ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

طهورا ، فانظروا كيف تكونون » (١).

ومنها : ما عن أمير المؤمنين ، إذ قال ـ لابن الحنفيّة ـ : « يا محمّد ايتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة ، فأتاه محمّد بالماء ، فأكفاه بيده اليسرى على يده اليمنى ، ثمّ قال : بسم الله والحمد لله الّذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا » (٢).

ومنها : قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٣) بناء على ما قيل : من أنّ المراد به المطهّر ، مستندا إلى ما نقل : أنّ الرجل من أهل الجنّة تقسّم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا ، فيأكل ما شاء ، ثمّ يسقى شرابا طهورا ، فيطهّر باطنه ، ويصير ما أكله رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك (٤).

ويشكل ذلك أيضا : بأنّ مجرّد كثرة الاستعمال في معنى مغاير للمعنى الأصلي لا تكشف عن النقل وحدوث الوضع ما لم تبلغ الاستعمالات في الكثرة حدّا يستغني معها عن مراعاة القرينة ، فكيف بها إذا وجدت مع القرينة كما في المقام ، لاقتران اللفظ في جميع الروايات المذكورة بالقرينة ، كما لا يخفى على المتدرّب ، ولا سيّما مع ملاحظة تحقّق تلك الكثرة في الطرف المقابل أيضا ، كما يظهر للمتتبّع.

فالحقّ أنّ إثبات الوضع الشرعي المخالف للأصل بمجرّد الاستعمالات المذكورة ممّا لا سبيل إليه.

نعم ، يمكن أن يستكشف ببعض تلك الاستعمالات عن إرادة هذا المعنى من اللفظ الوارد في الآية ، بأن يجعل ذلك قرينة كاشفة عن المراد كما في الروايتين الأخيرتين ؛ فإنّ قول الصادق عليه‌السلام : « وقد وسّع الله عليكم بما بين السماء والأرض ، وجعل الماء طهورا ، » إظهار للشكر وقبول للامتنان الّذي أخذه الله تعالى على العباد بقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٥) ، أو حثّ وتحريص على قبوله وإظهار الشكر على تلك النعمة

__________________

(١) الفقيه : ١ : ١٠ ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ـ الوسائل ١ : ١٠٠ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤ وفيها : « وسّع الله عليكم بأوسع ما ».

(٢) الوسائل ١ : ٤٠١ ب ١٦ من أبواب الوضوء ح ١ ـ التهذيب ١ : ٥٣ / ١٥٣.

(٣) الإنسان : ٢١.

(٤) نقله في مجمع البيان ١٠ : ٦٢٣ ذيل الآية ٢١ من سورة الإنسان.

(٥) الفرقان : ٤٨.

٤١

العظمى ، ومثله قول الأمير : « الحمد لله الّذي جعل الماء طهورا ، ولم يجعله نجسا » (١) ؛ فإنّه أيضا يرشد إلى أنّه خروج عن عهدة ما اقتضاه الامتنان الوارد في الآية ، فتأمّل جيّدا.

ومنها : ما اعتمد عليه غير واحد من أصحابنا المتأخّرين ، من نقل أئمّة اللغة وتفسيرهم للطهور بالطاهر المطهّر ، أو المطهّر وحده ، كما عن الفاضل الفيّومي في كتاب المصباح المنير ، أنّه قال : « وطهور قيل : مبالغة وأنّه بمعنى طاهر ، والأكثر أنّه لوصف زائد ، قال ابن فارس : قال ثعلب : والطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ، وقال الأزهري أيضا : الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر ، وفعول في كلام العرب لمعان ، منها فعول لما يفعل به ، مثل الطهور لما يتطهّر به ، والوضوء لما يتوضّأ به ، والفطور لما يفطر عليه ، والغسول لما يغتسل به ، أو يغسل به الشي‌ء ، وقوله عليه‌السلام : « هو الطهور ماؤه » ، أي هو الطاهر المطهّر قاله ابن الأثير ، قال : وما لم يكن مطهّرا فليس بطهور ، قال الزمخشري : « الطهور : البليغ في الطهارة » (٢) ، قال بعض العلماء : ويفهم من قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ، أنّه طاهر في نفسه مطهّر لغيره ، لأنّ قوله : « ماء » ، يفهم منه أنّه طاهر ، لأنّه ذكره في معرض الامتنان على العباد ، ولا يكون ذلك إلّا فيما ينتفع به ، فيكون طاهرا في نفسه ، وقوله : « طهورا » ، يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهوريّة.

وإنكار أبي حنيفة استعمال « الطهور » بمعنى الطاهر المطهّر غيره ، وأنّه لمعنى الطاهر فقط ، وأنّ المبالغة في « فعول » إنّما هي بزيادة المعنى المصدري كالأكول لكثير الأكل لا يلتفت إليه ، بعد مجي‌ء النصّ من أكثر أهل اللغة ، والاحتجاج بقوله : « ريقهنّ طهور » مردود ، بعدم اطّراده ، وأنّه في البيت للمبالغة في الوصف ، أو واقع موقع « طاهر » لإقامة الوزن ، لأنّ كلّ طاهر (٣) طهور ولا عكس ، ولو كان « طهور » بمعنى « طاهر » مطلقا ، لقيل : ثوب طهور ، وخشب طهور ، ونحو ذلك وهو ممتنع » انتهى عبارة المصباح المنير (٤).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠١ ، ب ١٦ من أبواب الوضوء ، ح ١ ـ التهذيب ١ : ٥٣ / ١٥٣.

(٢) الكشّاف ٣ ؛ ٢٨٤ ذيل الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) كذا وجدناه في المجمع ، والظاهر أنّ فرض النسبة كما ذكر تحريف من قلم الناسخ ، وإلّا فالاعتبار مع الشرط المذكور فيما بعد تقضيان انعكاس النسبة ، كما لا يخفى على المتدبّر ، (منه).

(٤) المصباح المنير ؛ مادة « طهر » : ٣٧٩.

٤٢

وعن القاموس : « الطهور » المصدر واسم ما يتطهّر به ، والطاهر المطهّر » (١) ، وعن الترمذي وهو من أئمّة اللغة ، أنّه قال : « الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية وهو المطهّر غيره » (٢) ، وفي الحدائق ـ عن بعض مشايخه ـ : « أنّ الشافعيّة نقلت ذلك عن أهل اللغة (٣) ، وعنه أيضا : « أنّه نقله عن الترمذي ، وعن المعتبر أنّه نقله عن بعض أهل اللغة » (٤).

وعن المصابيح ـ للسيّد مهدي ـ « أنّ المشهور بين المفسّرين والفقهاء وأئمّة اللغة أنّه بمعنى المطهّر أو الطاهر المطهّر » (٥).

قال الشيخ في التهذيب : « (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٦) ، فأطلق على ما وقع اسم « الماء » عليه بأنّه « الطهور » ، و « الطهور » هو المطهّر في لغة العرب ، فيجب أن يعتبر كلّما يقع عليه اسم « الماء » بأنّه طاهر مطهّر إلّا ما قام الدليل على تغيّر حكمه ، وليس لأحد أن يقول : إنّ « الطهور » لا يفيد في لغة العرب كونه مطهّرا ، لأنّ هذا خلاف على أهل اللغة ، لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل : هذا ماء طهور ، وهذا ماء مطهّر إلى آخر ما حكينا عنه آنفا » (٧).

ولا يذهب عليك أنّ غرض الشيخ من أهل اللغة هنا ليس همّ النقلة للمتون ، الذين عرفت ذكر جملتهم ، ليكون مقصوده فيما ادّعاه الاستناد إلى قولهم ، بل مراده به أهل لسان العرب ، بدليل قوله : « لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل : هذا ماء طهور ، وهذا ماء مطهّر » فإنّ ظاهره عدم الفرق بين اللفظين بحسب الاستعمال العرفي ، وانفهام العرف عند الإطلاق ، لأنّه إنّما يعلم بالاستعمال دون النصّ اللغوي كما لا يخفى ، فيكون قوله المذكور كقول غيره نصّا في أمر لغوي ، فيكون بنفسه مثبتا للّغة معتبرا في حقّ غيره.

ولا ينافيه ما تقدّم عنه في دفع كلام من أنكر ورود « طهور » لهذا المعنى ، استنادا إلى ما سبق ذكره من إناطة كونه لهذا المعنى بعلّة فاسدة وهو كونه من مقتضى الوضع المبالغي في « فعول » ، لعدم استناده في أصل الدعوى إلى هذه العلّة ، كما فهمه صاحب

__________________

(١) القاموس المحيط ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٧٩.

(٢ و ٦) الفرقان : ٤٨.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٧.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٧ ، المعتبر : ٧.

(٥) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) ، الورقة : ٩ ، نقله عنه في جواهر الكلام أيضا ١ : ٦٤.

(٧) التهذيب ١ : ٢١٤.

٤٣

المدارك (١) والمعالم (٢) ، وأوردا عليه : بكونه إثباتا للّغة بالاستدلال ، بل مستنده في ذلك ـ كما فهمه صاحب الحدائق (٣) وغيره ـ إنّما هو العرف ، وطريقة أهل اللسان الّذين عبّر عنهم بأهل اللغة ، وإنّما ذكر ذلك حكمة لكونه لهذا المعنى وعلّة له بعد الوقوع ، هدما لإنكار من أنكره ، غاية الأمر خطؤه في فهم ما ذكره من الحكمة ، ولا ريب أنّ خطأه في ذلك لا يقضي بخطئه في فهم أصل المعنى عن العرف ، ونحن نأخذ بفهمه هذا ونطرح فهمه الآخر لعلمنا بفساده.

وإلى ذلك ينظر ما ذكره ثاني الشهيدين في الروضة ـ عند شرح التعريف الّذي ذكره الشهيد الأوّل للطهارة شرعا ، وهو : « استعمال طهور مشروط بالنيّة » ـ فقال : « والطهور مبالغة في الطاهر ، والمراد منه هنا الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ، جعل بحسب الاستعمال متعدّيا ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي لازما كالأكول » (٤) ، فإنّ مراده بالاستعمال إنّما هو الاستعمال العرفي ، فيكون كلامه في موضع دعوى تحقّق النقل في تلك اللفظة عرفا عن المعنى اللازم اللغوي المبالغي إلى المعنى المتعدّي ، فهو أيضا نصّ في اللغة ، حكمه حكم نصّ من تقدّم من أئمّة اللغة.

ويوافقه في تلك الدعوى ما عن المعتبر (٥) وكنز العرفان (٦) من أنّ كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس غير موافق لمقتضى الاستعمال ، فإنّ ظاهر هما إرادة الاستعمال الحقيقي ، لأنّ الاستعمال المجازي في هذا المعنى ليس ممّا ينكره أحد ، حتّى أبي حنيفة الّذي ظاهر كلامه فيما أنكره إنّما هو الجري على مقتضى الأصل ، كما هو مناط حمل اللفظ المجرّد عن القرينة ، ولا ريب أنّ الاستعمال الحقيقي الّذي ادّعياه لا يكون إلّا من جهة النقل العرفي ، لاعترافهما بكون القياس اللغوي على خلافه ، فهو منهما أيضا بمنزلة النصّ اللغوي ، فيكون مسموعا.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ كلام هذين ـ ككلام ثاني الشهيدين ـ في دعوى النقل لا يخالف كلام من تقدّم من أئمّة اللغة ، فإنّ كلامهم وإن كان خاليا عن تلك الدعوى ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٧.

(٢) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٢٤٦.

(٥) المعتبر : ٧.

(٦) كنز العرفان ١ : ٣٨ ذيل الآية ٥٠ من سورة الفرقان.

٤٤

غير أنّه لا محيص من تنزيله إليها ، أو دعوى ابتنائه على تحقّق النقل ؛ لعدم انطباق المعنى المذكور على ما هو مقتضى القياس اللغوي في « فعول » بحسب ما ثبت فيه من الوضع النوعي بإزاء المعنى المبالغي ، أو المعنى الوصفي المعبّر عنه بلفظ « فاعل » ، والوجه ما تقدّم ، فلا بدّ وأن يستند هذا المعنى بوضع آخر لاحق بالوضع الأوّل النوعي ، متعلّق بلفظ « طهور » (١) بالخصوص ، ولا نعني من النقل إلّا هذا.

ويؤيّده أيضا : أنّ ما يذكره أهل اللغة ليس ممّا يتلقّونه عن الواضع الأوّل ، بل إنّما يأخذونه عن عرف أهل زمانهم ، بملاحظة الاستعمالات الدائرة فيما بينهم ، ومراجعة الأمارات الكاشفة عن أوضاعهم ، فيكون ذلك الّذي ذكروه للفظ « طهور » معنى عرفيّا مستفادا عن أهل اللسان ، لا معنى أصليّا مستفادا عن واضع أصل اللغة ، ولا ينافيه ما في تعبيرات بعضهم ـ فيما تقدّم ـ بقولهم : « في اللغة » ، لأنّ اللغة لها إطلاقات وهي في كلامهم عبارة عن عرف أهل اللسان ، أو الألفاظ المتداولة فيما بينهم المستعملة في محاوراتهم ، والنسبة بينها بهذا المعنى وبينها بمعنى عرف الواضع ، أو الألفاظ الموضوعة الّتي وصل وضعها منه عموم من وجه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

لا يقال : حمل كلامهم على هذا المعنى ، والتزام ابتنائه على تحقّق النقل ، ينفيه الأصل ، وقضيّة ذلك كون « طهور » بهذا المعنى واصلا عن الواضع ، ومعه لا معنى لدعوى النقل في تلك اللفظة.

لأنّ التزام النقل بملاحظة ما ذكرناه ممّا لا محيص عنه ، وإن قلنا بأنّ المتصدّي لوضعها بإزاء هذا المعنى هو الواضع ؛ لأنّ المفروض لحوق هذا الوضع بالوضع الأوّلي المتعلّق بالفعول نوعا ، فيكون اللفظ مخرجة عن مقتضى الوضع الأوّلي النوعي إلى المقتضى الوضع الثانوي ، من غير فرق بين كونه صادرا عن الواضع أو أهل العرف على

__________________

(١) لا يذهب عليك أنّ هذا النقل إنّما تحقّق في تلك اللفظة من جهات ثلاث.

أحدها : في مدلولها المادّي ، لصيرورته متعدّيا.

وثانيها : في مدلولها الهيئي بالنظر إلى المعنى الوصفي أو المبالغى ، وثالثها : في مدلولها الهيئي أيضا بالنسبة إلى ما أخذ فيه من النسبة ؛ لأنّ نسبة التطهير إنّما هي للمكلّف فاعتبرت هنا بالنقل للماء الّذي هو آلة بين المكلّف والتطهير ، فتأمّل ، (منه).

٤٥

سبيل التعيين أو التعيّن ، وإن كان أصالة التأخّر تقتضي كونه عن غير الواضع ، فالأصل المشار إليه ليس في محلّه ، فبما قرّرناه نجمع بين القياس اللغوي الجاري في تلك اللفظة ، ونصّ أئمّة اللغة الوارد على خلافه.

وبذلك يضعّف ما عن الزمخشري في الكشّاف من أنّه قال : « طهورا أي بليغا في طهارته ، وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره ، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة ، كان سديدا ، ويعضده قوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) ، وإلّا فليس « فعول » من التفعيل في شي‌ء » (٢) ، وما عن صاحب المغرب من قوله : « وما حكي عن ثعلب أنّ « الطهور » ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره » (٣) إن كان مراده بيان النهاية في الطهارة فصواب حسن ، وإلّا فليس فعول من التفعيل في شي‌ء ، وقياس هذا على ما هو مشتقّ من الأفعال المتعدّية كـ « منوع » و « قطوع » ليس بسديد.

وما عن الطراز : « أنّ فعولا ليس من التفعيل في شي‌ء ، وقياسه على ما هو مشتقّ عن الأفعال المتعدّية كمنوع وقطوع غير سديد » (٤) ، إلّا أن يكون المراد بذلك بيان كونه بليغا في الطهارة فهو حسن صواب ، إذا كانت الطهارة بنفسها غير قابلة للزيادة ، لترجع الزيادة إلى انضمام التطهير ، لا أنّ اللازم قد جاء متعدّيا.

ووجه الضعف ـ فيما ذكره هؤلاء ـ : منع انحصار طريق الجمع بين القياس وما ذكروه في معنى « الطهور » ـ من المعنى المتعدّي ـ في كون ذلك لبيان البلاغة في الطهارة ، ومنع ابتنائه على القياس على ما اشتقّ عن الأفعال المتعدّية أيضا ، بل هاهنا شقّ آخر وهو الابتناء على ما ذكرناه من الوضع الثانوي ، فإنّه هو الّذي لا محيص عن التزامه دون غيره من الاحتمالات السخيفة الغير المستقيمة.

كما يضعّف أيضا ما قيل : من أنّ من ذكر أنّه يراد بالطهور المطهّر ، أخذه من « الطهور » بمعنى ما يتطهّر به ، لا أنّ المراد بالطهور المطهّر وضعا ، إذ لا ريب في استفادة المطهّريّة منه على تقدير كونه اسما للآلة.

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) الكشّاف ٣ : ٢٧٦ ذيل الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) المغرب ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٢٠٩.

(٤) نقله عنه في مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٩.

٤٦

ووجه الضعف : أنّه ينافي كلماتهم المؤدّاة بطريق الحمل ، الظاهر في كون ذلك من مقتضى الوضع كما قرّر في محلّه ، كيف وهو ينافي تصريح كلام جملة منهم حيث ذكر « الطهور » بمعنى ما يتطهّر به مقابلا له بمعنى الطاهر المطهّر ، كما عرفته عن القاموس (١) وعن الأزهري حيث قال : « الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر ، وفعول في كلام العرب لمعان منها فعول لما يفعل به الخ » (٢) فتأمّل.

والعجب عن شيخنا في الجواهر في تقويته هذا الكلام ، بقوله : « وكيف كان فلا يخلو القول بإنكار كون « الطهور » بمعنى المطهّر وضعا من قوّة ، نعم هو يستفاد من كونه اسما لما يتطهّر به » (٣).

نعم ، ربّما يشكل تتميم الاستدلال بحمل الآية على هذا المعنى ، من جهة كون المقام بالنظر إلى ما قرّرناه من مسألة تعارض العرف واللغة كما لا يخفى ، ولا يضرّه احتمال كون الوضع الطاري أيضا من واضع اللغة ، بعد ملاحظة أصالة التأخّر.

لا يقال : الحمل على المعنى اللغوي ـ وهو ما يتطهّر به ـ لا ينافي الحمل على المعنى العرفي ؛ لكونهما متلازمين ، فلا تعارض بينهما في الحقيقة.

لأنّ المعنى اللغوي غير منحصر في ذلك ، بعد ملاحظة المعنى المبالغي والمعنى الوصفي ، فلا يتعيّن الحمل على ما لا ينافي المعنى العرفي على تقدير عدم الحمل عليه ، فما ذكرناه من الإشكال في محلّه ، إلّا أن يستفاد عن أهل اللغة أنّهم إنّما ذكروا هذا المعنى باعتقاد ثبوته عن قديم الأيّام ، وأقلّه ثبوته في زمن الشارع ، وليس ببعيد لو ادّعينا ذلك.

ثمّ هذا المعنى على تقدير ثبوته هل المطهّر أو الطاهر المطهّر؟ وهذا وإن لم يتعلّق به فائدة ، لرجوع كلّ إلى الآخر ، غير أنّ الظاهر كونه موضع خلاف ، وأقلّه اختلاف كلمات أهل اللغة في ذلك ، كما يظهر بالمراجعة إلى ما تقدّم ، ولكن لا يبعد ترجيح الثاني بملاحظة الغلبة في المنقولات العرفيّة ، فإنّ النقل على الأوّل من باب النقل عن اللازم إلى الملزوم ، وعلى الثاني من باب النقل عن العامّ إلى الخاصّ ، نظرا إلى أنّ

__________________

(١) القاموس المحيط ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٧٩.

(٢) تهذيب اللغة ٦ : ١٧٢.

(٣) جواهر الكلام ١ : ١٨٢.

٤٧

« الطهور » بمعنى « طاهر » قد يكون مطهّرا وقد يكون غير مطهّر ، فيكون الطاهر المطهّر فردا من الطاهر المطلق ، فتأمّل.

ومنها : ما اعتمد عليه في الرياض بعد الاعتماد على نصوص أهل اللغة ، فتمسّك في إثبات كون « طهور » لهذا المعنى ببعض الأخبار ، قائلا : « وإنكار وروده في كلام أهل اللغة بهذا المعنى ـ كما وقع لجماعة من متأخّري الأصحاب ـ لا وجه له ، بعد ملاحظة ما ذكرنا ، وخصوص صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ـ إلى قوله ـ وجعل لكم الماء طهورا » ، الحديث (١) ، مضافا إلى قولهم عليهم‌السلام ـ في تعليل الأمر بالتيمّم ـ : جعل الله التراب طهورا ، كما جعل الماء طهورا » (٢) (٣).

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ ورود لفظ في خطاب الشرع لا يصلح دليلا على المطلب المتعلّق باللغة ، كيف وأنّ قضيّة عدم دلالة الاستعمال على الحقيقة عندهم واضحة ، ولا سيّما في المتعدّد المعنى ، بل فيما ثبت له معنى حقيقي على التعيين وشكّ في غيره ، وإن أراد به الكشف عن المراد في الآية ، فهو ـ مع أنّه لا يظهر عن سياق العبارة ـ ممنوع أيضا ، لأنّ مجرّد استعمال لفظ في معنى لقرينة بل وكثرته أيضا لا يصلح قرينة على كونه مستعملا في هذا المعنى عند فقد القرينة ، إلّا أن يرجع إلى ما استظهرناه وقرّرناه سابقا ، فإنّه ليس بذلك البعيد ، كما يشهد به الذوق السليم.

ومنها : ما أفاده خالي العلّامة دام ظلّه (٤) ، بعد ما اعتمد على النصّ اللغوي ، من أنّه يظهر أيضا كون « الطهور » في الآية بمعنى الطاهر المطهّر من تتبّع أغلب موارد استعمال هذا اللفظ في الكتاب والسنّة ، فإنّ المراد منه في أغلب ما تكلّم الشارع به إنّما هو

__________________

(١) الفقيه ١ : ٩ / ١٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ، الوسائل ١ : ١٣٣ / ٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٨ ب ٢٣ من أبواب التيمّم ح ١ ، الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٢٣.

(٤) وهو العلّامة الفقيه السيّد رضي الدين القزويني ، قال العلّامة الطهراني في ترجمته : « ... وهو خال السيّد علي القزويني ، صاحب حاشية القوانين ... أنّ اسم والد المترجم له السيّد علي أكبر وأنّه كان ابن عمّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي صاحب (الضوابط) ... » (الكرام البررة ٢ : ٥٧٦) هذا ولكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف رحمه‌الله.

٤٨

الطاهر المطهّر ، وإن كان مع قرينة تدلّ عليه ، فيظنّ باعتبار تلك الغلبة أنّ المراد منه في الآية أيضا هو هذا المعنى ، وإن كان بلا قرينة ، ثمّ عقّبه بقوله : « فتأمّل ».

ويشكل ذلك أيضا ـ بعد تسليم أصل الغلبة ـ : بأنّ المدار في الخروج عن الظواهر عند العرف إنّما هو على القرائن المعتبرة لديهم ، ولم يظهر منهم أنّ مجرّد غلبة استعمال لفظ في معنى مع القرينة قرينة على إرادة هذا المعنى في موضع التجرّد عن القرينة ، بل الظاهر خلافه كما هو المصرّح به في كلام أهل الاصول ، فإنّ ظاهر اللفظ هو الحجّة المحكّمة نوعا ما لم يقم ظنّ معتبر بخلافه ، والظنّ الحاصل عن الغلبة المذكورة ـ على فرض تسليمه ـ ليس من الظنون المعتبرة ، كيف وأنّ مجرّد الغلبة المتحقّقة في الكتاب والسنّة غير كافية في إفادة الظنّ ، بل العبرة فيه بالغلبة المتحقّقة في قاطبة الاستعمالات الصادرة من الشارع في كافّة محاوراته ، لا في خصوص الكتاب والسنّة ، وأيّ طريق إلى إحراز تلك الغلبة.

ثمّ لو سلّمنا ثبوت هذه الغلبة ، فإن أفادت الظنّ بحيث أوجب إجمال اللفظ في نظر العرف وسقوطه عن الظهور ـ كما في المجاز المشهور على فرض تحقّقه ـ فهو لا يوجب إلّا التوقّف ، وإلّا فلا يترتّب عليه أثر أصلا في العدول عن الظاهر ، ولا سقوطه عن الظهور ، وعلى التقديرين لا وجه للعدول إلى خلاف الظاهر وحمل اللفظ عليه ، كما هو المطلوب ولعلّ قوله مدّ ظلّه : « فتأمّل » يشير إلى بعض ما ذكر.

ومنها : ما احتمله شيخنا في الجواهر (١) ، من القول بأنّه يراد المطهّريّة من « الطهور » ولو مجازا ، بقرينة قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (٢) ، وهو كما ترى أضعف الوجوه ، فإنّ الكلام المنفصل عن اللفظ لا يعدّ عندهم صارفة عن الظاهر ، إلّا إذا كان بظاهره معارضا لظاهر ذلك اللفظ ، وأيّ منافاة بين الآيتين إذا اريد بإحداهما إفادة حكم الطهارة المحضة ، وبالاخرى حكم المطهّريّة.

فالّذي يترجّح في النظر القاصر ـ بملاحظة جميع ما قرّرناه من النقوض والإبرامات ـ أنّ إثبات مطهّريّة الماء بآية « الطهور » ممّا لا سبيل إليه ، إلّا على ما قرّرناه

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ١٧٨.

(٢) تهذيب اللغة ٦ : ١٧٢.

٤٩

من جعل الخبرين المتقدّمين قرينة كاشفة ، بتقريب ما ذكر ـ إن تمّ ـ وأمّا ما عداه من الامور المذكورة فليس شي‌ء منها صالحا له.

نعم نصّ أهل اللغة في نفسه دليل محكم ، غير أنّ حاله في خصوص المقام كما عرفت ، إلّا على ما أشرنا إليه أيضا من استظهار كونهم فيما نصّوا به معتقدين بثبوته عن قديم الأيّام.

وقد شاع الاستدلال على أصل المطلب بعد الفراغ عن الاستدلال بالكتاب الاستدلال بجملة من الأخبار ، فعلى كون الماء طاهرا ، بما رواه المشايخ الثلاث بأسانيدهم عن الصادق عليه‌السلام قال : « الماء كلّه طاهر ما لم تعلم أنّه قذر » (١) ، وعلى كونه مطهّرا ، بما تقدّم من رواية داود بن فرقد عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من بول » إلى آخر ما تقدّم ذكره (٢) ، وهذا كما ترى في محلّه.

وربّما يكثر الاستدلال بما في الكافي عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الماء يطهّر ولا يطهّر » (٣).

وقد يعلّل الفقرة الثانية : بأنّه إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها ولم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير ، وإن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ، ولم يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء ، كذا عن الوافي (٤).

وفيه : ما فيه كما يظهر بأدنى تأمّل.

وأورد عليه : بأنّ قليل الماء إذا تنجّس كان تطهيره بالكثير من الجاري والراكد ، فلم يصدق أنّه لا يطهّر.

فدفع : بأنّ المراد يطهّر غيره ولا يطهّره غيره.

وقد يوجّه أيضا : بأنّه يطهّر كلّ شي‌ء حتّى نفسه ، ولا يطهّر من شي‌ء إلّا من نفسه ، فيعلّل : بأنّ التعميم في الأوّل أولى ، ثمّ يقال : وقد يخطر بالبال أنّه يمكن أن يستدلّ بهذا

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.

(٢) الفقيه : ١ : ١٠ ، ح ١٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ، الوسائل ١ : ١٠٠ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٥ ـ ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ، ٦ ، الكافي ٣ : ١ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٨ ـ المحاسن : ٥٧٠ / ٤.

(٤) الوافي ٦ : ١٨.

٥٠

الخبر على عدم نجاسة البئر بالملاقاة ، لأنّه لو نجس لكان طهره بالنزح ، والقول بأنّ الطهر بالماء النابع بعد النزح بعيد كما لا يخفى.

وفيه : أيضا ما لا يخفى.

وقد أورد على التوجيه المذكور أيضا : بأنّه على إطلاقه غير مستقيم ، لانتقاضه بالبئر ، فإنّ تطهيرها بالنزح ، والماء النجس يطهّر باستحالته ملحا ، والماء القليل إذا كان نجسا وتمّم كرّا بمضاف لم يسلبه الإطلاق ، فإنّه في جميع هذه الصور قد طهّر الماء غيره.

واجيب عن الأوّل : تارة : بأنّا لا نسلّم أنّ مطهّر البئر حقيقة هو النزح ، بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا ، بعد إخراج الماء المنزوح.

أقول : الّذي يختلج بالبال أنّه لا حاجة في دفع ما ذكر من الإشكال إلى هذا التكلّف ، بل يسهل دفعه بأن يقال : إنّ إسناد التطهير إلى الماء عند التحقيق مجاز ، لأنّه فعل يباشره المكلّف ، والماء آلة شرعيّة ، فحاصل معناه الحقيقي الّذي يباشره المكلّف ويخاطب به استعمال الماء على الكيفيّة المقرّرة في الشريعة ، ولا ريب أنّ استعمال الماء أعمّ من صبّه على النهج المعهود الّذي يسمّى بالغسل ، أو تقليله الّذي يعبّر عنه بالنزح ، فيصدق عليه أنّه تطهير ، ومن هنا يمكن توجيه الرواية بقراءة الاولى مشدّدا بصيغة المجهول ، والثانية كذلك بصيغة المعلوم ـ على عكس ما فهمه الجماعة ـ ويكون المعنى : أنّ الماء يقع عليه التطهير ، ولا يصدر عنه التطهير ، لأنّ التطهير فعل يصدر من المكلّف بواسطته ، لا أنّه يصدر منه.

واخرى : بمنع نجاسة البئر بالملاقاة حينئذ ، فأصل الاعتراض ساقط ، كذا حقّقه في الحدائق (١).

وعن الثاني : بأنّ الماء قد عدم بالكلّيّة ، فلم يبق هناك ماء مطهّر بغيره ، ومثله أيضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال بولا ، فإنّه يخرج عن الحقيقة الاولى إلى حقيقة اخرى.

وعن الثالث : بأنّه ـ بعد تسليم ذلك ـ لا يسمّى في العرف تطهيرا لاضمحلال

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٨.

٥١

النجس حينئذ ، فيصدق حينئذ أنّ الماء لا يطهّر.

وهذا أيضا ضعيف لأنّ المراد بالاضمحلال إن كان الانعدام الصرف أو استهلاك الماء في جنب المضاف ـ فمع أنّه ينافي الحسّ ، ويمتنع الانعدام الصرف ـ أنّه خلاف ما فرضه المورد ؛ لأنّه قيّد مورد النقض بماء لم يكن المضاف المتمّم له كرّا موجبا لسلب الإطلاق عنه ، ومعه لا معنى لفرض الانعدام أو الاستهلاك ، لصيرورة الجميع حينئذ مضافا صرفا ، وإن كان المراد ما عدا ذلك فهو ـ مع وجوده ـ إمّا طاهر في ضمن الجميع أو غير طاهر ، والأوّل محقّق للاعتراض ، والثاني خلاف فرض المعترض من كون التتميم بالمضاف مطهّرا.

وقد يناقش في أصل التمسّك بالرواية من حيث إنّها بنفسها معارضة لنفسها ، لمنافاة صدرها لذيلها ، بملاحظة العموم المستفاد من حذف المتعلّق فيها ، فمفادها صدرا وذيلا : « أنّ الماء يطهّر كلّ شي‌ء حتّى نفسه ، ولا يطهّر بشي‌ء حتّى بنفسه » ، وهما عمومان من وجه تعارضا ، فلا بدّ من التصرّف في أحدهما ، بأن يقال : الماء يطهّر كلّ شي‌ء إلّا نفسه ، أو أنّه لا يطهّر بشي‌ء إلّا بنفسه ، ولا ريب أنّ ارتكاب التخصيص في أحد العامّين ليس بأولى من ارتكابه في الآخر ، فيصير سبيل الرواية سبيل ما يطرئه الإجمال ، ومعه يسقط بها الاستدلال.

وفيه : ـ بعد تسليم أنّ حذف المتعلّق ممّا يفيد العموم ـ أنّه إنّما يفيده في موضع يليق به وليس المقام منه ، فإنّ الرواية بقرينة ما فيها من الجمع بين السلب والإيجاب واردة مورد الإهمال ، ومراد منها أداء المطلب على طريق الإجمال ، فقرينة المقام قائمة بعدم اعتبار العموم في كلّ من الجانبين ، وشاهدة باعتبار جزئيّة فيها إمّا في الإيجاب أو في السلب ، فلا تعارض فيها بين صدرها وذيلها ، حيث لا ظهور لها بالنسبة إلى أحد العمومين.

غاية الأمر أنّ ما اعتبر فيه الجزئيّة غير متعيّن ، وهو غير قادح فيما هو الغرض الأصلي هنا من الاستدلال بها ، وهو إثبات مطهّريّة الماء في الجملة ، لكن بالنسبة إلى ما يقبل التطهير لا بالنسبة إلى أفراد الماء ، حتّى ينافي ما تقدّم من عنوان المسألة ، حيث اعتبرناه على طريق الإيجاب الكلّي بالنسبة إلى المياه ؛ ضرورة أنّ هذا الغرض يتأتّى بكلّ من الاحتمالين إن أحرزنا العموم فيها بالنسبة إلى الماء ، ولو بقي عندك مناقشة في

٥٢

هذا العموم فهو كلام آخر لا مدخل له فيما ذكرته من المناقشة المقتضية لرميها بالإجمال المسقط للاستدلال.

فالحقّ أن يقال : إنّ الرواية بملاحظة ورودها مورد الإهمال ، بإرادة المهملة في إحدى قضيّتيها الّتي هي في قوّة الجزئيّة محتملة لوجوه كثيرة ، تبلغ إلى ستّة عشر وجها ، حاصلة بملاحظة الأربع الجارية في الصدر ، من جهة احتمالي التخفيف والتشديد ، في احتمالي المعلوم والمجهول في نفس تلك الأربع الجارية في الذيل.

ولا ريب أنّ كلّا من تلك الوجوه ـ مع ملاحظة ما ذكرناه من قرينة المقام ـ ممّا يصحّ إرادته من دون أن ينشأ منه محذور ، غاية ما في الباب أنّها في بعض تلك الوجوه تصير من أدلّة مطهّريّة الماء ، وفي بعضها الآخر تصير من أدلّة طهارته أو قبوله الطهارة بعد ما تنجّس ، والمفروض كون كلّ من الحكمين مطلوبا في المسألة ، فعلى أيّهما دلّت كانت دالّة على ما هو المقصود ، وإن كانت دلالتها على الحكم الأوّل ـ على تقدير الحمل على الوجوه المناسبة له ـ دلالة على تمام المقصود ، ولو من جهة اعتبارها تارة من حيث المطابقة ، واخرى من حيث الالتزام ، وعليك باستخراج تلك الوجوه مفصّلة ، واستفادة المعنى عن كلّ وجه على حسب ما يقتضيه القواعد العرفيّة في مثل هذه الهيئة التركيبيّة.

وإن شئت نشير إلى بعض تلك القواعد ، لتكون بمراعاتها على بصيرة وتدبّر ، فلو قيل لأحد : « احبّ مجيئك إيّاي ، ولا احبّ مجيئك إيّاي » ، فإنّما يقال به وبنظائره عرفا في كلّ موضع يكون موضوع القضيّة ذا حيثيّتين ، تعلّق به الإيجاب بالنظر إلى إحداهما والسلب بالنظر إلى الاخرى ، على نحو يكون مفاد المثال المذكور فرضا : « أنّي احبّ مجيئك لأنّي مشتاق إلى لقائك ، أو لأن أتبرّك بحضورك » ، ونحو ذلك ممّا يمكن فرضه ، « ولا احبّ مجيئك لأنّه تعب عليك ، أو مانعك عمّا هو أهمّ لك » ونحو ذلك ، وعلى هذا القياس باعتبارات شتّى ما لو قيل : « زيد يأكل ولا يأكل » ، « يشتغل ولا يشتغل » ، « يعطي ولا يعطي » ، وما أشبه ذلك إلى ما لا يعدّ ولا يحصى ، كما يظهر لمن تأمّل في العرفيّات.

فحينئذ لو حملنا الصدر والذيل في الرواية على كونهما معلومين مشدّدين كان الحكمان المختلفان من جهة اختلاف الحيثيّة في أصل الموضوع ، وذلك الاختلاف إمّا باعتبار اختلاف مواضع التطهير ، فإنّ منها ما يقبله ومنها ما لا يقبله ، أو من جهة اختلاف

٥٣

كيفيّات التطهير ، فإنّ كلّ كيفيّة قرّرها الشارع تطهّر ، وكلّ كيفيّة يخالفها لا تطهّر ، أو باعتبار اختلاف الخصوصيّات العارضة للماء من الخارج ، كالإباحة والغصبيّة بالقياس إلى رفع الحدث ، فإنّ المباح يرفعه والمغصوب لا يرفعه ، وهكذا إلى آخر ما فرض ، هذا على احتمال التشديد فيهما ومثله تجري على احتمال التخفيف فيهما.

فحينئذ إمّا أن يرجع الطهر وعدمه إلى نفس الماء فلا حذف معه ، أو إلى شي‌ء آخر بواسطته فيلزمه الحذف ، ويكون المعنى : « الماء يطهّر به الشي‌ء ولا يطهّر به الشي‌ء » ، فعلى الاحتمالين يجري فيهما من القاعدة نظير ما فرضناه فلاحظ ، وافرض ما شئت هذا على قراءة المعلومين ، وكذلك على قراءة المجهولين مع التشديد أو التخفيف ، وأمّا على الاختلاف في المعلوميّة والمجهوليّة فمفاد القضيّة عرفا نظير ما تقدّم الإشارة إليه عنهم في دفع الإيراد الأوّل على الرواية.

هذا مضافا إلى ما أشرنا إليه سابقا ، بناء على هذا الاحتمال من كون ذلك لبيان اختلاف النسبة في الحقيقيّة والمجازيّة ، ولكنّه مبنيّ على فرض الأوّل مجهولا والثاني معلوما كما عرفت ، فإنّ النسبة في الأوّل حقيقيّة وفي الثاني مجازيّة واردة من باب الإسناد إلى السبب بتقريب ما تقدّم ، مع ما يحتمل في عكس هذا الفرض من كون القضيّة في الثاني من باب السالبة المنتفية الموضوع ، مرادا بها بيان طهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة ، فليس ينجّس حتّى يطهّر أو يحتاج (١).

وبالجملة : فلا إشكال في مفاد الرواية من حيث اشتمالها على النفي والإثبات الواردين على موضوع واحد ، فلا وجه لرميها بالإجمال من هذه الجهة ، كما لا وجه للحكم عليها بالمطروحيّة كما في رياض السيّد (٢).

وأمّا الإشكال من جهة اخرى ، كقصورها عن إفادة العموم في أفراد الماء ـ على فرض توجّهه ـ فهو شي‌ء آخر غير ما ذكروه.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما عرفت من الأدلّة على مطهّريّة الماء حتّى ـ آية الطهور إن تمّت دلالتها ـ فإنّما تنهض دليلا على نفس المطهّريّة ولو في جميع أفراد الماء ، وأمّا

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣٣.

٥٤

موضع التطهير وما يرتفع به من النجاسة وكيفيّته وشروطه وآدابه فتبقى مستفادة من الخارج ؛ لكون تلك الأدلّة ساكتة عن التعرّض لها نفيا وإثباتا ، وورودها مورد حكم آخر ، فلو شكّ حينئذ في شي‌ء أنّه هل يقبل التطهير بالماء كالأدهان المتنجّسة؟ أو في نجاسة أنّها هل ترتفع بالماء وحده كولوغ الكلب؟ أو في تطهير نجاسة أنّه هل يعتبر فيه التعدّد كالبول؟ أو يعتبر فيه النيّة أو إباحة الماء أو المباشرة؟ كغسل الثوب للصلاة ، فلا يمكن التمسّك لاستعلامه بالآية ولا غيرها عموما ولا إطلاقا ، إذ لم يؤخذ شي‌ء ممّا ذكر عنوانا فيها ، فلا يعقل معه بالنسبة إليه حينئذ عموم أو إطلاق ، وإنّما الّذي عنون في صريح تلك الأدلّة هو حكم المطهّريّة القائمة بالماء ، والعموم بالقياس إليه ثابت ، فحينئذ لو شكّ في فرد من أفراده بعد إحراز الفرديّة وصدق الاسم عليه أنّه هل يصلح لكونه مطهّرا ورافعا للخبث أو الحدث ـ كالماء المستعمل في رفع الحدث من وضوء أو غسل ، أو في رفع الخبث كما في الاستنجاء على القول بعدم انفعاله ، كما هو المجمع عليه بشروطه الآتية ـ يحكم بصلوحه له ، استنادا إلى عموم الآية أو إطلاقها أو غيرها من الأدلّة المتقدّمة بلا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه.

فتقرّر عندنا بما أثبتناه من الحكمين قاعدتان كلّيّتان يجدي الرجوع إليهما في مواضع الشك والشبهة ، إحداهما : طهارة الماء بجميع أفراده عدا ما خرج منها بالدليل ، واخراهما : مطهّريّته كذلك إلّا ما أخرجه الدليل ، فليكن ذلك على ذكر منك ليجديك في كلّ موضع وجدتنا نتمسّك بالأصل على الطهارة أو المطهّريّة في شي‌ء ، فإنّ مرادنا به إنّما هو إحدى القاعدتين.

* * *

٥٥

ينبوع

ما عرفت من الحكمين الكلّيّين إنّما يلحقان الماء ما دام باقيا على خلقته الأصليّة وصفاته الأوّليّة كما تقدّم الإشارة إليه ، والسرّ في هذا القيد أنّه قد يطرئه بعنوانه الكلّي على النهج المتقدّم من غير استثناء شي‌ء ما يقابل الحكمين لعارض التغيّر من جهة النجاسة ، فيحكم بنجاسته حينئذ وعدم صلوحه للمطهّريّة إلى أن يثبت لها مزيل شرعي ، وكان ذلك أصل ثانوي ورد على الأصل الأوّلي الدائر بين الحكمين ، ولا تعارض بينهما لورود كلّ موضوعا غير موضوع الآخر كما عرفت ، وفائدتهما أنّه لو شكّ في نجاسة فرد من المتغيّر يلحق بالثاني لانتفاء موضوع الأوّل ، كما أنّه لو شكّ في فرديّة شي‌ء للمتغيّر يلحق بالأوّل لعدم كون موضوع الثاني محرزا ، وكيف كان فتحقيق القول في هذا العنوان يستدعي رسم مطالب :

المطلب الأوّل :

إذا تغيّر الماء مطلقا بسبب النجاسة في أحد أوصافه الثلاثة ، أعني اللون والطعم والرائحة ، فقال الأصحاب ـ قولا واحدا في الجملة ـ : بأنّه ينجّس ، وعليه نقل الإجماعات فوق حدّ الكثرة ، وفي الدلائل (١) : « كونها فوق حدّ الاستفاضة » ، وفي الجواهر (٢) : « أنّها كادت تكون متواترة » ، وفي الحدائق (٣) : « نفي الخلاف والإشكال عنه » ، وفي [حاشية الإرشاد (٤)] : « لا خلاف فيه » ، وفي الرياض (٥) : « بالإجماع

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٩٠.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٨.

(٤) وفي المصدر [حد]. والمظنون أنّ المراد منه حاشية الارشاد كما أثبتناه في المتن ، ولكنّا.

(٥) رياض المسائل ١ : ١٣٣.

٥٦

والنصوص المستفيضة العاميّة والخاصّيّة » ، وفي المنتهى (١) : « أنّه قول كلّ من يحفظ عنه العلم » ، وعن المعتبر (٢) : « أنّه مذهب أهل العلم كافّة » ، وعن السيّد في الناصريّات (٣) : « إجماع الشيعة عليه » ، وفي [حاشية الإرشاد] : « الأخبار في الأخيرين متواترة وفي الأوّل مستفيضة » ، وممّا يؤيّد الإجماع أنّ المسألة غير معنونة في مختلف العلّامة مع أنّه موضوع لذكر خلافيّات الشيعة.

وبالجملة : لا يعرف فيه خلاف لا من العامّة ولا من الخاصّة ، عدا ما يظهر من سيّد المدارك من التشكيك في الأوّل في مسألة عدم انفعال البئر بالملاقاة ، محتجّا عليه بما يأتي من قول الرضا عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » (٤) ، فقال ـ في جملة أجوبته عن الاعتراض على الحجّة المذكورة بأنّ الحصر المستفاد منه متروك الظاهر ، للقطع بنجاسة الماء مطلقا بتغيّر لونه ـ : « وثانيا : بأنّا لم نقف في روايات الأصحاب على ما يدلّ على نجاسة الماء بتغيّر لونه ، وإنّما الموجود فيها نجاسته بتغيّر ريحه أو طعمه كما في صحيحتي أبي خالد القمّاط (٥) ، وحريز بن عبد الله عن الصادق عليه‌السلام (٦) ، وما تضمّن ذلك عامّي مرسل ، فإن لم يثبت ما ذكرناه من الملازمة أو الأولويّة أمكن المناقشة في هذا الحكم » (٧).

وقوله : « ما تضمّن ذلك عاميّ مرسل » يشير به إلى ما يأتي من النبوي المرسل ـ المدّعى انجباره بالعمل ـ : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٨) ، ومراده بالملازمة والأولويّة ما أشار إليهما أوّلا : ـ في جملة الأجوبة عن الاعتراض المذكور ـ : « من أنّ تغيّر اللون مقتض لتغيّر الطعم ، ومع ثبوت الملازمة ينتفي المحذور ، أو يقال : إنّه إذا ثبت نجاسة الماء بتغيّر طعمه أو ريحه وجب القطع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٠.

(٢) المعتبر : ٨.

(٣) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٥).

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٢٧ ، باب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢ ، الاستبصار ١ : ٩ / ١٠ ، الوسائل ١ : ١٠٣ ب ...من أبواب الماء المطلق / ٤.

(٦) الكافي ٣ : ٣ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ، الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ، الوسائل ١ : ١٠٢ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٥٧.

(٨) عوالي اللآلي ٣ : ٩ / ٦.

٥٧

بنجاسته بتغيّر لونه لأنّه أظهر في الانفعال » (١).

وتبعه بعده في تلك المقالة شيخنا البهائي في كلام محكيّ عنه في حبل المتين ، فقال : « وما تضمّنه الحديث الثاني والثالث ـ يعني بهما الصحيحتين اللتين أشار إليهما السيّد من نجاسة الماء بتغيّر ريحه أو طعمه بالنجاسة ـ ممّا لا خلاف فيه ، ويدور على ألسنة الأصحاب أنّ تغيّر لونه أيضا كذلك ؛ ولم أظفر به في أخبارنا صريحا ، وما ينقل من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) ، فخبر عامّي مرسل ».

ثمّ قال : « ولو قيل إنّ تغيّر اللون بذي طعم أو ريح لا ينفكّ عن التغيّر بأحدهما لم يكن بعيدا ، بل ربّما يدّعى أنّ انفعال الماء بلون النجاسة متأخّر في المرتبة عن انفعاله بريحها أو طعمها فاستغنى بذكرهما عن ذكره » (٣).

وتبعهما في ذلك كلّه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، حيث قال : « واعلم أنّ الروايات المتقدّمة خالية عن التعرّض للّون ، سوى رواية العلاء بن الفضيل (٤) ، فإنّها بمفهومها تدلّ على نجاسته بتغيّر اللون ، لكنّها ضعيفة بمحمّد بن سنان ، ونقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون ولا يصلح أيضا للتعويل ، وذكر بعضهم أنّ تغيّر الريح والطعم أسرع من تغيّر اللون ، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون عن تغيّرهما ، فلا ثمرة في التعرّض له ووجهه غير ظاهر ، وقد يستنبط اعتبار اللون من قوله عليه‌السلام ـ في صحيحة حريز المتقدّمة ـ : « فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم » (٥) ، وفيه : أيضا إشكال ، وقد يتمسّك فيه بما قاله ابن أبي عقيل : أنّه قد تواتر عن الصادق وعن آبائه عليهم‌السلام : أنّ الماء طاهر لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٦) ، والظاهر أنّ انضمام هذه الامور بعضها مع بعض مع اعتضادها بالإجماع يكفي في الحكم » الخ (٧).

__________________

(١) المدارك ١ : ٥٧.

(٢) عوالي اللآلي ٣ : ٩ / ٦.

(٣) الحبل المتين : ١٠٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق / ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٠٢ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٦) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٧) مشارق الشموس : ٢٠٣.

٥٨

ومحصّل ما أفاده رحمه‌الله أنّه وافق السيّد والشيخ في القدح في سند النبويّة المرسلة ، فأشار إليه بقوله : « ونقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون ولا يصلح أيضا للتعويل » ، وخالفهما في استظهار الحكم ممّا ذكره أخيرا ، وحذا حذوه صاحب الحدائق وإن خالفه في الاستناد للحكم إلى جملة من أخبار أصحابنا ، فإنّه بعد ما نقل كلام السيّد المتقدّم في القدح على سند الرواية المتقدّمة ، قال : « والحقّ أنّه كذلك ، فإنّا لم نقف عليه في شي‌ء من كتب أخبارنا بعد الفحص التامّ ، وبذلك صرّح أيضا جمع ممّن تقدّمنا » (١).

وبالجملة : فهؤلاء الأجلّاء متّفقون على القدح في الرواية المذكورة وإن اختلفوا في المذهب ، فالأخيران وافقا المعظم في أصل الحكم ، غير أنّ الأوّل منهما قال به على سبيل الظنّ ، والثاني على سبيل الجزم كما لا يخفى على من لاحظ عبارته في الحدائق ، وأمّا الأوّلان فظاهر هما إنكار أصل الحكم.

ويمكن أن يقال : بأنّ السيّد لا يظهر منه المخالفة بناء على ما ادّعاه من الأولويّة ، وإن كان ما قرّره من الملازمة يدعوه إلى المخالفة ، وكيف كان فقد تقرّر بجميع ما ذكر أنّ هاهنا كلامين :

أحدهما : دعوى الملازمة بين تغيّر اللون وغيره ، وبعدها دعوى الأولويّة اللتين عرفتهما من السيّد ، ووافقه شيخنا البهائي على الاولى ، وإليهما ينظر ما في الحدائق من قوله : « ولعلّ السرّ في اشتمال أكثر الأخبار على التغيّر الطعمي أو الريحي دون اللوني أنّ تغيّر الطعم والريح أسرع من تغيّر اللون ، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون من تغيّرهما ، ولا ثمرة في التعرّض له حينئذ » (٢).

وثانيهما : الطعن على سند النبوي المشار إليه ، وينبغي النظر في صحّة هذين الكلامين وسقمهما.

أمّا الملازمة : فغاية ما يمكن أن يقال في تقريرها ـ على وجه يكون عذرا لخلوّ الأخبار أو أكثرها عن التعرّض لذكر تغيّر اللون ـ : أنّ تغيّر اللون بالقياس إلى أخويه بمنزلة الخاصّ في مقابلة العامّ ، فبينه وبينهما عموم وخصوص مطلق ولكن من حيث

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٠.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.

٥٩

المورد لا المفهوم ؛ فإنّ تغيّر اللون حيثما وجد فقد وجد معه تغيّر الطعم والرائحة أيضا ، فهو لا ينفكّ عنهما بخلافهما لانفكاكهما عنه ، فلهما فردان ، أحدهما : ما اقترن منهما مع تغيّر اللون ، وثانيهما : ما انفكّ منهما عن تغيّر اللون.

فإذا اريد بهما في الأخبار ما يعمّ القسمين كان تغيّر اللون ممّا استغنى عن ذكره ، كما أنّ ذكر العامّ ممّا يستغني به عن ذكر الخاصّ لتناوله الخاصّ وغيره.

وفيه أوّلا : أنّه ينافي فتاوي الأصحاب الظاهرة بل الصريحة في استقلال كلّ من الثلاثة في السببيّة لتنجّس الماء.

وتوضيح ذلك : أنّ تغيّر الطعم والريح إذا صادفهما تغيّر اللون أيضا فإمّا أن يستند السببيّة إلى المجموع على نحو الشركة ، أو إلى تغيّر الطعم والريح فقط وكان تغيّر اللون كالحجر في جنب الإنسان ، أو إلى تغيّر اللون وحده وكان تغيّر الطعم والريح كما ذكر ، ولا سبيل إلى شي‌ء منها.

أمّا الأوّل : فلمنافاته أوّلا : صريح فتاوي الأصحاب في الدلالة على كون كلّ سببا مستقلّا.

وثانيا : لما يراه مدّعي الملازمة من كون تغيّر الطعم والريح مستقلّين في السببيّة ، ولذا يقول بجواز انفكاكهما عن تغيّر اللون.

وأمّا الثاني : فلمنافاته صريح الفتاوي.

وأمّا الثالث : فلمنافاته صريح الفتاوي ، وما يراه مدّعي الملازمة.

وثانيا : منع كون النسبة بينه وبينهما كما ذكر ، بل الّذي يقتضيه التدبّر : أنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه ، فإنّ النجاسات مختلفة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ، والصور المتصوّرة سبع ، فإنّ منها ما هو ذو اللون فقط ، ومنها ما هو ذو الطعم فقط ، ومنها ما هو ذو الرائحة فقط ، ومنها ما هو ذو اللون والطعم دون الرائحة ، ومنها ما هو ذو اللون والرائحة دون الطعم ، ومنها ما هو ذو الطعم والرائحة دون اللون ، ومنها ما هو ذو اللون والطعم والرائحة ، فكلّ يفترق عن صاحبه ، وأكثر تلك الصفات تتلاحق البول باختلاف أحواله على ما هو المشاهد ، وأظهر أفراد افتراق ذي

٦٠