من وحي الإسلام - ج ٢

الشيخ حسن طراد

من وحي الإسلام - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٨
الجزء ١ الجزء ٢

وتعميقها في الذهن ان كانت موجودة بمرتبة ضعيفة.

كما تكون مصدرا للإيمان بما يتفرع على تلك العقيدة من احكام شرعية وقوانين دينية تنظم علاقة المخلوق بخالقه ليعرف ماذا يجب عليه نحوه وكيف يطيعه ليحقق الغاية التي خلقه من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له.

كما تنظم علاقته بأفراد المجتمع الصغير وهو الاسرة والكبير وهو المجتمع ليعرف ماذا يجب عليه نحو غيره في اطار هذين المجتمعين ليؤديه بالاخلاق الإسلامية والاداب المحمدية المتمثلة بالحكمة والموعظة الحسنة اذا حصل توقف من الاخر عن تأديتها.

واذا عرفنا ان العبادة التي خلق الله الإنسان من اجلها يراد بها اطاعته والانقياد اليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه في كل المجالات ندرك انه يكون على حالة عبادة له سبحانه في كلا المجالين المشار اليهما وفي مجال ارتباط العبد بخالقه عبر العبادات الخاصة المعهودة ومجال معاملته وتعامله مع الاخرين في اطار الوظيفة الشرعية المحددة له من قبل المشرع الاول وهو الله سبحانه.

لانه كما يصدق عليه عنوان العبادة والعبودية لله سبحانه وهو يؤدي له تلك العبادات المعهودة كذلك يصدق عليه هذا العنوان وهو يؤدي وظيفته الشرعية في اطار المجتمع لان تأدية كلتا الوظيفتين ـ وظيفة اطاعة الله سبحانه بفعل العبادات الخاصة والوظيفة الشرعية في اطار المجتمع ـ تعتبر عبادة لله سبحانه بالمعنى العام للعبادة كما تقدم.

وقد تستفاد من دراسة حياة العظماء في التاريخ دروس اخرى نافعة وعظات بالغة غير ما مرت الاشارة اليه من الدرس والعبرة الموجبة لتحصيل الايمان الصادق بعد العدم او لتقويته وتعميقه بعد الضعف.

١٠١

دروس تربوية من سيرة أبي طالب

وحيث اننا في نهاية الحديث عن شخصية ابي طالب رضوان الله عليه ـ وإيمانه الراسخ فيترجح ان نقف من هذه الشخصية الفذة وقفة تأمل واعتبار لنستلهم منها الدروس النافعة والعبر المفيدة وهي كثيرة وسأقتصر على ذكر بعضها وهو الاهم الابرز فأقول : من الدروس التي يمكن ان نستهلمها من سيرة ابي طالب وجهاده البطولي الصامد ـ درس في الوعي والاخلاص للحقيقة المبدئية والواقع الراهن ـ يستفاد ذلك من ثباته على مبدئه الحق ودفاعه عنه وتحمل كل انواع الاذى والتعسف في سبيله نتيجة التجرد عن التقليد الاعمى والتعصب الاحمق لتقاليد المجتمع الفاسدة وعقائده الباطلة.

وقد برز هذا كله بوضوح وجلاء بموقفه الإيجابي من الدعوة الإسلامية منذ اللحظة الاولى التي انطلق الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بشيراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً حيث وقف منها موقف الدعم والتأييد مع الدفاع والحماية رغم المعاناة الشديدة التي كان يتحملها في هذا السبيل الى ان انتقل الى جوار ربه راضيا مرضيا.

والمطلوب من جيلنا الجديد ان يقتدي ببطل التوحيد ابي طالب باعتناق العقيدة الصحيحة التي بني عليها الإسلام العظيم ـ بالدليل القاطع الذي انطلقت منه وقامت على اساسه وهو كامن في طي الفطرة السليمة المؤيدة بآيات الكتاب الحكيمة وذلك يؤدي به عفويا الى الايمان بالنظم العادلة والتشريعات السماوية الكاملة التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان

١٠٢

وتحقق له اهدافه الحياتية وتطلعاته الإنسان ية جميعها فلا تبقى له حاجة لاستجداء القوانين الوضعية المستوردة من الخارج والخارجة عن طبيعة الإنسان وفطرته السليمة التي فطره الله عليها وبذلك تبنى شخصيته الإنسان ية على اساس وطيد من الايمان الراسخ الذي ينير داخله بضوء العقيدة الصحيحة كما يضيء له درب حياته ليسير على نور وبصيرة في كل تصرفاته فيفعل ما ينفعه ويرفعه في حاضره ومستقبله القريب والبعيد بعد انتقاله الى جوار ربه راضياً مرضياً.

وذلك لسبب منطقي يظهر للإنسان بقليل من التدبر وهو صدور الإسلام بأصوله وفروعه عن خالق الإنسان العارف بما يصلحه له من القوانين والتشريعات فيكون بذلك منسجما مع طبيعته وفطرته وهذا هو سر نجاح الدعوة الإسلامية وانتشارها في الاقطار والامصار خلال فترة قصيرة رغم العراقيل التي وضعت في طريقها من قبل الاعداء سابقا ولاحقا.

ومن الدروس التي تستفاد من سيرة ابي طالب رضوان الله عليه درس في الاقدام والتضحية بأغلى الاشياء وأعز الاعزاء وهو الولد ـ في سبيل نصرة المبدأ وصونه من التضعضع امام اعتداء الظالمين وتعسف الجاهلين ـ وذلك لما تقدم نقله عنه من انه كان يضع احد اولاده والمعروف انه الإمام علي عليه‌السلام في مكان مبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اول الوقت بعد نقله ـ اي الرسول الى مكان آخر حتى اذا وقع ضرر وطرأ خطر يصيب ولده دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كل ذلك من اجل حرصه على سلامة الرسالة بسلامة شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحامل لها والمبعوث بها رحمة للعالمين وقد استفاد ولده علي عليه‌السلام درسا في التضحية والفداء واقدم على تقديم نفسه الشريفة فداء للرسالة ليلة مبيته في فراش الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما عزم على الهجرة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ـ وقد اقتدى سيد الشهداء بجده ابي طالب بإقدامه على تقديمه اولاده فداء للإسلام ـ كما اقتدى بوالده بالاقدام على تقديم نفسه النفيسة فداء للدين وصونا له من الزوال وللامه من الضلال.

١٠٣

وخلاصة الحديث في شخصية ابي طالب وايمانه الصادق ـ ان الشواهد المنطقية والامارات الفعلية والقولية التي مر ذكرها ويضاف اليها غيرها مما لم اذكر وهو اكثر مما ذكر.

أجل : إن هذه الشواهد الناطقة والامارات الصحيحة الصادقة تؤكد ان ابا طالب رضوان الله عليه ـ كان من المبادرين السابقين الى اعتناق الإسلام وإيمانه الجازم بأصوله وفروعه وان ما نسب اليه من قبل اعداء الإسلام ـ من عدم ايمانه ـ شبهة في مقابل البديهة ،

وقد الفت كتب كثيرة في أيمان هذا البطل الإسلامي الخالد قديما وحديثا ومن المؤلف مؤخرا كتابان جليلان مفيدان ارجح الاطلاع عليهما والاستفادة منهما في هذا الموضوع الحيوي. وهما كتاب ( ابو طالب مؤمن قريش ) لفضيلة العلامة الشيخ عبد الله الخنيزي ( وكتاب بطل الإسلام ) لفضيلة العلامة السيد حيدر محمد سعيد العرفي والاول منشورات المكتب العالمي للتأليف والترجمة دار مكتبة الحياة بيروت والثاني لم يذكر دار نشره.

١٠٤

أبو طالب شيخ البطحاء أهل لمدح الشعراء

ويسرني في ختام الحديث عن شخصية هذا البطل الإسلامي الخالد ان اذكر بعض الابيات الشعرية المنظومة في مدحه وبيان مقامه الرفيع وبعدها انقل المقطوعة الشعرية التي نظمتها تقريظا للملحمة الشعرية التي نظمها المرحوم شاعر اهل البيت الحاج سعيد عسيلي في سيرة عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع الحديث تحت عنوان ( أبو طالب كفيل الرسول ) قال ابن ابي الحديد في مدحه مع نجله الإمام علي عليه‌السلام :

ولولا ابــو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصا فقاما

فهذا بمكــة آوى وحاما

وذاك بيثرب خاض الحماما

فلله ذا فاتحــا للهـدى

ولله ذا للـمعالي خــتاما

ونسبت للإمام علي عليه‌السلام الابيات التالية في رثاء والده ابي طالب رضوان الله عليه وهذا يؤكد اسلامه لان عليا مع الحق والحق معه كما ورد في شأنه على لسان الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا النص كأية التطهير يدل على عصمة الإمام علي عليه‌السلام فلا ينطق عن الهوى كالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الجهة وهي ما يلي :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظـلم

لقد هد فقدك أهل الحـفاظ

فصلى عليك ولـي الــنعم

ولقاك ربك رضـــوانه

فقد كنت للمصطفى خير عم

١٠٥

وقال حجة الإسلام المغفور له الشيخ محمد تقي صادق على ما ورد في كتاب الكنى والالقاب الجزء الاول في مدحه رضوان الله عليه.

أبو طالب أصل المعالي ورمزها

ومبدأ عنوان العلى وانتـهاؤه

توحد في جمع الفضائل والنـهى

وضم جميع المكرمات رداؤه

أصاغ الى الديـن الحنيف مـلبيا

لدعوته لما اتـاه نـــداؤه

وباع بإعزاز الشـريعة نفســه

فبورك قدراً بـيعه وشـراؤه

وفيما يلي المقطوعة المنظومة تقريظا للملحمة المذكورة والمنشورة في مقدمتها بعد مقدمة حررها سماحة العلامة المجاهد الشيخ عبد الامير قبلان :

من نور فجر العدل والانصـاف

وجمال روض الحسن والالطاف

صغت اللئاليء عقد حب صادق

وزففته شعراً لعـبد مـــناف

عـم النبي كفيله ونصـــيره

في نشر دين فائق الاوصــاف

لـولا حمـايته وذود ولــيده

الكرار نجل السادة الاشــراف

لم يأتلق صبح الرشاد ولا انجلى

ليل الهوى والبـغي والاجـحاف

فهما عماد الدين والقطب الـذي

دارت عليه رحى الجهاد الـوافي

سيظل نجمهما مشـعا لامــعاً

يمحو ظلام الدس والإرجــاف

وتظل ملحمة السعيد مـــنارة

تهدي العقول لمنهج الانـصـاف

فله من الرحمن تحفة عـــفوه

ومن الوصي شفاعة الاتحــاف

لا زال بالروح العظيم مــؤيداً

ما دام ينهل من معين صــافي

من شرعة المختار مدرسة الهدى

وغدير فكر بالحقائق طـــافي

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الاعظم وعلى وصيه علي الاكرم وعلى والدهما الروحي والجسمي ابي طالب المعظم ورحمة الله.

١٠٦

خديجة بنت خويلد مثال

المسلمة الفاضلة والزوجة الصالحة

بعد الفراغ من الحديث عن شخصية الناصر الاول لدعوة الرسول الافضل عمه وكافله والحامي له ولرسالته ابي طالب رضوان الله عليه بما تيسر وسمح الوقت بالتحدث به عنه من أجل اعطاء صورة مختصرة عن سيرته العاطرة وعقيدته التوحيدية الصادقة وذلك بمناسبة حدوث وفاته في اوائل شهر رمضان المبارك.

أجل : بعد الحديث الموجز عن هذه الشخصية الايمانية الفذة يأتي دور الحديث عن ناصر آخر لهذه الدعوة الصادقة وهو زوج الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وأم الزهراء سيدة نساء العالمين وجدة الأئمة المعصومين.

وذلك بمناسبة حدوث وفاتها في اوائل هذا الشهر المبارك وبعد وفاة عمه المذكور ـ بالخير ـ بثلاثة أيام على ضوء بعض الروايات.

والحديث عن هذه المرآة الجليلة بوحي من تلك المناسبة الاليمة يعتبر حديثا عن العقل الكبير المنير المتألق بنور الوعي والحكمة والذي ساعدها على ان تعرف كيف تحصل الثروة المالية الطائلة وتنميها بالتجارة الرابحة التي كانت تكلف بها من تثق بخبرته وامانته من الرجال وأخيراً شاءت الحكمة الإلهية ان تضم هذا العقل الكبير الى صاحب العقل الاكبر والفضل الاظهر

١٠٧

محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين البالغ من العمر ٢٥ سنة وهو لا يزال اعزب اجل : شاءت الارادة الإلهية ان يلتقي هذان العقلان المنيران والقلبان الكبيران ـ على درب الوحدة النفسية والانصهار في بوتقة الحياة الزوجية التي تجعل منهما نفسا واحدة منطلقة في درب المحبة والوئام نحو هدف السعادة والسلام واذا اراد الله امرا هيأ اسبابه وكان سبب هذا الامر الإلهي والتقدير السماوي هو ان تكلف خديجة هذه محمدا هذا بأن يقوم بما كانت تكلف به غيره من السفر الى الخارج لغاية التجارة ولبى محمد هذا الطلب ليقضي الله أمراً كان مفعولا.

واتفق ان ربحت تجارتها هذه المرة ربحا خياليا لم يحصل لها من قبل ولم يكن يدور في ذهنها مضافا الى ما عرفت بحصوله له من الكرامات السماوية التي لا تحصل الا للأشخاص الذين تربطهم بالله سبحانه علاقة خاصة مميزة.

من هذه الكرامات تظليل الغمامة ومصاحبتها له ذهابا وايابا لتحجب عنه حرارة الشمس ـ وقد لاحظ هذه الظاهرة السماوية العجيبة الغريبة غلامها ميسره الذي انطلق بصحبته واخبرها بذلك بعد عودته من سفرته هذه.

فحصول الربح الكثير وحدوث هذه الكرامة مضافا الى ما كان معروفا وموصوفا به بين افراد المجتمع من الصدق والامانة حيث كانوا يلقبونه بالصادق الامين.

كل هذه العوامل تجمعت صورها المتألقة في خاطر خديجة لتزرع المحبة له في قلبها وتخرج من المتعارف في اسلوب المحاولة الهادفة لحصول الامنية الشريفة والحلم السعيد وهي امنية القرآن المبارك المجيد بالشخص الحميد ـ وقد تمثل خروجها عن المتعارف في ذلك ـ بأمرين الاول ابتداؤها بطلب حصول العلاقة المقدسة وابداؤها الرغبة فيها بتوسط احدى صديقاتها والثاني اقدامها على الاقتران بشخص لا مال له وهي المرأة الثرية التي بلغت ثروتها الرقم القياسي في محيطها.

١٠٨

أجل : إن مجموع الامرين المذكورين مضافا الى ما كانت معروفة به من العفة والطهارة والنجابة ومكارم الاخلاق ويجمع ذلك كله العنوان الذي لقبت به في مجتمعها وهو عنوان الطاهرة كما لقب الرسول الاعظم قبل بعثته بالصادق الامين.

وهذا الوصف الرفيع وان كان مفردا في لفظه ولكنه واسع المعنى متعدد الجوانب فهي طاهرة العقل من الشرك والشبهات وطاهرة القلب من الحقد الدفين والحسد اللئيم والطمع اللعين ونحو ذلك من المعاني المظلمة كما أنها لذلك كله طاهرة النفس والذات من كل صفة ذميمة وخلق وضيع.

والذي ساهم في صنع هذه الشخصية الفذة عدة عوامل ابرزها بعد عامل الارادة الإلهية والعناية السماوية لتجعل منها خير ام لافضل امرأة في التاريخ الإنسان ي ـ هو عامل الوراثة السليمة والتربية الحكيمة ـ.

وقد تمثل عنصر الإرادة والعناية السماوية بما زودها الله به من العقل المتألق وعياً وحكمة الأمر الذي دفعها لان تشق طريق المجد الامثل والشرف الرفيع باختيار افضل رفيق في اسمى طريق لارفع هدف وهو هدف السمو الحقيقي والثراء الواقعي الذي تشتري به اسمى مراتب الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا العقل المنير وهو الرسول الباطني هو الذي دفعها للمبادرة الى التصديق برسالة الرسول الظاهري كما بادرت في الامس للتصديق بكفاءته لان يكون رفيق درب وشريك حياة زوجية قائمة على اساس الحب المبدئي العميق والاخلاص الوثيق الذي تمثل اولاً على صعيد الحياة الزوجية باسمى ما تتجمل به زوجة مع زوجها من المعاني السماوية والمثل الرفيعة كما تمثل ثانيا على صعيد الحياة الرسالية بعد ان اشرق نور الحق وعياً في عقلها وايمانا في قلبها وتضحية وفداء وبذلا وعطاء في سلوكها الرسالي وهي تقف مع رفيق درب الجهاد في ساحة الصراع والتحدي لتشد على يد الرسول المناضل

١٠٩

بالكلمة الطيبة والسماحة النادرة والبذل السخي الذي ساعد على ثبات الرسالة العظيمة والرسول العظيم والصفوة الصافية من المؤمنين المضحين امام كل التحديات الصعبة والمحاولات اللئيمة التي استهدفت الدعوة الصادقة وارادت القضاء عليها في مهدها وبذلك يظهر الوجه في اعتبار هذه المرأة الجليلة من الانصار الثلاثة الذين كان لهم الدور الطليعي في احتضان الرسالة وصونها من الاخطار الجسمية التي احدقت بها في بداية انطلاقها في طريق الظهور والبروز على الصعيد الخارجي.

وهؤلاء الانصار والابطال معروفون في التاريخ ومعترف لهم بالفضل ـ وهم ابو طالب بحمايته ونجله البطل الفدائي ببطولته والثالث موضوع الحديث وموضع الاجلال والاعجاب خديجة الكبرى رضوان الله عليها حيث ضحت بثروتها الطائلة في سبيل الدفاع عن الإسلام ونصرة المسلمين ودعم موقفهم النضالي الابي.

ولم يكن دعم هذه البطلة المجاهدة للرسالة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذين آمنوا به ـ مقصورا على العطاء المادي كما ربما يتوهم من الكلمة المأثورة المشهورة القائلة : انتصر الإسلام بسيف علي ومال خديجة بل امتد عطاؤها السخي ليشمل البذل المعنوي والسخاء الروحي الذي كان يتمثل بصبرها الجميل وخلقها النبيل وابتسامتها المشرقة بنور الامل وضياء الرجاء والتطلع والنظر بعين التفاؤل وان كل ما يتحمله الإنسان الرسالي في سبيل نصر الحق والدفاع عنه يثمر له الاجر العظيم والثواب الجسيم.

وقد تجلى ذلك بوضوح ايام الحصار الصعب والمقاطعة الظالمة التي مارستها قريش ضد الرسول واتباعه بقصد الضغط عليهم ليتنازلوا عن موقفهم المبدئي تجاه رسالتهم الخالدة فلم يزدهم ذلك الا ايمانا وتسليما مرددين شعار الايمان الصادق وهو قوله تعالى عن لسانهم : « حسبنا الله ونعم الوكيل ».

وخديجة بطلة الإسلام كانت داخل هذا الحصار تقدم الدعم المادي

١١٠

ببذل مالها والمعنوي بما تجملت به من صبرها واحتمالها مستسهلة الصعب ومستعذبة المر في سبيل نيل رضا الله سبحانه ولم تكن المقاطعة التي عانت منها بطلة الإسلام هذه ايام الحصار هي الاولى ـ بل سبقتها مقاطعة اخرى من قبل نساء قريش في مكة بسبب مخالفتها لرأيهن الجاهلي الذي دعاهن لان ينصحنها بترك الزواج من الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب فقره وحيث انعم الله عليها بالعقل السليم والفطرة الصافية التي تدرك على ضوئها ان الميزان الحقيقي للسمو الواقعي هو الثراء الروحي والغنى المعنوي فقد اعرضت عن رأيهن الجاهلي وسارت على ضوء هدى السماء لاختيار افضل رفيق في خير طريق ، طريق الكمال والفضيلة.

١١١

تفضل الله على خديجة بابنتها فاطمة

وشاءت العناية الإلهية ان تقدم لها اثمن جائزة مكافأة لها على ايثارها رضا الله باختيار رسوله وترجيحه على غيره ـ وكانت هذه الجائزة هي فاطمة الزهراء التي وهبها الله لامها هذه من اجل ان تقر بها عينها بأصل وجودها في عالم الرحم وتنفيي عنها حالة الانفعال العاطفي بسبب تلك المقاطعة القاسية ـ وذلك بما كان يجريه الله على لسانها وهي لا تزال جنينا في رحم امها من الكلام الذي كانت تحدثها به حال انفرادها وكانت تكتم ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليها يوما ووجدها تتكلم وليس معها غيرها فسألها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمن كانت تخاطبه فقالت : ما في بطني فإنه يتكلم معي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابشري يا خديجة هذه بنت جعلها الله ام احد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد ابيهم (١) وعندما قربت ولادة السيدة خديجة ارسلت الى القوابل من قريش ليلين منها ما تلي النساء من النساء فأبين عليها بسبب مخالفتها لرأيهن بزواجها من النبي الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينما هي على حالة الاستعداد للولادة اذ دخل عليها اربع نساء عليهن من الجمال والنور ما لا يوصف فقالت احداهن لخديجة : انا امك حواء وقالت الاخرى انا آسية وقالت الاخرى انا كلثم اخت موسى وقالت الاخرى انا مريم جئنا لنلي امرك (٢).

__________________

(١) هذا منقول بالمعنى والمضمون عن كتاب فاطمة من المهد الى اللحد ص ٣٩.

(٢) نقل بتصرف عن كتاب ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) ص ٤٢.

١١٢

ولا يخفى ما في كل واحدة من القصتين المذكورتين من الكرامة والاكرام للسيدة خديجة من الله سبحانه ويمكن ان يستفاد منها درس تربوي يعمق ايماننا بالله سبحانه ويدفعنا الى اللجوء اليه والتوكل عليه كلما عصفت بنا نوائب الدهر او تعرضنا للأذى والظلم من الطغاة المعتدين ـ وقبل ان اشير الى هذا الدرس بصورة تفصيلية وكيفية استفادته من هاتين القصتين احب ان ارجع الى بداية الحديث عن سيرة هذه البطلة لاستلهم منها الدروس التربوية النافعة فأقول : ان الدروس التي يمكن استيحاؤها من سيرة ام الزهراء عليهما‌السلام كثيرة سأقتصر على ذكر اهمها :

دروس تربوية من سيرة خديجة

الدرس الاول : من هذه الدروس ـ درس في السير على منهج الفطرة السليمة والخطة المستقيمة التي تثمر للإنسان الكمال والفضيلة والسعادة الروحية والبهجة النفسية في الدنيا كما تثمر له كلتا السعادتين الروحية والمادية في الاخرة ـ مهما كلفه السير على هذا النهج من تضحيات لان حلاوة العاقبة تزيل مرارة المشقة والمعاناة التي يتحملها الإنسان في هذه الحياة من اجل ادراك غاية سامية وهدف رفيع وهذا ما نستفيده من اقدام هذه البطلة على اختيار اشرف انسان ـ رفيق درب وشريك حياة رغم اعتراض المعارضين وايذاء المغرضين بإعتبار ان الميزان المستقيم للسمو والرفعة هو التقوى ومكارم الاخلاق والمادة عرض زائل لا قيمة له في مقابل جوهر الفضيلة ومصدر السعادة الحقيقية وهو الايمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل.

الدرس الثاني : هو درس في التضحية بالراحة الجسمية والمتع الحياتية والثروة المادية في سبيل نصرة المبدأ والدفاع عن رسالة السماء باعتبار ان المعاناة الجسيمة تتبخر امام راحة النفس وابتسام الضمير واطمئنان القلب لسلامة المصير وسداد المسير وان الثروة المادية الجامدة لا قيمة لها ولا عبرة

١١٣

بها ما دامت باقية على جمودها وركودها ولم تبعث فيها روح التضحية والفداء لتتحرك من عالم المادة الزائلة الى دار الخلود والسعادة الباقية.

ولذلك أثرت هذه البطلة الخالدة العاقلة ان تحول ثروتها المادية الى ثروة روحية معنوية جعلتها فوق مستوى نساء عصرها سمواً ورفعة باستثناء ابنتها سيدة النساء.

كما ضحت بالمتع المادية الفانية في سبيل النعيم الخالد والسعادة الابدية المادية والروحية مع رضوان من الله اكبر.

الدرس الثالث : في الصبر والثبات على المبدأ وتحمل كل انواع الاذى في سبيله بانتظار الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر. في هذه الحياة غالبا مع ترقب حصول الفوز الاعظم والجزاء الاوفى في دار الجزاء وعالم الخلود والبقاء انطلاقا من الايمان الجازم بتحقق وعد الله سبحانه الذي قدمه لعباده الصابرين (١).

الدرس الرابع : في توقع الفرج وحصوله معجلا عندما تشتد الازمة وتصل الى مرحلة يصعب تحملها والصبر عليها وخصوصا اذا كان المقام من مقامات التحدي التي يؤدي تأخير الفرج عن اولياء الله تعالى واستمرار اعدائه على حالة الزهو والتعالي على المؤمنين الى المزيد من الم المظلومين وتكبر المستكبرين الى درجة تغريهم وتغرقهم في الجهل المركب والضلال المدمر.

ففي هذه الحالة لا بد ان يفرج الله عن عباده المؤمنين وينتقم لهم من اعدائهم الظالمين كما حصل في التاريخ ويتكرر ذلك كلما شاءت الإرادة الإلهية والحكمة السماوية ان تعجل الفرج للمؤمنين والعقوبة للظالمين

__________________

(١) الفرق بين هذا الدرس والرابع التالي له ان هذا يتضمن توقع الفرج ولو على المدى البعيد وذك يتضمن حصوله معجلا لفقد طاقة الصبر ولحصول سبب تعجيل الانتقام من الاعداء.

١١٤

المعتدين.

ولو فرض تأخر النصر المادي العسكري للمؤمنين او عدم حصوله اصلا فهم لا يصابون بالاحباط واليأس من روح الله تعالى ولا ينحرفون نفسيا ومعنويا لعلمهم بأن الله تعالى حكيم وعليم رحيم فقد تقتضي الحكمة تأخير النصر المادي وعدم تعجيله في هذه الحياة وذلك من اجل امتحان المؤمنين ومعرفة المؤمن حقا وتميزه عن غيره ممن يعبد الله على حرف.

وقد اشار الله سبحانه الى هذا الامتحان وحكمته بقوله :

( الم (١) أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (٢) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (٣) ) (١).

وهذا الدرس يستفاد من القصتين المذكورتين وهما قصة تكلم فاطمة الزهراء في بطن أمها وتحدثها معها ـ وقصة حضور أربع نسوة من الصالحات اللاتي كان لهن شأن في التاريخ.

حيث يستفاد منهما ان الله سبحانه جعل لها من بعد الشدة فرجا فانطق لها طفلتها وهي لا تزال جنينا في بطنها لتسليها وتدفع عنها الم الانفراد بعد مقاطعتها وابتعاد النساء الجاهليات عنها وكذلك انزل لها اربع نساء صالحات ليحققن لها ما ارادت حصوله من نساء مكة.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، آية : ١ ـ ٣.

١١٥

الصحيح أن خديجة لم تتزوج غير الرسول ( ص )

وأن عمرها كان ٢٨ سنة

وفي نهاية هذا الحديث عن السيدة خديجة أم المؤمنين وفاطمة سيدة نساء العالمين ـ لا بد من التنبيه على أمر حيوي هو متمم لهذا الحديث وباعث فيه روح الموضوعية والإنصاف لهذه المرأة الجليلة وحاصل هذا الامر هو ان المعروف في التاريخ ان خديجة هذه كانت متزوجة بشخصين قبل تشرفها بالاقتران بالرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانه كان لها من العمر يوم حدوث هذا القران السعيد اربعون سنة.

والصحيح ما نقله الاستاذ العقاد في كتابه ( فاطمة والفاطميون ) عن ابن عباس من ان عمرها الشريف كان ثمانية وعشرين عاماً واستقرب الاستاذ هذا القول معبراً عن ترجيحه له بقوله (١) :

واحرى بهذه الرواية ان تكون اقرب الروايات الى الصحة كما ان الصحيح انها كانت عذراء غير متزوجة بأحد قبل الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما ذكره الشيخ علي محمد علي دخيل في هامش كتابه اعلام النساء حيث نقل عن البحار ما نصه :

جاء في المجلد السادس من البحار في باب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روى

__________________

(١) فاطمة والفاطميون صفحة ١٥.

١١٦

أحمد البلاذري وابو القاسم الكوفي في كتابيهما والمرتضى في الشافي وابو جعفر في التلخيص ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوج بها وكانت عذراء يؤكد ذلك اكثر ان الرحم الذي اختاره الله سبحانه لان يكون وعاء لفاطمة الزهراء الطاهرة المعصومة وام الأئمة المعصومين لا يعقل ان يحل فيه ماء الشرك المحكوم بكلتا النجاستين المادية والمعنوية مضافا الى ما ورد في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام علي وابنائه الطاهرين من ان الله سبحانه اختار لهم الاصلاب الطاهرة والارحام المطهرة من آدم الاب الصلبي المباشر وحيث ان فاطمة معصومة فلا بد ان يختار الله لها الرحم الطاهر.

ويدل على ذلك ان خديجة كانت مؤمنة موحدة تعبد الله على دين جدها ابراهيم والشخصان اللذان ينقل تزوجها بهما كانا مشركين وحرمة اقتران المؤمنة الموحدة بالمشرك موجودة في كل الاديان وغير مختصة بالإسلام.

١١٧

الشعر المقبول في مدح أم البتول

ويسرني ان اختم الحديث عن هذه المرأة البطلة والمجاهدة المضحية بالابيات التالية التي نظمتها مؤخرا بوحي من اعجابي وتقديري لايمانهما الصادق الذي ترجمته على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وتضحيتها النادرة في سبيل نصر الرسالة الخالدة ومواقف الرسول الصامدة.

أكبرت من أم البتــول

عقلا سما فوق المـــيول

وأنار منهاج الـــهدى

والرشد والخلق الـــنبيل

وبه سمت فوق الـنساء

وأصبحت زوج الرســول

وغدت تصدق بالــذي

وافى من الرب الجـــليل

وتصد عدوان الطــغاة

بقوة الصبر الجــــميل

وتساعد الفقراء بالاحـ

ـان والبذل الجــــزيل

وبذاك شاركت الوصـي

بنصرة الدين الاصـــيل

وجنت بذاك المـــدح

والاطراء في الزمن الطويل

ومضت الى النعمــاء

والرضوان في أهدى سبيل

ولها من الابناء شــكر

صـادر من كـل جــيل

هي أم كل المــؤمنين

وهم لها اوفـى سـلــيل

وهم فروع قد زكــت

والفرع يزكـو بالاصـول

بجهادها المالي اضـحى

الدين يشرق فـي العـقول

ويزيل عن قلب الهـدى

ظمأ الهـوى بالســلسبيل

١١٨

نفحات عاطرة من حياة الحسن الطاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على اشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين :

وبعد :

فيما يلي نفحات عاطرة من سيرة وحياة الإمام الحسن عليه‌السلام الطاهرة بمناسبة ولادته المباركة في النصف من شهر رمضان المبارك سنة ٣ للهجرة واذا كانت شهادته في السابع من شهر صفر سنة ٥٠ للهجرة يكون عمره الشريف سنة شهادته ٤٧ سنة.

ولا اريد بالحديث عن حياته الشريفة التعرض للجوانب التاريخية وما يتصل بها كما جرت عادة المؤرخين ومن سار على نهجهم ـ وانما اريد تناول الجوانب المضيئة من شخصيته الرسالية المثالية التي تعتبر في واقعها تجسيدا حيا لما في الإسلام من مثل سامية وقيم رفيعة يصح اعتبارها مصدرا لاستحياء الكثير من العبر النافعة والدروس التربوية المفيدة.

ومن هذا المنطلق سيكون حديثي حول الصفات المثالية باعتبارها الابرز في حياة المعصومين عليهم‌السلام وهي كما يلي على الترتيب المناسب علم الإمام الحسن عليه‌السلام وعبادته وحلمه وكرمه وشجاعته وتواضعه وهناك صفات اخرى كانت لامعة في حياة هذا الإمام العظيم عليه‌السلام مذكورة في كتب السيرة وسأختم حديثي بكلمة حول صلحه مع معاوية لبيان سببه المؤدي له والنتائج الايجابية المترتبة عليه.

١١٩

علم الإمام الحسن والمعصومين بصورة عامة

إن علم أهل البيت عليهم‌السلام يختلف عن علم غيرهم من كلتا الناحيتين الكيفية والكمية والاولى يراد بها كيفية حصول العلم ومصدر تحققه لهم وهو الالهام الإلهي بمعنى ان الله سبحانه كان يلهم كل واحد منهم العلم بأي شيء تقتضي المصلحة ان يعلم به ولذلك كان يجيب اي واحد منهم على أي سؤال يقدم له ويطرح عليه وان كان طفلا صغيرا وكان السؤال صعبا وعميقا وقصة المناظرة التي حصلت بين الإمام الجواد عليه‌السلام ويحيى بن اكتم قاضي بغداد في عصره مشهورة وقد تمخضت عن إفحام هذا الإمام الصغير سناً والكبير شأنا لذلك القاضي.

وبذلك يعرف الوجه في اختلاف علمهم عليهم‌السلام وتميزه عن علم غيرهم من جهة الكمية والكثرة التي كانوا يتفوقون بها على معاصريهم من العلماء الاجلاء ـ وحيث ان كل واحد منهم كان معصوما لا يتوقع حصول المخالفة من احدهم لاحكام الشريعة ولو بدون قصد وتعمد كما ثبت ذلك بحكم العقل المؤيد بشهادة النقل المعتبر.

يعرف الوجه في النص عليهم وتعيينهم للمنصب الديني والقيادة الشرعية من قبل الله سبحانه لانه اعلم حيث يجعل رسالته وقد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انزل اليه من ربه في هذا الشأن عبر الروايات المعتبرة وبعضها متواتر ضمن روايات الامة الإسلامية.

١٢٠