ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

والمحكيّ عن فقه الرضا قال عليه‌السلام : « وماء الحمّام سبيله الماء الجاري إذا كانت له مادّة » (١). وجه الاستدلال بها واضح بعد حمل مطلقها على مقيّدها ، وقضيّة ذلك عدم انفعال ماء الحمّام ـ أي ما في حياضه الصغار الغير البالغ كرّا ـ بمجرّد الملاقاة عند اتّصاله بالمادّة.

وربّما يقال : بأنّ في تنزيله منزلة الجاري في خبر ابن سرحان ، وتشبيهه بماء النهر في خبر ابن أبي يعفور ، إشعارا باعتبار المادّة ، لأنّ لكلّ من الجاري والنهر مادّة فلا حاجة فيهما إلى إعمال قاعدة الحمل.

وفيه : أنّ التشبيه لا يقتضي المشاركة في مناط الحكم ، بل غايته المشاركة في أصل الحكم وإن تغاير في المشبّه والمشبّه به ، ألا ترى أنّه لو قيل : « زيد كالأسد » لا يقتضي إلّا المشاركة في الشجاعة ، نعم يمكن الاستناد في اعتبار ذلك في المطلقات إلى الغلبة كما توهّم ، إذ الغالب في الحمّامات وجود المادّة وأمّا ضعف أسانيد جملة منها فمجبور بالعمل في الجملة ، فلا يعبأ بما في المدارك (٢) من القدح في سند رواية بكر بن حبيب لجهالة بكر.

مضافا إلى أنّ من رجال السند صفوان بن يحيى ، فلا ضير في ضعف من قبله ، وقد يوصف السند بالحسن ، ولعلّ وجهه ما استظهره بعض مشايخنا (٣) من احتمال كون بكر بن حبيب هنا هو بكر بن محمّد بن حبيب ، وقد ذكر في ترجمته ما تدلّ على حسنه ، وربّما نقل (٤) عن الكشّي توثيقه وإن أنكره بعضهم ، ولكن الاستظهار غير واضح الوجه ، وقد يؤيّد السند ـ مضافا إلى ما ذكرنا في صفوان ـ بما عن الشيخ في العدّة من أنّه قال في حقّه : « أنّه لا يروي إلّا عن ثقة » (٥).

وفيه : أنّ صفوان يرويه هنا عن ابن حبيب بواسطة منصور بن حازم ، فأقصى ما يقتضيه ما ذكر هنا وثاقة الواسطة ـ مع عدم الحاجة في ثبوت وثاقته إلى ذلك لكونه بنفسه ثقة جليلا ـ لا وثاقة ابن حبيب ، إلّا أن يقال بذلك فيه أيضا من جهة رواية منصور عنه ، نظرا إلى ما قيل فيه : « من أنّه ثقة عين صدوق ، من أجلّة أصحابنا

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٤.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ١٠٠.

(٤) وفي منتهى المقال عن تعليقات الشهيد الثاني على الخلاصة : « قال ابن داود نقلا عن الكشّي : إنّه إمامي ثقة انتهى. ولم أجده في الكشّي » ـ منتهى المقال ١ : ١٧٢ ـ رجال ابن داود : ٥٨ الرقم ٢٦٤ ـ تعليقات الشهيد على خلاصة الأقوال : ١٦.

(٥) عدّة الاصول ١ : ١٥٤.

٤٤١

وفقهائهم ، له كتب منها : اصول الشرائع » (١) ، فجلالة شأنه وفضله وعلوّ رتبته يأبى عن روايته عمّن لا يوثق به ، أو روايته ما لا ينبغي الوثوق عليه ، فأقلّه كون الرواية ممّا يوثق به ويعتمد عليه وإن لم يكن الراوي بنفسه على تلك المثابة ، لجواز احتفاف الرواية بقرينة الخارج ، وبالجملة : فأصل الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا كلام ، فلا ينبغي إطالة الكلام في إقعاده وتتميم الدليل عليه ، بل اللائق بالبحث جهات اخر متعلّقة بموضوع المسألة ، وقد تكلّم فيها الأصحاب واختلفت أقوالهم فيها.

الجهة الاولى : أنّهم اختلفوا في اشتراط الكرّيّة في المادّة على قولين :

أحدهما : كونها شرطا وعزّاه غير واحد إلى الأكثر ، وربّما يعزى إلى العلّامة في التحرير (٢) اعتبار زيادة المادّة على الكرّيّة ، ولكنّه غير واضح الوجه ، فلذا حمله ثاني الشهيدين (٣) والمحقّق الثاني (٤) ـ على ما حكي عنهما ـ على اعتبار ذلك في تطهير الحوض الصغير على فرض تنجّسه.

وربّما يتأمّل في نسبته اعتبار الكرّيّة أيضا إلى الأكثر ، بل عن كشف اللثام (٥) أنّه نقل عن الجامع (٦) ـ وحده ـ موافقة العلّامة على الاشتراط ، حاملا لتلك النسبة على كون المراد من الأكثر أكثر من تأخّر عن المحقّق ، المصرّح بعدم الاشتراط لإطلاق النصوص والفتاوى ، قائلا : « بأنّ ظاهره أنّ الفتاوي مطلقة ».

وثانيهما : عدم كونها شرطا صرّح به المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا : « ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها ، لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان » (٧) وهو ظاهر إطلاق كلامه في كتابيه الشرائع (٨) والنافع (٩) ، وعزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه ، بل عن الشيخ جعفر في ـ محكيّ بعض تلامذته ـ دعوى الإجماع عليه من القائلين باشتراط الكرّيّة ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤١٣.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٣) روض الجنان : ١٣٧.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١١٣ حيث قال : « وينبغى التنبيه بشي‌ء وهو أنّ المادّة لا بدّ أن تكون أزيد من الكرّ ، إذ لو كانت كرّا فقط لكان ورود شي‌ء منها على ماء الحمّام موجبا لخروجها عن الكرّيّة فيقبل الانفعال حينئذ »

(٥) كشف اللثام ١ : ١٢٠.

(٦) الجامع للشرائع : ٢٠ مع اختلاف في العبارة.

(٧) المعتبر : ٩.

(٨) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٩) المختصر النافع : ٤١.

٤٤٢

حاملا لإطلاق كلامهم في اشتراط الكرّيّة في المادّة على التطهير بعد تنجّس ما في الحياض ، ولإطلاق كلامهم أيضا في كفاية مجموع ما في المادّة والحوض والمجرى على عدم قبول النجاسة بالملاقاة ، فالفريقان اتّفقا على لزوم كرّيّة المادّة للتطهير ، والاكتفاء بكرّيّة المجموع لدفع الانفعال مع اختياره إيّاه.

وللشيخ عليّ في حاشية الشرائع تفصيل في المسألة ، حيث قال : « وينبغي تنقيح المبحث بأنّ المادّة إمّا أن يكون سطوحها مساويا لسطوح الحوض ، أو أعلى ، أو أخفض ، فإن كان مساويا وهما معا طاهران كفى لدفع النجاسة وعدم الانفعال عنها بالملاقاة كون الماءين معا كرّا ، وإن كان سطوح الماء أعلى اعتبر في زمان اتّصال مائها بماء الحوض وتسلّطه عليه بلوغها الكرّيّة ، وهذا إنّما يكون إذا كانت في الأصل أزيد من كرّ ، وإن كانت سطوحها أخفض اعتبر مع هذا فوران المادّة من تحت الحوض بقوّة ودفع ، بحيث تظهر عامليّتها فيه ، فلو كان اتّصالها به إنّما هو اتّصال مماسّة أو يجري إليه ترشّحا لم يعتدّ بها » (١).

حجّة القول الأوّل : أنّه عند عدم بلوغ المادّة كرّا يصدق عليه أنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، فيشمله ما دلّ على انفعال القليل.

وقد يؤيّد ذلك أو يستدلّ عليه بانصراف نصوص الحمّام إلى ما هو الغالب فيه من كون مائها كرّا بل أزيد ، مع أنّ في رواية ابن أبي يعفور « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٢) إشارة بل دلالة على أنّ العاصم له هي الكثرة لا مجرّد المادّة.

واجيب عن الأوّل : بمنع ما ادّعي من الصدق مع بلوغ المجموع كرّا.

ويشكل ذلك : بأنّه لا يجدي نفعا في عدم الانفعال إلّا مع صدق الوحدة على المجموع ، والمراد به صدق قضيّة قولنا : « هذا الماء كرّ » ليشمله منطوق قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (٣) وهو في حيّز المنع جدّا ، ضرورة عدم وقوع اسم الإشارة بصيغة المفرد على ما في الحوض مع ما في المادّة ولو حال اتّصالها به ،

__________________

(١) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ ١.

٤٤٣

فلا يقال عليهما عرفا : « إنّ هذا ماء » بل لو قيل ذلك مع انكشاف المراد كان مستهجنا ، بخلاف ما لو قيل : « هذان أو هذا وهذا ». ولا ريب أنّ كلّا منهما دليل التعدّد ، ومعه لا يندرج المجموع في منطوق « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ». إلّا أن يقال : بأنّ العبرة في المقام صدق عنوان المائيّة على المجموع مع وقوع اسم الكرّ على ما صدق عليه ذلك العنوان ، لا بوقوع اسم الإشارة عليه بصيغة المفرد ، وعدم وقوع لفظة « هذا » على المجموع من جهة أنّها بحسب الوضع أو الاستعمال مخصوص بما هو ملزوم للوحدة والفرديّة ، وهو الجزئي الخارجي من المشار إليه ، بخلاف لفظة « الماء » لكونها بحسب الوضع للجنس المعرّى عن وصفي الوحدة والكثرة ، فتصدق اللفظ من جهته على الواحد والاثنين وما زاد ، فيتبعه لفظ « الكرّ » في صدقه على ما صدق هو عليه.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الحكم إنّما يتبع الظهور والصدق إذا كان الظهور من مقتضى الهيئة التركيبيّة المأخوذة في الخطاب ، ولا ريب أنّها قد تكون ظاهرة في خلاف ما اقتضته مفرداتها باعتبار أوضاعها الأفراديّة فلفظ « الماء » وإن فرضناه صادقا بنفسه على ما عدا الواحد أيضا ، لكنّ الهيئة التركيبيّة في قوله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » تنصرف عرفا إلى صورة الاتّحاد.

فالأولى أن يقال في الجواب : إنّ قولكم : يصدق عليه أنّه « ماء قليل لاقى نجاسة » إمّا أن يراد منه صدقه على المجموع ، أو على المادّة وحدها ، أو على ما في الحوض وحده ، ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ مبنى صدق كونه ماء قليلا على عدم اعتبار الوحدة في صدق قضيّة المفهوم من الرواية ، وإذا جاز ذلك هنا جاز في المنطوق أيضا على تقدير بلوغ المجموع كرّا ، فلا ملازمة بين قصور المادّة عن الكرّ وصدق القليل الملاقي للنجاسة على المجموع على التقدير المذكور.

ولا إلى الثاني ، لمنع صدق الملاقاة للنجاسة على المادّة ولو بالمعنى الأعمّ المتنجّس ، ضرورة كونها حال الاتّصال ملاقية لما في الحوض ، وهو إن لم يكن طاهرا بملاحظة النصّ الغير الفارق بين كرّيّة المادّة وعدمها ، فلا أقلّ من كونه مشكوك الحال بملاحظة الشكّ في اعتبار كرّيّة المادّة وعدمها ، ومعه لا يحكم عليه بالنجاسة جزما ، فكيف يقال : بأنّ المادّة حينئذ ملاقية للنجاسة أو المتنجّس ، وإنّما هي ملاقية لما يحكم

٤٤٤

عليه في ظاهر الشرع بالطهارة.

ولا إلى الثالث ، لأنّ اعتبار الكرّيّة فيها إمّا مع البناء على صدق الوحدة على المجموع منها وممّا في الحوض ، أو مع البناء على عدمه.

فعلى الأوّل : يرجع قضيّة الاشتراط إلى اعتبار الزيادة على الكرّ لدفع الانفعال في الماء الواحد ، وهو ممّا لا قائل به ، ولم ينهض عليه دليل ، ولا اقتضاء أدلّة الكرّ أيضا ، نعم ربّما يحكى في الأخبار ما يوهمه كما في الرضوي ـ المحكيّ ـ « وكلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) ولكنّه ليس بظاهره اتّفاقا على تقدير ثبوت العمل به ، بل محمول على إرادة معنى « كرّ فما زاد » أو « كرّ فصاعدا » كما في كثير من العبارات ، ويراد به إناطة العاصميّة بالكرّيّة زاد عليها أو لا.

وعلى الثاني : يرجع الكلام إلى إناطة اعتصام الماء القليل عن الانفعال باتّصاله بالكرّ وإن لم يكن جزءا منه ، كاعتصامه باتّصاله بالجاري ، وهو وإن لم يكن منافيا للتشبيه والتنزيل الواردين في جملة من الأخبار المتقدّمة ، ولا ظهور تلك الأخبار في امتياز ماء الحمّام عن سائر المياه ، واشتماله على مزيّة لا توجد فيها ، حيث إنّ اعتصامه عن الانفعال يحصل بمجرّد الاتّصال وإن لم يكن بنفسه كرّا ولا جزء من الكرّ ، بخلاف غيره ، فإنّ المعتبر في اعتصامه بلوغه كرّا ، ولا يكفي فيه مجرّد الاتّصال إلّا مع صدق قضيّة الاتّحاد.

ولكن الاستناد في استفادة ذلك الحكم إلى قاعدة انفعال القليل أو قاعدة اعتبار الكرّيّة باطل جدّا ، لأنّ هاتين القاعدتين لا تقضيان إلّا الاعتصام في نفس الكرّ لا فيما يتّصل به وهو ليس منه ، كما أنّه لو اريد استفادته عن أخبار الباب كان أوضح فسادا من الأوّل ، لأنّ هذه الأخبار إن لم تكن نافية لاعتبار الكرّيّة بالمرّة ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ، نظرا إلى إطلاقها ـ فلا أقلّ من عدم كونها مثبتة لاعتبارها.

وبالجملة : هذا القول ممّا لم يعرف له مستند صحيح ، وما جعل مستندا له فاسد الوضع في كلّ محتملاته.

وأمّا دعوى : الانصراف إلى الغالب ، فقد يجاب عنها : « بمنع حصول الغلبة إلى حدّ بحيث يكون الأقلّ من كرّ ـ ولو قليلا ـ من الأفراد النادرة بحيث لا يشمله اللفظ ، ولو

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

٤٤٥

سلّم الندرة فهي ندرة وجود لا ندرة إطلاق ، ولذلك ترى صدق ماء الحمّام على مثله من غير استنكار كما هو ظاهر » (١).

ولا يخفى ما في الأوّل من كونه مكابرة ، ودفعا للضرورة ، وما في الثاني من عدم منافاة الصدق في لحاظ العقل عدم شمول الإطلاق له في لحاظ المحاورة المبتنية على اعتبار الظواهر والأخذ بها.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ الانصراف الناشئ من الغلبة وإن كان يؤخذ به لدخوله في عداد الظواهر النوعيّة ، غير أنّ الظواهر ـ أوّلية أو ثانويّة ـ إنّما يعوّل عليها ما لم يصادفها ما يوهنها ، بكشفه عن عدم اعتماد المتكلّم في إفادة مطلبه عليها ، وقد قام في تلك الأخبار ما يوجب ذلك ، لما في جملة منها من التصريح باعتبار وجود المادّة ، فإنّ الغلبة موجودة بالنسبة إليها أيضا ، بل لم يعهد حمّام لم يكن له مادّة ، بخلاف كرّيّة تلك المادّة فإنّها قد يتخلّفها ، فكانت غلبة المادّة أولى بالاعتماد عليها في إفادة المطلب ، فالتصريح باعتبارها ممّا يقضي بعدم اعتناء المعصوم عليه‌السلام في خصوص المورد بالغلبة ، وعدم اتّكاله إليها في الإفادة ، وبذلك يضعف تأثير الغلبة المدّعاة في الكشف عن حقيقة المراد.

وقد يجاب عن أصل الحجّة ـ بعد تسليم نهوضها دليلا على اعتبار الكرّيّة في المادّة : « بأنّ بين ما دلّ على انفعال القليل وبين ما نحن فيه تعارض العموم من وجه ، والترجيح مع أخبار الحمّام لكثرتها ، وتعاضدها ، وعدم وجود المعارض فيها ، وكونها منطوقة وتلك أكثرها مفاهيم ، وبعضها قضايا في موارد خاصّة مع معارضتها بكثير من الأخبار.

مضافا إلى أنّ أخبار الحمّام معتضدة بأصالة البراءة ، لأنّ النجاسة تكليف بالاجتناب ، وباستصحاب الطهارة ، وبأصل الطهارة المستفادة من العمومات على وجه ، وما دلّ على عدم انفعال الماء إلّا بما تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه » (٢). ولا يخفى ما في هذا الترجيح وما ذكر من المرجّحات ، لعدم كون شي‌ء منها بشي‌ء عند أهل الدقّة والنظر. وقد يعارض : « بأنّ التقييد في أخبار الحمّام أقوى ، لكون الإطلاق فيها أضعف » (٣) ولعلّه من جهة ملاحظة الانصراف بالغلبة المدّعاة سابقا.

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٢٢٧.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٢٢٦.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ١٠١.

٤٤٦

وفيه : أنّ الغلبة إن كانت ممّا يعتدّ بها هنا فلا كرامة لفرض التعارض حينئذ ليوجب مراجعة الترجيح ، فإنّه فرع الدلالة وهي نافية لها ، وإلّا فلا وجه لدعوى ضعف الإطلاق ، مع أنّه يعارضه كون التقييد المذكور تقييدا فيما هو أقلّ أفرادا من أخبار الانفعال فيكون تقييدا في الأظهر ، ولا ريب أنّ تقييد الظاهر أولى ، فإنّ الإنصاف أنّ أخبار الحمّام أظهر في الشمول لصورتي الكرّيّة وعدمها من أخبار الانفعال في الدلالة على عموم الحكم للحمّام أيضا ، بل هو فيما بين أفراد الماء القليل من نادر الأفراد ، ومن هنا اتّجه المعارضة من جهة اخرى بالنظر إلى دعوى الندرة في خلاف الكرّيّة في ماء الحمّام الموجبة لضعف الإطلاق فيها.

وقد يمنع التعارض أيضا ، بناء على اختصاص أدلّة الانفعال بصورة ورود النجاسة على الماء ، فلا يشمل مثل المقام.

واجيب : بأنّ الكلام في انفعال الماء الموجود في الحوض الصغير بورود النجاسة عليه ، لا فيما يرد عليه.

أقول : وكأنّ المنع مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة إنّما تعتبر في المادّة لتطهير ماء الحوض عند تنجّسه ، فاعتبرت الكرّيّة فيها ـ على القول به ـ صونا لها عن الانفعال بملاقاة المتنجّس ، فجوابه حينئذ ما تحقّق في محلّه من عدم الفرق في الانفعال بين الورودين.

وقد يعترض على القول باشتراط الكرّيّة في المادّة : « بأنّه ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أنّ ماء الحمّام له خصوصيّة على غيره من المياه ، إذ على تقدير الاشتراط يكون حاله كغيره من المياه ، كما اعترف به الشهيد في الذكرى » (١) (٢).

ويدفعه : ما أشرنا إليه آنفا ، من أنّ الخصوصيّة لعلّها اعتصامه بما هو ليس جزء منه ، وحاصله عدم اعتبار الكرّيّة فيه لمجرّد اتّصاله بما ليس منه.

والأولى في دفع القول : منع شمول دليله المدّعى ـ حسبما قرّرناه ـ وهو ممّا لا إشكال فيه ، ضرورة أنّه بمجرّد اتّصاله بالمادّة لا يصدق عليه : أنّه ماء وهو بقدر الكرّ فلا ينجّسه شي‌ء فلا يتناوله منطوق قولهم عليهم‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠.

(٢) المعترض هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، راجع جواهر الكلام ١ : ٢٢٨.

٤٤٧

فلا بدّ في إخراجه عن المفهوم من وسط ، ولا يصلح له إلّا ما دلّ على أنّ كون الماء متّصلا بالكرّ ككونه بنفسه كرّا في مرحلة الاعتصام عن الانفعال بالملاقاة.

ولا ريب أنّ أخبار الكرّ بأجمعها قاصرة عن إفادة ذلك ، كما أنّ أخبار انفعال القليل لا تقضي بشي‌ء من ذلك كما لا يخفى على المنصف ، فلا محيص في إنهاض هذا الوسط من مراجعة أخبار الحمّام ، وقد عرفت أنّها خالية عن الدلالة على اعتبار الكرّيّة في المادّة ، إذ قد تبيّن أنّ غلبة الكرّيّة وندرة خلافها لا عبرة بهما هنا ، مع أنّ الغلبة لو صلحت منشأ للأثر هنا لقضت باعتبار الزيادة على الكرّ بل اعتبار الكرور ، لما هو الغالب في مواد الحمّامات من وجود كرور من الماء فيها كما لا يخفى على المتأمّل وهو كما ترى ، فإذا بنى على كون تلك الغلبة ملغاة في نظر الإمام عليه‌السلام ، فلم لا يبنى على كون غلبة الكرّيّة أيضا ملغاة في نظره ، مع ما فيه من استبعاد واضح لو قيل بالفرق بين ما لو بقيت المادّة بقدر الكرّ وما لو نقصت مثقالا أو عشرة مثاقيل أو عشرين مثقالا ، بدعوى : كون الأوّل من الغالب فيعتصم به ما في الحوض ، والثاني من النادر فلا يصلح للعاصميّة كما هو لازم القول بالاشتراط ، بل هو شي‌ء يعدّ من المضحكات.

فالإنصاف : أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة ممّا لا دليل عليه من العقل والنقل ، فالقول به خال عن الوجه جدّا.

وأمّا القول بعدم اشتراطها فمستنده ـ على ما عرفت عن المحقّق سابقا ـ إطلاق نصوص الباب وفتاوي الأصحاب ، ولا يخدشه إلّا ما ذكره صاحب المدارك : « من عدم صلوحها لمعارضة ما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، إذ الغالب في مادّة الحمّام بلوغ الكرّيّة فينزّل عليه الإطلاق ، والمعتمد اعتبار الكرّيّة لما سيجي‌ء من الأدلّة الدالّة على انفعال القليل بالملاقاة ، ولأنّ المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم » (١) وأنت بملاحظة ما قرّرناه بما لا مزيد عليه تقدر على دفع ما ادّعاه من تنزيل الإطلاق ، ونهوض أدلّة انفعال القليل على الاشتراط ، ومن العجب أنّه ينادي بأعلى صوته في مواضع عديدة ـ ممّا سبق ولحق ـ بنفي العموم عن تلك الأدلّة ويتمسّك بها هنا ، وهو لا يتمّ إلّا مع إحراز العموم.

وأمّا ما ذكره من الوجه الأخير من كون المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم ، فهو

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٤.

٤٤٨

مصادرة واضحة لا يعبأ بها.

الجهة الثانية : عن ثاني الشهيدين في المدارك (١) وغيره أنّه اكتفى بكون المجموع من المادّة وما في الحوض كرّا مع تواصلهما مطلقا ، لعموم قوله عليه‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢) ووافقه على ذلك جمع كثير ممّن تأخّر عنه ممّن عاصرناهم وغيرهم ، وحكي عن شرح المفاتيح (٣) اختياره ، وعن الذخيرة (٤) عن بعض المتأخّرين : « أنّه ذكر أنّ بلوغ المجموع قدر الكرّ كاف مطلقا إجماعا » وأنّ إطلاق الأصحاب اشتراط كرّيّة المادّة مبنيّ على الغالب من كثرة أخذ الماء من الحوض ، وكأنّ المراد به أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت في المادّة لئلّا يخرج المجموع عن الكرّيّة بكثرة أخذ الماء من الحوض.

وعن الأردبيلي في المجمع : « أنّه مع اختلاف السطوح لا يكفي بلوغ المجموع كرّا ، وأمّا مع استواء السطوح فيكتفى به » (٥) وعن جامع المقاصد اختياره أيضا مع نوع اختلاف قائلا : « واشتراط الكرّيّة في المادّة إنّما هو مع عدم استواء السطوح ، بأن تكون المادّة أعلى أو أسفل ، لكن مع اشتراط القاهريّة بفوران ونحوه في هذا القسم ، أمّا مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرّا ، كالغديرين إذا وصل بينهما بساقية ، بل أولى لعموم البلوى هنا » (٦) وقد سبق هذا التفصيل عن حاشية الشرائع أيضا في الجهة الاولى.

وفي الرياض وغيره عن بعض المتأخّرين الاكتفاء بكرّيّة المجموع مع التساوي ، أو الانحدار مع الاختلاف وإلّا فيشترط الكرّيّة في المادّة ، قائلا : « وربّما نسب إلى العلّامة جمعا بين كلماته في كتبه » (٧) ، ويظهر هذا الجمع أيضا عن صاحب المدارك ، فإنّه بعد ما حكى عن أكثر المتأخّرين (٨) اشتراط الكرّيّة في المادّة ، وعن المحقّق في المعتبر (٩) وغيره (١٠) في مسألة الغديرين إذا أوصل بينهما بساقية ، أنّهما كانا كالماء الواحد مع بلوغ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ ١.

(٣) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥١٣.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٢٠.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٤ نقلا بالمعنى.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٣٨.

(٨) منهم العلّامة في تبصرة المتعلّمين : ٣ ؛ والشهيد في البيان : ٤٤ ؛ والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٣٧.

(٩) المعتبر ١ : ٥٠.

(١٠) كما في منتهى المطلب ١ : ٩ ؛ وتحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

٤٤٩

المجموع منهما ومن الساقية كرّا ، قائلا : « وهو بإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما سطوحه مستوية أو مختلفة » ثمّ حكى عن العلّامة « أنّه صرّح في التذكرة (١) بالاكتفاء ببلوغ المجموع الكرّ مع عدم تساوي السطوح بالنسبة إلى السافل ، قال معترضا : فيكون حكم الحمّام أغلظ من غيره ، والحال يقتضي العكس ، كما صرّحوا به ، والجمع بين الكلامين وإن كان ممكنا بحمل مسألة الغديرين على استواء السطوح ، أو كون الساقية في أرض منحدرة ، لا نازلة من ميزاب ونحوه ، إلّا أنّ فيه تقييدا للنصّ وكلام الأصحاب من غير دليل » (٢).

وبما بيّنّاه سابقا ـ مضافا إلى ما سيأتي ـ تعرف أنّه لا تنافي بين الكلامين في المسألتين ليحتاج إلى الحمل والجمع ، بل أمكن أن يكون العلّامة قائلا باشتراط الكرّيّة في مادّة الحمّام مع اكتفائه بكرّيّة المجموع في مسألة الغديرين ، أو بشرط عدم الاختلاف بطريق النزول والتسنيم.

وربّما يحكى في المسألة قول بعدم اعتبار الكرّيّة أصلا لا في المادّة ولا في المجموع مطلقا ولو مع الاختلاف بالتسنيم ، صار إليه بعض مشايخنا في جواهره (٣) ، وقد يحكى عن صريح المحقّق في المعتبر (٤) ، وظاهره في الشرائع (٥) ، والنافع (٦) ، وهو اشتباه صرف ، فإنّه على ما تقدّم في الجهة الاولى من عبارته مصرّح بنفي اعتبارها عن المادّة ، وأمّا اعتبارها بالنسبة إلى المجموع فكلامه محتمل ، لإطلاقه.

فهذه أقوال أربع ، مبنى الأوّل منها كما عرفت على إعمال أدلّة انفعال القليل بالملاقاة ، لزعم أنّه لا تنافي بينها وبين أدلّة ماء الحمّام ، إمّا لكونها ساكتة عن اعتبار الكرّيّة وعدمها ، أو لانصرافها إلى ما هو الغالب فيه من بلوغ المجموع كرّا ، أو لأنّ الترجيح على تقدير التنافي في جانب أدلّة الانفعال لضعف الإطلاق في جانب أدلّة الحمّام ، كما أنّ مبنى القول الأخير على إعمال أدلّة ماء الحمّام ، إمّا لعدم تناول أدلّة الانفعال له ، أو لكون الترجيح في جانب أدلّة الحمّام لكونها أظهر من جهة قلّة أفرادها ، أو لظهورها في أنّ ماء الحمّام له مزيّة يمتاز بها عمّا عداه من أفراد الماء القليل.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٥.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٢٢٥.

(٤) المعتبر : ٩.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٦) المختصر النافع : ٤١ ، حيث قال : « وحكم ماء الحمّام حكمه ـ أي الجاري ـ إذا كان له مادّة ».

٤٥٠

وأمّا القولان المتوسّطان فمبناهما على مراعاة صدق الوحدة وعدمه ، بزعم أنّها لا تصدق إلّا مع تساوي السطوح ، أو معه ومع انحدار المادّة فيكتفي بكرّيّة المجموع ، وفي غيرهما لا بدّ من كرّيّة المادّة ، ويشكل التعلّق له بالأدلّة الفارقة بين الكثير والقليل لعدم اقتضائها توقّف الاعتصام عن الانفعال على الاتّصال بالكرّ ، إذ غايتها الدلالة على اعتصام نفس الكرّ لا ما يتّصل به وهو ليس منه ، كما يشكل التعلّق له بأدلّة الحمّام ، إذ مبنى الاستدلال بها إن كان على إطلاقها فهي تقتضي نفي اعتبار الكرّيّة رأسا فضلا عن اعتبارها في المادّة ، وإن كان على ما توهّم من انصرافها إلى كرّيّة المادّة بملاحظة الغلبة ، فهي تقتضي حينئذ ـ على فرض صحّته ـ اعتبارها مع تساوي السطوح واختلافها مطلقا ، لا في خصوص اختلافها مطلقا ، أو في صورة التسنيم خاصّة ، فكيف يخصّص ذلك بصورة الاختلاف مطلقا ، أو مع التسنيم خاصّة والمفروض أنّه على هذا التقدير لا تنافي بينها في صورة التساوي وبين أدلّة إناطة الاعتصام بالكرّ حتّى يقال : إنّه نشأ من ترجيح تلك الأدلّة عليها ، بل الّذي يقتضيه أدلّة الكرّ من كرّيّة المجموع ما يقتضيه أدلّة الباب أيضا بناء على قاعدتهم المذكورة ، إذ كما أنّ الغالب في الحمّام بلوغ المادّة كرّا فكذلك الغالب فيه بلوغ المجموع كرّا ، بل الغلبة في ذلك أقوى وأظهر كما لا يخفى.

وبالجملة : هذان القولان ممّا لا نعرف له وجها يعتمد عليه ، فهما بالإعراض عنهما أولى وأجدر ، بل اللائق بالبحث إنّما هو القول الأوّل والأخير ، وقد عرفت أنّ مبنى الأوّل على تحكيم أدلّة انفعال القليل على أدلّة الحمّام.

ويرد عليه : أنّ هذا لا يجدي في حصول مطلوبهم إلّا إذا اندرج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في منطوق « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » وهو في غاية الإشكال ، بل في حيّز المنع ، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله تساوي السطوح ، بل لعدم جريان ما ذكرناه من الضابط في معنى تلك القضيّة في مباحث الكرّ ، من كون مفاد أدلّته أنّ كلّ ماء يقع عليه اسم الكرّ عرفا فهو ممّا لا ينجّسه شي‌ء ، ولا ريب أنّ ماء الحوض الصغير في الحمّام لا يقع عليه اسم الكرّ ـ ولو حال اتّصاله بالمادّة ـ مع كون المجموع كرّا ، بل مع كون المادّة وحدها كرّا ، ووقوعه على المجموع مبنيّ على الاعتبار ، لا أنّه له في الواقع ونفس الأمر.

٤٥١

وتوضيح ذلك : أنّ موضوعات الأحكام ـ الّتي منها الكرّ ـ امور واقعيّة لا ينفع فيها مجرّد الاعتبار ، فموضوع الحكم بعدم الانفعال لا بدّ وأن يكون متّصفا بالكرّيّة في متن الواقع لا في نظر الاعتبار فقط ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا كان للماء هيئة توجب كون كلّ من أطرافه جزءا ممّا حصل منها ، وهذا المعنى غير حاصل في المقام بحسب الواقع ، وصحّة وقوع الاسم على المجموع اعتبار صرف متضمّن لاشتراط حصول تلك الهيئة بحسب الواقع ، وكأنّ غفلة من اكتفى بكرّيّة المجموع نشأت عن الغفلة عن كون ذلك اعتبار صرفا ، أو متضمّنا للتعليق على ما لا تحقّق له في الواقع ، ولا ريب أنّ مجرّد الاعتبار لا يصيّر الشي‌ء واقعا.

ومن هنا اتّضح عدم المنافاة بين ما قرّرناه هنا وما اخترناه في بحث الكرّ من عدم اشتراط تساوي السطوح ، لتحقّق المعنى المذكور ثمّة في جميع صور المسألة والفارق هو العرف ، كما اتّضح سرّ ما عرفت عن العلّامة من فرقه بين الغديرين وما نحن فيه ، فإذا فرض عدم اندراج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في المنطوق فلا بدّ وأن يندرج في المفهوم ، وقضيّة ذلك عدم الفرق في انفعال ماء الحمّام ـ وهو ما في الحوض الصغير ـ بين بلوغ المجموع كرّا وعدمه ، وهو مع أنّه خلاف المطلوب ترك للعمل على أخبار الحمّام بالمرّة ، وهو كما ترى.

فإن قلت : العمل بها يحصل في صورة كرّيّة المجموع.

قلت : معنى حصول العمل بها حينئذ كونها مخرجة له عن المفهوم المقتضي للانفعال ، واعتبار كونها مخرجة إمّا مع تسليم كونها مطلقة ، أو مع كونها منصرفة إلى الغالب ، ولا ينطبق شي‌ء منهما على مقصودكم ، أمّا الأوّل : فلأنّ الإطلاق على فرض تسليمه يقتضي إلغاء الكرّيّة رأسا ، وأمّا الثاني : فمع ما فيه من منع اعتبار الغلبة هنا كما سبق مشروحا أنّ التعويل عليه في اعتبار الكرّيّة خروج عن الاستدلال بأخبار انفعال ما دون الكرّ ، مضافا إلى أنّه لو صحّ لقضى باعتبار الكرّيّة في المادّة أيضا لا في المجموع فقط.

فالحقّ أنّ العمل في المقام إنّما هو بأخبار الحمّام لا غير ، وأنّ مقتضى ما فيها من الإطلاق إلغاء الكرّيّة بالمرّة عن المادّة وعن المجموع معا ، والمراد بالإطلاق ما في غير الخبرين المتضمّنين لتنزيل ماء الحمّام منزلة الجاري وتشبيهه بماء النهر ، إذ لا إطلاق فيهما لكونهما واردين لمجرّد بيان حكم الاعتصام وعدم الانفعال كالجاري وماء

٤٥٢

النهر ، من غير تعرّض فيهما للتشبيه في عدم اعتبار الكرّيّة كما في المشبّه به ، فلا يستفاد منهما إلّا قضيّة مهملة بخلاف ما عداهما ، فإنّ الإطلاق فيه ممّا لا إشكال فيه خصوصا في خبر قرب الأسناد « ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء » (١) وخبر بكر بن حبيب : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة ». (٢)

ودعوى : كون الإطلاق منزّلا على الغالب قد عرفت ما فيها بما لا مزيد عليه ، فماء الحمّام حينئذ مخرج عن قاعدة انفعال القليل بالدليل ، فثبت أنّ الأقوى في النظر القاصر هو القول الأخير الّذي صار إليه بعض مشايخنا ، قائلا ـ بعد ما أطنب الكلام في تقريب هذا القول ـ : « فصار حاصل البحث أنّ ما في الحياض حاله كحال الماء الخارج من عين الجاري ، والحوض الكبير الّذي يأتي منه الماء بمنزلة العين الّتي ينبع منها الماء القليل ، فلا يقبل ما في الحياض النجاسة سواء كان ما في الحوض الكبير كرّا أو لا ، وسواء كان المجموع مقدار كرّ أولا ، لكن بشرط اتّصالها بالمادّة وتجدّد الخروج منها » (٣) انتهى. ولكن الاحتياط في كرّيّة المجموع ، وأحوط منه اعتبار كرّيّة المادّة أيضا.

الجهة الثالثة : لهم خلاف آخر في تطهير ماء الحمّام ، بعد تنجّسه بسبب الانقطاع عن المادّة حين ملاقاة النجاسة ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : في اشتراط كرّيّة المادّة في رفع النجاسة عن ماء الحوض الصغير وعدمه ، والّذي صرّح به غير واحد هو الاشتراط نافين عنه الاشكال ، بل نقل عليه الإجماعات ، الّتي منها ما ستعرف عن الفاضل الهندي (٤) ، وفي الرياض (٥) نفي الخلاف عنه ، وإن كان بضابطته المعروفة عنه عبارة عن عدم عثوره على الخلاف حيثما يعبّر به ، لا أنّه عثر على الإجماع ، ولعلّه من جهة تردّده في مذهب المحقّق ، حيث إنّه قد ينسب إليه المصير إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الدفع والرفع معا ، لإطلاق قوله ـ فيما تقدّم عن المعتبر ـ : « ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها » (٦) وقد يعزى إليه اختيار الاعتبار في الرفع خاصّة ، لمكان

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٢٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٢٣٢.

(٤) كشف اللثام ١ : ٢٦٠.

(٥) رياض المسائل ١ : ١٣٩.

(٦) المعتبر : ٩.

٤٥٣

قوله ـ في ذيل العبارة المذكورة ـ : « لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان ».

وفي دلالة ذلك على ما ذكر نظر واضح ، كما تنبّه عليه غير واحد من الأجلّة ، لجواز كونه مرادا به عدم كفاية مجرّد اتّصال المادّة في التطهير واشتراط الامتزاج فيه ، كما هو أحد القولين في المسألة الآتية ، بل لا يبعد أن يقال : بكونه المنساق من نظائر تلك العبارة كما لا يخفى.

فالإنصاف : أنّ كلام المحقّق بالنسبة إلى مسألة التطهير متشابه ، فلا يعلم مذهبه في تلك المسألة بنفس تلك العبارة ، فإن علم من الخارج شي‌ء يقضي باختياره الكرّيّة يعلم له الموافقة وإلّا فلا ، وقد يستفاد اختياره إيّاها بما يرجع في الحقيقة إلى استبعاد صرف ، كما عن الفاضل الهندي حيث قال : « بأنّ المحقّق إنّما يسوّي بين الكرّ والأقلّ من الباقي منها إلّا ما جرى في الحوض ، ولا يقول بأنّ الباقي إذا نقص عن الكرّ فانقطع الجريان ثمّ تنجّس ما في الحوض يطهّر بالإجراء ثانيا ، للاتّفاق على أنّه لا يطهّر الماء النجس إلّا الكرّ أو الماء الجاري » (١) انتهى.

وبالجملة : لم يعهد من الأصحاب هنا مخالف في اعتبار الكرّيّة ، عدا ما يوهمه إطلاق عبارات المحقّق في المعتبر (٢) والشرائع (٣) والنافع (٤).

نعم في الحدائق (٥) عن بعض الأخباريّين (٦) المفصّل في مسألة انفعال القليل بين الورودين الميل إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الرفع ، اكتفاء بجريان الماء الطاهر عليه بقوّة بحيث يستهلك الماء فيه ، استنادا إلى ظواهر جملة من الأخبار ، ولكنّ المسألة لو كانت إجماعيّة فهذا الخلاف غير قادح فيه جزما ، حتّى مع صحّة مستنده فكيف به مع فساد المستند كما سيتبيّن ، وعلى أيّ حال كان فحجّة القول باعتبار الكرّيّة وجوه :

أحدها : ظهور الإجماع.

وثانيها : الإجماعات المحكيّة الّتي منها ما تقدّم ، ومنها ما عن الخوانساري (٧) من

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٦٢.

(٢) المعتبر : ٩.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٤) المختصر النافع : ٤١.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢١٣.

(٦) وهو المحدّث الأسترآبادي رحمه‌الله.

(٧) مشارق الشموس : ٢٠٨ قوله : « والدليل على الأمر الثاني : مضافا إلى الإجماع أيضا على تقدير كون المادّة كرّا » الخ.

٤٥٤

الإجماع ظاهرا على أنّ المادّة البالغة كرّا لها قابليّة لتطهير ما في الحوض بمجرّد جريانه إليه من دون القاء كرّ عليه دفعة ، ولكن في نهوض ذلك على اشتراط الكرّيّة نظر واضح ، لا يخفى وجهه على المتأمّل.

وثالثها : استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق رافع يقيني ، وليس إلّا كرّيّة المادّة.

ورابعها : ما عن جامع المقاصد : « واعلم أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة هو أصحّ القولين للأصحاب ، لانفعال ما دون الكرّ بالملاقاة ، فلا يرفع النجاسة عن غيره » (١).

وهذان أيضا كما ترى لا ينهضان دليلا على الاشتراط ، بل غاية ما فيهما الدلالة على أنّ ما دون الكرّ لا يصلح مطهّرا ، وأمّا أنّ المطهّر هو الكرّ أو أنّ الكرّ صالح له فلا بدّ في إثبات ذلك من إنهاض دليل آخر ، فالحقّ أنّ ماء الحمّام لم يثبت له من حيث الرفع والتطهير خصوصيّة ، لعدم تعرّض في الأخبار الواردة فيه لبيان هذا الحكم فضلا عن كيفيّته كما ستعرف ، فلا بدّ في استعلام حكم المسألة من المراجعة إلى ما يطهّر به الماء القليل ، والنظر في دليل اعتبار كونه كرّا وغيره من الإجماع وغيره ، ولتحقيق ذلك موضع آخر يأتي في أبواب كيفيّة تطهير المياه.

وأمّا القول بعدم الكرّيّة إن كان ثابتا في المسألة ، وكان قائله ممّن يعتنى به ـ فلا مستند له إلّا إطلاق أخبار الباب المتقدّمة ، وهو ظاهر الفساد لكون تلك الأخبار بين صريحة وظاهرة سياقا ومتنا في التعرّض لبيان حكم الدفع من غير تعرّض لبيان حكم الرفع ، نعم في ثلاث روايات منها ما ربّما يوهم ذلك كقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري » (٢) وقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٣) وقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كانت له مادّة » (٤) بناء على أنّ المنزلة والتشبيه يفيدان العموم.

وفيه : مع أنّ في عموم المنزلة والتشبيه كلاما ، والقول بانصرافهما إلى الخواصّ الظاهرة لا يخلو عن قوّة ، والظاهر من خواصّ المشبّه به إنّما هو الدفع ، أنّ هذه الامور إنّما تفيد الظهور في العموم إذا لم يقم في الكلام المشتمل عليها ما يصرفها عن ظهورها والمقام ليس منه.

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء مطلق ح ١ ـ مع تغيير يسير.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

٤٥٥

أمّا في الخبر الأوّل : فلأنّ سياق السؤال الوارد فيه بقوله : « ما تقول في ماء الحمّام؟ » ظاهر في السؤال عن حكم الدفع وقبوله الانفعال وعدمه ، كما لا يخفى على المنصف ، فيصرف إليه الجواب.

وأمّا في الخبر الثاني : فلما قرّرناه في توجيهه في بحث الجاري من أنّ المراد بقوله : « يطهّر بعضه بعضا » يعصم بعضه بعضا عن الانفعال ويوجب اعتصامه ، بقرينة ما تقدّم من عدم كون شي‌ء ممّا ذكر في سؤاله من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا في الخبر الثالث : فلأنّ قوله عليه‌السلام : « إذا كانت له مادّة » قيد احترازي أتى به المعصوم لدفع ما لعلّه يتوهّمه المخاطب من عدم الاحتياج إلى المادّة في الحكم الّذي أعطاه عليه‌السلام ، والّذي هو محلّ لأن يطرأه هذا التوهّم إنّما هو مقام الدفع دون مقام الرفع ، لأنّ كلّ عاقل متشرّع يعلم أنّ النجاسة بعد ما طرأت الماء لا ترتفع من قبل نفسها ، بل تحتاج إلى رافع شرعي ومطهّر خارجي ، ومحصّله يرجع إلى دوران الشرط بين كونه قيدا احترازيّا أو توضيحيّا ، ومن المقرّر أنّ الأصل ـ بمعنى الظاهر ـ هو الأوّل ، وقضيّة ذلك كون الخبر واردا لبيان الدفع دون الرفع.

المسألة الثانية : في تطهير ماء الحمّام بمجرّد اتّصاله بالمادّة أو اشتراطه بالامتزاج وغلبة المادّة عليه ، قولان من الاقتصار فيما خالف الأصل ـ وهو استصحاب النجاسة أو أصالة عدم الطهارة ـ على المتّفق عليه ، وأنّ الصادق عليه‌السلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري ، ولو تنجّس الجاري لم يطهّر إلّا باستيلاء الماء عليه ، بحيث يزيل انفعاله ، ومن امتياز الطاهر من النجس مع عدم الامتزاج ، وذلك يقتضي اختصاص كلّ بحكمه.

ومن أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل النجاسة كاف في دفع النجاسة وإن لم يمتزج به فكذا بعدها ، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو بصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

وأنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس بجزء من الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا ، لعدم العلم بذلك ، وإن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن المطهّر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال ، فيلزم إمّا القول بعدم الطهارة أصلا ، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

وأنّه عن المنتهى : « أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه

٤٥٦

ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا » (١) ، وأنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء ، فتطهّر الأجزاء الّتي يليها لذلك ، وكذا الكلام في بقيّة الأجزاء ، كما حكاه في المدارك عن المحقّق والشهيد الثانيين ، قائلا : « بأنّ هذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ عليّ في بعض فوائده ، وجدّي في روض الجنان » (٢) ، وفي أكثر ما ذكر عن الطرفين نظر ، وإذ قد عرفت أنّ الحمّام لم يثبت له خصوصيّة بالنسبة إلى مقام الرفع ، لكون الأخبار الواردة فيه ساكتة عن ذلك المقام ، فكيفيّة تطهير هذا الماء كتطهير سائر المياه القليلة ، فتحقيق حاله بالقياس إلى اشتراط الامتزاج وعدمه ، موكول إلى محلّه ، وسيلحقك البحث عن ذلك إن شاء الله.

المسألة الثالثة : بناء على القول باشتراط الامتزاج واشتراط كرّيّة المادّة في التطهير ، فهل يكتفى بكون المادّة مقدار الكرّ من غير زيادة عليه ، أو يشترط زيادتها بمقدار ما يحصل به الممازجة والغلبة؟ وكذا بناء على القول بكفاية الاتّصال يجري الكلام في اشتراط الزيادة بمقدار ما ينحدر من الماء عن المادّة المتّصلة بالحوض ، قولان ، اختار أوّلهما في المدارك (٣) ، وعن العلّامة في المنتهى (٤) ، التصريح في مسألة الغديرين.

وحكى ثانيهما عن ثاني الشهيدين تعليلا : « بأنّه لو كانت كرّا فقط لكان ورود شي‌ء منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرّيّة ، إذ المعتبر كرّيّة المادّة بعد الملاقاة فتقبل الانفعال حينئذ » (٥) وعن صريح التحرير (٦) أيضا اختياره ، كما عن جامع المقاصد (٧) اختياره أيضا استنادا بما ذكر عن الشهيد ، ولا يخفى ما فيه من الاعتبار الصرف ، والحكم تابع للإجماع ، فإن ثبت إجماع فكيف ولم يثبت ، وإلّا كان كسائر المياه القليلة الّتي تطهر بالكرّ.

واستدلّ على القول الأوّل بقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٨)

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٦ ـ روض الجنان : ١٣٨.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٥) روض الجنان : ١٣٧ نقلا بالمعنى.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٧) جامع المقاصد ١ : ١١٣.

(٨) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ مع تغيير يسير.

٤٥٧

ويؤيّده « هو بمنزلة الجاري » (١) و « ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري » (٢).

وفيه : ضعف واضح تقدّم وجهه.

وقد يقال : بابتناء القولين على قولهم في اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ وعدمه ، فالأوّل مبنيّ على الثاني ، كما أنّ الثاني مبنيّ على الأوّل ، وهو أيضا مشكل.

ثمّ إنّ جماعة من الأصحاب تنبّهوا على فروع في المقام ، لا بأس بإيرادها.

أحدها : أنّه هل يشترط في مادّة الحمّام العلم بعدم نجاستها أو يكفي عدم العلم بالنجاسة؟ احتمالان صرّح بثانيهما العلّامة في المنتهى (٣) ، وتبعه غير واحد ، وأمّا الأوّل فلم نقف على قائل به ، كما أنّ احتمال كفاية المادّة مطلقة ولو مع العلم بالنجاسة ممّا لا قائل به ، بل ظاهرهم الاتّفاق على بطلانه ، بل المستفاد من أخبار الباب بحكم الالتزام العرفي إنّما هو طهارة المادّة ، كما أنّ المستفاد من الأخبار الآمرة بالغسل عن النجاسات إنّما هو اشتراط طهارة الماء الّذي يغسل به ، كما هو مجمع عليه عندهم أيضا ـ على ما سبق بيانه في بحث الغسالة ـ ومع هذا فالفرع المذكور مفروض لاستعلام أنّ الطهارة المعتبرة في المادّة هل هي عبارة عن الطهارة العلميّة أو الشرعيّة الّتي تتأتّى مع عدم العلم بالنجاسة في الجملة ، كما سيتبيّن عقيب ذلك. واحتجّ العلّامة (٤) ـ على ما صرّح به ـ بالعموم ، والتعذّر ، والحرج ، واستجوده المحقّق الخوانساري في شرح الدروس. (٥)

وقد يفصّل : فيحكم بكفاية عدم العلم بالنجاسة إذا لم تكن المادّة مسبوقة بالعلم بها ، وإلّا فلا إشكال في عدم الكفاية في صورة تطهير ما في الحوض بها ، لاستصحابي النجاستين في المادّة وفي الحوض ، وكذلك في مقام الدفع لمكان النجاسة المستصحبة فلا تفيد تقوّيا بالقياس إلى غيرها ، وقضيّة ذلك انفعال ذلك الغير بالملاقاة ، بل بمجرّد اتّصاله بها على إشكال فيه ، ينشأ عن ملاحظة استصحاب الطهارة فيه.

وثانيها : بناء على اعتبار كرّيّة المادّة أو المجموع ، لو شكّ في الكرّيّة فعزى الخوانساري إلى ظاهر كلامهم أنّه يبني على الأصل. وهو عدم بلوغ الكرّيّة ، فضعّفه قائلا : « والظاهر البناء على طهارتها ، وعدم الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة ، للروايات

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

(٣ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٣١.

(٥) مشارق الشموس : ٢١٠.

٤٥٨

الدالّة على « أنّ كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » ولاستصحاب الطهارة » ـ إلى أن قال : ـ « وكذا طهارة الحوض الصغير ، نعم ، إذا تغيّر الحوض الصغير فلا يمكن الحكم بتطهيره بإجراء تلك المادّة إليه ، وكذا لا يمكن تطهير شي‌ء نجس لا فيها ولا في الحوض الصغير ، وكذا الحال في جميع المياه المشكوك الكرّيّة ». (١)

ووافقه على هذا التفصيل صاحب الرياض قائلا : « وينبغي القطع بالطهارة لو طرأ الشكّ بعد تيقّن الكرّيّة فيها ، لاستصحابي بقاء الطهارة والمادّة على الكرّيّة ، وعمومي الأصلين البراءة ، و « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢).

ولو طرأ الشكّ بعد تيقّن نقصها من الكرّ بكثرة مجي‌ء الماء إليها فلا يبعد ذلك ، لتعارضهما من الجانبين فيبقى الأصلان سالمين عن المعارض.

ومنه يظهر الحكم فيما لو طرأ مع فقد اليقين ، وأمّا لو انفعل ما في الحوض ثمّ اتّصل بالمادّة المزبورة المشكوك كرّيّتها فالأقرب البقاء على النجاسة ، لاستصحابها السليم عن المعارض ، وإن احتمل الطهارة أيضا في الجملة ، بمعنى عدم تنجيسه ما يلاقيه بإمكان وجود المعارض ، من جانب الملاقي الطاهر لمثله ، إلّا أنّ الظاهر كون الاستصحاب الأوّل مجمعا عليه. » (٣) انتهى ، واستجوده بعض تلامذته (٤) أيضا.

وثالثها : قال المحقّق الخوانساري : و « اعلم أنّهم اكتفوا في الكرّيّة بشهادة العدلين بها واختلف في الواحد ، فقد قطع المحقّق الشيخ عليّ بالاكتفاء به ، بناء على أنّه إخبار لا شهادة ، واستقرب لو كان له يد على الحمّام كالمالك والمستأجر والوكيل ، ونقل عن فخر المحقّقين قبول قول ذي اليد على الحمّام مطلقا ، سواء كان عدلا أو لا وفي غير شهادة العدلين إشكال قويّ لعدم نصّ عليه وفيها أيضا بعض الإشكال ». (٥)

ورابعها : قد عرفت في ذيل كلام السيّد في الرياض الحكم بنجاسة ما يلاقي ماء الحوض النجس المتّصل بالمادّة المشكوكة في كرّيّتها ، مع احتماله طهارة الملاقي خاصّة لإمكان معارضة استصحاب الطهارة فيه لاستصحاب النجاسة في الماء ، مع دعواه على العمل باستصحاب النجاسة المقتضية لنجاسة الملاقي ، وقد يجعل الاحتمالان المذكوران

__________________

(١) مشارق الشموس ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٣٩.

(٤) لم نعرفه.

(٥) مشارق الشموس : ٢١١.

٤٥٩

قولين في ذلك الفرع ، ولكن يرجّح احتمال النجاسة تعليلا بكون استصحاب نجاسة الماء من استصحاب طهارة الملاقي مزيلا له فيقدّم عليه على ما هو مقرّر في محلّه ، ويجعل السرّ في الإجماع المدّعى على العمل باستصحاب النجاسة هو ذلك ، هذا.

وتحقيق الكلام : في جميع الفروع المذكورة مبنيّ على النظر في تأسيس أصل كلّي يجري في غالب أبواب الطهارات وغيرها ، وهو أنّ الطهارة في الماء حيثما علّق عليها الأحكام ، هل العبرة فيها بالعلم بها أو لا؟ وعلى الثاني فهل يعتبر فيها أمارة من الأمارات الشرعيّة التعبّديّة أو لا؟ ثمّ النجاسة على فرض عدم اعتبار علم ولا أمارة في نقيضها يلزمها أن يعتبر فيها العلم أو الأمارة؟ فهل يتعيّن فيها العلم خاصّة ، ولا يحكم بها بدونه ولو مع قيام الأمارة عليها؟ أو يكفي في ثبوتها الأمارة أيضا ، وأنّها تقوم مقام العلم؟ وعليه فهل يتعيّن في ذلك أمارة دون اخرى؟ أو يجري فيها عامّة الأمارات الجارية في غير المقام ، ثمّ إذا كفت الأمارة في ثبوت نجاسة شي‌ء فهل تفيد تلك النجاسة تنجيسا لملاقيه أو لا؟

غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّ هذا البحث إنّما يثمر ويجري في معرفة حكم الجزئيّات ، المعلوم حكم كلّيّاتها بأصل الشرع من طهارة أو نجاسة ، الصالحة لاندراجها تحت كلّ من الكلّيّين المعلوم حكمهما الكلّي الإلهي ، الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات الصرفة ، وإلّا فكلّ من الطهارة والنجاسة من حيث إنّه حكم كلّي إلهي يتبع في ثبوته لموضوعاته الكلّيّة ـ الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات المستنبطة ـ لدليله ، من حيث إنّه توقيفي فلا بدّ فيه من دليل علمي أو ظنّي حيث يعتبر.

فالكلام في اعتبار العلم فيه من هذه الجهة ، أو كفاية مطلق الظنّ ، أو اعتبار الأمارة مطلقة ، أو غيرها ، هو الكلام في حجّيّة الظنّ ودليليّة الطرق المعهودة ، وهذا كما ترى شي‌ء لا يتعلّق به غرض الفقيه أصلا وإنّما هو بحث له محلّ آخر ، بل الّذي يتعلّق به الغرض هنا إنّما هو استعلام كون الطهارة والنجاسة المعلومتين للموضوعات المستنبطة منوطتين في موضوعاتها الخارجيّة بالعلم خاصّة ، أو تكفي فيهما الظنّ مطلقا ، أو أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالنجاسة بخلاف النجاسة ، فإنّها منوطة بالعلم بها ، على معنى العلم بتحقّق سببها الموجب لها ، أو ما هو قائم مقامه على فرض ثبوته ، ثمّ إنّه لا فرق في هذا البحث بين المياه وغيرها ممّا اعتبر فيها الطهارة ، من المآكل والمشارب والثياب

٤٦٠