ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-077-5
الصفحات: ٩٠٨
الجزء ١ الجزء ٥

هذه أيضا ، لكن في المدارك : « والتسوية بينه وبين رافع الأكبر تشعر بطهارته » (١).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الجمع بين شيئين في الفتوى لا يقتضي إلّا اشتراكهما في الحكم ، وأقصى ما يقتضيه التسوية المذكورة إنّما هو ذلك ، دون الجهة الّتي ينشأ منها الحكم ؛ لجواز اختلافها ، فلعلّها في المزيل للنجاسة وجود المانع ـ وهو النجاسة ـ وفي رافع الحدث الأكبر فقد المقتضي وارتفاعه بالاستعمال المفروض ـ هو الطهوريّة ـ ، كما هو المصرّح به في كلام جملة منهم على ما سيأتي في محلّه ، ومعه فأيّ إشعار فيها بالطهارة.

وفي شرح الاستاذ أيضا : « عن التحرير والمعتبر في باب غسل المسّ الإجماع على نجاسة المستعمل في الغسل ، إذا كان على البدن نجاسة » (٢). وهو ظاهر الشيخ في المبسوط قائلا ـ فيما حكي عنه ـ : « والماء الّذي يزال به النجاسة نجس ؛ لأنّه ماء قليل خالط نجاسة ، ومن الناس من قال : ليس بنجس إذا لم يغلب على أحد أوصافه ، بدلالة أنّ ما يبقى في الثوب جزء منه وهو طاهر بالإجماع ، فما انفصل عنه فهو مثله ، وهذا أقوى والأوّل أحوط » (٣) ، فإنّ حكمه عليه أوّلا بالنجاسة يدلّ على أنّه اختياره ، ولا ينافيه جعله القول الآخر أقوى ، ولا جعله القول الأوّل أحوط ، إذ ليس مراده بالأحوطيّة الاحتياط الاستحبابي ، ولا بالأقوائيّة القوّة بالنظر إلى الواقع ، بل مراده بالأوّل الأحوطيّة بالنظر إلى الواقع المقتضية لوجوب المصير إليه ، وبالثاني الأقوائيّة من حيث الاعتبار فإنّ الوجه الّذي تمسّك به القائل بالطهارة ممّا يساعد عليه الاعتبار الّذي لا ينبغي التعويل عليه في الامور التعبّديّة ، وستعرف عن بعضهم الاعتراف بنظيره فيما يأتي من دليل القول بالتفصيل بين الغسلتين.

وفي نسبته القول المذكور إلى بعض الناس إشعار بأنّه ليس مختاره ، بل ربّما يشعر بأنّه قول لا قائل به من الاماميّة ، كما تنبّه عليه غير واحد.

وممّا يفصح عن اختياره القول بالنجاسة مطلقا ، كلامه الآخر المنقول عنه في المبسوط ، حيث إنّه في الماء المستعمل ـ بعد ما حكم عليه بأنّه طاهر مطهّر من الخبث لا من الحدث ـ قال : « هذا إذا كان أبدانها خالية عن نجاسة ، فإن كان عليها شي‌ء من

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣١٦.

(٣) المبسوط ١ : ٩٢.

٣٠١

نجاسة فإنّه ينجّس الماء ولا يجوز استعماله بحال » (١).

وكلامه الآخر أيضا في مسألة تطهير الثياب قائلا : « وإذا ترك تحت الثوب النجس إجانة ، وصبّ عليه الماء وجرى الماء في الإجانة ، لا يجوز استعماله لأنّه نجس » (٢).

فما في الحدائق (٣) ـ تبعا لشرح الدروس (٤) ـ من أنّه في الظاهر قوّى القول بالطهارة مطلقا ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، عنه في الخلاف (٥) ، وأوّل المبسوط (٦) ، أنّه جزم بطهارة ماء الغسلتين من الولوغ ، ولكن الأمر فيه سهل لجواز رجوعه عنه إلى ما ذكر كما جزم به الاستاذ في الشرح (٧) المشار إليه.

ثمّ إنّ الغسالة في كلام هؤلاء القائلين بالنجاسة محتملة لكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسل ، فيعتبر فيها العدد فيما يجب فيه التعدّد ، ولكون حكمها حكم المحلّ بعد الغسلة ، فيجب الغسل عنها في الغسلة الغير المستتبعة للطهر دون الغسلة المستتبعة له ، ولكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسلة المستتبعة للطهر مطلقا ، فيجب الغسل عنها مرّة واحدة ولو من الغسلة الاولى ، ولم يظهر من كلامهم ما يقضي بإرادة المعنى الأوّل دون أحد الأخيرين ، فما في الحدائق (٨) من تفسيره القول بالنجاسة مطلقا بأنّ حكمها حكم المحلّ قبل الغسل ، لعلّه ليس في محلّه. كما أنّه كذلك ما حكاه في شرح الدروس (٩) عن بعض الأصحاب من حصره القول المذكور في الاحتمال الثاني ، وقد أصاب هو في جعله إيّاه محتملا للوجوه الثلاثة ، وأمّا تحقيق الكلام في ذلك فسنورده إن شاء الله.

وهذا القول هو الراجح في النظر ، وأقوى بالنظر إلى الواقع وأقرب إلى جادّة الاستنباط.

لنا عليه : وجود المقتضي وفقد المانع ، وكلّما كان كذلك يجب المصير إليه ، أمّا الكبرى : فواضحة ، وأمّا الصغرى : فلعموم الأدلّة الواردة في انفعال القليل ، مع ما ورد عليها ممّا خصّصها ، الدالّة على أنّ ملاقاة النجاسة بشرط القلّة سبب للانفعال ما لم يصادفها مانع عن التأثير ، من علوّ أو استعمال في الاستنجاء ، أو جريان عن النبع ـ بناء

__________________

(١) المبسوط ١ : ١١.

(٢) المبسوط ١ : ٣٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٢. (٤ و ٩) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٥) الخلاف ١ : ١٨١ المسألة ١٣٧. (٦) المبسوط ١ : ١٥.

(٧) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٢٤. (٨) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.

٣٠٢

على عدم انفعال القليل من الجاري ـ والمفروض تحقّق السبب بهذا المعنى في محلّ البحث وعدم مصادفة مانع له ، وما احتمل كونه مانعا من حيثيّة كونه مستعملا في إزالة الخبث لم ينهض على مانعيّته من الشرع شي‌ء ، كما نهض على مانعيّة العلوّ وغيره ممّا ذكر ، فمن يدّعي الطهارة لا بدّ له من إقامة ما يحرز به المانعيّة وأنّى له بذلك ، وستعرف ضعف ما احتجّ به على ذلك.

وإلى ما قرّرناه ينظر ما احتجّ به العلّامة في المنتهى ، فعلى نجاسة ما انفصل قبل طهر المحلّ : « بأنّه ماء يسير لاقى نجاسة لم يطهّرها ، فكان نجسا كالمتغيّر ، وكما لو وردت النجاسة عليه ، وكالباقي في المحلّ فإنّه نجس ، وهو جزء من الماء الّذي غسلت به النجاسة ، ولأنّه قد كان نجسا في المحلّ ، فلا يخرجه العصر إلى التطهير ، لعدم صلاحيّته له » (١). وعلى نجاسة ما انفصل في الغسلة المطهّرة للمحلّ : « بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجّس بها ، كما لو وردت عليه » (٢) ، وإن كان في أكثر تنظيراته للشقّ الأوّل نظر واضح.

واعترض عليه في المدارك (٣) ـ وتبعه في شرح الدروس (٤) ـ بمنع كلّيّة كبراه ـ كما بيّنّاه سابقا ـ وهذا إشارة إلى ما سبق منه في ذيل مسألة انفعال القليل من قوله : « واعلم أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكلّما يرد عليه من النجاسات » (٥) الخ.

والجواب عن الأوّل : ما أسلفناه في دفع القول بالفرق بين الورودين ، وعن الثاني : بما أسلفناه أيضا في إثبات العموم بالقياس إلى كافّة النجاسات ، مضافا إلى عدم ابتناء المطلب على ثبوت العموم بالقياس إلى أنواع النجاسة ، ولا العموم بالقياس إلى أفراد الماء ، بل يثبت ذلك في النوع الّذي يقول المعترض بكونه سببا للانفعال ؛ لابتنائه على إحراز العموم بالنسبة إلى كيفيّات الملاقاة المستفادة سببا للتنجيس من الأخبار الواردة في المسألة ، وهو محرز جزما بملاحظة ما في أكثر تلك الأخبار من الإطلاق الشامل لكون الملاقاة منبعثة عن إرادة التطهير حاصلة في الغسلة الاولى أو الثانية أو غيرها ممّا ثبت وجوبه شرعا أو لم تكن منبعثة عنه ، استتبعت طهارة المحلّ أولا ، ويكفيك شاهدا

__________________

(١ و ٢) المنتهى ١ : ١٤١ ، ١٤٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.

(٤) مشارق الشموس : ٢٥٥.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

٣٠٣

بذلك مفهوم قولهم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١).

والمناقشة فيه أوّلا : بمنع العموم في المفهوم لمكان صيرورة « الشي‌ء » نكرة في سياق الإثبات ، وثانيا : بأنّ ارتفاع السلب الكلّي في المنطوق أعمّ من الإيجاب الكلّي في المفهوم ، كما في قولك : « إذا خفت من الله فلا تخف من أحد » ، و « إن جاءك زيد فلا تكرمه »

يدفعها : ـ مع ما فيها ممّا ذكرناه مرارا ـ كفاية ما في الملاقاة المستفادة من الرواية منطوقا ومفهوما من الإطلاق الشامل لمحلّ البحث ؛ لعدم ورود ما ينافيه بالقياس إليه ، وإنّما ورد عليها ما أخرجها عن هذا الإطلاق بالقياس إلى مواضع ليس المقام منها ، فلا مجال إلى رفع اليد عنه بالنسبة إليه لمجرّد الاحتمال ؛ إذ الاحتمال لا يعارض الحجّة ، والظاهر الناشئ من الإطلاق هو الحجّة.

وتوضيح ذلك : إنّا لا ندّعي كون ملاقاة النجاسة علّة تامّة للانفعال ؛ كيف وهو منتقض بالكرّ ، والقليل من الجاري ، والعالي من الراكد ، والمستعمل في الاستنجاء ، وغيره ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة انفعال القليل ، بل غرضنا أنّ المستفاد من أدلّة انفعال القليل بالملاقاة ـ مع ملاحظة أدلّة الكرّ ، والأدلّة الواردة في الجاري والمستعلي ، والمستعمل في الاستنجاء ـ كون ملاقاة النجاسة سببا للانفعال ، بالمعنى المصطلح عليه عند الاصولي الّذي يجامع فقد الشرط ـ إذا كان من شروط التأثير لا انعقاد الماهيّة ـ ووجود المانع ـ إذا كان راجعا إلى التأثير أيضا دون أصل الماهيّة ـ وله في تأثيره شرط أثبته الأدلّة وهو القلّة ، بناء على ما مرّ تحقيقه في أوائل الكتاب من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لكونها ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه ، لا لكونها سببا لعدم الانفعال ؛ كيف وأنّ المسبّب لا يتخلّف عن سببه ، وقد ترى تخلّفه في الماء المتغيّر بالنجاسة وإن كان كرّا.

ولا يرد مثله علينا في دعوى الملازمة ؛ لأنّ الانفعال له عندنا علّتان : إحداهما : بسيطة وهو التغيّر ، بناء على ما قرّرناه لك عند الجمع بين أدلّة التغيّر ، والأدلّة المخرجة لماء الاستنجاء ، وأخراهما : مركّبة وهي الملاقاة مع القلّة وغيرها ممّا اعتبر عدمه من الموانع ، فالكرّيّة إذا اجتمعت مع عدم التغيّر فقد جامعت فقد ما هو شرط للانفعال ، وإذا اجتمعت مع التغيّر فقد صادفت ما هو علّة تامّة للانفعال ، ولا حكم لها حينئذ ، ومعه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

٣٠٤

لا يمكن حمل التعليق على إفادة السببيّة التامّة ، ـ على ما هو مناط القول بحجّيّة مفهوم الشرط عند أهل التحقيق ـ فإمّا أن يحمل بعد ذلك على إفادة العلقة الشرطيّة فيما بين المقدّم والتالي ، فتكون أحد شروط عدم الانفعال ، أو على إفادة مطلق الملازمة فيما بينهما من غير علقة سبب ولا شرط ، فتكون ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الشي‌ء لا ينفكّ عنه ذلك الشي‌ء ، وإلّا لم يكن شرطا ، وقد رأينا انفكاكه في المستثنيات ، إلّا أن يقال : بأنّه شرط على سبيل البدليّة ، ولكنّه خلاف ما يظهر من التعبير من الرواية ، فلا بدّ من حمله على الثاني ، فيكون القلّة على ذلك شرطا للانفعال ، ولا ينافيه التخلّف في المستثنيات ؛ لأنّ الشرط ما لا يلزم من وجوده الوجود لكثرة مقابلته لوجود موانع أو فقد شروط ، والمفروض أنّ ما أثبته الأدلّة سببا للانفعال بشرط القلّة له موانع قد أثبتها الأدلّة المخصّصة لأدلّة الانفعال ، كالجريان عن نبع ، وعلوّ الملاقي ونحوه ممّا سبق الإشارة إليه.

فإذا ثبت أنّ الملاقاة سبب وشرطها القلّة وله موانع ، فهو متحقّق في المقام بهذا الشرط مع فقد الموانع المذكورة ، فيجب تأثيرها ؛ ضرورة أنّ الأثر لا يتخلّف عن مقتضيه الموجود المصادف لفقد الموانع ، ولو كان ذلك بحسب ظاهر اللفظ عن إطلاق أو عموم ، ودعوى : كون حيثيّة رفع الخبث ، أو الاستعمال من جهته في غير جهة الاستنجاء من جملة الموانع تقتضي تقييد الملاقاة في حكم الشرع عليها بالسببيّة بلا دليل ؛ إذ المفروض كون الأدلّة المقامة على تلك الدعوى على ما يأتي ذكرها مدخولة بأسرها.

ومن المشايخ العظام (١) من أجاب عن المناقشة المذكورة بوجوه ، ثالثها ما يرجع في حاصل المعنى إلى ما حقّقناه.

وأوّلها : ما يرجع محصّلة إلى ما هو التحقيق في دليل حجّيّة مفهوم الشرط ، من إفادة التعليق على الشرط في متفاهم العرف كونه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار ، ومعه لا يعقل إنكار العموم في مفهوم الرواية ، إلّا على القول بإنكار حجّيّة مفهوم الشرط.

وبيان ذلك : أنّ الشرط إذا فرضناه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار ، فمعناه : أنّ الجزاء لا بدّ من وجوده في جميع موارد وجود الشرط ، وانتفائه في جميع موارد انتفائه ،

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٨.

٣٠٥

وإلّا فلو لم يوجد في بعض موارد وجوده ، أو لم ينتف في بعض موارد انتفائه لم يكن الشرط على الأوّل سببا ، ولا على الثاني سببا منحصرا فيه ، كما إليه يرجع كلام السيّد المرتضى المنكر لحجّيّة مفهوم الشرط ، تعويلا على مجرّد احتمال تعدّد الأسباب ، وكلاهما خلاف الفرض ممّا يظهر من قضيّة التعليق.

نعم ، لا ضير في القول بوجود الجزاء مع انتفاء الشرط ـ في بعض الموارد ـ إذا علمنا بتعدّد أسبابه من الخارج ، كما علمناه في المثالين المتقدّم إليهما الإشارة ، حيث نعلم أنّ لعدم الخوف من آحاد الناس أسبابا كثيرة ، منها : الخوف من الله ، ولعدم إكرام كثير من آحاد الناس أسبابا كثيرة ، منها : مجي‌ء زيد ، غير أنّه خارج عن القول بحجّيّة المفهوم ، وارد على خلاف ما يظهر من اللفظ عرفا ، من جهة القرينة الخارجة ، ومع انتفائها فالمتّبع هو الظاهر.

وقضيّة ذلك كون المفهوم من السلب الكلّي الإيجاب الكلّي ، ومن الإيجاب الكلّي السلب الكلّي ، ومعه لا مجال إلى إنكار عموم المفهوم في قضيّة قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) ، وكون مفهومه الإيجاب الكلّي القاضي بانفعال القليل بكلّ نجاسة » (٢) انتهى محصّلا.

ولعلّه مدّ ظلّه إنّما أورد هذا الجواب في مقام الجدل ، لما فيه من الكفاية في دفع كلام الخصم ، لكونه دفعا لاعتراضه من الجهة الّتي سبقت إليه في توجيه هذا الاعتراض وليس جوابا تحقيقيّا ، وإلّا فلا إشكال في أنّ إثبات العموم بالمعنى المذكور ممّا لا تحسم مادّة الإشكال بالقياس إلى ما هو من محلّ البحث ؛ إذ بعد تسليم أنّ كلّ نجس ينجّس الماء القليل من غير استثناء شي‌ء من أفراد النجس ، ولا استثناء شي‌ء من أفراد الماء ، فالإشكال بالنسبة إلى أحوال الملاقاة على حاله ، لجواز أن يقول أحد : بأنّه لم يظهر من هذه القضيّة الكلّيّة أنّ ملاقاة كلّ نجس سبب للانفعال في جميع أحوالها ؛ إذ لا ملازمة بين العمومين ، كما في قول القائل : « أحبّ كلّ عالم » حيث إنّه لا يدلّ على أنّه محبّه في جميع أحواله.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٩.

٣٠٦

والحاسم لمادّة الإشكال إنّما هو العموم من الجهة المذكورة أيضا لا مجرّدة من جهة الأفراد ولا يلزم من كون الشرط علّة منحصرة للجزاء إلّا ثبوت العموم من جهة الأفراد ويبقى إثبات العموم الآخر محتاجا إلى دليل آخر ، ولذا تراه ـ مدّ ظلّه ـ عدل في ثالث الأجوبة عن ذلك إلى ما قرّرناه سابقا.

وثاني ما أفاده مدّ ظلّه في الجواب ، قوله : « لو سلّمنا عدم دلالة المفهوم بمقتضى نفس التركيب على العموم ، لكن القرينة هنا عليه موجودة ؛ لأنّ المراد « بالشي‌ء » في المنطوق ليس كلّ شي‌ء من أشياء العالم ، بل المراد ما من شأنه تنجيس ملاقيه من النجاسات المقتضية للتنجيس فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس ، وكانت الكرّيّة مانعة ، لزم عند انتفاء الكرّيّة المانعة ثبوت الحكم المنفيّ لكلّ فرد من « الشي‌ء » باقتضائه السليم من منع المانع ، وأوّل المثالين من هذا القبيل ، فإنّ المنفيّ مع ثبوت الخوف من الله هو الخوف من كلّ من يوجد فيه مقتضى الخوف منه ، فمع عدم الخوف من الله يثبت الخوف من كلّ واحد من هذه المخوفات باقتضاء نفسه ، ومن هذا القبيل قولك : « إذا توكّلت على الله فلا يضرّك ضارّ » (١) انتهى.

وظنّي أنّ ذلك منه مدّ ظلّه وقع في غير محلّه ، فإنّ قوله : « فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس الخ » هذا هو محلّ الكلام ؛ إذ الخصم لا يسلّم أنّ كلّ فرد من النجاسات مقتض لتنجيس الماء ، فلا بدّ في تتميم الدليل من تحقيق هذا الفرض وإثبات عنوان الشأنيّة لكلّ نجس ، فلو اريد إثباته بالخارج كان خروجا عن الاستدلال بالرواية كما لا يخفى ، ولو اريد إثباته بنفس الرواية اتّجه إليه المنع المتقدّم في تقرير الاعتراض ، ولو أرسل ذلك بعدم إقامة دليل على إثباته كان إبقاء لشبهة المعترض على حالها ، من أنّ ما يثبت في جانب المفهوم ليس إلّا قضيّة مهملة هي في قوّة الجزئيّة ، وأنّ رفع السلب الكلّي أعمّ من الإيجاب الكلّي.

هذا مضافا إلى أنّ بناءه مدّ ظلّه في توجيه الرواية ـ على ما حقّقه في غير هذا الموضع ـ على كونها مسوقة لبيان مانعيّة الكرّ عن الانفعال ، وعليه فرّع أصالة الانفعال الّتي بنى عليها الأمر في كلّ ماء مشكوك حاله من حيث الانفعال وعدمه ، وقد مرّ منعه بغير مرّة.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٩.

٣٠٧

هذا مضافا إلى أنّه لو بنى في توجيه الرواية على كونها لبيان المانعيّة أشكل إثبات نجاسة ماء الغسالة ، بل أشكل الاستدلال بها على انفعال القليل على الإطلاق ؛ لأنّ أقصى ما يستفاد منها حينئذ أنّ الكرّيّة حيثما وجدت كانت مستلزمة لعدم الانفعال ؛ لأنّ المانع ما يلزم من وجوده العدم ، وأمّا أنّ عدمها يستلزم الانفعال فلا ؛ إذ المانع ما لا يلزم من عدمه الوجود ، فالجمع بين هذا التوجيه والاستدلال بها في كلا المقامين عجيب.

وبما قرّرنا في توجيه الاستدلال ، وما أثبتناه من نجاسة ماء الغسالة ، ظهر وجه المنع الوارد في رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة ، لا يتوضّأ منه » (١) فإنّ هذا المنع الجامع للنوعين معا إمّا من جهة وجود المانع في كليهما وهو النجاسة ، أو من جهة فقد المقتضي عن كليهما وهو انسلاخ الطهوريّة عنهما بالاستعمال ، أو من جهة وجود المانع في الأوّل وفقد المقتضي في الثاني ، أو بالعكس.

والأوّل مع الأخير منفيّان كلّ بالإجماع على طهارة ما يستعمل في الغسل ، وبقي المتوسّطان محتملين معا ، غير أنّ الأوّل منهما أيضا منفيّ بما دلّ على نجاسة ماء الغسالة ، فإنّه بمنزلة البيان لتلك الرواية فتعيّن ثانيهما.

ومن هنا يعلم أنّه لا يمكن الاستدلال بتلك الرواية على النجاسة بجعلها دليلا مستقلّا عليها ، فالاستدلال بها ـ كما حكي (٢) عن المعتبر (٣) ، والمنتهى (٤) ، ضعيف جدّا ، ونظيره في الضعف ما قيل : من أنّها تشعر بطهارة ماء الغسالة ، حيث جمع فيها بينه وبين المستعمل في الغسل الّذي هو طاهر إجماعا ، فإنّ اتّحاد شيئين في الحكم لا يقضي باتّحاد الجهة وعلّة ذلك الحكم ، كما لا يخفى.

ثمّ يبقى في المقام شي‌ء وهو أنّ في الشرح المشار إليه للأستاذ (٥) نسبته الاستدلال بها إلى العلّامة في المنتهى ولعلّه اشتباه ؛ لأنّ العلّامة في المنتهى لم يورد هذه الرواية في تلك المسألة ، ولا أنّه تمسّك بها على مطلوبه ، وإنّما أورده بعد الفراغ عن تلك المسألة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٢) والحاكي هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٣٢٣.

(٣) المعتبر : ٢٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٢٣.

٣٠٨

في مسألة عدم جواز استعمال ماء الغسالة في رفع الحدث ، وأسند التمسّك بها إلى الشيخ فقال : « رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ، أمّا على قولنا فظاهر ، وأمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام الحديث » (١).

وبالجملة : فالاستدلال بتلك الرواية من أيّ أحد كان ليس في محلّه ، وكان القدح فيها دلالة بعد القدح في سندها في محلّه جدّا.

نعم ، يصحّ الاستدلال على هذا المطلب بما رواه عيص بن القاسم ـ وأورده الشيخ خاصّة في الخلاف (٢) ، واستند إليه العلّامة من غير قدح فيها سندا ودلالة قال : سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء؟ فقال : « إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه » (٣) ، ودلالته على المطلب بملاحظة ما فيها من الإطلاق الشامل لما انفصل عن الغسلة مطلقا ، بل ظهورها في هذا المعنى بناء على ما تقدّم منّا (٤) في بحث الاستنجاء من توجيهها عند شرح لفظة « الوضوء » واضحة لا إشكال فيه ، وما عن الشهيد في الذكرى (٥) من تكلّف حملها على صورة التغيّر ممّا لا يلتفت إليه ، لكونه قطعا للظاهر بلا داع إليه.

وأضعف منه ما في شرح الدروس (٦) ، من منع دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب ، فإنّ المحقّق في محلّه الدلالة ، مع عدم ابتناء ثبوت المطلب على ثبوت تلك الدلالة ، بل يكفي فيه كونه إخبارا في مقام الإرشاد وبيان الواقع كما لا يخفى ، وأضعف من الجميع ما عن الأمين الأسترآبادي (٧) من حملها على كون الاستنجاء في الطشت إنّما وقع بعد التغوّط أو البول فيه ، مدّعيا أنّ ذلك مقتضى العادة.

فإنّ الرواية ليست مسوقة لبيان حكم الاستنجاء جدّا ـ كما بيّنّاه آنفا ـ لعدم جريان العادة بالاستنجاء على الطشت وإن وقع نادرا لضرورة ، وأمّا رفع الأخباث عليه ولا سيّما في الفروش وغيرها من الثياب الغير المنقولة كاللحاف ونحوه شائع معتاد جزما ، وعلى فرض صحّة ما ذكر فالعادة المدّعاة ممنوعة ، كما أشار إليه في الحدائق (٨).

__________________

(١) المنتهى ١ : ١٤٣.

(٢) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٤.

(٤) تقدّم في الصفحة ٢٥٨.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤. (٦) مشارق الشموس : ٢٥٦.

(٧) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٠.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٠.

٣٠٩

نعم ، ربّما يناقش في الرواية بما هو جيّد في ظاهر الحال ، وهو القدح في سندها تارة : من جهة أنّها غير موجودة في كتب الأخبار الموجودة الآن ، واخرى : من جهة ما فيها من الإضمار.

ولكنّ الخطب في ذلك هيّن ، لوضوح اندفاع الأوّل : بأنّ رواية الشيخ لها في خلافه لا تقصر عن روايته في تهذيبه واستبصاره ، بل الأوّل أولى بالتعويل عليه في نظر الاعتبار ، لأنّه إنّما ذكرها مستندا إليها في الفتوى بخلاف الثاني ، لكثرة ما فيه من ذكره لمجرّد الضبط من دون استناده إليه.

وأمّا ما فيها من الإرسال لحذفه الوسائط فغير قادح أيضا ، لظهور أنّه إنّما وجدها في كتاب العيص مع ملاحظة ما ذكره في الفهرست (١) من : « أنّ له كتابا » ، وهو بنفسه على ما صرّح به النجاشي (٢) والعلّامة في الخلاصة (٣) : « ثقة عين يروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن » ، وطريق الشيخ إليه على ما صرّح به غير واحد حسن وهو كذلك ، لأنّه قال في الفهرست (٤) على ما في منتهى المقال (٥) : « له كتاب ، أخبرنا ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن محمّد بن الحسن الصفّار والحسن بن متّيل ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي عمير وصفوان ، عن العيص ».

وليس فيه إلّا إبراهيم بن هاشم وابن أبي جيد ، وهو عليّ بن أحمد بن أبي جيد ، والأوّل حاله معلوم من حيث أنّ السند من جهته يعدّ عندهم حسنا ، وربّما يطلق عليه الحسن كالصحيح ، والثاني من ذكر الشيخ في ترجمته في الفهرست : « أنّه كان إماميّا مستقيم الطريقة ، وصنّف كتبا كثيرة سديدة » (٦).

وعن التعليقة : « قال المحقّق البحراني : إكثار الشيخ الرواية عنه في الرجال وكتابي

__________________

(١) الفهرست للطوسي : ٣٤٧.

(٢) رجال النجاشي : ٨٢٤.

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٢٧.

(٤) الفهرست للطوسي : ٣٤٧.

(٥) منتهى المقال ٥ : ٢٢٥٩.

(٦) أقول : هذا سهو من قلمه الشريف ، لأنّ ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في الفهرست انّما هو ترجمة لعليّ ابن أحمد بن أحمد الكوفي ، المتوفّى سنة ٣٥٢ ، وهو غير عليّ بن أحمد بن أبي جيد ، الّذي لا يذكر في الفهرست ولا في رجال النجاشي ، لعدم كونه من المؤلّفين. [فراجع الفهرست للطوسي : ٢١١ رقم ٤٥٥ ـ رجال النجاشي : ٢٦٥ ـ معجم رجال الحديث ١١ : ٢٤٦].

٣١٠

الحديث يدلّ على ثقته وعدالته وفضله ، كما ذكره بعض المعاصرين يعني خالي (١) والمحقّق الداماد » (٢).

وبالجملة : فالرواية من هذه الجهة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، وكأنّ إسقاطه الوسائط مبنيّ على قاعدته المعروفة في كتابي الحديث ، من أنّه إذا ترك بعض أسناد الحديث فإنّما يبدأ في أوّل السند باسم الرجل الّذي أخذ الحديث من كتابه ، وأمّا ما فيه من الإضمار ، فهو وإن اشتهر في الألسن كونه ممّا يوجب القدح في الحديث ، غير أنّ التأمّل يقضي بخلافه ، كما صرّح به جماعة منهم صاحب الحدائق قائلا : « بأنّ الإضمار في أخبارنا فقد حقّق غير واحد من أصحابنا رضي‌الله‌عنهم أنّه غير قادح في الاعتماد على الخبر ، فإنّ الظاهر أنّ منشأ ذلك هو أنّ أصحاب الأصول لمّا كان من عادتهم أن يقول أحدهم ـ في أوّل الكلام ـ : « سألت فلانا » ويسمّي الإمام الّذي روى عنه ، ثمّ يقول : « وسألته » أو نحو ذلك حتّى ينتهي الأخبار الّتي رواها ، كما يشهد به ملاحظة بعض الاصول الموجودة الآن ككتاب عليّ بن [أبي فضّال] (٣) ، وكتاب قرب الأسناد وغيرهما ، وكان ما رواه عن ذلك الإمام أحكاما كثيرة مختلفة بعضها يتعلّق بالطهارة ، وبعض بالصلاة ، وبعض بالنكاح وهكذا ، والمشايخ الثلاثة رضي‌الله‌عنهم لمّا بوّبوا الأخبار ورتّبوها اقتطعوا كلّ حكم من تلك الأحكام ، ووضعوه في بابه بصورة ما هو مذكور في الأصل المنتزع منه ، فوقع الاشتباه على الناظر بظنّ كون المسئول عنه غير الإمام ، وجعل هذا من جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر » (٤) انتهى.

وهذا في غاية الجودة كما نشاهد في الناس ، فإنّ العادة مستقرّة بأنّ من لو وقع بينه وبين غيره وقائع أو مسائل ، فأراد حكاية تلك الوقائع أو المسائل لغيره فيصرّح باسم صاحبه أوّلا ، ثمّ يحكي عنه كلّ مسألة مسألة مضمرا اسمه.

وإن شئت لاحظ المستفتي في حكاية فتاوي مجتهده الّتي سأله عنها في مجلس

__________________

(١) التفسير إنّما هو من الوحيد البهبهاني صاحب التعليقة ، وخاله الّذي من معاصري المحقّق البحراني المتوفّى سنة ١١٢١ هو العلّامة المجلسي المتوفّى ١١١٠.

(٢) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٤٠١ ـ انظر منتهى المقال ٧ : ٢٩٢ ـ الرواشح السماويّة : ١٠٥.

(٣) الحدائق الناضرة : ١ : ٤٧٩ ، وفي الحدائق الناضرة « عليّ بن جعفر » بدل « عليّ بن أبي فضّال ».

(٤) الحدائق ١ : ٤٧٩.

٣١١

واحد ، وهي مسائل متفرّقة كلّ بعض منها متعلّقة بباب ، والعادة أيضا جارية بأنّ الناقلين لتلك الوقائع أو المسائل عمّن يروون عنه ، إذا أرادوا نقل كلّ واقعة أو مسألة في بابها اللائق بها ، فلا يزالون يرتكبون التقطيع بين تلك الوقائع أو المسائل المسموعتين ، وينقلون كلّ واقعة ومسألة في بابهما اللائق بهما بصورة ما كانت مسموعة لهم من التصريح بالاسم ، أو إضماره أو نحو ذلك ، هذا فإنّه تحقيق عامّ نفعه.

وممّا استدلّ على المطلب الإجماع المنقول ، اعتمد عليه شيخنا في الشرح المشار إليه (١)

والّذي وصل إلينا منه ثلاث إجماعات ، أحدها ما في المنتهى ، قائلا : « متى كان على جسد الجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة عينيّة ، فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ نجس إجماعا ، بل الحكم بالطهارة إنّما يكون مع الخلوّ عن النجاسة العينيّة » (٢) ، وثانيها مع ثالثها ـ ما تقدّم الإشارة إليهما ـ عن التحرير (٣) والمعتبر (٤) ، وعليهما اعتمد الاستاد (٥) ، حاكما عليهما بكونهما معتضدين بالشهرة المحقّقة.

واستدلّ أيضا : بإيجاب تعدّد الغسل وإهراق الغسلة الاولى بالكلّيّة من الظروف ، ووجوب العصر فيما يجب فيه العصر ، وعدم جواز تطهير ما لا يخرج عنه الماء بالماء القليل ، بل بالماء الكثير.

وضعف الكلّ واضح للمتأمّل ، لجواز كون إيجاب التعدّد من جهة أنّ النجاسة لا تزول عن المحلّ بالمرّة إلّا معه ، وقد علم به الشارع الحكيم فأوجب التعدّد ، وكون اعتبار الإهراق في الآنية والعصر في الثوب من جهة أنّ المطهّر حقيقة هو الصبّ مع الإهراق أو العصر ، دون نفس الماء وإنّما هو شرط ، ولا ينافيه إسناد المطهّرية إليه ، لأنّه آلة فيتوسّع في الاستعمال ، ولعلّه السرّ في اعتبار الكثرة فيما لا يخرج عنه الماء ، فإنّ المطهّر لمّا كان مركّبا من الصبّ والعصر وهو غير ممكن في المفروض ، فأقام الشارع مقامه الغسل بالكثير ، لعلمه بأنّه أيضا نظير الأوّل في إفادة التطهير.

ومن هنا يندفع ما نقض به الجواب عن اعتبار الإهراق في الأواني ، بأنّ ذلك تعبّد من الشارع ، أو أنّه من جهة توقّف تحقّق مفهوم « الغسل » على إخراج الغسالة ، من أنّه

__________________

(١ و ٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٧.

(٣) تحرير الأحكام : ٥.

(٤) المعتبر : ٢٢.

٣١٢

فلم لا يجب إذا فرضنا الغسلة بإجراء ماء معتصم عليه كالكثير والجاري والمطر؟ فعلم أنّ الإهراق ليس إلّا لنجاسة الغسالة ، فإذا غسل بالمعتصم لم ينفعل بملاقاة المحلّ.

ثمّ بقى في المقام تفريعا على المختار أمران :

أحدهما : مقتضى القاعدة أن تكون البلّة الباقية على المحلّ بعد انفصال الغسالة عنه بالعصر أو الإفراغ نجسا ، لأنّه جزء من النجس ، بل قضيّة ذلك أن لا يطهّر المحلّ بالماء القليل أبدا ، لكن ظاهر المنتهى (١) ، والمحكي عن المعتبر (٢) ، المسند إلى ظاهر المشهور في الحدائق المدّعى فيه « أنّه قطع به جمع من الأصحاب » (٣) كونها طاهرة مطلقا.

قال في المنتهى ـ بعد ما حكى عن الشافعي القائل بطهارة الغسالة ، الاستدلال بأنّه جزء من المتّصل ، والمتّصل طاهر ، فكذا المنفصل ـ : « والجواب عن الأوّل : الفرق ، وهو لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه » (٤) فإنّ الجواب بإبداء الفارق دون منع الحكم في المقيس عليه ينبئ عن اختياره الطهارة ، كما يدلّ عليه أيضا التعبير بلفظة « التنجّس » في قوله : « لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه ».

وأصرح منه كلام المعتبر ـ فإنّه بعد ما حكى عن الشيخ الاحتجاج على طهارة الغسالة في إناء الولوغ ، بأنّه لو كان المنفصل نجسا لما طهّر الإناء ، لأنّه كان يلزم نجاسة البلّة الباقية بعد المنفصل ، ثمّ نجّس الماء الثاني بنجاسة البلّة ، وكذا ما بعده ـ قال : « والجواب أنّ ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع ، فلا يقدح ما ذكره ، ولأنّه معفوّ عنه رفعا للحرج » (٥) ولا منافاة بين الحكم بالطهارة أوّلا ، والحكم بالعفو ثانيا ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ لجواز كون العفو هنا مرادا به رفع النجاسة نفسها لا رفع حكمها فقط ، ولو اريد به ذلك ـ كما هو المعهود من معنى هذه اللفظة ـ لما كان قادحا أيضا ، لجواز ابتنائه على التنزّل والمماشاة ، وكيف كان فالعفو بهذا المعنى أحد الوجوه المحتملة في المقام ، ولم ينقل اختياره صريحا عن أحد من أصحابنا.

نعم عن الأردبيلي (٦) ذكره احتمالا ، وهو محتمل القول الّذي حكاه الشهيد في حاشية الألفيّة (٧) عن بعض الأصحاب ، أعني القول بنجاسة الغسالة مطلقا ـ ولو بعد

__________________

(٤ و ١) منتهى المطلب ١ : ١٤٢.

(٢) المعتبر : ٢٢.

(٣) الحدائق ١ : ٤٩٤. (٥) المعتبر : ٢٣.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٧.

(٧) المقاصد العليّة : ١٦٢.

٣١٣

طهارة المحلّ ـ على ما سنقرّر وجهه.

والوجه الآخر من وجوه المقام النجاسة مطلقا ، في مقابلة الطهارة مطلقا والعفو ، وهذا ممّا لم يذهب إليه أحد.

نعم ، هاهنا وجه رابع ، وهو كونه طاهرا ما دام في المحلّ فإذا انفصل نجّس ، وهو محكيّ في الحدائق وغيره عن صريح العلّامة في القواعد ، قال في الحدائق : « والظاهر أنّه مبنيّ على ما اختاره من عدم نجاسة القليل الّذي تزال به النجاسة إلّا بعد الانفصال عن المحلّ ، قال في الكتاب المذكور : « والمتخلّف في الثوب بعد عصره طاهر ، فإن انفصل فهو نجس » (١) انتهى.

فعنده أنّه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا ، والمتخلّف عنه على حكم الطهارة ، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شي‌ء كان نجسا ؛ لأنّ أثر ملاقاته للمحلّ النجس عنده إنّما يظهر بعد الانفصال ». (٢) انتهى.

والّذي يترجّح في النظر القاصر ، أنّها تتبع المحلّ فتكون طاهرة مطلقا ، وذلك لإجماع المسلمين المعلوم من عملهم في كافّة الأعصار والأمصار ، حيث إنّهم يغسلون أبدانهم وأثوابهم وأوانيهم ، ويجرون عليها بعد ذلك وعلى ما فيها من البلل الباقية جميع أحكام الطهارة ولا يتأمّلون فيها ، فيباشرون بها حال البلّة وحال عدمها في مآكلهم ومشاربهم وتطهيراتهم من الأخباث والأحداث ، فإذا غسلوا شيئا من الأبدان يدخلونه في المآكل والمشارب ومياه الوضوء والغسل ، أو شيئا من الثياب لا يتحرّزون عن ملاقاته لشي‌ء من ذلك ، أو شيئا من الأواني يجعلون عليه المأكل والمشرب والوضوء والغسول بلا تأمّل في شي‌ء من ذلك ، فلو لا المحلّ مع ما فيه من البلل طاهرين لما ساغ لهم شي‌ء من ذلك ، لإجماعهم الضروري على اشتراط الطهارة في جميع ما ذكر ، وأخبارهم متواترة عليه معنى.

فنقول : بملاحظة ذلك مع ما ذكر من الإجماع الأوّل أنّ ما ليس بطاهر لا يجوز استعماله في المأكل والمشرب والوضوء والغسول ، فينعكس ذلك بطريقة عكس النقيض إلى أنّ : كلّ ما جاز استعماله في الامور المذكورة فهو طاهر ، والعفو المدّعى في

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٥.

٣١٤

هذا المقام إن اريد به سلب أحكام النجاسة في خصوص المباشرة حال الصلاة ونحوها ، فكيف يجامعه المباشرة في الامور المذكورة ، ولو اريد به سلب أحكام النجاسة مطلقة ولو في الموارد المذكورة فهو عين معنى الطهارة ومعه ارتفع النزاع بالمرّة.

هذا مضافا إلى أنّ نجاسة البلّة الباقية في المحلّ عرضيّة ، حاصلة عن نجاسة المحلّ ، فإذا أفاد الغسل ـ الّذي هو عبارة عن مجموع الصبّ مع العصر أو الإفراغ ـ طهارة المحلّ وزوال النجاسة الأصليّة عنه ، فلأن يكون مفيدا لطهارة البلّة الباقية فيه وزوال نجاستها العرضيّة الحاصلة من النجاسة الأصليّة طريق الأولويّة.

دعوى : أنّه يزيل النجاسة الأصليّة ولا يزيل النجاسة العرضيّة الحاصلة منها كما ترى ، مع أنّه عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل ، حيث إنّ العرضيّة معلولة من الأصليّة ، ولا بقاء للمعلول بدون العلّة.

واحتمال كون الأصل علّة محدثة ، فلا ضير في انعدامه ، لجواز تخلّف العلّة المبقية عنه.

يدفعه : أنّ هذا الفرض إنّما يستقيم إذا كان علّة الحدوث عين النجاسة الموجودة في المحلّ ، لا الأثر الحاصل منها فيه ، فإذا فرض زوال العين عن المحلّ لا يلزم منه زوال المعلول ، لجواز استناده في البقاء إلى الأثر الحاصل منها في المحلّ ، فنحن نفرض في محلّ الكلام كون علّة الحدوث وهو الأثر الحاصل في المحلّ بعد زوال العين ، فحينئذ إمّا أن يقال : بزوال هذه العلّة عن المحلّ بالغسل الشرعي ، أو يقال : بعدم زوالها ، والثاني باطل بالضرورة من الشرع القائم على أنّ الغسل الشرعي يوجب طهارة المحلّ ، والأوّل مستتبع للمحذور ، ولا يعقل مع زوال كلّ من العين والأثر عن المحلّ علّة اخرى يستند إليها بقاء نجاسة البلّة.

ولو قيل : بأنّ العلّة المبقية هو كون ما بقى في المحلّ بلّة ، فحينئذ نقول : إذا زالت البلّة بطروّ اليبوسة على المحلّ ، إمّا أن يكون شي‌ء من أثر تلك النجاسة باقيا في المحلّ أو لا؟ ولا سبيل إلى شي‌ء منهما ، أمّا الأوّل : فلاستلزامه المحذور ، وأمّا الثاني : فلقضائه بكون اليبوسة في غير ما حصل من الشمس في مواضع مخصوصة ـ يأتي ذكرها في محلّها ـ من جملة المطهّرات ، وهو ممّا لا أثر له في الشرع ولا دليل عليه أصلا ، بل الأدلّة قائمة بخلافه ، مع أنّ القول ببقاء النجاسة في البلّة ممّا يفضي إلى عدم قبول

٣١٥

المحلّ للطهارة أصلا ؛ لأنّها ما دامت باقية لازمة للمحلّ ولا تنفكّ عنها ، وهي على الفرض ملزومة للنجاسة ، فكانت النجاسة لازمة للمحلّ ، وهو كما ترى خلاف ما يظهر من الأدلّة ، والقول بطهارة المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه كما ترى تناقض في المقالة ، كما أنّ القول بعدم تأثّر المحلّ من تلك النجاسة مجازفة صرفة.

ومن هنا يعلم أنّ الحكم بنجاسة البلّة ممّا يفضي إلى تجويز السفه على الشارع الحكيم في إيجابه الغسل والتطهير ، إذ المفروض عدم انفكاك النجاسة العرضيّة عن المحلّ ، فلأيّ فائدة أوجب على المكلّف تكلّف الغسل ، واعتبار العفو هنا مع أنّه ممّا لا محصّل له يشبه بكونه أكلا بالقفاء ؛ لأنّ هذا العفو كما كان يمكن اعتباره بالنسبة إلى النجاسة العرضيّة ، فكذلك كان يمكن بالنسبة إلى الأصل أيضا ، فلم لم يعتبر فيه مع أنّه أسهل وأقرب إلى السمحة السهلة؟ مع أنّ القول بنجاسة البلّة مع العفو عنها ممّا يخالف مفاد الأدلّة من الأخبار المتواترة جدّا ، الآمرة بالغسل في أنحاء النجاسات وتطهير أنواع المتنجّسات ، والواردة في تعليم كيفيّة ذلك وطريقه في المواضع الّتي يختلف باختلافها الكيفيّة ؛ لأنّ مصبّ الجميع والمنساق منها عرفا وشرعا إنّما هو حصول الطهارة بذلك ، وأنّ الغرض من اعتباره تحصيلها ، ولا ريب أنّ الطهارة في المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه غير ممكنة.

وممّا يدلّ على ذلك أيضا خصوص موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا ، كيف يغسل؟ وكم مرّة يغسل؟ قال : « ثلاث مرّات ، يصبّ فيه ماء فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ ماء آخر فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ منه ، وقد طهر » (١).

فإنّ نجاسة البلّة الباقية ينفيها قوله عليه‌السلام : « وقد طهر » ، لما عرفت من أنّ نجاسة البلّة تستلزم نجاسة المحلّ لا محالة ، واحتمال كون المراد بالطهارة هنا العفو كما ترى.

ثمّ إذا فرضنا البلّة طاهرة ما دامت في المحلّ ، فأيّ شي‌ء يوجب انقلاب حكمها إلى النجاسة لو فرض انفصالها بالمبالغة في العصر؟ وأيّ دليل من الشرع يقضي بذلك؟ مع أنّ الطهارة هو الأصل في الأشياء ولا سيّما المياه ـ حسبما قرّرناه وأسّسناه سابقا ـ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٦ ب ٥٣ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

٣١٦

وكون ذلك متفرّعا على القول بنجاسة ماء الغسالة بعد الانفصال خاصّة كما يأتي عن العلّامة ممّا لا يصلح عذرا لفساد هذا القول من رأسه ، كما يأتي بيانه.

وأمّا مقدار ما يبقى من البلّة في حكم الطهارة ، فهو من فروع كيفيّة الغسل ويأتي التعرّض له في مباحث التطهير ، إن شاء الله تعالى.

وثانيهما : قد عرفت سابقا أنّ القول بنجاسة ماء الغسالة مطلقا في كلام أهل القول بها محتمل لأن يكون حكمه كالمحلّ قبل الغسل ، ولأن يكون كالمحلّ قبل الغسلة المطهّرة كما صرّح به في شرح الدروس (١) ، والوجه في ذلك عدم تصريحهم باختيار شي‌ء من ذلك ، بل ولا إشعار في كلامهم باختيار أحد هذه الوجوه ، لكون الحكم بالنجاسة واردا في كلامهم على الإطلاق كما صرّح به في الحدائق (٢) ، فما في هذا الكتاب عن جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم بالنسبة إلى هذا القول ـ أي القول بالنجاسة مطلقا ـ من أنّ حكم الغسالة كالمحلّ قبل الغسل (٣) ليس على ما ينبغي ، إن كان الغرض بيان كونه مذهب القائلين بهذا القول ، والعجب عن صاحب هذا الكتاب أنّه حيثما عنون هذا القول عنونه بعبارة مصرّحة بكون حكمها كالمحلّ قبل الغسل ، فيعتبر التعدّد فيما تلاقيه متى كان التعدّد معتبرا في المحلّ ، ثمّ بالغ في إنكار هذا العنوان عند ذكر الفروع ، قائلا ـ في دفع القول المشار إليه ، المنقول عن جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم ـ : « بأنّي لم أجد له أثرا في كلام القائلين بهذا القول ، كالمحقّق والعلّامة ، بل يحتمل أنّ مرادهم أنّها في حكم المحلّ قبل الغسلة ، إذ غاية ما يدلّ عليه كلامهم هو النجاسة ، وأمّا أنّه يجب فيما تلاقيه العدد المعتبر في المحلّ فلا » الخ (٤).

ثمّ لا يخفى ما في اقتصاره على الاحتمال المذكور ، إذ قد عرفت جريان احتمال ثالث في كلامهم.

وكيف كان : فتحقيق المسألة مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في تطهير النجاسات هل هو التعدّد ، أو الاكتفاء بالمرّة؟ وله محلّ آخر يأتي إن شاء الله ، ولكن الّذي يقوى في نظري القاصر إلى أن يقع التأمّل التامّ فيه في محلّه الآتي ، هو الاكتفاء بالمرّة ، وفاقا

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٢ و ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٩.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.

٣١٧

للحدائق (١) ، ومحكيّ المعالم (٢) ، مع نقله فيه عن بعض مشايخه المعاصرين ؛ لأنّ اعتبار التعدّد تكليف بأمر زائد ، على ما ثبت من الشرع يقينا ، والأصل ينفيه ، ولا يعارضه الاستصحاب وأصل الشغل هنا وإن كانا جاريين ، لما قرّر في محلّه.

هذا حكم الغسالة بعد الانفصال وأمّا حكمها قبله فكذلك ، فلو لاقاها شي‌ء وهي في المحلّ ـ وحاصله ملاقاة المحلّ قبل إخراج الغسالة عنه ـ لم يجب غسله متعدّدا ، كما لو لاقاها بعد مفارقة المحلّ ، هذا تمام الكلام في أوّل الأقوال.

وأمّا ثانيها : فالقول بالنجاسة ، لكن حكمه حكم المحلّ قبل الغسلة ، فيجب غسل ما أصابه ماء الغسلة الاولى مرّتين ، والثانية مرّة فيما يجب فيه المرّتان وهكذا ، ذهب إليه الشهيد في الدروس (٣) ـ كما نقل عنه في الذكرى (٤) ـ وعبارته في الدروس ـ على ما في محكيّ الخوانساري في شرحه (٥) ـ هكذا : « وفي إزالة النجاسة نجس في الاولى على قول ، ومطلقا على قول ، وكرافع الأكبر على قول ، وطاهر إذا ورد على النجاسة على قول ، والأولى أنّ ماء الغسلة كمغسولها قبلها ».

وعن الأردبيلي في شرح الإرشاد (٦) الميل إليه ، واختلفت كلمتهم في اتّحاد هذا القول مع سابقه ومغايرته له ، فعن الشهيد الثاني (٧) وغيره التصريح بالمغايرة ، ويستفاد من صاحب الحدائق اتّحادهما ، حيث قال : « بل ظاهر الشهيد في الذكرى أنّ القول المنسوب إليه هو بعينه القول الأوّل ، وأنّ القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم المحلّ قبل الغسلة الخ » (٨).

ولكن العبارة المتقدّمة منه في الدروس تنادي بفهم المغايرة بين مذهبه والقول الأوّل ، حيث جعل مختاره مقابلا للأقوال الاخر ، الّتي منها القول بالنجاسة مطلقا ، ولا ريب أنّه لا يعقل بينهما مغايرة مع اشتراكهما في أصل الحكم بالنجاسة ، إلّا أنّه فهم من الجماعة أنّهم يجعلون الغسالة كالمحلّ قبل الغسل ، وإن كان فهمه بهذا المعنى موضع مناقشة قدّمناها ، وكان مستند الشهيد الثاني في فهم المغايرة أيضا هو العبارة المذكورة ، واستشهد

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٠.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٢٣.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٥) مشارق الشموس : ٢٥٤. (٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٥.

(٧) روض الجنان : ١٥٩.

(٨) الحدائق ١ : ٤٨٩.

٣١٨

في الحدائق على ما فهمه من الاتّحاد بقوله : « فإنّه ـ يعنى الشهيد في الذكرى ـ نقل أوّلا القول بالطهارة عن المبسوط ، ثمّ نقل مذهب الشيخ في الخلاف ، ثمّ نقل مذهب المحقّق والعلّامة وهو القول بالنجاسة مطلقا ، ونقل أدلّته وطعن فيها ثمّ قال : « ولم يبق سوى الاحتياط ، ولا ريب فيها ، فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها ، وعلى الأوّل كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل » ، ومثله كلام الشيخ علي في شرح القواعد (١) انتهى.

وجه الاستشهاد : ما أفاده بعد ذلك : « من أنّ التفريع في عبارة الذكرى إنّما جرى على مقتضى الأقوال المتقدّمة ، فإنّ قوله : « فعلى هذا » أي فعلى القول بالنجاسة ، وهو المنقول عن المحقّق والعلّامة ، وقوله : « وعلى الأوّل » إشارة إلى مذهبي المبسوط والخلاف ، وإن كان على سبيل اللفّ والنشر المشوّش ، وعلى تقدير ما ذكر من المغايرة يلزم عدم التفريع على مذهب المحقّق والعلّامة » (٢) انتهى.

والإنصاف : أنّ هذه العبارة ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون ما اختاره عين ما اختاره المحقّق والعلّامة.

نعم غاية ما فيها الدلالة على مشاركته في أصل القول بالنجاسة ، وأمّا أنّه يوافقهما في حكم الغسالة من حيث ملاقيها فلا ، والتفريع المذكور فيه لا يشعر بذلك ، بل هو تفريع على أصل القول من حيث إنّه اختاره ، وتحقيق للمسألة لنفسه لا عليه من حيث إنّه مختارهما ، ولا ينافيه عدم التفريع عليه من هذه الحيثيّة ، لجواز كون الحكم المذكور على مذهبهما مشتبها عنده ، بمعنى أنّه لم يكن يدري أنّهما ما يقولان في أصل الغسالة وملاقيها ، بعد البناء فيها على النجاسة ، فليتأمّل.

وكيف كان : فقد ذكر في هذا الكتاب في وجه الفرق بين الغسلتين باعتبار التعدّد في الاولى دون الثانية ـ فيما يجب غسله مرّتين مثلا ـ : « أنّ المحلّ المغسول تضعف نجاسته بعد كلّ غسلة وإن لم يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا يكفي قبلها ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك ، لأنّ نجاسته مسبّبة عنه فلا يزيد حكمه عليه ، لأنّ الفرع لا يزيد عن الأصل ».

ثمّ نقل عن والده أنّه قال ـ بعد ما نقل هذا الكلام ـ : « أقول : هذا التفصيل بالفرق

__________________

(٢ و ١) الحدائق ١ : ٤٨٩.

٣١٩

بين المنفصل من الغسلتين وإن كان لا يفهم من الأخبار ، ولكنّه قريب من الاعتبار » ، ثمّ قال : « وهو كذلك ، إلّا أنّه بمجرّده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي » (١) انتهى.

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا مخالفة بيننا وبين الشهيد في أصل المذهب ، وما صار إليه من الفرق بين الغسلتين كلام له راجع إلى ما يتفرّع على هذا القول ، ووجهه ضعيف جدّا ، وبعد الغضّ عنه فالمتّبع هو ما يقتضيه الأدلّة الشرعيّة ، وحيث إنّ من الظاهر البديهي أنّ دليل الأصل في دلالته على اعتبار التعدّد في الغسل عنه كالبول مثلا لا يتناول ما ينفصل من الغسلة عنه ؛ لعدم دخوله في مسمّى البول ولا الدم ولا غيرهما من النجاسات ، ليس في البين مناط يكون منقّحا من نصّ الشارع ، أو تنبيهه عليه بضرب من الدلالة المعتبرة ، فلا جرم يكون اعتبار التعدّد بالنسبة إلى الغسلة الاولى قولا بلا دليل في ظاهر الحال ، كما أنّ الاقتصار على المرّة في الغسلة الثانية استنادا إلى ما ذكر أخذ بموجب الاستحسان الصرف وليس من مذهبنا ، فلا يبقى ما يصلح لأن يكون مرجعا إلّا الأصل المشار إليه ، وقد عرفت أنّ مقتضاه الاكتفاء بالمرّة حتّى يثبت اعتبار الزائد بالدليل ، فلا بدّ من اتّباع الأصل.

وأمّا ثالثها : فالقول بالنجاسة إن كان من الغسلة الاولى والطهارة إن كان من الغسلة الثانية ، وحاصله يرجع إلى أنّ الغسالة كالمحلّ بعد الغسلة ، ولازمه التفصيل المذكور فيما يعتبر فيه الغسل مرّتين ، وإطلاق هذا القول بالقياس إلى أنواع المحلّ المتنجّس من الثوب والبدن والإناء ولو في ولوغ الكلب محكيّ ـ كما في الشرح المتقدّم للأستاد (٢) ـ عن العلّامة الطباطبائي ، وكلّ من قال بأنّ الغسالة كالمحلّ بعدها ، ونسب ذلك أيضا إلى الشيخ في الخلاف (٣) ، ولكن المنقول منه أنّه خصّصه بالمستعمل في تطهير الثوب ، وأمّا المستعمل في الآنية فلا ينجّس عنده مطلقا ، سواء كان من الاولى أو غيرها ، فله تفصيل حينئذ أوّلا بين الثوب والآنية ، ثمّ في الثوب بين الغسلة الاولى وغيرها ، بل ظاهر عبارته المنقولة عنه في الآنية يقتضي اختصاص ذلك بالولوغ ، حيث إنّه في موضع من الخلاف قال : « إذا أصاب من الماء الّذي يغسل به الإناء من ولوغ الكلب ثوب الإنسان أو جسده

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨١.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٤.

(٣) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

٣٢٠