرته المباركة وقد اشار الله اليها واشاد بذكرها في كتابه الكريم بقوله تعالى :

( ومن الناس من يشري نفسه ـ اي يبيعها ـ ابتغاء مرضات الله والله

١٩١

رؤوف بالعباد (٢٠٧) ) (١) واشار الشاعر الى ذلك بقوله :

ومواقف لك دون أحمد جـاوزت

بمقامك التعريف والتحـــديدا

فعلى الفراش مبيت ليلك والعـدى

تهدى اليك بوارقا ورعـــودا

فرقدت مثلوج الفــؤاد كأنــما

يهدي القراع لسمعك التغــريدا

رصدوا الصباح لينفقوا كنز الهدى

او ما دروا كنز الهدى مرصودا

وتأتي المعارك المشهورة بعد ذلك ليكون فارس ميدانها وقاتل ابطالها وفرسانها ففي معركة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة قتل المسلمون من المشركين سبعين شخصا قتل علي وحده نصف هذا العدد وشارك المسلمين في قتل النصف الثاني ـ وكان النصر المبين بعناية الله وبطولة علي أمير المؤمنين ـ وفي معركة أُحد التي وقعت في السنة الثالثة من الهجرة قتل علي اولا اصحاب الالوية التسعة فدب الرعب في جيش المشركين وانهزموا الا ان مخالفة الاشخاص الذين طلب منهم الرسول الاعظم مرابطتهم في ذلك المكان الذي كان من المتوقع تسلل الاعداء منه الى داخل الساحة بأسلوب المفاجأة المؤثرة سلبا على سير المعركة ـ اجل : ان هذه المخالفة التي حصلت من اولئك الذين تحرك الحرص على المادة في قلوبهم فتركوا موقعهم ليشاركوا بقية المسلمين في جمع الغنائم ـ وادى تركهم له الى حصول المحذور الذي كان متوقعا للرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث التف المشركون الذين نفذوا منه ـ حول المسلمين فجأة ـ الامر الذي اربك الجبهة الإسلامية وسبب شرود اكثر المسلمين وقتل عدد كثير منهم ولم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى عدد قليل وفي طليعتهم الإمام علي عليه‌السلام الذي جعل من جسمه الشريف درعا يقي به شخص الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانت السهام المسددة الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصيب جسم علي عليه‌السلام حتى اصبح جسمه كتلة من الجراح ولولا وجود الإمام علي في هذه المعركة لما حصل النصر الاول

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠٧.

١٩٢

ولولا بقاؤه ثابتا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدافعا عنه وواقيا له بجسمه الشريف ـ لما سلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القتل وبذلك يعرف فضل الله سبحانه ومدى عنايته بالرسول والرسالة حيث اعد لهما هذا البطل ليجاهد في سبيل نصر الإسلام ورسوله وحمايتهما من كيد الاعداء.

وقد اعجب جبرائيل بهذا الموقف البطولي الذي وقفه الإمام علي على ساحة الصراع الدامي والخطير ووقى شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطر الذي كان محدقا به فقال ان هذه لهي المواساة يا محمد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انه مني وانا منه قال جبرائيل : « وانا منكما » وروي ان جبرائيل قال في حق علي عليه‌السلام بوحي من هذه المناسبة التاريخية : « لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي » وهكذا ننطلق في ظلال شخصية علي عليه‌السلام وهو ينطلق من معركة الى اخرى ليقوم بالدور الذي خلقه الله سبحانه من اجله وهو دور التضحية والفداء والبطولة والاباء وها نحن نحيى معه في اجواء معركة الاحزاب التي تجمع فيها كل خصوم الإسلام من المشركين واليهود بقيادة ابي سفيان في السنة الخامسة من الهجرة واستعدوا لان يهاجموا المدينة الحصن الحصين للاسلام ويهجموا على المسلمين ليقضوا عليهم وعلى قائدهم الاعلى الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقضوا بذلك على الإسلام ويأمنوا من خطره المتوقع ـ وعندما عرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما عزم عليه الاعداء استشار اصحابه في اسلوب المواجهة عملا بقوله تعالى : ( وشاورهم في الامر ) (١). فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة من الجهة التي يتوقع حصول الهجوم من ناحيتها ـ كما كانوا يصنعون في بلاد الفرس ـ واستصوب الرسول رأيه واشترك مع المسلمين في حفر الخندق ـ واخيرا وصل جماعة من الاعداء بقيادة عمرو بن ود العامري الذي كان يعادل الف فارس وجالوا حول الخندق حتى وجدوا جانبا منه قصير المسافة فضرب عمرو هذا فرسه وقفز فوقه الى جهة المسلمين واخذ يجول

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٥٩.

١٩٣

ويقول : « هل من مبارز هليّ من مبارز مكررا هذه الكلمة وقال ايضا متحديا للمسلمين : « اين جنتكم التي تزعمون ان من قتل منكم دخلها ».

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومذاك : من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة ولم يجب طلب عمرو للمبارزة وطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمواجهة سوى علي عليه‌السلام كلما كرر عمرو طلب ذلك حيث كان يقول كل مرة :

انا له يا رسول الله وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلب منه الجلوس وفي المرة الاخيرة قال لعلي : اجلس انه عمرو فرد عليه بطل الإسلام الخالد قائلا وان كان عمرواً فأنا علي بن ابي طالب واخيرا اذن له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهض لمبارزته وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه كلمته المشهورة : برز الايمان كله الى الشرك كله ـ وبعد حوار دار بين الطرفين ـ سبق عمرو عليا بضربة على موضع سجوده الشريف فرد عليه علي بضربة حيدرية وتر بتر بها ساقيه فسقط صريعا على الارض كالجمل وارتقى علي على صدره ليقطع رأسه فشتمه فتوقف عن قطع رأسه واخذ يمشي قليلا ثم عاد صدره وقطع رأسه وانطلق به نحو المسلمين وهو يمشي مشية العزة والاباء والابتهاج بنصر الله سبحانه له وللمسلمين على الاعداء بقتل قائدهم وقطع رأس شركهم.

وعندما سئل الإمام علي عليه‌السلام عن سبب توقفه عن قطع رأس عمرو بين سبب ذلك بقوله عليه‌السلام عندما اردت قطع رأسه شتمني فغضبت وتوقفت عن ذلك حتى هدأ غضبي ليكون قطع رأسه خالصا لوجه الله سبحانه ـ ولا يكون هناك عامل آخر باعث على ذلك ـ.

واخيرا توج الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الموقف البطولي الذي وقفه بطل الإسلام في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما مضمونه :

ان ضربة علي عمرواً يوم الخندق تعدل عمل الثقلين الى يوم القيامة وفي رواية اخرى كلمة عبادة الثقلين.

والوجه في ذلك واضح يفهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : برز الايمان كله الى

١٩٤

الشرك كله ـ لانه لولا هذه الضربة الحاسمة القاصمة لظهر الشرك والقاطعة لرأسه ـ لكانت النتيجة عكس ذلك وهي ان ينتصر الشرك كله على الايمان كله والإسلام كله ـ ومن المعلوم ان عبادة الله والاعمال المقربة منه والنافعة للمؤمنين العاملين متوقفة على وجود الدين والايمان بأصوله وفروعه ـ فإذا قضي على الدين وعاد بعده الشرك مرة اخرى الى الوجود ـ فلا يبقى هناك دين يتعبد به لله ولا عابد مؤمن به سبحانه وعامل بما يحقق عبادته وحده لا شريك له ـ وبذلك ندرك ان الإمام علياً عليه‌السلام قد نال ثواب عبادة الثقلين من يوم الاحزاب الى يوم الحساب مضافا الى ثواب عبادته الخاصة وهذا يناسب ان نتحدث عن عبادته عليه‌السلام كما تحدثنا عن جملة من صفاته الغراء ومواقفه الجليلة التي طبق بها الإسلام ودافع بها عنه ليظل منهج حياة ودستور تقدم وازدهار في مختلف المجالات كما شاء الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقول :

١٩٥

عبادة الإمام علي ( ع )

اذا عرفنا ان العبادة التي جعلها الله سبب الخلق والايجاد للكون وكل من فيه وما فيه ـ يراد بها معناها العام وهو الانقياد الكلي لارادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بارداته واختياره نعرف بذلك ان كل التصرفات الارادية والاعمال الاختيارية التي صدرت من المعصومين الانبياء واوصيائهم ومن ألحق بهم من الاولياء والمؤمنين الصلحاء الملتزمين بخط السماء بالايمان الصادق والعمل الصالح كانت عبادة لله سبحانه مقربة منه زلفى لان جميع تصرفاتهم الاختيارية كانت منسجمة مع ارادته تعالى وبذلك ندرك نوع عبادة الإمام علي عليه‌السلام من حيث الكيفية كما ندرك مدى سعتها وامتدادها في حياته الشريفة من جهة المقدار والكمية ـ والروايات التي تحدثنا عن وضعه الخاص حال قيامه بين يدي الله سبحانه للصلاة ـ ترسم لنا الصورة التفصيلية عن كيفيتها ونوعيتها الخاصة التي كانت تتمثل بالذوبان والفناء في ذات الله سبحانه حباً وقرباً وخشوعا ودموعا ـ الامر الذي كان يغيب به عن عالمه المادي ليصبح في عالم آخر على حد غياب الإنسان الذي تعطى له ابرة البنج ليغيب بها حسه واحساسه بالالم وغيره من العوارض الطارئة على الجسم ـ ويؤكد لنا ذلك ما روي عن ولده الإمام الحسن عليه‌السلام من انه كان ينتظر وقت دخول والده في الصلاة لينتزع من جسمه السهام التي كانت تنبت في جسمه الشريف وقت الحرب ـ علما منه بعدم شعوره واحساسه عليه‌السلام بالالم اذا اخرجت من جسمه السهام حال قيامه بين يدي الله سبحاه في صلاته الخاشعة ـ وعظمة الصلاة بالنسبة الى هذا الإنسان العظيم تتمثل بالخشوع

١٩٦

الفكري والنفسي الدائم امام عظمة الله سبحانه لا في حال قيامه وتلبسه بالصلاة ـ والفرق بين حال الصلاة وغيرها من احواله البشرية هو انه في الاولى كان يغيب حسه الروحي مع حسه الجسمي ونتيجة غياب الثاني عدم تأثره واحساسه بالالم المادي ونتيجة غياب الاول عن غير الله سبحانه عدم انفصال احساسه المعنوي بذلك الغير عن الاحساس بعظمة الله وجلاله وحضوره الشامل والمستوعب لكل الكائنات والموجودات من مخلوقاته وهذا ما عناه عليه‌السلام بقوله : ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله وبعده وفيه ومعه.

وبهذا الحضور المعنوي الدائم لعظمة الله سبحانه في عقل المؤمن وقلبه يتحقق الخشوع والخضوع له سبحانه حال الصلاة وبعدها ونتيجة ذلك تحقق الغاية الاساسية المقصودة من تشريع الصلاة وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم لان الصلاة الواعية الخاشعة تقرب صاحبها من الله الحق والهدى والعدل والخير المطلق كما تقدم ومن لوازم القرب من هذه المعاني السامية الابتعاد عن اضدادها ليكون القرب من الحق في العقيدة والشريعة والممارسة سببا للبعد عن الباطل في ذلك كله وكذلك يكون القرب من الهدى مقتضيا للبعد عن الضلال والقرب من العدل يكون سببا للبعد عن الظلم بكل اقسامه والقرب من الخير المطلق يكون مقتضيا للبعد عن الشر بكل انواعه.

وبذلك نعرف الميزان الصحيح الذي يميز به بين العبادة الكاملة شكلا وهدفا وهي التي تترتب عليها غايتها ـ والعبادة الناقصة التي تفقد شرط صحتها او شرط كمالها.

والدرس الذي يطلب منا ان نستفيده من عبادة الإمام علي عليه‌السلام هو اداراك الغاية الاساسية المطلوب ترتبها على العبادة لتكون كاملة تقربنا من الله سبحانه ورضوانه الذي يعود علينا بالخير العميم والنفع الجسيم في الدنيا والاخرة واذا دققنا النظر وعمقنا الفكر لاستجلاء تلك الغاية المقصودة من العبادة بمعناها العام ـ ندرك انها التقوى التي تتمثل بفعل الواجبات وترك

١٩٧

المحرمات باعتبار انها بهذا المعنى تحقق هدف الكمال والسعادة الذي اراد الله سبحانه ان نتوصل اليه بالعبادة وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله تعالى :

( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (١).

وقال تعالى :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيث لايحتسب ) (٢).

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٩٦.

(٢) سورة الطلاق ، آية : ٢ و ٣.

١٩٨

شهادة الإمام علي ( ع )

حيث كان الحديث عن شخصية الإمام علي عليه‌السلام بوحي من مناسبة شهادته السعيدة المسعدة له ـ والتي حصلت في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ٤٠ هجرية ـ اقتضى ذلك ان اقدم حديثا عن الشهادة ودورها الطليعي في قيام الدين وتشييد صرحه السامي الخالد ـ في البداية وفي بقائه سالما من الانهيار امام التحديات والاعتداءات الفكرية والعسكرية التي شنت ولا تزال تشن ضده بين الحين والاخر ـ بلحاظ النهاية ـ وحيث ان الشهادة والاستشهاد لا يتحققان غالبا الا في ساحة التضحية والجهاد في سبيل الله سبحانه فلا بد من تقديم كلمة ولو مختصرة عن اهمية فريضة الجهاد ودورها الفعال في حفظ الرسالة الإسلامية وصونها من الاخطار التي تهدد كيانها المعنوي وتمنع من انطلاقها واشراقها في سماء الحياة لتنيرها بأضواء الهداية والرقي والتقدم في جميع المجالات ومن جميع الجهات فأقول :

« إن عظمة الجهاد والتضحية في هذا السبيل مستمدة من عظمة هذا الدين الذي هو المصنع المعنوي الرباني الذي تصنع فيه وبه انسانية الإنسان وتبنى شخصية الرسالية المثالية التي يصبح معها افضل من الملائكة ولم يكن امر الله سبحانه الملائكة بالسجود لادم الى من اجل ان يشير الى هذا المعنى.

واذا لا حظنا ان الدين حق بأصوله وفروعه وكل ما يتصل به. والحق كان ولا يزال محاربا من قبل اهل الباطل عبر التاريخ فكريا وعسكريا لانه بطبعه يقتضي تقييدهم بقيود العدل والشرف والفضيلة وتأبى عليهم اهواؤهم

١٩٩

الجامحة واطماعهم الطامحة ان يتقيدوا بهذه القيود التي هي في واقعها تمثل حدود انسانيتهم وعنوان شرفهم وكرامتهم ولكنها مع ذلك تشكل صعوبة وتسبب حرمانا مما يرغبون فيه ويميلون اليه من ارتكاب المحرمات والتحلل من الفضائل والكمالات ـ لذلك يحرصون على تحطيمه وازالته من ساحة الوجود كما حصل من المشركين واهل الكتاب في بدء البعثه النبوية بالرسالة الإسلامية حيث اتفقوا على باطلهم وتعاونوا على الاثم والعدوان فيما بينهم لمنع الدين الجديد من الانتصار ورسالته من الانتشار حتى كان الفتح المبين والنصر العظيم الذي حصل للدين وانصاره ـ يوم فتح مكة المكرمة بالاسلوب السلمي الهاديء الذي تمثل بذلك الشعار الإنسان ي النبيل الذي رفعه الإمام علي عليه‌السلام بأمر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قوله :

« اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة ـ مع قوله الاخر الذي اكد به الاول وهو قوله عليه‌السلام من القى سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن ».

وبهذا الشعار المقدس الذي يترجم حقيقة الإسلام بما يحمله في طيه من قيم الرحمة والسماح واليسر والانفتاح ـ كان الفتح الحقيقي والانتصار الواقعي الذي يسعى اليه الإسلام في كل مواقفه ومعاركه الفكرية والعسكرية ـ وهو فتح القلوب والبصائر على نور الحق والهدى وانتصار الخير على الشر والفضيلة على ضدها.

وقد تحقق الهدف المقصود من وراء ذلك الفتح السلمي الإنسان ي الذي حصل بعون الله وتأييده بدون ان تسفك قطرة دم واحدة ـ وهو ـ اي الهدف المقصود ـ دخول الناس بعد ذلك في دين الله افواجا ـ بعد ان عرفوا حقيقته وادركوا غايته وهي الرحمة الشاملة والاخلاق السامية والمكارم العالية كما ورد التصريح بذلك في قوله تعالى :

٢٠٠