ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

فيه الدلالة على قضيّة مهملة مردّدة بين امور قد تقدّم الإشارة إلى جملة منها في مسألة انفعال البئر وعدمه ، وأظهر تلك الامور كون المراد بالفساد هنا زوال الطهوريّة عن الماء في زعم من ليس منّا كما يومئ إليه التعبير بلفظة « القوم » الظاهرة أو المحتملة احتمالا مساويا لكون المراد بهم العامّة القائلة بسلب الطهوريّة في الماء المستعمل.

وبذلك ـ مضافا إلى ما حقّقناه في الماء المستعمل ـ يظهر منع القول بكون علّة النزح هنا زوال الطهوريّة عن ذلك الماء ، فإنّ ذلك أيضا يفتقر إلى دلالة قويّة فكيف يثبت بالدلالات المدخولة.

وما اخترناه من التعبّد الصرف إنّما هو أخذ بالقدر المتيقّن المتّفق عليه من تلك الدلالات ، فإنّ الوجهين الأوّلين أيضا مبنيّان على التعبّد ، غير أنّهما لاشتمالهما على اعتبار أمر زائد وجودي أو ارتفاعي منفيّان بمخالفة الاصول وقصور الدلالة الواردة على خلافها الغير الصالحة لقطعها.

ومن المقالات المخرجة على خلاف الأصل والاعتبار ما حكي عن بعض القائلين بنجاسة البئر من القول بأنّه : « إن اغتسل مرتمسا طهر بدنه من الحدث ونجس بالخبث ، وإن اغتسل مرتّبا أجزأه غسل ما غسله قبل وصول الماء إلى البئر إن كان خارجا عن الماء وإلّا فما قارن به النيّة خاصّة ».

وهو كما ترى ، مع ما عن الشهيد (١) الموافق له في القول بالنجاسة من الاعتراض عليه في صورة الترتيب من أنّ الحكم معلّق على الاغتسال ولا يتحقّق إلّا بالإكمال.

الجهة الثالثة : اختلفوا في ارتفاع الحدث عن هذا المغتسل وعدمه، فقيل : بالأوّل لتحقّق الامتثال وعدم استلزام الأمر بالنزح النهي عن الاستعمال ، وقيل : بالثاني وحكي اختياره عن المحقّق الشيخ عليّ (٢) محتجّا عليه بأنّ خبر عبد الله بن أبي يعفور صريح في النهي عن الوقوع في البئر ، وذلك مقتض لفساد الغسل.

وعن الشهيد الثاني أنّه أجاب : « بمنع أنّ النهي عن العبادة ، بل عن الوقوع في الماء وإفساده ، وهو إنّما يتحقّق بعد الحكم بطهر الجنب لا بمجرّد دخوله في البئر ، فلا يضرّ هذا النهي لتأخّره وعدم كونه عن نفس العبادة » (٣).

__________________

(١ و ٣) روض الجنان : ١٥٤.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٣.

٧٠١

وتنظر فيه سبطه في المدارك : « بأنّه رحمه‌الله قد حقّق فيما سبق أنّ المراد بالوقوع الغسل ، حملا للمطلق على المقيّد ، فيكون النهي متوجّها إليه خاصّة ، والفساد وإن كان مترتّبا على الغسل ومتأخّرا عنه عند القائل به إلّا أنّ المفسد له في الحقيقة هو الغسل ، وليس بعده فعل يمكن توجّه النهي إليه ، وإنّما الموجود أثر ذلك الفعل » انتهى (١).

والّذي يساعد عليه النظر فساد ذلك الغسل وإن لم نحمل « الوقوع » عليه ، إن كان المراد بالإفساد المنهيّ عنه سلب الطهوريّة عن الماء ـ وكان المورد نظير مورد الرواية في كون البئر ممّا تعلّق به ملك الغير على جهة الاختصاص أو الاشتراك ـ فإنّه بهذا المعنى ـ مع الشرط المذكور ـ من آثار الغسل ومعلولاته ، ومن المحقّق في محلّه أنّ مقدّمة الحرام محرّمة سيّما إذا كانت علّة تامّة له.

ولا يجدي في رفع المحذور عدم مقارنة الغسل لنيّة الإفساد إن أمكن الانفكاك بينهما في حقّ العالم بالحكم ، لأنّ قصد العلّة في حكم العقل كاف في قصد المعلول.

نعم ، على تقدير كون المراد بالإفساد معنى آخر من نشر التراب في الماء وجعله كدرا ونحو ذلك أمكن منع العلّيّة ، نظرا إلى أنّه حينئذ ليس من آثار حيثيّة الغسل ، وإنّما هو من آثار الوقوع وإن لم يقارنه الغسل ، ولكنّه لا يجدي نفعا إلّا إذا لم يتّحد الكونان بحسب الوقوع الخارجي.

وربّما أمكن منعه بدعوى : أنّ الإفساد حينئذ وإن كان مترتّبا على الوقوع لكنّه من حيثيّة الغسل بمنزلة الجنس وهي بمنزلة الفصل ، ولا ريب أنّ الجنس والفصل متّحدان في الوجود الخارجي ، فليس للفصل وجود سوى وجود الجنس ، فالنهي متعلّق بإيجاد هو بعينه إيجاد للغسل ، ومعه لا يمكن تعلّق الأمر به ، ضرورة استحالة اجتماع الأمر والنهي.

ويمكن دفعه : بمنع اتّحاد الكونين ، ومنع كون الغسل فصلا للوقوع ، بدعوى : أنّ الإفساد يترتّب على الوقوع سواء وجد معه الغسل أو لا ، فهو أمر زائد على كلّ من اللازم والملزوم ، وما هذا شأنه لا يكون لازما لشي‌ء منهما ولا ملزوما له ، فلا يسري إليه النهي لا أصالة ولا تبعا.

وفيه : منع نفي كون الغسل ملزوما للوقوع ، كيف وهو من مقدّماته إن لم يقارن نيّته

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٠.

٧٠٢

لأوّل الوقوع وإلّا فيتّحدا في الوجود الخارجي ، ومن البيّن أنّ المقدّمة من لوازم ذيها ، فإذا كانت منهيّا عنها لكونها علّة للإفساد المنهيّ خرجت عن كونها مقدورة من جهة الشرع ، لأنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، ومن المحقّق عند العقل أنّ الواجب المطلق بالقياس إلى القدرة على مقدّماته الوجوديّة مشروط كالقدرة على نفسه ، فهو فاقد للأمر عند انتفاء القدرة عنه أو عن إحدى مقدّماته ، ومعه لا يعقل فيه الصحّة المقصودة في العبادات.

لكن هذا إنّما يتمّ في المقدّمة المنحصرة كما في مورد الرواية ، وأمّا في غيرها كما لو تمكّن عن الغسل بطريق آخر غير الوقوع في البئر فلا يلزم من عدم مقدوريّة إحدى مقدّماته انتفاء الأمر عنه رأسا ، وقضيّة ذلك وقوعه صحيحا وبوصف كونه مأمورا به ، وإن كانت مقدّمته قد حصلت بوصف كونها منهيّا عنها ، غاية ما هنا لك عدم تعلّق الوجوب المقدّمي ـ على القول به كما هو الحقّ ـ بتلك المقدّمة ، ومن البيّن أنّ عدم وجوب فرد من المقدّمة لمانع لا يقضي بعدم وجوب ذيها.

ثمّ كلّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كان الإفساد بهذا المعنى ممّا تعلّق به النهي ، كما لو تحقّق الوقوع والغسل في حقّ الغير الّذي يعلم من حاله أنّ هذا الّذي يترتّب عليهما إفساد في نظره ، وإلّا فأصل الوقوع والإفساد ليسا بمنهيّ عنهما فلا مانع حينئذ من الصحّة.

وبذلك يعلم أنّ البئر في مورد الرواية كانت ملكا للغير أو ممّا تعلّق به ملك الغير أيضا ، ككونها من مشتركات المسلمين كافّة ولو بعنوان الوقف دون الملك المطلق ، أو من مشتركات قوم منهم من غير فرق بين حمل « الإفساد » على إرادة سلب الطهوريّة أو غيره ممّا أشرنا إليه ، وإن كان يجب الحمل على الثاني بقرينة خارجيّة غير ما تقدّم الإشارة إليه ، وهي : أنّه لو لا ذلك لزم من وجود الشي‌ء عدمه ، وأنّه محال.

وبيان الملازمة : أنّ كون ماء البئر مستعملا في رفع الحدث وصف لا ينعقد في الخارج إلّا إذا وقع الغسل صحيحا ، وصحّة الغسل مع فرض كونه علّة للإفساد بهذا المعنى المنهيّ عنه غير معقولة كما تقدّم ، فإذا لم يقع على وصف الصحّة لم ينعقد الوصف المذكور في الخارج ؛ وقضيّة استحالة ذلك خروج النهي لغوا يجب تنزيه كلام الحكيم عنه ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بحمل « الإفساد » على غير المعنى المذكور ، وإذا اعتبر مع ذلك عدم كون البئر ممّا تعلّق به حقّ الغير خرج محلّ البحث عن مورد الرواية

٧٠٣

بالمرّة ، إذ ليس الكلام فيما لو تحقّق الغسل في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّه ؛ ولا ريب أنّ إفساد المالك وفي حكمه المأذون ماء بئره بأيّ معنى اريد منه ليس بمنهيّ عنه ، وإذا انضمّ إليه حيثيّة كونه في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّ الغير مع عدم الإذن فيه لا مالكيّا ولا شرعيّا فعدم الصحّة إنّما هو من حيثيّة اخرى وهي التصرّف العدواني في ملك الغير ، لا لحيثيّة كونه للإفساد وسلب الطهوريّة.

وكيف كان فالحقّ : أنّ الغسل صحيح ، إذ لا موجب لتوهّم فساده إلّا وجوب النزح على فرضه ، وهو غير مستلزم له عقلا ولا شرعا وهذا ممّا لا تعلّق له بمورد الرواية حتّى يصحّ التعلّق بها في إبداء القول بالفساد ، وإنّما هي محمولة على مورد لم يكن محلّ البحث منه جزما.

ومن هنا اتّضح زيادة على ما مرّ في الجهة الثانية أنّ علّة وجوب النزح الوارد في الأخبار المطلقة ليست سلب الطهوريّة عن الماء ، إذ لا دليل عليه لمن توهّم ذلك إلّا الرواية المذكورة وقد عرفت أنّها ممّا لا تعلّق له بمحلّ البحث وبمسألة وجوب النزح أصلا ، ونحن إنّما ذكرناها هنا من جهة دفع بعض الكلمات المتعلّقة بها الصادرة عنهم هنا لا من جهة أنّ لها مدخليّة بموضع البحث هذا ، وتدبّر.

الجهة الرابعة : عن جماعة من الأصحاب أنّهم اشترطوا خلوّ بدن الجنب عن نجاسة عينيّة ليتمّ الاكتفاء بالسبع ، إذ لو كان عليه نجاسة لوجب مقدّرها إن كان وإلّا فعلى ما اختلف فيه من حكم ما لا نصّ فيه ؛ وعن العلّامة في المنتهى (١) التوقّف في الاشتراط ، وإن كانت هذه النسبة لا تخلو عن نظر ، لعدم دلالة كلامه على أنّه متوقّف في أصل المسألة ، وإن كان لا يخلو عن المناقشة من جهة اخرى حيث توهّم اختصاص النجاسة العينيّة المشترط خلوّها بالمنيّ كما لا يخفى على المتأمّل.

وعلى أيّ حال كان فالحقّ ما صار إليه الجماعة من قضيّة الاشتراط ، نظرا إلى أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وهي ممّا تختلف باعتبار الحيثيّات ؛ والظاهر أنّ الأخبار الواردة في المقام معلّقة على حيثيّة الجنابة فلا تدخل فيها الحيثيّات الاخر ، ولا يعقل

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨٩.

٧٠٤

في الخطاب الوارد لبيان حكم حيثيّة مخصوصة إطلاق بالقياس إلى غيرها من الحيثيّات المستقلّة بأحكام اخر ، وقد تقدّم تقريب هذا الاستدلال في بحث موت الإنسان.

ومن هنا يعلم اختصاص الحكم باغتسال غير الكافر ، وأمّا هو فاغتساله يندرج في عنوان ما لا نصّ فيه إن لم يثبت في الشريعة لنجاسة الكفر بالنسبة إلى منزوحات البئر حكم بالخصوص ، وإلّا فالواجب إجراء حكمه ، وأمّا الذكر والانثى فالظاهر من الإطلاق عدم الفرق بينهما كما هو كذلك بالقياس إلى المخالف والمؤمن ، والله أعلم.

المسألة التاسعة : فيما ينزح له خمس ، وهو مقصور في فتاويهم على ذرق الدجاج ، لكن عن مقنعة (١) المفيد وجماعة آخرين تقييده بالجلّال ، بل في الحاشية الميسيّة على الشرائع (٢) أنّ المشهور اختصاص النزح بالجلّال منه ، وعن التذكرة (٣) : « أنّ الأكثر قيّده بذلك » ، وعن نهاية الشيخ (٤) وجماعة غير الأوّلين عدم تقييده بذلك ، بل عن الروضة (٥) والروض (٦) : « أنّه المشهور ».

ولم نعرف دليل هذا الحكم في شي‌ء من القولين بل في كلام غير واحد الاعتراف بعدم الوقوف على دليل عليه ، وإن شئت لاحظ العلّامة في المنتهى قائلا : « ولم أقف على حديث يدلّ على شي‌ء منهما » (٧).

وعن معتبر المحقّق : « وفي القولين إشكال أمّا الإطلاق فضعيف ، لأنّ ما ليس بجلّال ذرقه طاهر ، وكلّ رجيع طاهر لا يؤثّر في البئر تنجيسا ، أمّا الجلّال فذرقه نجس لكن تقدير نزحه بالخمس في موضع المنع ونطالب قائله بالدليل » (٨).

وفي المدارك : « ولم أقف على نصّ يقتضي النزح لذلك » (٩).

لكن في حاشية هذه العبارة للعلّامة البهبهاني : « الظاهر أنّ المفيد رحمه‌الله ومثله ممّن حكم بهذا الحكم كان لهم نصّ » (١٠) انتهى.

ويمكن تأييد القول الآخر بأنّ فتوى الشيخ في النهاية بمنزلة الرواية المرسلة ، بناء

__________________

(١) المقنعة : ٦٨ ، وفي هامش المقنعة : عن بعض النسخ « الدجاج الجلّالة ».

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٧.

(٤) النهاية ١ : ٢٠٩.

(٥) الروضة البهيّة ١ : ٤٢.

(٦) روض الجنان : ١٥٤. (٧) منتهى المطلب ١ : ٩٤.

(٨) المعتبر : ١٨. (٩) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(١٠) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٢.

٧٠٥

على ما حكي عن صريح كلامه فيها من أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات من دون تغيير أو مع تغيير يسير ، وإذا ثبتت الشهرة المدّعاة على هذا القول كانت جابرة لإرسالها ، فهذا القول متعيّن لكن على تقدير صحّة الحكايتين.

وأمّا ما عرفت عن المعتبر من المناقشة فيه ، فيدفعه أوّلا : ما في المدارك (١) من تقييد هذا القول بالبناء على القول بنجاسة الذرق ، فإن كان القول بالنزح هنا ممّا لا بدّ من دفعه فلا بدّ من بناء دفعه على منع ما هو مبنيّ عليه كما منعه في الكتاب المذكور.

وثانيا : بأنّ مرسلة النهاية على تقدير صحّة الحكايتين كما أنّها تصلح مستندة للنزح تصلح مستندة لنجاسة الذرق ، فتأمّل.

وثالثا : بأنّ الحكم بالنزح قد يكون لمحض التعبّد كما هو الحال في اغتسال الجنب على ما تقدّم ، ولا سيّما على مذهب الشيخ القائل بالوجوب التعبّدي في سائر النجاسات ، فعلى فرض ثبوت المرسلة واعتبارها اتّضح مستند الحكم وإن قلنا بمنع الملازمة بين إيجاب النزح ونجاسة الموجب كما أشرنا إلى إمكانه في الأمر بالتأمّل. واحتمل بعضهم الاستناد إلى الإجماع ، كما نقل ادّعاؤه في الروض (٢) على عدم وجوب الزائد على الخمس ، مع ضميمة أنّ الأقلّ غير مبرئ للذمّة بعنوان اليقين.

ونوقش فيه بمخالفة أبي الصلاح ، فإنّه قال : « بأنّ خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء » (٣).

وفيه : ظهور كلام أبي الصلاح فيما لا يؤكل لحمه بأصل الشرع لا من جهة العارض ، هذا مع ما قيل في دفعها من أنّ المخالفة من معلوم النسب غير مضرّة في انعقاد الإجماع على رأي القدماء ومن وافقهم.

وممّا بيّنّاه يتبيّن ضعف ما يوهمه كلام بعضهم من لحوق ذرق الدجاج الجلّال بمورد كلام أبي الصلاح الّذي لا مدخل له بالمقام.

وأضعف منه ما في المدارك من قوله : « واستقرب المصنّف في المعتبر دخوله في قسم العذرة » (٤) ، فاعترض عليه بقوله : « وفيه بعد » (٥).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٢) روض الجنان : ١٥٥.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠ نقلا بالمعنى.

(٤ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

٧٠٦

ووجه ضعفه : أنّه ذكر ذلك في خرء ما لا يؤكل لحمه الظاهر فيما يكون كذلك أصالة المتّفق على نجاسته ، لأنّه على ما في عبارة محكيّة له عن المعتبر قال ـ بعد ما ناقش في قولي المسألة بما تقدّم ـ : « وقال أبو الصلاح : خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء ، ويقرب عندي أن يكون داخلا في قسم العذرة ينزح له عشرون ، فإن ذاب فأربعون أو خمسون ، ويحتمل أن ينزح له ثلاثون لخبر المنجبرة » (١) انتهى.

وقد عرفت أنّ ما لا يؤكل لحمه في عبارة أبي الصلاح ظاهر فيما هو كذلك بأصل الشرع فكذلك ما ذكره المحقّق ، بناء على أنّه إنّما نقل كلام أبي الصلاح هنا من جهة المناسبة لا من جهة تفريع المسألة على عنوان ما لا يؤكل لحمه ، كيف لا وذكره له من جهة التفريع يناقض ما ذكره أوّلا في دفع القولين في المسألة.

إلّا أن يقال : بأنّه يناقض دفعه القول بالحكم فيما ليس بجلّال دون دفعه القول به في الجلّال ، لأنّه دفع له في تقدير النزح بالخمس لا في دعوى النجاسة الّتي لا مجال لها في ذرق غير الجلّال.

فيرد عليه حينئذ أوّلا : ما تقدّم من منع تعلّق المسألة بمورد كلام أبي الصلاح. وثانيا : ما أورده غير واحد من أنّ العذرة لغة فضلة الإنسان خاصّة ، ونزح الثلاثين المستند إلى خبر المنجبرة وهو رواية كردويه المتضمّنة لوقوع ماء المطر المخالط بالبول وخرء الكلاب وغيرهما مختصّ بالأشياء المذكورة مع مخالطة ماء المطر ، فالتعدّي عنها ممّا لا مسوّغ له.

والمراد بالجلّال ـ على ما في المدارك ـ (٢) المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن يسمّى في العرف جلّالا.

المسألة العاشرة : فيما ينزح له ثلاث ، وهو الفأرة إذا لم يتفسّخ ولم تنتفخ ، أفتى به الشيخان (٣) ، وأبو الصلاح (٤) ، وسلّار (٥) ، وابن البرّاج (٦) ، وابن إدريس (٧) ، على ما حكاه

__________________

(١) المعتبر : ١٨.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٣) أي الشيخ الطوسي في النهاية انظر النهاية ١ : ٢٠٨ والمبسوط ١ : ١٢ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٦.

(٤) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٥) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٦) المهذّب ١ : ٢٢.

(٧) السرائر ١ : ٧٧.

٧٠٧

في المختلف (١) ، خلافا لعليّ بن بابويه المحكيّ عنه في المختلف (٢) أيضا الاكتفاء بنزح دلو واحد ، وعن المرتضى على ما في المختلف (٣) أيضا أنّه قال : ينزح لها سبعة دلاء ؛ وقد روي ثلاثة ولم يفصّل.

واحتجّ الشيخ ـ على ما حكي عنه ـ وهو ظاهره بل صريحه في التهذيبين بما رواه فيهما من صحيحة معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (٤).

وفي معناها صحيحة عبد الله بن سنان (٥) المرويّة فيهما ، وتوهّم إطلاق الوقوع الشامل لصورتي الموت والخروج حيّا ، يدفعه : انصرافه إلى الموت عرفا كما فهمه الشيخ وغيره من الجماعة.

وأمّا الروايات القاضية بنزح السبع فيها على الإطلاق فهي محمولة على صورة وجود الوصفين بقرينة ما تقدّم في المسألة الثانية من الروايات المقيّدة كما صنعه الشيخ في الكتابين (٦) ، حيث جمع بذلك بين الروايات المختلفة ، فلذا صار في الفأرة إلى التفصيل في نزحها بالسبع والثلاث بين صورتي وجود الوصف وانتفائه كما تقدّم بيانه.

وبما ذكر يظهر الجواب عن احتجاج المرتضى بالروايات المطلقة في السبع ، فإنّ من وظيفة المطلق أن يحمل على المقيّد حيث يتعارضان.

وأمّا قول عليّ بن بابويه فلم يعرف حجّته كما اعترف به في المختلف (٧) ، وقد يلحق بها هنا امور :

منها : الحيّة ، حكاه في المختلف (٨) عن الشيخ (٩).

وأبي الصلاح (١٠) ، وسلّار (١١) ، وابني البرّاج (١٢) ، وإدريس (١٣).

__________________

(١ و ٢ و ٣) المختلف ١ : ٢٠٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨ ـ الاستبصار ١ : ٣٩ / ١٠٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٨ ذيل الحديث ٦٩٠.

(٧ و ٨) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٥ و ٢١٣.

(٩) المبسوط ١ : ١٢ ـ النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٠) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(١١) المراسم العلويّة : ٣٥ ـ ٣٦.

(١٢) المهذّب ١ : ٢٢. (١٣) السرائر ١ : ٨٣.

٧٠٨

وعن جماعة دعوى الشهرة فيه (١) ، وعن السرائر : نفي الخلاف عنه (٢).

وعن الغنية : الإجماع عليه (٣) ، واختلفت الحكاية عن ابن بابويه ففي المختلف ينزح منها سبع دلاء ، حكاه عنه في مسألة العقرب أيضا قائلا : « وقال عليّ بن بابويه في رسالته : إذا وقعت فيها حيّة ، أو عقرب ، أو خنافس ، أو بنات وردان ، فاستق منها للحيّة سبع دلاء ، وليس عليك فيما سواها شي‌ء » (٤).

وعن المحقّق في المعتبر (٥) أنّه نقل عبارة الرسالة المذكورة بحيث كان فيها دلو واحد في موضع السبع.

وعن صاحب المعالم : « وفيما عندنا من نسخة الرسالة القديمة الّتي عليها آثار الصحّة « دلاء » بدون السبع » (٦).

وعنه أيضا ـ عقيب الكلام المذكور المنقول بالمعنى ـ : « وعلى ما فيها ربّما لا يبقى في المسألة خلاف ، لأنّ لفظ « الدلاء » لا يبعد حمله عند الإطلاق على الثلاث لما مرّ تقديره » (٧) انتهى.

واعترف غير واحد بعدم ورود نصّ فيها بالخصوص.

وعن المعتبر : « ويمكن الاستدلال بما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

« قال إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منها دلاء » (٨) فينزّل على الثلاث لأنّه أقلّ محتملاته (٩).

وفي المختلف : « احتجّ الأكثرون برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأصغره العصفور ينزح منها دلو واحد (١٠).

وللحيّة يجب فيها أكثر من العصفور وإلّا لم يختصّ القلّة بالعصفور ، وإنّما أوجبنا نزح ثلاث لمساواتها الفأرة في قدر الجسم تقريبا.

__________________

(١) كما في ذكرى الشيعة ١ : ٩٨ ـ كشف اللثام ١ : ٣٤٥.

(٢) السرائر ١ : ٨٣.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(٥ و ٩) المعتبر : ١٨.

(٦ و ٧) فقه المعالم ١ : ٢٤٣ نقلا بالمعنى.

(٨) الكافي ٣ : ٦ / ٧ ـ الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(١٠) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

٧٠٩

وبما رواه إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : « الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان وثلاثة » (١) ولا ريب أنّ الحيّة لا تزيد على قدر الدجاجة في الجسم » (٢).

واعترض على الاحتجاج بتلك الأخبار بأنّ الأحاديث الواردة في أنّ ما لا نفس له إذا وقع في البئر لا بأس به ـ كما في بعض ـ ولا يفسد الماء ـ كما في آخر ـ مخرجة للحيّة عن عموم تلك الأخبار ، ومن الأحاديث المذكورة ما حكاه في المختلف (٣) من رواية عمّار الساباطي في حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : وقد سئل عن الخنفساء ، والذباب ، والجراد ، والنمل ، وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت وشبهه قال : « كلّ ذلك ما ليس له دم فلا بأس » (٤).

ومنها : ما حكاه أيضا في الصحيح عن ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام قال : « وكلّ شي‌ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (٥).

وهذا الاعتراض إنّما يتّجه لو ثبت صغرى القياس وهو مذهب المشهور على ما في محكي شارح المفاتيح (٦) من أنّها ليس لها نفس.

وعن الفاضل في شرح القواعد أنّه تشكّك فيه ثمّ قال : « ويمكن اختلاف أنواعها » (٧) انتهى.

لكن صرّح جماعة من فحول أصحابنا بأنّ لها نفسا ، ومن المصرّحين المحقّق ـ في عبارة محكيّة له ـ في المعتبر قائلا : « والّذي أراه وجوب النزح في الحيّة ، لأنّ لها نفسا سائلة وميتتها نجسة » (٨).

ومنهم العلّامة في المنتهى قائلا : « والأولى عندي تعلّق الحكم ، وهو نزح الثلاث بالحيّة دون غيرها ، لوجود النفس السائلة لها دون غيرها وميتتها نجس » (٩).

ومنهم من عاصرناه من فحول مجتهدينا المعاصرين قدس‌سره على ما وجدناه في كلام له

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٣.

(٢ و ٣) مختلف الشيعة ١ : ٢١٤ و ٢١٣.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٥ و ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ / ٦٦٦.

(٦) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٨.

(٧) كشف اللثام ١ : ٣٤٦.

(٨) المعتبر : ١٨.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٩٦.

٧١٠

في الكتاب المعمول في أجوبته عن الأسئلة المعروضة عليه (١) ، ونقل عنه (٢) أيضا أنّه أخبر التصريح عن بعض الأعلام أنّه امتحنها بالذبح فرأى أنّ لها نفسا سائلة ، ومن البيّن أنّ الاحتجاج بالأخبار المتقدّمة مبنيّ على هذا المذهب ومعه لا وقع للاعتراض المذكور أصلا.

وعن عليّ بن بابويه أنّه احتجّ على إيجاب سبع بأنّها في قدر الفأرة أو أكبر ، وقد بيّنّا أنّ في الفأرة سبع دلاء فلا يزيد الحيّة عليها للبراءة ولا ينقص عنها للأولويّة (٣).

وضعفه واضح ، لمنع الأولويّة وعدم تأثير للبراءة بعد ملاحظة استصحاب النجاسة ، وأمّا الاكتفاء بالدلو الواحد ـ على ما في المعتبر ـ (٤) فلم نعرف له دليل ، وأمّا على ما حكاه المعالم فاحتمل بعضهم الاستدلال عليه بصحيحة الحلبي المتقدّمة ، بل بصحيحة الفضلاء ، ورواية الفضل المتقدّمتين في بحث الفأرة من المسألة الثامنة.

ومنها : الوزغة ، أفتى بالثلاث فيها على ما في المختلف (٥) الشيخان (٦) ، وابن البرّاج (٧) ، وابن حمزة (٨) ، والصدوق (٩) ، ودليله على ما تقدّم في الفأرة من صحيحتي ابن عمّار ، وابن سنان ، واضح.

لكن يشكل الحال في ذلك بعدم كون الوزغة ـ على ما صرّحوا به ـ من ذوات النفس ليوجب موتها نجاسة البئر ، ولذا صار ابن إدريس ـ على ما عزى إليه ـ إلى منع وجوب النزح فيها ، محتجّا : بأنّها لا نفس لها سائلة (١٠) ، إلّا على ما ذكره العلّامة في المختلف في تقريب هذا القول من أنّه : « يجوز أن يكون الأمر بالنزح من حيث الطبّ بحصول الضرر في الماء بالسمّ لا من حيث النجاسة ، ولا شكّ أنّ السلامة من الضرر أمر مطلوب للشارع ، فلا استبعاد في إيجاب النزح لهذا الغرض » (١١).

__________________

(١) لم نجده في جامع الشتات ـ على ما فحصنا عنه في الجملة ـ ولعلّه يوجد مع شدّة الفحص.

(٢) غنائم الأيّام ١ : ٥٦٩ حيث قال : « وسمعت ثقة قتلها وشاهد أنّ لها دما سيّالا في غاية القوّة كالسائل عن الفصد ، وسمعت بعض مشايخنا أيضا أنّه سمع ثقة آخر كذلك ».

(٣ و ٥) مختلف الشيعة ١ : ٢١٤ و ٢١٠.

(٤) المعتبر : ١٨.

(٦) أي الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ، والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(٧) المهذّب ١ : ٢٢.

(٨) الوسيلة : ٧٥.

(٩) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٨.

(١٠) السرائر ١ : ٨٣.

(١١) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

٧١١

فإن تمّ ذلك اندفع به قول ابن إدريس أيضا واحتجاجه ، وإلّا لسرى الإشكال إلى الفأرة الّتي عطف عليها الوزغة في الرواية ، وقضيّة ذلك استحباب النزح فيهما معا كما أفتى به المحقّق في الوزغة خاصّة على ما حكي عنه في المعتبر (١).

وفي المسألة قول ثالث أو رابع محكيّ عن سلّار (٢) وأبو الصلاح الحلبي (٣) وهو الاكتفاء بالدلو الواحد ، احتجاجا بما في التهذيب والفقيه عن يعقوب بن ميثم أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : بئر ماء في مائها ريح يخرج منها قطع جلود ، فقال : « ليس بشي‌ء ، لأنّ الوزغ ربّما طرح جلده ، إنّما يكفيك من ذلك دلو واحد » (٤).

وفي معناها ما عن الكافي (٥) في باب البئر.

ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من الوهن بعدم دلالة الروايتين على نفي الزائد لو وقع فيها الوزغ بنفسه ، وإنّما هما تدلّان على الاكتفاء بالواحد في جلده ، وهو ليس من موضوع المسألة في شي‌ء.

ومنها : العقرب ، حكي القول به عن الشيخ في النهاية (٦) ، والمبسوط (٧) ، وتبعه ابن البرّاج (٨) ، وأبو الصلاح (٩) ، ولم يتعرّض لها ابن حمزة ، وسلّار ، والشيخ المفيد ، وقد تقدّم عن عليّ بن بابويه (١٠) ما يدلّ على عدم وجوب شي‌ء فيها ، وهو اختيار ابن إدريس (١١).

حجّة الشيخ ـ على ما في المختلف ـ (١٢) ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا هل يشرب من ذلك الماء أو يتوضّأ به؟ قال : « يسكب ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ منه غير الوزغ ، فإنّه لا ينتفع ما يقع فيه » (١٣).

وجه الاستدلال : أنّ العقرب ينزح لها مع خروجها حيّة ثلاث دلاء فمع الموت أولى ، مضافا إلى أنّ المقتضي للنزح في الوزغة وهو السمّ موجود في العقرب.

__________________

(١) المعتبر : ١٨.

(٢) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٤)التهذيب ١: ٤١٩ / ١٣٢٥ ـ الفقيه ١ : ١٥ / ٣٠ ، وفيها « يعقوب بن عثيم»بدل« يعقوب بن ميثم ».

(٥) الكافي ٣ : ٦ / ٩. (٦) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٨.

(٧) المبسوط ١ : ١٢. (٨) المهذّب ١ : ٢٢.

(٩) الكافي في الفقه : ١٣٠. (١٠ و ١٢) حكاه عنه في مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(١١) السرائر ١ : ٨٣.

(١٣) التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠ ـ الوسائل ١ : ١٨٨ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

٧١٢

وهذا من جهة ابتنائه على القياس الفاسد ضعيف جدّا ، والعمدة هي الرواية ، وفيها : أنّ الأولويّة المدّعاة إنّما تنهض على تقدير دلالة الرواية على الوجوب ولعلّها في حيّز المنع ، كما يرشد إليه العطف على الفأرة المخرجة حيّة المجمع على عدم وجوب النزح فيها ، كيف وهو إمّا من جهة النجاسة فهي منتفية مع الحياة ، أو من جهة شبهة السمّية الّتي انتفاؤها أوضح ، ومع ذلك فهي على فرض الدلالة معارضة بعموم ما تقدّم في غير ذي النفس ، وخصوص صحيحة ابن مسكان المتقدّمة عن الصادق عليه‌السلام قال : « وكلّ شي‌ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (١) وهي صحيحة ، وعمل بها العلّامة (٢) وغيره فتكون أرجح ، وعليه يجمع بينها وبين ما تقدّم بحمله على الاستحباب كما صنعه العلّامة في المختلف (٣) ، وبذلك يظهر الوجه في رواية منهال بن عمرو عن الصادق عليه‌السلام قلت له : العقرب يخرج من البئر ميتة؟ قال : « استق عشرة دلاء » (٤) وقد حملها الشيخ على الاستحباب (٥) ، كما في المختلف (٦).

وعن المانعين عن وجوب النزح الاحتجاج : بأنّه حيوان لا نفس له سائلة فلا يجب بموته شي‌ء كالذباب والخنافس ، وبالروايات المتقدّم إليها الإشارة في غير ذوات النفس ، وهو في غاية الجودة.

المسألة الحادية عشر : فيما ينزح له دلو واحد ، وهو أمران :

أحدهما : العصفور وما أشبهه ، نسب القول به في المنتهى (٧) إلى الشيخين (٨) وأتباعهما (٩) ، وفي كلام غير واحد نسبته إلى المشهور.

بل في شرح الدروس (١٠) ـ كما عن المعالم ـ (١١) لم يعرف فيه خلاف.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٠ / ٦٦٦.

(٢) المختلف ١ : ٢١٢ حيث قال : « وهذا الحديث أصحّ ما رأيته في هذا الباب ، وعليه أعتمد ... الخ ».

(٣ و ٦) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٧.

(٥) التهذيب ١ : ١٣١ / ٦٦٧.

(٧) منتهى المطلب ١ : ٩٨.

(٨) أي الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ، والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(٩) كابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٧٧ ، والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٥ ـ ٣٦.

(١٠) مشارق الشموس : ٢٣٨.

(١١) فقه المعالم ١ : ٢٤٩.

٧١٣

وعن الغنية : الإجماع عليه وعلى مماثله في الجسم من الطير (١).

نعم ربّما يستظهر الخلاف من الصدوقين ، فعن الفقيه : « وأكثر ما يقع في البئر الإنسان » ـ إلى أن قال ـ : « وأصغر ما يقع في البئر الصعوة فينزح منها دلو واحد ، وفيما بين الإنسان على قدر ما يقع منها » وعن أبيه : أنّه كذا قال في الرسالة (٢).

ووجه المخالفة : أنّ الصعوة ليس بمطلق العصفور بل عصفور صغير ، كما نصّ عليه في القاموس (٣).

وقد يوجّه كلامهما على وجه يرتفع معه المخالفة وهو إمّا بإطلاق الخاصّ على العامّ ، أو بأنّه لم يثبت كون الصعوة أخصّ فيكونان مترادفين.

وكيف كان فمستند المشهور رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وذكر الحديث ـ إلى أن قال ـ : « وأقلّ ما يقع في البئر عصفور ينزح منها دلو واحد » ، وعمّار وإن كان فطحيّا لكن الرواية موثّقة ، ومع ذلك فهي معتضدة بعمل المشهور بل الكلّ.

قال العلّامة في المنتهى : « لكنّ الأصحاب قبلوا روايته وشهدوا له بالوثاقة » (٤).

وبذلك تنهض الرواية مخصّصة للمعتبرة الاخر من الصحاح وغيرها القاضية بعضها بالدلاء في الطير ، والاخر بالسبع ، وثالث بالخمس ، ورابع بالثلاث.

فما في المدارك (٥) من الميل إلى الخمس أو الثلاث في الطير مطلقا لصحيحتي الفضلاء ، وعليّ بن يقطين عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، كما عن المعالم (٦) من نفي البعد عن العمل بصحيحة الحلبي المتقدّمة في موت الحيّة لصغير الحيوان الشامل للعصفور ، ليس ممّا يلتفت إليه ، وقد يمنع (٧) شمول الحيوان للطير وهو بعيد.

وعن بعض الأصحاب تفسير « العصفور » بما دون الحمامة ، وقيل : وهو الظاهر من تفسيرهم « الطير » بالحمامة ونحوها ممّا فوقها ، وهو كما ترى لا يلائم تفسيرهم

__________________

(١) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) المعتبر : ١٨.

(٣) تاج العروس في شرح القاموس ؛ مادّة « صعو » ١٠ : ٢٠٩.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٩٨.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٩٤.

(٦) فقه المعالم ١ : ٢٤٩.

(٧) المانع هو صاحب المعالم رحمه‌الله حيث قال : « ... لعدم دخول العصفور في لفظ الحيوان بالنظر إلى العرف ... الخ » فقه المعالم ١ : ٢٥٠.

٧١٤

ل « شبهه » بما يضاهيه في الجسم والمقدار.

ومع ذلك فيدفعه : ما في الرواية من التصريح بما يوجب خروج الحمامة وما دونه إلى العصفور عن هذا الحكم ، فإنّ فيها : « وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » (١).

فإنّ المراد بأكثره إمّا الأكثريّة في الجثّة والمقدار كما يؤيّده ما في بعض نسخ الرواية من التعبير بأكبره ، أو أكثريّة المنزوح كما يناسبه التعبير عمّا يقابله بالأقلّ في كلتا النسختين ، وعلى التقديرين فمرجع اسم الإشارة الثانية إمّا أحد الأمرين من « الإنسان » و « العصفور » كما هو الظاهر ، أو خصوص « العصفور » ، وعلى التقديرين فالحكم عليه بكونه فيما بين هذين ، مع ظهور المثنّى في التقديرين المذكورين في الرواية من السبعين والواحد ، مخرج لما عدا الحمامة ممّا فوقها إلى الإنسان وما تحتها إلى العصفور عن هذين الحكمين.

وقضيّة ذلك عدم بلوغ مقدّره في الكثرة إلى السبعين ولا في القلّة إلى الواحد ، وهو أمر مجمل يستفصل من الروايات ، ومع ذلك فكيف يفسّر به « العصفور » حيث أنّه ليس بمعناه الموضوع له على ما يشهد به العرف ونصّ عليه أئمّة اللغة ، ولا أنّ في المقام قرينة قاضية بإرادة ذلك في الرواية ، والعجب عن المحقّق الميسي في حاشية الشرائع (٢) حيث أنّه فسّر « شبهه » أوّلا بما يشبهه في حجمه ، ثمّ قال : « وهو ما دون الحمامة » ، ولا ريب أنّ بين الحمامة والعصفور وسائط كثيرة.

وبملاحظة ما ذكرناه يشكل التعدّي عن العصفور إلى ما يشبهه في الجثّة والمقدار أيضا كما اعترف به جماعة ، ومنعوه تعليلا بأنّ النصّ مخصوص بالعصفور ، فإنّ ذلك إنّما يصحّ لو جعلنا المراد بالأكثر الأكثريّة في الجثّة والمقدار المستلزمة لكون المراد بالأقلّ الأقلّيّة فيهما أيضا ، نظرا إلى أنّ الرواية في صدد التعرّض لحصر أصناف الحيوانات في الثلاثة ، فلو لم يكن المراد بالعصفور ما يعمّ المتساويات في الجثّة والمقدار بطل الحصر المقصود ، فتأمّل.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٩.

٧١٥

ولكن قد عرفت أنّ هذا الاحتمال يعارضه الاحتمال الآخر الّذي لا يقتضي كون المراد بالعصفور المعنى الأعمّ كما يظهر بأدنى تأمّل ، نظرا إلى أنّ الحصر المقصود حينئذ إنّما هو في المنزوحات المقدّرة ، فجعلها المعصوم عليه‌السلام في الكثرة والقلّة وما يتوسّطهما على أقسام ثلاث وهي السبعون والواحد وما بينهما ، وقضيّة ذلك خروج الرواية من هذه الجهة مجملة ، إلّا أن يجعل فهم المشهور قرينة على التعيين وهو مشكل.

وأمّا ما يقال ـ في تقريب التعدّي ـ : من أنّه لمّا ثبت تفسير « الطير » بالحمامة فما فوقها كما تقدّم في بحثه ، وكان له سبع ولا واسطة بين السبع والواحد من العدد فيما بين الحمامة والعصفور تعيّن إلحاق ما دونها به.

ففيه أوّلا : ثبوت الواسطة بنصّ الرواية بالتقريب الّذي قرّرناه.

وثانيا : أنّ عدم ورود الواسطة في النصوص يقضي بكون ما عدا العصفور ممّا دون الحمامة ملحقا بما لا نصّ فيه كما هو الحال في سائر النجاسات الغير المنصوصة لا بالعصفور.

وكيف كان فالحكم معلّق على العصفور خاصّة ، وعلى تقدير التعدّي يتعدّى إلى كلّ ما يشابهه في الجثّة بحسب الخلقة الأصليّة لا باعتبار صغر السنّ من غير فرق في ذلك بين المأكول وغيره.

فما عن نظام الدين الصهرشتي شارح النهاية (١) من إجراء هذا الحكم في صغير الطير (٢) كالفرخ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، وأضعف منه ما عن الراوندي (٣) من تخصيصه الحكم بمأكول اللحم احترازا عن الخفّاش ، تعليلا بأنّه مسخ أو أنّه نجس ، فإنّه مع أنّه ممّا لا دليل عليه مردود أوّلا : بمنع كونه مسخا ، وثانيا : نمنع نجاسته ، وثالثا :بكونه أخصّ من المدّعى.

وثانيهما : بول الصبيّ الّذي لم يتغذّ بالطعام ، نسب إلى الشيخين (٤) وكثير من الأصحاب ، وادّعي عليه الشهرة ، وعن أبي الصلاح وابن زهرة المصير إلى نزح ثلاث دلاء (٥) ، وعن

__________________

(١ و ٣) حكى عنه في المعتبر : ١٨.

(٢) كلّ طائر حال صغره « نسخة بدل ».

(٤) أي الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ والمفيد في المقنعة : ٦٧.

(٥) الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ وغنية النزوع : ٤٩.

٧١٦

الثاني دعوى الإجماع عليه ، وهو عجيب مع مخالفة المشهور ومع ذلك فمستند قوله غير واضح ؛ ولو احتجّ له بصحيحة ابن بزيع المتقدّمة (١) الحاكمة بنزح دلاء لقطرات البول ، لدفعه : إمّا الانصراف إلى ما عدا بول الرضيع ، أو لكون قطرات البول أعمّ من وجه من بوله فلا يتناول ما زاد على القطرات ، ويقضي بالثلاث في غير بوله والقول به ضعيف كما تقدّم.

وكيف كان فمستند المشهور ـ على ما حكي الاحتجاج به عن الشيخ ـ رواية عليّ بن أبي حمزة المتقدّمة الواردة في بول الصبيّ الفطيم ، يقع في البئر فقال : « دلو واحد » (٢) وهذا مبنيّ على حمل « الفطيم » على المشارف للفطام ، نظرا إلى تحديد « الصبيّ » هنا في كلامهم بمن يغتذي باللبن محضا ، أو بحيث يغلب على الطعام ، فيغاير « الفطيم » المتقدّم تفسيره في بول الصبيّ المتغذّي بالطعام ، وهو كما ترى. مجاز يحتاج إلى القرينة ، ولعلّ المشهور عثروا بها كما يومئ إليه كلام عن المهذّب البارع (٣) من أنّ الرضيع هو المعبّر عنه في الروايات بالفطيم.

وكيف كان فالقول المذكور مستندا إلى هذه الرواية غير خال عن الإشكال ، والأحوط بل الأولى إطلاق القول في بول الصبيّ بالسبع ، وفاقا للسلّار على ما حكي عنه فيما تقدّم ، مستندا إلى إطلاق رواية منصور بن حازم المتقدّمة في بحث بول الصبيّ.

نعم ، إنّما يتّجه القول بالواحد هنا على تقدير صحّة الاستناد إلى ما روي عن الفقه الرضوي المتقدّم ذكره في البحث المذكور ، لكنّه لم يثبت عندنا إلى الآن ما يقضي بصحّة ذلك ، وعليه فالاحتياط بناء على القول بالتنجيس أو الوجوب تعبّدا ممّا لا ينبغي تركه.

ولنختم المقام بإيراد مباحث نذكرها هنا من باب التفريع :

المبحث الأوّل : فيما يتعلّق بالدلو المعتبر في النزح ؛ الوارد في الروايات ، وما يلحق به وما لا يلحق وفيه مسائل :

الاولى : في أنّ « الدلو » المعتبر في الروايات آلة للنزح ليس ممّا ثبت له معنى شرعي ، ولا أنّه ممّا له في عرف زمان الشارع معنى خاصّ به ، ولا أنّه ممّا اختلف فيه عرف الراوي والمرويّ عنه وبلد السؤال ، أو ممّا اختلف فيه الاصطلاحات كالمنّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠٠.

(٣) المهذّب البارع ١ : ١٠٢.

٧١٧

والرطل ونحوهما ، ولا أنّه ممّا اختلف فيه العرف واللغة ؛ بل هو لغة وعرفا لفظ مقول بالاشتراك المعنوي على الصغار والكبار مع اختلاف آحادهما والمتوسّط بينهما ، لكن إطلاقه لا ينصرف إلى الصغير والكبير الخارجين عن حدّ التعارف والاعتدال ، كما لو كان منه في الصغر ما يسع مدّا أو أقلّ إلى مثقال ومثقالين مثلا ، وفي الكبر ما يسع كرّا أو كرورا أو نصف كرّ أو ثلثه وربعه مثلا ، فإنّهما على فرض دخولهما في مسمّى اللفظ عرفا أو لغة خارجان عن إطلاق اللفظ جدّا ، ومقتضي القاعدة المحكّمة في مثل ذلك أن يحمل الخطاب على ما يصدق عليه الاسم عرفا وينصرف إليه اللفظ استعمالا ، كبيرا كان أو صغيرا أو متوسّطا بينهما ما لم يخرجا عن حدّ الاعتدال ، إذ المفروض عدم ورود نصّ في تقديره كما وردت النصوص في تقدير النزح واعتبار العدد ، وورود النصوص المقدّرة للعدد بالنسبة إلى الدلو مطلقة من غير استفصال (١) فيها عن الصغر والكبر ولا تفصيل بين الصغير والكبير ، ولعلّه إلى ما ذكرناه يرجع ما في كلام الفقهاء من العبارات المختلفة في هذا المقام.

فعن مبسوط الشيخ : « أنّه دلو العادة الّتي يستقي بها دون الدلاء الكبار لأنّه لم يقيّد في الخبر » (٢).

وعن السرائر : « أنّه دلو العادة ـ دون الشاذّة ـ الّتي يستقي بها ، ودون الصغار والكبار الخارجة عن المعتاد والغالب لأنّه لم يقيّد في الخبر » (٣).

وعن الغنية والكافي : « أنّه دلو البئر المألوف » (٤).

وعن الوسيلة : « الدلو دلو العادة » (٥) ، ونحوه عن المنتهى والتحرير (٦) ، وفي الشرائع : « ما جرت العادة باستعمالها » (٧) ، وعن المعتبر : « هي المعتادة صغيرة كانت أو كبيرة ، لأنّه ليس في الشرع لها وضع فيجب أن تتقيّد بالعرف » (٨).

وعن التذكرة : « الحوالة في الدلو على المعتاد لعدم التقدير الشرعي » (٩) وعن كتب

__________________

(١) الاستفصال من الراوي والتفصيل من الإمام عليه‌السلام. (في هامش الأصل بخطّ مؤلّفه رحمه‌الله).

(٢) المبسوط ١ : ١٢.

(٣) السرائر ١ : ٨٣.

(٤) غنية النزوع ١ : ٤٨ ، والكافي في الفقه : ١٣٠.

(٥) الوسيلة : ٧٥.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٠٤ ـ تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٨) المعتبر : ١٨.

(٩) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.

٧١٨

الشهيد : « أنّها المعتادة » (١).

إذ ليس المراد بالعادة في تلك العبارات ما يوجب تقييد المفهوم العرفي حتّى يطالب بدليله ، بل الغلبة وكثرة التداول الموجبين لانصراف اللفظ إلى ما ليس بخارج عن حدّ الاعتدال لقلّة وجوده وعدم كونه ممّا اعتيد استعماله في الآبار وإن فرض استعماله في بعض الأحيان كما يشهد به مقابلة الشواذّ أو الكبار أو الصغار والكبار ، نظرا إلى ظهور أنّ المراد بهما ما هو الخارج في الصغر والكبر عن حدّ الاعتدال المتعارفي لا مطلق مسمّى الصغير والكبير ، اللذين من جهة أنّهما أمران إضافيّان لا واسطة بينهما بحيث لا يكون صغيرا ولا كبيرا ، بل كلّما فرض من دلو معتاد فهو صغير بالإضافة إلى دلو وكبير بالإضافة إلى آخر.

فما في المدارك من أنّه : « ينبغي أن يكون المرجع في الدلو إلى العرف العامّ ، ولا عبرة بما جرت العادة باستعماله في تلك البئر إذا كان مخالفا له » (٢) ، وقريب منه ما في شرح الدروس ـ كما عن المعالم (٣) أيضا ـ إن اريد به المعنى الّذي ذكرناه فمرحبا بالوفاق ، وإن اريد به ما يعمّ ذلك فوارد على خلاف التحقيق ، والظاهر أنّهم يريدون المعنى الأوّل وعليه لا يخالف كلامهم للعبارات المتقدّمة.

وأمّا ما يظهر من بعضهم من توهّم المخالفة فهو إمّا مبنيّ على فهم المعنى الثاني من كلامهم ، أو على ما قد يستظهر من العبارات المذكورة من إرادة ما هو المعتاد على تلك البئر ، بل هو محكيّ عن صريح المحقّق والشهيد الثانيين (٤).

ثمّ يقال : « بأنّ أظهر تلك العبارات فيه عبارة السرائر (٥) ، حيث احترز بـ « العادة » عن الشاذّة الّتي يستقى بها ، فإنّ المراد بها ـ بقرينة عطف الصغار والكبار عليها ـ ما شذّ إلّا الاستقاء بها وإن كانت متوسّطة في الصغر والكبر » (٦) انتهى.

والأوّل وإن كان محتملا لكنّ الثاني مقطوع بفساده ، بل العبارات ظاهرة فيما ذكرناه ، وأظهرها فيه عبارة المعتبر المذيّلة بقوله : « فيجب أن يتقيّد بالعرف » ، بل هو

__________________

(١) البيان : ١٠٠ ، الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١ ، اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٧.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٨٦.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٤٦ ، روض الجنان : ١٤٨.

(٥) السرائر ١ : ٨٣.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٤٦.

٧١٩

بضميمة تفسيره « الدلو » بالمعتادة مع تعميمه إيّاها من حيث الصغر والكبر صريح في ذلك كما يظهر بأدنى التفات.

نعم ، ربّما يوهم خلاف ذلك عبارة الغنية والكافي لمكان احتمال كون « اللام » في البئر للعهد ، غير أنّه مدفوع أيضا بظهوره في الجنس على ما هو وضعها الأصلي.

ودعوى أظهريّة عبارة السرائر في ذلك بتقريب ما ذكر ، يدفعها : أنّ المراد بالشاذّة بقرينة استثناء الصغار والكبار ما يشذّ اتّخاذ الدلو منها من جلود السباع ونحوها بعد تذكيتها ، لكونها من الأفراد الغير المتداولة في العرف والعادة ، وعليه يكون المراد بالصغار والكبار ما هو الخارج في الصغر والكبر عن حدّ الاعتدال ممّا يتّخذ من الجلود المتعارف اتّخاذ الدلو منها ، لا ما يشذّ استعماله في تلك البئر ولو كان ممّا يتّخذ من الجلود المتعارفة ممّا لا يكون صغيرا ولا كبيرا خارجا عن الاعتدال ، وإلّا بطل إطلاق استثناء الصغار والكبار ، لكونه منافيا لجعل العبرة بالمعتاد على تلك البئر لو فرض كون معتادها دلوا كبيرا أو صغيرا ، فإنّ هذا كلّه مضافا إلى أنّ اعتبار المعتاد على تلك البئر خاصّة دعوى لا شاهد عليها ، بل تقييد لإطلاق « الدلو » في الأخبار بلا موجب له من شاهد خارجي.

فإن قلت : الشاهد له التبادر العرفي ولو كان إطلاقيّا ، ألا ترى أنّه إذا أمر السيّد عبده بنزح دلاء من بئر معيّن لكان المنساق منه نزحه بما يعتاد من الدلاء على تلك البئر.

قلت : نمنع ذلك التبادر من إطلاق اللفظ ، وإنّما المتبادر أوّلا الماهيّة الشاملة للمعتاد عليها ولغيره ، ولمّا كان الأخذ بالماهيّة لا يتأتّى إلّا بأخذ مصداق لها فحصل الالتفات إلى تعيين المصداق للأخذ به مقدّمة ، [فيلتفت] (١) الذهن إلى ذلك المعيّن المعتاد على تلك البئر ، ولذا لو فرض أنّ العبد عدل عن استعمال هذا المعتاد واستعار دلوا آخر ممّا يعتاد على غير تلك البئر كان ممتثلا لأمر السيّد جزما ، وإن كان قد يعدّ فعله هذا سفها إذا كان صدر منه بلا حكمة دعت إليه كما لا يخفى.

فإن قلت : القدر المتيقّن المتّفق على حصول الامتثال به إنّما هو المعتاد على تلك البئر خاصّة.

قلت : هذا يرجع إلى مراعاة الاحتياط الّذي نمنع وجوبه بعد نهوض إطلاق اللفظ

__________________

(١) وفي المصدر : « فيلفت » والصواب ما أثبتناه في المتن.

٧٢٠